مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

ومن دون ذلك خرط القتاد

أشار به إلى المثل السائر ، وأصله لكليب ، وذلك أنه لما سمع قول جساس لأعقرن فحلا هو أعز على أهله منها ظن أنه يريد فحلا لكليب يسمى عليان ، فقال دون عليان خرط القتاد فصار مثلا يضرب لكل أمر شاق لا يوصل إليه إلا بتكلف عظيم ، فيقال دونه خرط القتاد ، والقتاد شجر صلب له شوك كالإبر وخرطه أن تمر اليد عليه من أعلاه إلى سفله حتى ينتثر منه شوكه.

هذه أمثلة النظم الثلاثة ، وأما أمثلة النثر فمثال الإشارة إلى القصة والشعر من النثر قول الحريري فبت بليلة نابغية ، وأحزان يعقوبية فأشار بقول ليلة نابغية إلى قول النابغة :

فبت كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السم ناقع (١)

والمساورة المقاتلة والإصابة ، والضئيلة بالضاد المعجمة الحية الدقيقة ، والرقش الحيات الدقق ، والناقع الشديد ، وأشار بقوله : وأحزان يعقوبية إلى قصة يعقوب عليه‌السلام في فقدان يوسف على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام.

ومثال الإشارة إلى المثل من النثر قوله فيالها من هرة تعق أولادها ، أشار به إلى المثل المعلوم وهو قولهم : أعق من الهرة تأكل أولادها ، وبه تمت الأمثلة الستة والله الموفق بمنه وكرمه.

ثم شرع في فصل من الخاتمة به ختمها وختم الكتاب فقال : (فصل) من الخاتمة في حسن الابتداء والانتهاء والتخلص ، وإنما جعلناه من الخاتمة ؛ لأنه إنما اشتمل على ما هو من الحسن غير الذاتي كما في الخاتمة (ينبغي للمتكلم) شاعرا كان أو كاتبا (أن يتأنق) أي : أن يتتبع الآنق وهو الأحسن من الكلام بأن يطلبه حتى يأتي به يقال : تأنق في الروضة إذا وقع فيها متتبعا أي : كان فيها حال كونه يتتبع أي : يطلب وينظر ما يونقه أي : يعجبه ، يقال آنقه كذا أعجبه فالتأنق هو تطلب الأحسن ، والنظر في الشيء ليؤتى بما يونق أي : يعجب منه.

__________________

(١) هو فى الإيضاح ص (٣٦٠).

٧٠١

(في ثلاثة مواضع) أي : ينبغي للمتكلم أن يجتهد في طلب أحسن الكلام ؛ ليأتي به في ثلاثة مواضع من كلامه (حتى تكون) تلك المواضع الثلاثة من كلامه (أعذب لفظ) من غيرها ، وعذوبة اللفظ حسنه ، وهو يشمل ما يكمل به حسنه وحلاوته من كل وجه ، ولكن خص تفسير أعذبيته هنا بكونه غاية في البعد عن التنافر واستثقال الطبع ؛ لأن العذب الحسي يقابله حسا ما ينافر الطبع ويثقل عليه ، فناسب تخصيصه بهذا المعنى لما ذكر مع ما في ذلك من الخروج عن التكرار بما بعده.

(و) حتى تكون المواضع الثلاثة أيضا (أحسن سبكا) من غيرها ، وحسن سبك اللفظ أيضا حسن صياغته أي : إيجاد تركيبه ، وإيجاد ذاته ، فهو أيضا بهذا الاعتبار يشمل أوجه حسنه من قبل نفسه ومعناه ، ولكن خصت أحسنية سبكه هنا بكونه غاية في البعد عن التعقيد اللفظي وعن التقديم والتأخير الملبس ، وتكون الألفاظ متقاربة في الجزالة وهى ضد الركاكة والمتانة وهى بمعنى الجزالة والرقة والسلاسة ، وهما بمعنى لطف اللفظ وتناسبه ضد الغلظ المستقبح والتقطع المستكره ، وبكون المعاني مناسبة لألفاظها ؛ وذلك بأن لا يكسى اللفظ الشريف المعنى الخسيس ، كأن يكون بألفاظ مجنسة لمعان ترمى بالعراء ؛ لعدم مطابقتها للمراد ، أو العكس كمعنى شريف عليه لفظ سخيف كألفاظ غريبة متنافرة الحروف لمعنى مطابق ، وإنما ينبغي أن يصاغ اللفظ والمعنى بالتناسب والتلاؤم ، فيكون اللفظ شريفا والمعنى كذلك ، وحاصل هذه الجمل المفسر بها حسن السبك ، أن يكون اللفظ فصيحا لا تعقيد فيه ولا شيء يخل بالفصاحة ولا ابتذال فيه مع معنى مرعى فيه ما ينبغي لمطابقته مقتضى الحال ؛ لأن جزالة اللفظ ورقته وسلاسته ترجع إلى نفى الابتذال والتنافر ، وكون المعنى شريفا واللفظ شريفا يرجع إلى المطابقة مع السلامة مما يخل بالفصاحة ، وإنما خص حسن السبك بنفى ما يخل بالفصاحة مع معنى مطابق ؛ لأن حسن سبك الحلي مثلا الذي هو المحسوس إنما يقابله عدم الالتئام أو الالتئام على وجه مستكره ، ولا يخفاك أن حسن السبك على هذا أخص من عذوبة اللفظ ، فإن قلت : فحسن السبك على هذا لا أخصية في تفسيره ؛ لشموله جميع أنواع الحسن ، قلت : بل بقى أنواع البديعيات ، وهى مما يحسن السبك ، فإن قلت : فعلى هذا

٧٠٢

تكون رعاية الحسن في هذه المواضع من رعاية الحسن الذاتي ، فلا يكون هذا الحسن من البديع ، فلا يكون هذا الفصل من الخاتمة التي هي من البديع.

(قلت) إذا كان المعنى : أنه ينبغي أن تراعى الزيادة في الحسن سواء كان ذلك الحسن ذاتيا أم لا ، كان المنبه عليه في هذا الفصل هو القدر الزائد على أصل الواجب ، والزائد ليس بأمر لازم فهو من البديع فافهم.

(و) حتى تكون تلك المواضع الثلاثة (أصح معنى) أي : أزيد في صحة المعنى ، فبرعاية الزيادة كان من هذا الباب ، وإلا فصحة المعنى لا بد منها في كل شيء ، وصحة المعنى تحصل بالسلامة من التناقض والسلامة من الامتناع والبطلان والسلامة ، من الابتذال الذي هو في معنى الفساد ؛ حيث لا يطابق ، والسلامة من مخالفة العرف ؛ لأن مخالفة العرف البليغي كالغرابة المخلة بالفصاحة أو هي نفسها ، ونحو ذلك كالسلامة من عدم المطابقة لمقتضى حال المخاطب ، وقد عرفت أن صحة المعنى بهذا الاعتبار داخل فيما قبله ، وبه علم أن هذه الأوصاف أعنى : عذوبة اللفظ ، وحسن السبك برعاية مقتضى الفصاحة ، وصحة المعنى برعاية مقتضى البلاغة ، ولا تخفى أوجه مناسبتها فكان لكل وصف معنى مخالف للآخر ؛ والخطب في ذلك سهل.

ثم بين المواضع الثلاثة التي ينبغي أن يعتنى بها فيما ذكر أكثر بقوله.

الابتداء

(أحدها) أي : أحد تلك المواضع (الابتداء) لأنه أول ما يقرع السمع ، فإن كان عذبا حسن السبك صحيح المعنى أقبل السامع على الكلام ، فوعى جميعه ؛ لانسياق النفس إليه ورغبتها فيه من حسنه الأول واستصحابه لذة المذاق السابق ، وإلا يكن الابتداء حسن السبك عذبا صحيح المعنى نافره السمع بالمقابلة الأولى ، فيعرض عنه جملة ، وإن كان الباقي من الكلام حسنا ؛ لأن السمع قاطعه الابتداء القبيح ، وهذا أمر تجريبى والابتداء الحسن في تذكار المنازل والأحبة (ك) ما في (قوله) أي : امرئ القيس :

(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل)

٧٠٣

السقط هو الموضع الذي يتقطع فيه الرمل ، أو الرمل المتقطع بنفسه ، واللوى هو الرمل المعوج ، ولا شك أن انقطاع الرمل إنما هو عند اعوجاجه بالأرياح ، لا عند تراكمه ، والدخول وحومل موضعان ، والمراد بين أماكن الدخول وأماكن حومل ، وبذلك صحت البينية فيه التي لا تكون إلا في متعدد ، وصح بذلك عطف حومل بالفاء عليه ؛ ليفيد أن له بينية أيضا ، وأما لو كانت البينية معتبرة بين الدخول وحومل لم يصح العطف بالفاء ؛ لوجوبه بالواو ؛ إذ هي التي تعطف ما لا يستغنى عنه ، أما حسن الشطر من هذا البيت فمسلم ؛ لأنه أفاد به : أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في السطر واحد بلفظ مسبوك لا تعقيد فيه ولا تنافر ولا ركاكة ، وأما الشطر الثاني فلم يتفق له فيه ما اتفق في الأول ؛ لأن ألفاظه لم تخل من كثرة مع قلة المعنى ، ومن تمحل التقدير للصحة ، وغرابة بعض الألفاظ ، وأحسن منه قول النابغة في ذكر الأهم في الابتداء

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب (١)

يقال : نصبه الهم إذا أتعبه.

(و) الابتداء الحسن أيضا في وصف الدار (ك) ما في (قوله :

قصر عليه تحية وسلام

خلعت عليه جمالها الأيام) (٢)

يقال خلع عليه أي : نزع ثوبه عليه بمعنى أنه نزعه وطرحه عليه ، ولتضمين خلع طرح عدى بعلى ، وفي نسبة الخلع إلى جمال الأيام دلالة على تشبيه الأيام برجل له لباس جميل نزعه على غيره ، فجمال الأيام كلباس ألبسه ذلك القصر ، وكذا قوله :

فراق ومن فارقت غير مذمم

وأم ومن يممت غير ميمم (٣)

أي : لا ينبغي أن يفارق الذي فارقته غير مذموم ، ولا أن تؤم أي : تقصد غيره ، والذي قصدت ليس أهلا لأن يقصد ، وكذا قوله في الغزل :

__________________

(١) الإيضاح ص (٣٦١).

(٢) البيت للأشجع السلمى ، فى عقود الجمان (٢ / ١٩٤) ، والإشارات (٣٢٢).

(٣) البيت فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٤) ، وهو لأشجع فى التهنئة بقصر بني.

٧٠٤

أريقك أم ماء الغمامة أم خمر

بفي برود وهو في كبدي جمر (١)

تدله في ريق المحبوب فتجاهل ، فكأنه التبس عليه هل هو ريق أم زلال أم خمر وأخبر بأنه في فمه له غاية العذوبة والبرودة ، وفي قلبه جمر ؛ لأنه يزيد القلب ولوعا وحبا يحترق به كالجمر ، وكذا قوله في الرفق والرحمة :

أتظنني من زلة أتعتب

قلبي عليك أرق مما تحسب (٢)

أي : لا أعاتبك على زلة ، ولا تظن ذلك يصدر منى ؛ فإن قلبي عليك شديد الشفقة فهو أكثر مما تحسب في الرفق والرحمة.

(وينبغي أن يتجنب في المديح) أو الغزل عند خطاب من يتوقع منه التطير ، وهو غير مراد (ما يتطير) أي : الكلام الذي يتشاءم (به) وهو نائب فاعل يتجنب (كقوله : موعد أحبابك بالفرقة غد) (٣) وهو مطلع قصيدة لابن مقاتل الضرير أنشدها للداعي العلوي ، فقال له الداعي : حين تشاءم بما ذكر موعد أحبابك أنت يا أعمى ولك المثل السوء أي : الحال القبيح ، وكقول : ذي الرمة بين يدي هشام بن عبد الملك :

ما بال عينك منها الدمع ينسكب (٤)

فقال له هشام ، بل عينك أنت ، ولما بنى المعتصم بالله قصرا له وجلس فيه أنشده إسحق الموصلي :

يا دار غيرك البلى ومحاك

فتطير المعتصم بهذا الابتداء وأمر بهدم القصر.

وإنما حسن الابتداء الذي لا يتطير به في ذكر الديار مثلا مثل ما تقدم قصر عليه تحية إلى آخره وقوله :

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل (٥)

__________________

(١) البيت في شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٤) ، وهو للمتنبى ، والإيضاح ص (٣٦١).

(٢) للمتنبى فى الإيضاح ص (٣٦١).

(٣) أنشده ابن مقاتل للداعى العلوى ، فى الإيضاح ص (٣٦٢).

(٤) البيت فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٥).

(٥) هو للقطامى فى الإيضاح ص (٣٦٣) ، ويعرف القطامى بالشرقى ، واسمه عمير بن شبيم.

٧٠٥

براعة الاستهلال

(وأحسنه) أي : أحسن الابتداء (ما ناسب المقصود) أي : والمناسبة تحصل باشتمال الابتداء على ما يشعر في الجملة بما سيق الكلام من أجله ، فإذا سيق مثلا لبيان علم من العلوم كالفقه ؛ فاشتمال ابتدائه على ما يشعر بأفعال المكلفين وأحكامها هو من أحسن الابتداء.

(ويسمى) كون الكلام مناسبا للمقصود ، أو الكلام بنفسه المناسب للمقصود (براعة الاستهلال) والاستهلال في الأصل أول ظهور الهلال ، ثم استعمل في مطلق افتتاح الشيء ، والبراعة : مصدر برع الرجل بضم الراء وفتحها إذا فاق أقرانه في العلم أو غيره ، فإضافة البراعة إلى الاستهلال على معنى الملابسة أي : البراعة الحاصلة من الشاعر أو الكاتب الملابسة للاستهلال أي : لابتداء الكلام ، وتلك البراعة التي هي مناسبة الكلام هي (كما) في (قوله في التهنئة) التي هي إيجاد كلام يزيد سرورا بمفروح به :

(بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وكوكب المجد في أفق العلا صعدا) (١)

وهو مطلع قصيدة لأبي محمد الخازن يهنئ الصاحب بولد لابنته ، وإنما كان عن البراعة ؛ لأنه يشعر بأن ثم أمرا مسرورا به ، وأنه أمر حدث ، وهو رفيع في نفسه يهنأ به ، ويبشر من سر به ، ففيه الإيماء إلى التهنئة والبشرى التي هي المقصود من القصيدة ، وكذا قول أبي الطيب في التهنئة بزوال المرض :

المجد عوفي إذ عوفيت والكرم

وزال عنك إلى أعدائك السقم (٢)

(و) كما في (قوله في المرثية : هي) (٣) أي : القصة التي تتلى هي هذه وهي قوله (الدنيا تقول بملء فيها) والملء بكسر الميم ما يملأ الشيء ، والمعنى أنها تقول ذلك جهرة بلا خفاء ؛ لأن ملء الكلام الفم يشعر بظهوره ، والجهر به بخلاف الخفي ، ففي

__________________

(١) البيت لمحمد بن الخازن يهنئ الصاحب بولد لابنته ، انظر شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٥).

(٢) مطلع قصيدة للمتنبى فى ديوانه (٢ / ١١٧) ، ط دار الكتب العلمية.

(٣) البيت لأبى الفرج الساوى ، انظر شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٩٦).

٧٠٦

طرف من الفم (حذار حذار) أي : احذر (من بطشي) أي : أخذى الشديد بالقوة (وفتكي) أي : قتلى لكم فجأة أي : لا تغفلوا عن إهلاكي لكم ، بل اجعلوه نصب أعينكم ، واستعدوا له بالتقوى والصبر ، وهذا مطلع قصيدة لأبي الفرج الساوي يرثي فخر الدولة ملكا من ملوك آل بويه ، وكذا قول أبي الطيب يرثي سيف الدولة :

نعد المشرفية والعوالي

وتقتلنا المنون بلا قتال (١)

التخلص

(وثانيها) أي : وثاني المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها (التخلص) أي : الخروج (مما شبب الكلام به) أي : ابتدئ الكلام وافتتح به ، وأصل التشبيب ذكر أمور الشباب ، قال الإمام الواحدي : التشبيب ذكر أيام الشباب ، وذكر اللهو والغزل ، ولما كثر إيقاعه في أوائل القصائد نقل عرفا إلى ابتداء القصيدة ، بل والكلام في الجملة سواء كان فيه ذكر اللهو والغزل وأيام الشباب أم لا ، فتبين أن المراد بالتشبيب كما قلنا افتتاح الكلام وابتداؤه سواء كان ما ابتدء به (من تشبيب) وهو ذكر الجمال ووصفه (أو) كان من (غيره) أي : من غير التشبيب كالأدب أي : الأوصاف الأدبية والافتخار وهو معروف والشكاية غير ذلك كالهجو والمدح والتوسل (إلى المقصود) متعلق بالتخلص أي : الثاني هو التخلص إلى المقصود مما بدئ به الكلام (مع رعاية الملاءمة) أي : المناسبة (بينهما) أي : بين ما شبب به الكلام وبين المقصود واحترز بهذا ـ أعنى كون ما شبب به الكلام بينه وبين المقصود ـ ملاءمة عن الاقتضاب ، وظاهر العبارة أن التخلص الكائن مع المناسبة ينبغي أن يتأنق فيه بشيء آخر زائد عليه ، والمقدر أن التخلص في الجملة ـ أعنى التخلص اللغوي وهو الخروج من أول الكلام لغيره في الجملة ـ ينبغي أن يتأنق فيه برعاية المناسبة بينه وبين المتلخص إليه ، فإذا روعيت فيه حصل التأنق وحصل التخلص الاصطلاحي ، وهو الخروج مما شبب به الكلام إلى المقصود مع وجود المناسبة بينهما ، ويمكن تصحيح الكلام بأن يراد بالتخلص المذكور اللغوي ، ثم يقدر ضمير يعود عليه على طريق الاستخدام ، خبره تخلص يتعلق به قوله مما شبب إلخ ، فيكون تقدير الكلام من المواضع التي ينبغي التأنق فيها التخلص ، والتخلص

__________________

(١) هو للمتنبى فى رثاء أم سيف الدولة ، الإيضاح ص (٣٦٤).

٧٠٧

الذي حصل فيه ذلك التأنق هو التخلص مما شبب به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة إلخ ، وبهذا يعلم أن الكلام لا يصح بمجرد جعل التخليص يراد به معناه اللغوي مع تعلق ما بعده به ، وذلك ظاهر ، ووجه كون تلك المناسبة من التأنق الذي ينبغي أن يراعى في التخلص أن السامع إذا كان أهلا للاستماع ؛ لكونه من العارفين بمحاسن الكلام يترقب الانتقال من الافتتاح إلى المقصود ، كيف يكون ؛ لأن من المعلوم أن من قصد شيئا وابتدأ بغيره فقد جعل ذلك الغير كالوسيلة إلى المقصود ، فلا بد أن تكون بينها مناسبة ومواصلة ، والاتصال إنما يظهر عند انتهاء الوسيلة وإرادة الانتقال ، فإذا جاء حسنا للملاءمة بين طرف المفتتح به ، وطرف المقصود ، حرك من نشاط السامع لوجود تلك الملاءمة المطلوبة ، وأعانه ذلك الحسن على الإصغاء لما بعده ؛ لاعتقاد كون صاحبه برع وصار أهلا لإيجاد الحسن ، وإلا توجد تلك المناسبة فات الحسن المنتظر ، فيعدوهم السامع الشاعر ليس أهلا أن يستمع ، فلا يصغي إليه ، ولو أتي بما هو حسن بعده فالتخلص ، الحسن لوجود الارتباط والمناسبة (كقوله : يقول في قومس) (١) وهو اسم موضع (قومي وقد أخذت. منا السرى) أي : والحال أن السرى قد أخذت منا أي : أثرت فينا ونقصت من قوانا ، والسرى هو المشي ليلا ، فهو مصدر يؤنثه بعض العرب بتوهم أنه جمع ؛ إذ هو على وزن من أوزان الجموع (وخطا المهرية) عطف على السرى أي : أخذت منا السرى ، وأخذت منا خطا المهرية أي : نقصت منا المهرية بخطاها ، ومشيها وتحريكها إيانا ، وتكلف مسايرتنا معها ؛ لأن ذلك مما يتعب وينقص من قوتنا ، فهو كعطف أخص على أعم ، وليس معطوفا على المجرور في قوله : منا ؛ لأنه يكون التقدير : نقصت منا السرى ونقصت السرى أيضا من خطا المهرية ، ولا معنى لنقص السرى من خطا المهرية من حيث إنها خطا ، وحمله على أن السرى طال فنقص قوى المهرية كما نقص قوانا ، وكنى عن ذلك بنقص خطاها ، تكلف لا حاجة إليه ؛ لوجود غيره ، فإن قلت : فيه المبالغة في نقص قواهم حيث أفضى بطوله إلى نقص قوى ما هو أقوى منهم وهو المهرية ، قلت : لا يتعلق غرض بهذه المبالغة في المقام ؛ لأن المقصود

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (١٢٨) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٩٥).

٧٠٨

الإخبار بتشكيهم بطول السير ؛ ليخرج منه إلى المقصود ، والمعنى الأول كاف فيه ، وعلى تقدير تسليمه فالعطف بدون إعادة المجرور لا يرتكب مع إمكان غيره ، وقد أمكن هنا ، والخطا جمع خطوة وهو ما بين القدمين في السير والمهرية الإبل المنسوبة إلى مهرة بن حيذان أبي قبيلة تنسب إليهم إبلهم لخصوص جودتها ، ثم صار لقبا على الإبل الجياد مطلقا.

(القود) وصف المهرية وهى الإبل الطويلة الظهور والأعناق جمع أقود ، وقد علم مما قررنا أن المعنى : أنهم قالوا ما يذكر بعد ، والحال أن مزاولة السرى أثر فيهم ومعاناة مسايرة المطايا بالخطا أو سيرها بهم نقص منهم ، ومقولهم هو قوله (أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا*) أي : لما طال السير قالوا أتبغي أي : أتطلب أن تقصد بنا مطلع الشمس أي : موضع طلوعها ، فإن قلت : ما معنى طلبه قصد مطلع الشمس ، وهو إن طلب إنما يطلب مطلع الشمس بعينه ، قلت : المراد بالقصد التوجه والذهاب إلى جهة مطلع الشمس ، وكثيرا ما يطلق عليه لتعلقه به ، فكأنهم قالوا : أتطلب بهذا المشي أن تتوجه إلى جهة مطلع الشمس ، ثم المراد بالجهة نهايتها فافهم.

(فقلت) لهم (كلا) أي : ارتدعوا عما تقولون وانزجروا ، فإني لا أطلب بكم مطلع الشمس (ولكن) أطلب بكم (مطلع الجود) فقد خرج بالمناسبة الجوابية إلى الممدوح الذي سماه مطلع الجود فكان فيه حسن التخلص ، ومن حسن التخلص ما وقع في بيت واحد كقول أبي الطيب :

نودعهم والبين فينا كأنه

قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق (١)

الفيلق الجيش.

ومن حسن التخلص قول أبي الطيب يمدح المغيث العجلي :

مرت بنا بين تربيها فقلت لها

من أين جانس هذا الشادن العربا (٢)

فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى

ليث الشري وهو من عجل إذا انتسبا

__________________

(١) البيت للمتنبى فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٩٧) ، ولكن فيه (فودعهم) مكان (نودعهم).

(٢) البيت للمتنبى فى ديوانه ص (١٤١) ، ط الكتب العلمية.

٧٠٩

أي : قالت أنا بالنسبة إلى قومي في كوني وحشية الصورة ، والعينين إنسية النسب كالمغيث ليث المعنى والصورة ، عجلي النسب ، وهذا التخلص نهاية الحسن.

(وقد ينتقل منه) أي : مما شبب به الكلام (إلى ما لا يلائمه) فيستأنف حديث المقصود من غير ربط واتصال (ويسمى) ذلك الانتقال الكائن بلا ربط ومناسبة (الاقتضاب) وهو في اللغة الاقتطاع والارتجال أي : الإتيان بالشيء استئنافا بغتة ، أطلق على الإتيان بالكلام بعد الآخر بلا ربط ومناسبة ؛ لانقطاع الأول عن الثاني (وهو) أي : الاقتضاب (مذهب العرب الأولى) أعنى الجاهلية (و) مذهب (من يليهم من المخضرمين) والمخضرم بالضاد والخاء المعجمتين وفتح الراء هو الذي أدرك الجاهلية والإسلام معا مثل لبيد ، وقال في الأساس ومثله في القاموس يقال : ناقة مخضرمة بفتح الراء إذا جدع أي : قطع نصف أذنها ، ومنه المخضرم وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام وسمى بذلك ؛ لأنه لما فات جزء من عمره في الجاهلية فكأنه قطع نصفه أي : ما هو كالنصف من عمره ؛ لأن ما صادف به الجاهلية وكان حاصلا منه فيها ملغى لا عبرة به كالمقطوع ثم مثل للاقتضاب فقال (كقوله) أي : كقول أبي تمام :

(لو رأى الله أن في الشيب خيرا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا) (١)

الشيب بكسر الشين جمع أشيب وهو حال من الأبرار :

(كل يوم تبدى صروف الليالي

خلقا من أبي سعيد غريبا)

فقد انتقل من ذم الشيب في البيت الأول إلى مدح أبي سعيد بأنه تبدى أي : تظهر منه الليالي خلقا أي : طبائع غريبة لا يوجد لها نظير من أمثاله فيها ، ولا ربط بينهما ولا مناسبة ، فهذا الانتقال من الاقتضاب.

وأما ما يقال من أنه لا يتعين أن يكون اقتضابا ؛ لاحتمال أن يكون أبو سعيد أشيب فيكون ذكره مناسبا لذم الشيب قبله فلا وجه له ، لأن المتبادر مدح أبي سعيد ؛ ولأن اللفظ لا يشعر بالمناسبة ؛ إذ ليس في البيت الثاني ذكر الشيب ، نعم لو قال مثلا :

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (٣٣) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٩٧).

٧١٠

وأبو سعيد أشيب فلا يبقى فيه خير أو نحو هذا أمكن ما ادعى ما فيه من البرودة ، فافهم.

وقولنا : إن الاقتضاب مذهب العرب والمخضرمين لا يقتضي أن غيرهم لا يرتكبه تبعا لهم ، بل يجوز أن يستعمله غيرهم تبعا لهم ، كما وقع لأبي تمام في المثال ، وليس منهم إذ هو من الشعراء الإسلامية في الدولة العباسية ، فالمثال لا يجب أن يكون من العرب أو المخضرمين ؛ لصحة عدم الاختصاص بهم ، فلا يعترض بأن أبا تمام ليس منهم ، إذ لم يدرك الجاهلية ، فلا يكون من المخضرمين ؛ لأن الاعتراض لا يرد إلا لو قال المصنف : الاقتضاب هو ما صدر من العرب والمخضرمين ، فيفهم أن ما صدر من غيرهم ليس من الاقتضاب ، ولم يقل المصنف ذلك ، وإنما قال هو مذهب العرب والمخضرمين ، ولا يلزم من كونه مذهبا لمن ذكر أن لا يصدر من غيرهم ، فلا تختص التسمية بما صدر ممن ذكر ، وقد خفي الفرق بين كونه مذهبا وكونه لا يصدر إلا منهم فيلزم أن لا يسمى إلا إن صدر منهم على بعضهم ، فجعل الأول نفس الثاني ، واعترض بما ذكر وهو سهو.

(ومنه) أي : ومن الاقتضاب الذي هو ابتداء المقصود بلا ربط وملاءمة بينه وبين طرف ما شيب به الكلام (ما) أي : انتقال (يقرب) أي : يشبه (من التخلص) الاصطلاحي ، وهو الانتقال على وجه المناسبة ، والربط المعنوي كما تقدم وذلك (كقولك بعد حمد لله) أى : بعد أن حمدت الله تعالى ، وصليت على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا (أما بعد) كذا وكذا ، وصح فيه شائبة من المناسبة ، وهو اقتضاب من جهة أنه انتقال من الحمد والثناء إلى كلام آخر بلا ربط معنوي ولا ملاءمة بين الطرفين ، ووجه وجود شيء من شائبة المناسبة فيه أنه لم يؤت معه بالكلام الثاني فجأة كائنة من غير قصد إلى ارتباط وتعليق بين الطرفين أي : طرف الابتداء الكائن لما بعده ، وطرف الانتهاء الكائن لما قبله ، بل قصد نوع من الربط على معنى ، مهما يكن من شيء بعد حمد الله والثناء فإنه كان كذا وكذا.

٧١١

وتحقيق ذلك أن حسن التخلص فيه القصد إلى إيجاد الربط بالمناسبة على وجه لا يقال فيه : إن هنا كلامين منفصلين مستقلين أتي بأحدهما وهو الثاني بغتة ، والاقتضاب فيه القصد إلى الإتيان بكلام بعد الآخر على وجه يقال فيه : إن الأول منفصل عن الثاني ولا ربط بينهما ، وأما بعد لما كان معناه مهما يكن من شيء فكذا وكذا ، أفاد أن ذلك الكذا مربوط بكل شيء ، وواقع على وجه اللزوم بالدعوى بعد الحمد والثناء ، ولما أفاد ما ذكر ارتبط بما قبله ؛ لإفادته الوقوع بعده ولا بد ، فلم يؤت به على وجه يقال فيه : لم يرتبط بما بعده ؛ فأشبه بهذا الوجه حسن التخلص ، ولما كان ما بعده شيء آخر لا ربط فيه بالمناسبة ، كان في الحقيقة اقتضابا ، وبه يعلم أن جعل وجه المشابهة أنه لم يؤت بما بعده فجأة وحده لا يكفي ؛ لأن حسن التخلص فيه الإتيان بشيء آخر فجأة ، ولكن بضرب من المناسبة فافهم.

(قيل وهو) أي : قولهم : بعد الحمد لله والصلاة على رسول الله أما بعد (فصل الخطاب) أي : هو المسمى بهذا اللقب الذي هو للفظ الممدوح اتفاقا ؛ لأنه فصل بين الخطاب الأول والثاني على وجه لا تنافر فيه ولا سماجة ، بل وجه مقبول كما أشرنا إليه ، قال ابن الأثير : والذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان أن فصل الخطاب هو أما بعد ؛ لأن المتكلم يفتتح في كل أمر ذي شأن بذكر الله تعالى وتحميده يعنى الصلاة على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أراد الخروج منه إلى الغرض المسوق له الكلام ، فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله : أما بعد ، فسمى فصل الخطاب ، واشتهر بذلك مع قبوله لحسن الفصل به ، وقيل : معنى فصل الخطاب : الكلام الفاصل من الخطاب بين الحق والباطل ، وعلى هذا فالمصدر أعنى : لفظ الفصل بمعنى اسم الفاعل ، وقيل : معناه الكلام المفصول من الخطاب أي : يتبينه من يخاطب به أي : يعلمه بينا لا يلتبس عليه ، وعلى هذا فالمصدر وهو لفظ الفصل بمعنى اسم المفعول (وكقوله تعالى) هو عطف على قوله : كقولك بعد حمد الله تعالى ، يعنى : أن من جملة الاقتضاب القريب من التخلص الاصطلاحي ، وهو ما يكون بالمناسبة الربطية ما يكون بلفظ هذا ، كما في قوله تعالى

٧١٢

بعد ذكر أهل الجنة (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) (١) فالانتقال معه اقتضاب ؛ لأن ما بعده لم يربط بالمناسبة بينه وبين ما قبله ، ولكن فيه نوع ارتباط ، وقد تقدم أن مجرد الربط هو وجه المشابهة في أما بعد ، وكذلك هنا ، ووجه الارتباط أن الواو للحال في قوله : (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) فقد أفاد الكلام بمعونة اسم الإشارة المصحح للحالية ؛ لأن فيه رائحة الفعل أن ما بعده واقع في صحبة ما قبله ، فكان فيه ارتباط أشبه التخلص ، ولفظ هذا إما أنه خبر مبتدأ محذوف (أي : الأمر) الذي يتلى عليكم هو (هذا) والحال أن كذا وكذا واقع ، وصاحب الحال هو المشار إليه وهو معنى الخبر أو المبتدأ ؛ لأنه مشار إليه في المعنى (أو) هو مبتدأ محذوف الخبر أي : (هذا كما ذكر) والحال كذا وكذا ، وصاحب الحال هو المشار إليه وهو مصدوق المبتدأ.

(و) قد يكون الخبر في مثل هذا التركيب مذكورا مثل (قوله تعالى) بعد ذكره جمعا من الأنبياء على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسّلام ، وأراد أن يذكر بعد ذلك الجنة وأهلها (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (٢) فأثبت الخبر بعد لفظ هذا الذي يساق للانتقال ، وصاحب الحال هو المشار إليه الذي هو معنى المبتدأ ؛ لوجود الإشارة التي فيها رائحة الفعل ، وذكر الخبر في هذا التركيب يشعر بأنه هو المحذوف في نظيره ، وهو قوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) لأن الذكر يفسر الحذف في النظير ، فلفظ هذا فيما تقدم على هذا مبتدأ محذوف الخبر ، قال ابن الأثير : لفظ هذا في هذا المقام أي : في مقام الانتقال من غرض إلى آخر هو من الفصل الذي هو أحسن من الوصل ، يعنى هو مما يفصل به بين كلامين فصلا هو أحسن عند البلغاء من حسن التخلص الذي هو الوصل بالمناسبة ، قال : وهى أي : لفظة هذا علاقة أكيدة أي : وصلة بين المتقدم والمتأخر يتأكد الإتيان بها بين الخروج من كلام إلى كلام آخر ، ومما يدل على أنها أحسن من التخلص وقوع الانتقال بها كثيرا في الكلام المعجز ، وأيضا الربط بها

__________________

(١) ص : ٥٥.

(٢) ص : ٤٩.

٧١٣

إنما هو على وجه الحالية الحقيقية ، وهي مطردة بخلاف الربط بالمناسبة كالجوابية في قوله :

فقلت كلا ولكن مطلع الجود

وكالتشبيه في قوله :

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حين يمتدح

فقد لا يخلو من تمحل ، وعدم مطابقة ما في نفس الأمر.

(ومنه) أي : من الاقتضاب القريب من التخلص (قول الكاتب) أي : الناثر ؛ إذ الكاتب هو مقابل الشاعر عند إرادته الانتقال من حديث إلى آخر (هذا باب) في كذا ؛ لأنه ترجمة على ما بعده ، ويفيد أنه انتقل من غرض إلى آخر ، وإلا لم يحتج للتبويب ، فلما كان فيه التنبيه على أنه أراد الانتقال لم يكن الإتيان بما بعده بغتة فكان فيه ارتباط ما ، وقد تقدم أن الربط بالمناسبة وجدت فيه البغتة أيضا ؛ لأن المأتي به بغت ما هو فيه ، لكن بمناسبة فعلية ، يقال : نفي البغتة لا يكفي في الربط على أنه أراد الانتقال من شيء إلى غيره يتضمن الجمع بين الشيئين في ذكرهما ، فهو نوع من (مطلق الارتباط) وقد يجاب بأن الكلام الذي فيه الربط بالمناسبة لا بغتة فيه أصلا ؛ لأن البغتة هي مجيء ما لا يرتقب ولا يناسب وإنما زدنا في تقييد البغتة ما لا يناسب ؛ لأن المناسبة تقضى أن الثاني من طريق الأول ومن نمطه فلم يفجأ النفس ما هو بعيد عن نمط الارتقاب. تأمله ، فإن فيه دقة.

ومن هذا القبيل لفظه أيضا عند الفراغ من غرض وأريد الإتيان بغرض آخر ؛ لأنه يشعر بأن الثاني يرجع به على المتقدم ، وهذا المعنى فيه ربط في الجملة بين السابق واللاحق ولم يؤت بالثاني فجأة.

الانتهاء

(وثالثها) أي : وثالث المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها (الانتهاء) أي : انتهاء القصيدة أو الرسالة أو الخطبة ؛ لأن الانتهاء آخر ما يفهمه السامع ويحفظه من القصيدة أو الخطبة أو الرسالة ويرتسم في نفسه ، فإن كان ذلك الانتهاء مختارا حسنا تلقاه بغاية القبول ، واستلذه استلذاذا يجبر به ما وقع فيما سبقه من التقصير ، وجبر الواقع

٧١٤

من التقصير يعود إلى مجموع الكلام بالقبول والمدح ، وإلا كان الأمر على العكس أي : وإن لم يكن الانتهاء حسنا مجه السامع وأعرض عنه وذمه ، وذلك مما قد يعود على مجموع الكلام بالذم ؛ لأنه ربما أنسى محاسنه السابقة قبل الانتهاء ، فيعمه الذم ويرمى إلى الوراء ، ويكون عند السامع مما ينبذ بالعراء ، ومن المعلوم في المذوقات أن آخر الطعم إن كان لذيذا أنسى مرارته الأولى ، وإن كان مرا أنسى حلاوته الأولى ؛ فالانتهاء الحسن (كقوله) أي : كقول أبي نواس (وإني جدير) (١) أي : حقيق (إذ بلغتك) أي : وصلت إليك بمدحي (بالمنى) أي : بما أتمنى ، وهو متعلق بجدير أي : إني جدير بالفوز بالمنى منك حين بلغتك (وأنت بما أملت) أي : رجوت (منك جدير) لكرمك (فإن تولني) أي : تعطني (منك الجميل) أي : الإحسان والإفضال (فأهله) أي : فأنت أهل لإعطاء ذلك الجميل وذلك الإحسان (وإلا) أي : وإن لم تولني الجميل (فإني) لا أجد في نفسي عليك ، ولكنى (عاذر) لك بحملك على أن ذلك لعذر ؛ كعدم تيسر المعطى في الوقت ، أو لتقديم من لا يعذر بالعطاء (و) إني (شكور) لك ما صدر منك من غير الإعطاء ، وهو إصغاؤك لمدحي ، فإن ذلك من المنة على أو شكور لك الإعطاء السابق ، ولا يمنعني من شكر السابق عدم تيسر اللاحق ، ومن أحسنه قوله أيضا للمأمون :

فبقيت للعلم الذي تهدى له

وتقاعست عن يومك الأيام (٢)

وكذا قول أبي تمام في خاتمة قصيدة فتح عمورية :

إن كان بين صروف الدهر من رحم

موصولة أو ذمام غير مقتضب

فبين أيامك اللاتي نصرت بها

وبين أيام بدر أقرب النسب

أبقت بنى الأصفر الممراض كاسمهم

صفر الوجوه وجلت أوجه العرب (٣)

__________________

(١) البيت لأبى نواس ، انظر عقود الجمان (٢ / ١٤٩) ، والإشارات (٣٢٤) ، والإيضاح (٣٦٦).

(٢) لأبى نواس فى خاتمة مدح المأمون ، وهو فى شرح المرشدى (٢ / ١٧٩) ، لكن روايته (بالواو) مكان (الفاء).

(٣) ديوان أبى تمام (١ / ٢١) ، ط دار الكتب العلمية.

٧١٥

(وأحسنه) أي : وأحسن الانتهاء (ما آذن بانتهاء الكلام) أي : ما أعلم بأن الكلام الذي جعل ذلك آخره قد انتهى ، والإشارة إلى الانتهاء ، إما بأن يشتمل ما جعله آخرا على ما يدل على الختم ؛ كلفظ الختم ، ولفظ الانتهاء ، ولفظ الكمال وشبه ذلك ، وإما بأن يكون مدلوله مفيدا عرفا أنه لا يؤتي بشيء بعده فلا يبقي للنفس تشوف لغيره وراء ذلك (كقوله) أي : كقول المعرى (بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله) (١) أي : يا كهفا يأوي إلى عزه أهله ، والمراد بأهله جنسه بدليل ما بعده (وهذا دعاء للبرية شامل) يعنى لما كان بقاؤك سببا لنظام البرية ، وحسن حالهم برفع الخلاف فيما بينهم ، ودفع ظلم بعضهم بعضا ، وتمكن كل واحد ببلوغ مصالحه كان الدعاء ببقائك دعاء بنفع العالم ، ونعنى بالعالم الناس وما يتعلق بهم ، وإنما آذن هذا الدعاء بانتهاء الكلام ؛ لأنه لا يبقى عند النفس ما يخاطب به هذا المخاطب بعد هذا الدعاء ؛ ولأن العادة جرت بالختم بالدعاء ومثل ذلك قوله :

فلا حطت لك الهيجاء سرجا

ولا ذاقت لك الدنيا فراقا (٢)

وهذه المواضع الثلاثة يعنى الابتداء والتخلص والاختتام مما يبالغ المتأخرون في التأنق فيها ، لا سيما التخلص لدلالته على براعة الشاعر أو الكاتب ، وأما المتقدمون فقد قلت عنايتهم بذلك كما شهدت بذلك قصائد كل فريق.

(وجميع فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن الوجوه وأكملها) يعنى أن فواتح السور القرآنية وخواتمها واردة على أكمل ما ينبغي من البلاغة وأعلى ما يراعى من البراعة ، فتجد فيها من الفنون أي : المعاني المختلفة ، المطابق كل منها لما نزل له ، المفيد لأكمل ما ينبغي فيه ما لا ينحصر ، وتجد فيها من أنواع الإشارة أي : اللطائف المشار إليها مما يناسب كل منها ما نزل لأجله ، ومن خوطب به ما لا يقدر قدره ؛ فتجد في الفواتح تحميدات وتنزيهات لعلام الغيوب تعجز جميع العقول عن استقصاء مذاق حسنها وإيجازها وطباقها كما في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

__________________

(١) البيت للمعرى ، شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٩).

(٢) البيت فى الإيضاح ص (٣٦٦).

٧١٦

وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ* وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)(١) وكما في قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢) ولما سمع بعض الصحابة قول مسيلمة الكذاب يا ضفدعة بنت ضفدعين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الماء تكدرين ولا البحر تغيرين وقوله الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل ، وخرطوم طويل. تعجب من غواية من اغتر بقوله فقال : وأين هذا من قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ) إلى آخر الآية ، وكذا قوله في الخاتمة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٣)(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(٤) وتجد في الفواتح أو الخواتم أو التوسط أدعية كما في الفاتحة وآخر البقرة ، وتجد وصايا كما في خاتمة آل عمران ، والفرائض كما في خاتمة النساء ، والتبجيل والتعظيم كما في خاتمة المائدة ، والوعد والوعيد كما في خاتمة الأنعام وغير ذلك كالتنبيه للأيقاظ بالنداء ، كما في يأيها الناس وكافتتاح السور بالحروف التي لم تفهم ليتحير العقل ، فيتشوف ، والأوامر والنواهي المناسبة ، وغير ذلك مما وقع موقعه وأصاب محزه أي : مفصله ؛ بحيث لم يحد عما يناسبه بوجه ، وكل ذلك في النهاية بحيث تقصر عن كنه وصفه العبارة ، وبحيث يجزم بأنه لا يبقى للنفس بعد سماع خواتمها تشوف لما وراء ذلك ، ولا بعد سماع فواتحها عدول لغير

__________________

(١) الأنعام : ١ ـ ٣.

(٢) الحديد : ١ ـ ٢.

(٣) الصافات : ١٨٠ ـ ١٨٢.

(٤) الإسراء : ١١١.

٧١٧

ما هنالك ، وكيف لا يكون الأمر أعظم من ذلك وكلام الله تعالى في الرتبة العليا من البلاغة والغاية القصوى من الفصاحة ، وقد أخرس البلغاء وأعجز الكمل من الفصحاء.

ولما كان هذا ـ أعنى كون فواتح السور وخواتمها ـ على أكمل الوجوه مما قد يخفى على بعض الأذهان لما في بعض الفواتح والخواتم من ذكر الأهوال ، والإفزاع ، وأحوال الكفار ، وأمثال ذلك ؛ كذكر الغضب والذم كما في قوله تعالى في الفاتحة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(١) وقوله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ)(٢) وقوله تعالى في الخاتمة : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣) وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(٤) أشار إلى ما يزول به هذا الخفاء فقال (يظهر ذلك بالتأمل) في معاني الفواتح والخواتم (مع التذكر لما تقدم) من القواعد والأصول المذكورة في الفنون الثلاثة الدالة على وجه الحسن ، وأن لكل مقام خطابا يناسبه ، مثلا فاتحة سورة براءة لما نزلت للمنابذة إلى الكفار ومقاطعتهم ، بدئت بما يناسب ذلك من الأمر بقتالهم وعذابهم والنبذ إليهم وإسقاط عهدهم ، ولما انتهت إلى ما يناسب التحريض على اتباع الرسل قيل : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٥) فوصفه بما لا عذر لأحد يستمعه في ترك اتباعه ، ثم أمره بالاكتفاء بالله والتوكل عليه إن أعرضوا ، والاستغناء به عن كل شيء.

فهذه ألفاظ هي النهاية في الحسن ، ومعان هي القصوى في المطابقة ، وكذا الفاتحة لما نزلت لتعليم الدعاء بدئت بحمد المسئول ووصفه بالأوصاف العظام ؛ لأن ذلك أدعى للقبول وللتتجمع النفس عليه في السؤال ، ثم قيد المسئول بأنه هو الذي لا

__________________

(١) الحج : ١.

(٢) المعارج : ١.

(٣) الكوثر : ٣.

(٤) الفاتحة : ٧.

(٥) التوبة : ١٢٨.

٧١٨

يكون للمغضوب عليهم ولا الضالين إظهارا للاختصاص وتعريضا بغير المؤمنين أنهم لا ينالون ما كان للداعين.

ولطائف القرآن لا يمكن استقصاؤها إلا لعلام الغيوب ، فبرعاية ما تقدم وتذكره يظهر ما ذكر ، وأن الفواتح والخواتم على أحسن الوجوه وأكملها.

وقد انتهى المراد من هذا الشرح المبارك ختم الله لنا ولقارئه بالحسنى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم.

(وجد في بعض النسخ ما نصه) وكان الفراغ من تأليفه بمكناسة المحروسة يوم الجمعة في منتصف النهار في الرابع والعشرين من المحرم عام ثمانية بعد المائة والألف.

٧١٩
٧٢٠