مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

الأخذ) من الأول ، بمعنى أنه يجوز أن يكون اتفاقهما بسبب ورود خاطر هو ذلك اللفظ ، وذلك المعنى على قلب الثاني ولسانه كما ورد على الأول من غير سبق الشعور بالأول ، حتى يقصد الأخذ منه ، ويحتمل أن يراد بالخواطر العقول ، فيكون المعنى أنه يجوز أن يكون الاتفاق من توارد عقلين على أمر واحد أي : ورودهما عليه وتلقيهما إياه من مدد التوفيق من غير أن يستعين الثاني بالأول لعدم شعوره بقوله حتى يقصد الأخذ عنه ، كما يحكى عن ابن ميادة وهو اسم امرأة أنه أنشد لنفسه

مفيد ومتلاف إذا ما أتيته

تهلل واهتز اهتزازا المهند (١)

أي : يفيد هذا الممدوح أموالا للناس ويتلفهما على نفسه ، إذا ما أتيته أي : إذا أتيت هذا الممدوح تهلل أي : تنور وجهه فرحا بسؤالك إياه ، لما جبل عليه من الكرم واهتز بأريحية إرادة العطاء اهتزاز السيف المهند في البريق والإشراق ، فلما أنشد هذا البيت قيل له أين يذهب بك هذا للحطيئة؟ أي : قد ضللت في ادعائك لنفسك ما هو لغيرك كيف تذهب؟ وكيف عذر تنفصل به؟ أي : لا عذر لك في هذا الضلال. يقال للضال الذي لا منفذ له إلى الانفصال عن الورطة : أين تذهب بنفسك؟ أي : أنت ضال لا سبيل لك إلى الخروج ما دمت على ما أنت عليه فقال ابن ميادة : الآن علمت أني شاعر أي : حين وافقت من سلم له الشعر في اللفظ والمعنى ، مع أنى لم أسمعه ، ولم أنقله عن صاحبه.

ومثل هذا ما روي أن الفرزدق لما ضرب الأسير بأمر سليمان بن عبد الملك فنبا عنه السيف ثم قال كأني بجرير يهجوني إذا سمع بهذا ويقول :

بسيف أبي رغوان سيف مجاشع

ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم (٢)

فلما حضر جرير أخبر الخبر فأنشد البيت ثم قال كأني بالفرزدق قد أجابني فقال :

__________________

(١) البيت فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٢٨١) ، وهو لابن ميادة ، والإيضاح ص (٣٥٨).

(٢) البيت فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨١).

٦٨١

ولا تقتل الأسرى ولكن تفكهم

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم (١)

فلما حضر الفرزدق أخبر بالهجو فقط ، فأنشد البيت المذكور بعينه مع غيره فتعجب الحاضرون مما اتفق لكل منهما مع صاحبه ، وإذا تحقق أن شرط دعوى كون الثاني سرقة باعتبار الأول ، أو أخذا أن يعلم أن الثاني أخذ عن الأول ، وجب ترك نسبة الثاني إلى السرقة. (فإذا لم يعلم) أن الثاني أخذ عن الأول (قيل) في حكاية ما وقع من المتأخر بعد المتقدم (قال فلان كذا) وكذا من بيت أو قصيدة (وقد سبقه إليه) أي : إلى ذلك القول (فلان فقال كذا) سواء كان مخالفا للثاني في اعتبار ما أولا. وإنما قلنا أو قصيدة ؛ لجواز توارد الخواطر في معنى القصيدة أيضا ، بل وفي لفظها فإن الخالق على لسان الأول هو الخالق على لسان الثاني ، ولا يقال إذا لم يعلم الأخذ أنه أخذه من الأول اعتناء بفضيلة الصدق ، وفرارا من دعوى علم الغيب ، وفرارا من نسبة النقص للغير ؛ لأن أخذ الثاني من الأول لا يخلو من مطلق الانتقاص في الثاني ، باعتبار والأول المنشئ له بلا تقدم استعانة شاعر آخر. وهنا انتهى ما أورده مما يتعلق بالسرقات الشعرية.

ما يتصل بالسرقات

ثم شرع فيما يتصل بها فقال (ويتصل بهذا) أي : بما تقدم وهو القول في السرقات الشعرية (القول) فاعل يتصل أي : القول في السرقات يتصل به القول أي : الكلام (في الاقتباس و) الكلام في (التضمين و) الكلام في (العقد و) الكلام في (الحل و) الكلام في (التلميح) وهو مأخوذ من لمح إذا أبصر ، فاللام فيه مقدمة على الميم ، وليس من ملح إذا حسن حتى يكون بتقديم الميم كما قد يتوهم. وسيأتي تفسير هذه الألقاب قريبا.

ويلزم من كون القول يتصل بالقول كونها في نفسها لها اتصال بالسرقات ، ومعنى اتصالها بالسرقات تعلقها بها تعلق المناسبة ، فيناسب أن يوصل الكلام عليها

__________________

(١) البيت فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨١).

٦٨٢

بالكلام على السرقات ووجه المناسبة أن في كل من معنى هذه الألقاب أخذ شيء من شيء سابق ، مثل ما في السرقات كما تقدم.

الاقتباس

ثم شرع في بيان هذه الألقاب على ترتيبها فقال : (أما الاقتباس) منها (فهو أن يضمن الكلام) سواء كان ذلك الكلام نظما أو نثرا (شيئا) مفعول ثان ليضمن ، والأول وهو الكلام مرفوع على أنه نائب. (من القرآن) أي : أن يؤتى بشيء من لفظ القرآن في ضمن الكلام (أو) يؤتى بشيء من لفظ (الحديث) في ضمن الكلام ، بشرط أن يكون المأتي به على أنه من كلام المضمن بكسر الميم (لا على أنه منه) أي : المأتي به من القرآن أو الحديث ، ومعنى الإتيان بشيء من القرآن على أنه منه أن يؤتى به على طريق الحكاية ، كأن يقال أثناء الكلام : قال الله تعالى كذا وكذا فهذا خارج عن التضمين ، وكذا معنى الإتيان باللفظ على أنه من الحديث أن يقال مثلا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكذا ، فمثل ذلك ليس من التضمين ؛ لأنه سهل التناول ، فلا يفتقر إلى نسج الكلام نسجا يظهر منه أنه شيء آخر ، فيعد مما يستحسن فيلحق بالبديع.

ومن هذا ألحقت معاني هذه الألقاب بالبديع كما في السرقات المنسوجة نسجا مستحسنا ، وسمى الإتيان بالقرآن أو الحديث على الوجه المذكور اقتباسا أخذا من اقتباس نور المصباح من نور القبس ، وهو الشهاب ؛ لأن القرآن والحديث أصل الأنوار العلمية ، ثم إن الاقتباس لما عرفه بأن يدخل في الكلام شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه ، ودخل في الكلام النظم والنثر اشتمل على أربعة أقسام : إتيان بقرآن في نثر ، إتيان به في نظم ، إتيان بحديث في نثر ، إتيان به في نظم. فأتى المصنف بأربعة أمثلة على هذا الترتيب ، وأشار إلى الأول منها وهو : اقتباس القرآن في نثر بقوله : (كقول الحريرى فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب) أي : لم يكن من الزمن إلا كلمح بالبصر أي : لم يوجد من الزمان إلا مثل ما ذكر فأنشد فيه وأغرب

٦٨٣

أي : أتى بشيء غريب اقتبسه من قوله تعالى (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (١) وظاهر أنه أتى به لا على أنه من القرآن.

(و) إلى الثاني منها وهو اقتباس قرآن في نظم بقوله ك (قول الآخر إن كنت أزمعت) (٢) يقال أزمع على الشيء إذا عزم عليه أي : إن كنت عزمت (على هجرنا من غير ما جرم) أي : من غير ذنب صدر منا إليك (فصبر جميل) أي : فأمرنا معك صبر جميل ، اقتبسه من قوله تعالى حكاية عن يعقوب على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٣) (وإن تبدلت بنا غيرنا) أي : اتخذت غيرنا بدلا منا في الصحبة والمحبة (فحسبنا الله) في الإعانة والكفاية في هذه الشدة التي هي قطعك حبل وصالنا (ونعم الوكيل) المفوض إليه في الشدائد اقتبسه من قوله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ)(٤).

(و) إلى الثالث منها وهو اقتباس حديث في نثر بقوله وك (قول الحريري قلنا : شاهت الوجوه وقبح اللكع ومن يرجوه) اقتبس شاهت الوجوه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين : " شاهت الوجوه" (٥) وذلك أنه روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما اشتدت الحرب يوم حنين أخذ كفا من حصى ، فرمى بها وجوه المشركين فقال : " شاهت الوجوه" أي : قبحت وتغيرت بانكسارها وانهزامها وعودها بالخيبة. مما تريد ، فلما فعل ذلك انهزم المشركون ، اللكع : اللئيم ، وقبح بضم القاف وكسر الباء مبنى للمجهول من قبحه بفتح القاف والباء يقبحه بفتحها أيضا مع تخفيفها في الكل بمعنى لعنه الله تعالى وأبعده ، قال تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)(٦).

__________________

(١) النحل : ٧٧.

(٢) البيت لأبى القاسم بن الحسن الكتابى ، فى الإيضاح ص (٣٥٢) ، وفى شرح المرشدى (٢ / ١٨٤).

(٣) يوسف : ١٨.

(٤) آل عمران : ١٧٣.

(٥) أخرجه مسلم فى الجهاد ، باب غزوة حنين ، (ح ١٧٧٧) ، من حديث سلمة بن الأكوع.

(٦) القصص : ٤٢.

٦٨٤

(و) إلى الرابع منها وهو اقتباس حديث في نظم بقوله ك (قول ابن عباد :

قال لي إن رقيبى

سيء الخلق فداره) (١)

أي : فدار الرقيب وهو فعل أمر من المداراة ، وهي الملاطفة أي : رقيبى قبيح الطبع غليظه فلاطفه لتنال معه المطلوب.

(قلت : دعني ، وجهك الجن

ة حفت بالمكاره)

اقتبس هذا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات" (٢) أي : أحيطت كل منهما بما ذكر بمعنى أنه لا يوصل إلى الجنة حتى ترتكب دونها مشاق المجاهدة والتكاليف ، والنار تجلب إليها الشهوات ، فصارت لكونها توصل إليها بسبب حملها على المعصية ، وكونها سببا شرعيا سابقا لدخولها كالشيء المحيط بغيره فلا يوصل إليه إلا منه. ومراده أن من طلب جنة وجهك يتحمل مشاق الرقباء وإذا يتهم وغيرهم فلا يتوقف على المداراة والملاطفة ، كما أن من طلب جنة الآخرة يتحمل مشاق المجاهدة للقيام بالتكاليف.

(وهو) أي : الاقتباس من حيث هو (ضربان) أي : نوعان أحد الضربين (ما) أي : الاقتباس الذي (لم ينقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي) بل أريد به في كلام المقتبس بكسر الباء ذلك المعنى الأصلي بعينه (كما تقدم) في الأمثلة فإن قوله (كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أريد به ذلك المقدار من الزمان كما أريد في الأصل وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ*) على معناه وكذا (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) و" شاهت الوجوه" أريد به قبح الوجوه وتغيرها ، كما أريد في الأصل ، وكذا" حفت الجنة بالمكاره" فإن المفهوم في الأصل والفرع واحد ، وإن كان المراد بمصدوق الفرع خلاف الأصل ؛ لأن الاختلاف في المصدوق لا عبرة به ، وإلا كان غالب الألفاظ مختلفا.

(و) الضرب الثاني (خلافه) أي : خلاف ما لم ينقل عن الأصل ؛ فالخلاف ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي (كقوله :

__________________

(١) البيت لابن عباد ، أورده الطيبى فى التبيان (٢ / ٤٥٥) ، وشرح المرشدى.

(٢) رواه البخارى فى الفتن ، والأحكام ، ومسلم فى الإمارة وغيرهما.

٦٨٥

لئن أخطأت في مدحي

ما أخطأت في منعي

لقد أنزلت حاجاتي

بواد غير ذي زرع) (١)

فقوله : بواد غير ذي زرع مقتبس من قوله تعالى (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)(٢) ومعناه في القرآن على ظاهره ، وهو واد لا ماء فيه ولا نبات وهو شعب مكة المشرفة ، وقد نقله الشاعر وهو ابن الرومي إلى جناب لا خير فيه ولا نفع على وجه التجوز ، ومعنى البيتين : أني إن غلطت في مدحك بأن مدحتك مع أنك لست أهلا فقد اتفق مع غلطي أنك ما غلطت في منعي مما طلبت منك ؛ لأن المنع والبخل وصفك ، وما جاء من الفعل على وفق وصف صاحبه لا يعد صاحب ذلك الفعل غالطا فيه ، إنك بمنزلة واد لا زرع فيه ، فأنت جناب لا خير فيه ، فالمنع منك ليس ببدع ولا خطأ ، وإنما الخطأ من الطالب في مثلك ، وفي هذا الكلام من الذم بعد المدح مالا يخفى ، ولا يقال وكذا قوله وجهك الجنة حفت بالمكاره ؛ لأنه نقل إلى جنة هي الوجه وإلى حفوف بالمكاره التي هي مشاق الرقيب ، والأصل الجنة الحقيقية ، والمكاره التي هي التكاليف ، فكيف يعد مما لم ينقل ؛ لأنا نقول : لا تجوز هنا فإن الوجه شبه بالجنة والمكاره أريد بها مصدوقها ؛ لأنه أريد بها مشاق الرقيب وهو أحد مصادقها ، وقد تقدم أن الاتحاد في المفهوم يكفى ولا عبرة باختلاف المصدوق بعد اتحاد المفهوم فلا تجوز ، ولما كان ظاهر العبارة أن الاقتباس هو الإتيان بنفس لفظ القرآن أو الحديث بلا تغيير نبه على أنه يسمى الاقتباس ، وإن وقع فيه تغير إذا كان يسيرا ، فقال (ولا بأس بتغيير يسير) في اللفظ المقتبس ويسمى اللفظ معه مقتبسا ، وأما إذا غير كثيرا حتى ظهر أنه شيء آخر لم يسم اقتباسا ، كما لو قيل في شاهت الوجوه : قبحت الوجوه ، أو تغيرت الوجوه أو نحو ذلك ، والتغيير المغتفر عند يسارته ، يكون إذا قصد به الاستقامة (للوزن أو) الاستقامة (لغيره) أي : لغير الوزن ؛ كاستواء القرائن في النثر ، ثم مثل للتغيير

__________________

(١) البيت لابن الرومى ، فى الإشارات ص (٣١٦) ، والإيضاح ص (٣٥٢) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٤).

(٢) إبراهيم : ٣٧.

٦٨٦

اليسير لأجل الوزن فقال (كقوله) أي : كقول بعض المغاربة حين مات له صاحب (قد كان) (١) أي : قد وقع (ما خفت أن يكونا) أي : أن يقع (إنا إلى الله راجعونا) اقتبسه من قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٢) فقد نقص مما أخذ من الآية اللام من لله وإنا والضمير من إنا إليه قصدا لاستقامة الوزن.

التضمين

(وأما التضمين) من الألقاب السابقة (فهو) أي : فمعناه (أن يضمن الشعر) خرج النثر فلا يجرى فيه التضمين ، ولاختصاصه بالشعر لم يشترط فيه أن ينبه على أن الكلام لغير المضمن ، بل يجوز فيه التنبيه وعدمه عند الشهرة كما سيأتي ؛ وذلك لأن ضم كلام الغير في الشعر على وجه يوافق المضموم إليه مما يستبدع ؛ إذ ليس سهل التناول ، ولذلك عد في المحسنات (شيئا) أي : هو أن يدخل في الشعر شيئا (من شعر الغير) خرج به ما إذا ضمن شيئا من نثر الغير ، فلا يسمى تضمينا بل عقدا كما سيأتي ، وأطلق في الشيء المضمن ليشمل تضمين بيت أو فوقه أو مصراع أو دونه ، فإن كل ذلك يسمى تضمينا ، والأحسن أن يقول : بدل قوله : من شعر الغير ، من شعر آخر ؛ ليشمل ما إذا ضمن شيئا من شعر نفسه من قصيدة أخرى مثلا ، ولكن لقلة التضمين على هذا الوجه لم يعتبره (مع التنبيه عليه) أي : مع التنبيه على أنه من شعر الغير (إن لم يكن) ذلك الشعر المضمن (مشهورا) لصاحبه (عند البلغاء) لكثرته وشيوع إشاده ، وبهذا القيد أعنى اشتراط التنبيه عليه إلا أن يكون مشهورا فتغنى شهرته عن التنبيه تخرج السرقة والأخذ ؛ لأن فيها تضمين شعر أيضا ، وإنما افترقا في أن السارق يبذل الجهد في إظهار كونه له ، والمضمن يأتي به منسوجا مع شعره مظهرا أنه لغيره وإنما ضمه إليه ليظهر الحذق وإظهار كيفية الإدخال للمناسبة ، ولما شمل الكلام تضمين بيت أو أكثر أو

__________________

(١) الصحيح أن البيت لأبى تمام قاله عند موت ابنه ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (٣١٦) ، والإيضاح ص (٣٥٣).

(٢) البقرة : ١٥٦.

٦٨٧

مصراع أو أقل كانت هنا ثمانية أقسام تضمين بيت مع التنبيه على أنه لغيره أو بدون التنبيه لشهرة هذان قسمان ، وتضمين أكثر مع تنبيه أو بدونه هذان قسمان أيضا ، وتضمين المصراع بتنبيه أو بدونه قسمان آخران أيضا ، وتضمين دون المصراع بتنبيه أو بدونه قسمان أيضا ، مجموع ذلك ثمانية أربعة في تضمين البيت وإلا كثر ، وأربعة في تضمين المصراع وإلا قل ، والأمثلة المطابقة لها ثمانية ، ولكن ينبغي الاستغناء بمثالي البيت عن مثالي الأكثر لطول الأكثر مع قلة وجوده ، ولكون طريق التنبيه فيهما واحدا ؛ لانفصاله فيهما عن المضمن ، كما ينبغي الاستغناء بمثالي المصراع عن مثالي الأقل ؛ لأن طريق التنبيه فيهما متصل مع المضمن في بيت واحد غالبا مع قلة وجوده أيضا ، فالمحتاج إليه على هذا مثالان لتضمين البيت ، ومثالان للمصراع ، فأما مثال تضمين المصراع مع التنبيه فأشار إليه فقال (كقوله) أي : الحريري حاكيا ما قاله الغلام الذي عرضه أبو زيد للبيع :

(على أني سأنشد عند بيعي

أضاعوني وأي فتى أضاعوا) (١)

فقوله : سأنشد نبه به على أن المصراع الثاني لغيره وهو قوله :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

وتمامه :

ليوم كريهة وسداد ثغر

والكريهة لفظ يعبر به عن الحرب ؛ لأنها مكروهة عند اشتدادها كما قال :

الحرب أول ما تكون فتية

تسعى بزينتها لكل جهول

حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها

ولت عجوزا غير ذات حليل

شمطاء تنكر لونها وتغيرت

مكروهة للشم والتقبيل (٢)

__________________

(١) البيت في عقود الجمان (٢ / ١٨٨) ، والإشارات ص (٣١٨) ، والإيضاح ص (٣٥٤).

(٢) الأبيات لعمرو بن معد يكرب فى ديوانه ص (١٥٤) ، وأمالى ابن الحاجب (٢ / ٦٦٦) ، ولامرئ القيس فى ملحق ديوانه ص (٣٥٣).

٦٨٨

وسداد الثغر هو بكسر السين بمعنى سده ، والثغر هو الموضع الذي يخشى منه العدو من فروج البلدان ، واللام في ليوم كريهة توقيتية ، وأي استفهام أريد به التعظيم كما تقول عندي غلام وأي غلام أي : هو أكمل الغلمان ، واللام يحتمل أن تتعلق بأضاعوني فيكون المعنى أنهم أضاعوني وقت الكريهة ووقت حاجتهم لسد الثغر ، فقد أضاعوني أحوج ما كانوا إلى مع أني أكمل المحتاج إليهم ، ويحتمل أن يتعلق بما يفيده أي : من الكمال أي : أضاعوني وأنا أكمل الفتيان في وقت الكريهة وفي وقت الحاجة لسد الثغر ؛ إذ لا يوجد من الفتيان من هو مثلى في تلك الشدائد ، وعلى هذا يكون زمان الإضاعة غير زمان الكريهة ، وسد الثغر ، وعلى كل حال ففي الكلام تنديم المضيعين وتخطئتهم على إضاعة مثل هذا القائل ، وهذا البيت قيل : إنه للعرجي وهو عبد الله بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، وسمى العرجى نسبة للعرج بسكون الراء موضع بطريق مكة ، وقيل : لأمية بن أبى الصلت.

وأما مثال تضمين المصراع بدون التنبيه لاشتهاره فكقوله :

قد قلت لما أطلعت وجناته

حول الشقيق الغض روضة آس

أعذاره الساري العجول ترفقن

ما في وقوفك ساعة من باس (١)

فقوله : ما في وقوفك ساعة من باس مصراع معلوم لأبى تمام ، والوجنات جمع وجنة وهى ما ارتفع من الخدين ، والشقيق ورد أحمر ، والغض هو الطري اللين ، والروضة بقعة هي منبت الأشجار الثمارية ، والآس هو الريحان ، ويقال له : روض أخضر ، والهمزة في أعذاره للنداء ، والعذار هو ما يلقى من الشعر على الخد مما يليه من الرأس ، والساري في الأصل الماشي بالليل ، والعجول وصف له ، والمعنى : أني أقول له حين رأيته وقد أطلعت وجناته حول حمرتها التي هي كالورد شعرا من جهة خده كأنه في التلون والطيب شجر الآس في روضته يا عذاره الساري العجول ، وإنما نادى عذاره ؛ لأنه هو المشغوف به ، وكثيرا ما يشبب به فاستغنى بندائه عن نداء صاحبه ؛ لأنه هو

__________________

(١) البيتان لأبى خاكان أبى العباس أحمد بن إبراهيم ، فى الإيضاح ص (٣٥٥) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٨).

٦٨٩

الآخذ بزمام قلب المنادى ، ووصفه بأنه الساري ؛ لأنه مشتمل على سواد كسواد الليل فكأنه سار بالليل وبالعجول ؛ لأن فيه تظهر عجلة المسرع ، وقوله : ترفقن هو فعل أمر بنون توكيد خفيف من الترفق وهو الاستمساك بالرفق ، وأما مثال تضمين البيت مع التنبيه على أنه لغير المضمن فكقوله :

إذا ضاق صدري وخفت العدا

تمثلت بيتا بحالي يليق

فبالله أبلغ ما أرتجي

وبالله أدفع ما لا أطيق (١)

وأما مثاله بدون التنبيه لأجل وجود الشهرة فكقوله :

كانت بلهنية الشبيبة سكرة

فصحوت واستبدلت سيرة مجمل

وقعدت أنتظر الفناء كراكب

عرف المحل فبات دون المنزل (٢)

فإن البيت الثاني مشهور لمسلم بن الوليد الأنصاري ، والبلهنية بضم الباء سعة العيش ورخاء الحال ، وربما اجتمع الأمر أن التنبيه والشهرة فيكون التنبيه كالتأكيد وذلك كقوله :

كأنه كان مطويا على إحن

ولم يكن في قديم الدهر أنشدني

إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن (٣)

والإحن الضغائن والشحناء.

ثم تضمين أقل من البيت قد يكون مع تمام المعنى بلا تقدير كما تقدم في : أضاعوني وأي فتى أضاعوا ، وقد يكون بتقدير ويسمى تضمينا أيضا كقوله :

كنا معا أمس في بؤس نكابده

والعين والقلب منا في قذى وأذى

والآن أقبلت الدنيا عليك بما

تهوى فلا تنسنى أن الكرام إذا (٤)

__________________

(١) البيتان لعبد القاهر بن الظاهر التميمى ، فى شرح المرشدى (٢ / ١٨٨).

(٢) فى شرح المرشدى (٢ / ١٨٨).

(٣) شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨٨) ، وهما لابن العميد ، والإيضاح ص (٣٥٤).

(٤) البيتان فى شرح المرشدي (٢ / ١٨٩).

٦٩٠

يعنى : إذا ما أسهلوا ذكروا إلى آخر بيت أبي تمام السابق ، ولا بد من تقديره ليتم المعنى ، ولكن لا يعدون هذا من تضمين البيت ، ولو توقف المعنى على تمامه نظرا إلى أن الموجود بعضه.

(وأحسنه) أي : وأحسن التضمين (ما زاد على الأصل) أي : على شعر الشاعر الأول (بنكتة) لم توجد في ذلك حيث ضمن شطرا مثلا لا يفيد نكتة في الكلام الأول زائدة على ما كان فهو أدنى من هذا ، وبه يعلم أن منشأ الحسن هو كون المزيد لنكتة ، وإلا فالزيادة على المضمن لا بد منها ، فلم يحترز بمطلق الزيادة عن شيء ، وإنما احترز بكونها لنكتة زائدة على ما كان فالمحترز عنه هو الزيادة لغير ذلك ، وتلك النكتة (كالتورية) وقد تقدم أنها مرادفة للإيهام ، وأن معناهما أن يكون للكلام معنى بعيد وقريب ، ويراد البعيد لقرينة ، وقد تقدم الفرق بينه وبين المجاز في مادة يكون فيه اللفظ مجازا.

(و) ك (التشبيه) الموجودين (في قوله : إذا الوهم أبدى لي) أي : أظهر لي (لماها) أي : حمرة شفتيها (وثغرها) أي : فاها ، وهو من عطف الكل على وصف الجزء (تذكرت) جواب (إذا ما بين) مفعول تذكرت (العذيب وبارق) وأراد بالعذيب الذي هو تصغير العذب شفة المعشوقة ، وبالبارق فاها وثغرها الشبيه بالبرق في لمعان أسنانه ، والذي بينهما هو ما يمص من ريقها ، وهذا الشطر أعنى قوله تذكرت إلخ شطر بيت لأبي الطيب المتنبي ، وسيأتي في البيت الثاني شطره الآخر والبيت قوله :

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجر عوالينا ومجرى السوابق (١)

فالعذيب وبارق قصد بهما المتنبي موضعين معلومين ، وذلك هو معناهما القريب المشهور ، وقد تقدم ما أراده المضمن من معناهما البعيد ؛ لأنه أدنى في الشهرة من مراد المتنبي ، فكان في كلام المضمن تورية وإيهام ، حيث أطلق اللفظين وأراد بهما معناهما البعيد ، فهذا البيت تضمن التورية ، ثم أشار إلى ما يتضمن نكتة التشبيه بقوله (ويذكرني)

__________________

(١) البيت لزكى الدين بن أبى الأصبع ، فى الإشارات ص (٣١٨) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨٩).

٦٩١

من الإذكار بقطع الهمزة ، وفاعله ضمير يعود على الوهم أي : ويذكرني الوهم (من قدها ومدامعي) مجرور ومعطوف عليه ، ومن فيها للابتداء يعنى أن منشأ إذكار الوهم إياي هو إحضار قدها وإحضار مدامعي أو حضورهما (مجر) مفعول ثان ليذكرني (عوالينا) أي : رءوس رماحنا (ومجرى السوابق) معطوف على مجر يعنى أنه إذا حضر قدها وحضر تتابع دموعي أذكرني الوهم بذلك الموضع الذي تجر فيه العوالي ، أو جرى العوالي والموضع الذي تجرى فيه سوابق الخيل أو جرى الخيل ؛ لأن قدها يشبه العوالي والرماح في التمايل والطول ؛ فتذكر به ، ودموعي تشبه في تتابعها وسرعتها سبق الخيل فيذكر بها ، فقد تضمن هذا البيت بما زيد على المضمن ، وهو شطر بيت المتنبي الذي هو مطلع قصيدته أعنى قوله :

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجر عوالينا ومجرى السوابق

التشبيه ، ولا يخفى أن الشطر الأول لما كانت نكتته التورية فقد نقل عن معناه الأصلي نظير ما تقدم في الاقتباس ، وأنه قد ينقل لغير معناه كما في قوله :

لقد أنزلت حاجاتي

بواد غير ذي زرع

بخلاف الشطر الثاني ، ومعنى بيت المتنبي أنه تذكر ما بين الموضعين ، أعنى : العذيب وبارق ، وهو أنهم كانوا نزولا هنالك ويجرون الخيل السوابق في ذلك المكان ، ويجرون العوالي على الأرض عند مطاردة الفرسان ومقابلة الأقران ، فنقله الشاعر مفرقا كما رأيت لنكتة فجاء أحسن من غيره ، وقد تقدم إعراب ما يحتاج إليه من بيتي المضمن ، وأما إعراب بيت المتنبي ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون قوله : " ما بين" مفعول" تذكرت" على أن" ما" موصولة أي : تذكرت الذي بين العذيب وبارق ، وأبدل منه" مجر عوالينا" على أنه اسم مكان ، أو مصدر ، والآخر أن يكون قوله : " مجر عوالينا" منون ، " تذكرت" و" ما بين" ظرف بناء على أن ما زائدة إما لتذكرت ويكون التقدير تذكرت ، مجر العوالي ، وذلك التذكر وقع بين العذيب وبارق وإما للمجر على أنه مصدر وقدم عليه معموله الذي هو الظرف ؛ لأنه يتوسع في تقديم الظرف على عامله ،

٦٩٢

وإن كان مصدرا فيكون التقدير تذكرت جر العوالي وإجراء السوابق حين وقع ذلك الجر والإجراء بين العذيب وبارق.

(ولا يضر) في التضمين (التغيير اليسير) بل يسمى إدخال ما هو من شعر الغير في شعر الإنسان على الوجه المذكور تضمينا ، ولو وقع فيه تغيير يسير ؛ لقصد انتظامه ودخوله بالمناسبة في معنى الكلام بذلك التغيير اليسير ؛ لتوقف تضمينه على وجه المناسبة للمراد على ذلك التغيير ، واحترز بذلك من التغيير الكثير فإنه يخرج به المضمن عن التضمين ويدخل في حد السرقة إن عرف أنه للغير ، والفرق بين اليسير والكثير موكول إلى عرف البلغاء فما يقال فيه : هو ذاك بعينه ولا فرق بينهما إلا هذا الأمر الخفيف الظاهر فيسير ، وما يقال فيه : ليس هو لمخالفته إياه في أمور تبعده فكثير ، فالتغيير اليسير الذي لا يخرج به الشيء عن التضمين ، كما في قول الشاعر في يهودي أصابه داء الثعلب وهو داء يتناثر منه الشعر :

أقول لمعشر غلطوا وغضوا

عن الشيخ الرشيد وأنكروه

هو ابن جلا وطلاع الثنايا

متى يضع العمامة تعرفوه (١)

فالبيت الثاني لسحيم بن وثيل بنفسه وهو قوله :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني (٢)

ولم يغير فيه إلا التكلم بالغيبة كما رأيت ، ومراد الشاعر الأول الافتخار وأنه ابن رجل جلا أمره واتضح ، وأنه متى يضع العمامة للحرب ، وتوجه له يعرف قدره في الحرب ونكايته بناء على أن المراد بالعمامة ملبوس الحرب ، أو متى يضع لثامه يعرف لشهرته ومراد الثاني التهكم باليهودي ، وأنه ابن شعر أي : صاحب شعر جلا الرأس منه وانكشف عن الرأس وأنه طلاع الثنايا أي : ركاب صعاب الأمور وهى مشاق داء الثعلب ومشاق الذل والهوان ، ومراده الرشيد الغوي على وجه التهكم وبكونه متى

__________________

(١) في الإيضاح ص (٣٥٦) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٩).

(٢) فى شرح المرشدى (٢ / ١٨٩) ، والإيضاح ص (٣٥٦).

٦٩٣

يضع العمامة يعرف أنه متى وضع عن رأسه العمامة يعرف داؤه وعيبه ، وأراد بالمعشر اليهود وغلطهم ذكره على وجه التلميح لمناسبته لظاهر ما يفتخر به ، وإلا فلم يغلطوا في تبعيده وإنكاره ، وإنما غيره إلى الغيبة ليدخل أي : ينتظم بالمقصود ويناسبه ، وهو كون من نسب إليه ما ذكر على وجه التهكم متحدث عنه لا متحدث عن نفسه كما في الأصل (وربما سمى تضمين البيت فما زاد) أي : فأكثر من البيت كتضمين بيتين أو ثلاثة (استعانة) لظهور التقوى بالبيت على تمام المراد بخلاف ما هو دون ذلك ، ورب على أصلها من القلة أخذا بالظاهر.

(و) ربما سمى أيضا (تضمين المصراع فما دونه) كنصفه (إيداعا) لأنه لقلته كأنه أمانة أودعت عند من له سعة يودع لأجلها ، فما أتى به من المصراع أو دونه لكونه شيئا قليلا كأنه أودعه سعة شعره.

(ورفوا) عطفا على قوله إيداعا أي : يسمى تضمين المصراع فما دونه رفوا أيضا ورفو الثوب إصلاح خرقه فكأنه لقلته أصلح به خرق شعره كما يرفأ الثوب بالخيط الذي هو من جنسه.

العقد

(وأما العقد) من الألقاب السابقة (فهو) أي : فمعناه (أن ينظم نثر) سواء كان ذلك النثر المنظوم في أصله قرآنا ، أو كان حديثا ، أو مثلا ، أو غير ذلك ؛ ككلام حكمة مشهور عن صاحبه ، إلا أن النثر المنظوم إن كان غير قرآن وحديث ، فنظمه عقد فلا حاجة للتقييد بشيء آخر ، وإن كان قرآنا أو حديثا فيقيد بأن يكون النظم (لا على طريق الاقتباس) وقد تقدم أن النظم الذي يكون في القرآن والحديث على طريق الاقتباس هو أن ينظم أحدهما لا على أنه من القرآن أو الحديث بلا تغيير كثير ، فإذا نظم أحدهما مع التغيير الكثير خرج عن الاقتباس فيدخل في العقد ، وكذا إذا نظم مع التنبيه على أنه من القرآن أومن الحديث ، وذلك كما تقدم يحصل بأن يذكر المنظوم على الحكاية ، كأن يقال : قال الله تعالى كذا ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا فإنه يخرج بذلك عن الاقتباس أيضا ويدخل في العقد ، فتحصل من هذا أن نظم غير القرآن

٦٩٤

والحديث عقد بلا قيد ، ونظم القرآن أو الحديث إنما يكون عقدا ـ إن نبه على أنه من القرآن أو الحديث أو غير ـ كثيرا ، وإلا فنظمهما اقتباس خارج عن العقد ، وقد تقدم ، فمثال العقد في القرآن لكونه نبه على أنه منه قول بعضهم :

أنلني بالذي استقرضت خطا

وأشهد معشرا قد شاهدوه

فإن الله خلاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه

يقول إذا تداينتم بدين

إلى أجل مسمى فاكتبوه (١)

وقد نبه على أنه من القرآن بقوله : يقول.

ومثاله في الحديث للتنبيه مع التغيير الكثير ؛ لأنه لا منافاة بينهما فصح أن يجمعهما مثال واحد ، قول الشافعي رضي الله تعالى عنه :

عمدة الخير عندنا كلمات

أربع قالهن خير البريه

اتق الشبهات وازهد ودع ما

ليس يعنيك واعملن بنيه (٢)

فقد عقد قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات من تركها سلم ، ومن أخذها كان كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس" (٤) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه" (٥) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (٦) ولا يخفى ما يقابل كل حديث من الكلمات الشعرية على هذا الترتيب كما لا يخفى ما

__________________

(١) الأبيات فى شرح المرشدى (٢ / ١٩١) ، والإيضاح ص (٣٥٦).

(٢) شرح المرشدى (٢ / ١٩١) ، وهما من قول أبى الحسن طاهر بن معوذ الإشبيلى ، وليسا للإمام الشافعى على ما زعم بعضهم ، الإيضاح ص (٣٥٧).

(٣) أخرجاه في الصحيحين.

(٤) رواه ابن ماجه ، والطبرانى ، والحاكم ، والبيهقى ، وانظر صحيح الجامع الصغير وزيادته. للشيخ الألباني (ح ٩٢٢).

(٥) رواه الترمذى وغيره هكذا ، وقال حديث حسن.

(٦) رواه البخاري (ح ١) ، ومسلم (٤ / ٥٧١).

٦٩٥

في العقد من التغيير الكثير ، وأما عقد غير القرآن والحديث ف (كقوله : ما بال من أوله نطفة* وجيفة آخره يفخر) (١) وجملة يفخر في محل نصب على الحال ، أي : ما باله مفتخرا ، وصح مجيء الحال عن المضاف إليه ؛ لأن المضاف بصدد السقوط ، والعامل ما تضمنته ما ، والتقدير أسأل عن حاله مفتخرا ، ولو قيل حينئذ : أسأل عنه مفتخرا في هذه الحال صح ، وهذا البيت (عقد) فيه (قول) مولانا (على رضي الله) تعالى (عنه مالا بن آدم والفخر) أي : أي شيء ثبت لابن آدم ، فيثبت له الفخر أي : أي جامع بينهما (إنما أوله) أي : أصله (نطفة ، وآخره جيفة) أي : وحاله الأخيرة حال جيفة ، فمن أين يأتيه الافتخار؟ وقد زاد بعضهم في معنى هذا الكلام فقال مالك وللفخر أولك نطفة مذرة ، ووسطك جسم حامل للعذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، فمالك وللفخر.

الحل :

(وأما الحل) وهو مقابل للعقد من الألقاب السابقة (فهو) أي : فمعناه (أن ينثر نظم) أي : أن يجعل النظم نثرا ، وشرط كونه مقبولا أمران :

أحدهما : أن يكون سبكه حال نثره أي : تركيبه وجمعه مختارا حسنا لا يتقاصر عن النظم في حسنه ، وذلك بأن يشتمل على ما ينبغي أن يراعى من بديع النثر الذي به يكون كهيئة النظم ، ككونه مسجعا ذا قرائن مستحسنة ، فلو كان غير ذلك لم يقبل.

والآخر : أن يكون مطابقا لما تجب مراعاته من البلاغة مستقرا في مكانه الذي يجب أن يستعمل فيه ، فلو كان قلقا لعدم طباقه مضطربا لعدم موافقته محله لم يقبل ، وليس من شرطه أن يستعمله في نفسه معناه ، بل لو نقله من هجو إلى مدح مثلا مع كونه مطابقا قبل ، فالمستكمل للشرطين (كقول بعض المغاربة) في وصف شخص بأنه سيئ الظن ؛ لقياسه على نفسه غيره (فإنه لما قبحت فعلاته) أي : أفعاله (وحنظلت نخلاته) أي : صارت ثمار نخلاته كالحنظل ، وهذه الجملة تمثيلية فإنه شبه حال من تبدلت

__________________

(١) البيت لأبى العتاهية ، انظر عقود الجمان (٢ / ١٩١) ، والإشارات (٣١٩).

٦٩٦

أوصافه الحسنة بغاية ما يستقبح من الأوصاف بحال من له نخلات تثمر الحلو ، ثم انقلبت تثمر مرا في كون كل منهما له تبدل مما يستملح إلى الاتصاف بما يستقبح ، فاستعمل الكلام الذي يدل على الحالة الثانية في الحالة الأولى على وجه التمثيل (لم يزل سوء الظن يقتاده) أي : لما كان قبيحا في نفسه قاس الناس عليه ، فساء ظنا بهم في كل شيء ، فصار سوء الظن يقوده إلى مالا حاصل له في الخارج من التخيلات الفاسدة والتوهمات الباطلة (و) لم يزل (يصدق توهمه الذي يعتاده) يعنى : أنه لما كان يعتاد العمل القبيح من نفسه توهم أن الناس كذلك ، فصار يصدق ذلك التوهم الذي أصله ما اعتاد ، فلم يحصل بسبب ذلك إلا على الإثم والعداوة ؛ لأن أكثر الظن إثم ، ومعاملة الناس باعتقاده السوء عداوة.

وقد (حل) في هذا الكلام المسجع على ضرب من التجوز ، فحسن سبكه بذلك وطابق في إفادة المراد (قول أبي الطيب) المتنبي يشكو سيف الدولة ، وأنه استمع قول الأعادي فيه ، وأن سبب ذلك هو سوء فعله وإصراره على السوء للناس ، فظن أن الناس كذلك (إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه* وصدق) (١) أي : في الناس (ما يعتاده من توهم) أي : من أمر يتوهمه في الناس ؛ لاعتياد مثله في نفسه ، فإن من الكلام المشهور أن الإنسان لا يظن في الناس أن يفعلوا معه إلا ما يعتقد أن يفعل معهم ، ومن كلام العامة : إنما يظن الذئب ما يفعل ، فلو لم يحسن السبك كما لو قيل كما اشتهر على الألسن : أن الإنسان لا يظن إلا مثل فعله ، ومثل ذلك لم يقبل ولو لم يقع موقعه ، كما لو مدح به على الإطلاق ، وقيل : لا ينبغي للإنسان أن يظن بالناس إلا ما يقتضيه فعله واعتقاده بالقياس لم يقبل ؛ لأنه لم يطابق المعنى المسلم ، وإنما الممدوح سوء الظن في مواضع الحذر لا بالقياس مطلقا.

__________________

(١) انظر شرح عقود الجمان (٢ / ١٩١).

٦٩٧

التلميح

(وأما التلميح) من الألقاب السابقة (فهو) أي : فمعناه (أن يشار إلى قصة أو شعر) أو مثل سائر في الناس (من غير ذكره) أي : من غير أن يذكر المشار إليه بنفسه ومن غير استقصائه ، ولكن يشار إليه إشارة يفهم بها من قوة الكلام ومن القرائن المشتمل عليها الكلام ، وفهم الشيء من قوة الكلام ، وقرائنه هو الفهم بفحوى الكلام ، فالإشارة إلى ما ذكر بالتصريح بل بالفحوى مع ذكر شيء منه أو كله ، ويتضح ذلك بالأمثلة ، وهذا أعنى : التلميح ، مأخوذ من لمح بتقديم اللام إذا نظر ، وكأن الشاعر أو الكاتب نظر إلى المشار إليه وراعاه ، ولذلك تسمعهم يقولون : لمح فلان هذا البيت فقال كذا ، وفي هذا البيت تلميح إلى قول فلان بتقديم اللام ، ولما كان التلميح بتقديم اللام في هذا المعنى مما يستملح ويستحسن ، فهو من الإتيان بشيء مليح ، توهم بعضهم أنه بتقديم الميم ، وأنه من ملح الشاعر بتشديد اللام إذا أتى بشيء مليح وهو سهو نشأ من توهم اتحاد الأعم بالأخص ؛ لأن الإتيان بالشيء المليح أعم من التلميح الذي هو النظر إلى شعر أو قصة أو مثل ، فيشار إليه بفحوى الكلام ، فمن جزم بأنه بتقديم الميم وتمذهب بذلك تبعا لغيره فهو غالط ، والسبب ما ذكر ، وإذا علم أن المشار إليه في التلميح ثلاثة أشياء القصة والشعر والمثل ، والمشار من جهته إما نظم أو نثر صارت أقسامه ستة من ضرب اثنين في ثلاثة ، والمذكور في الكتاب مثالان ، مثال التلميح في النظم إلى القصة ، ومثاله في النظم إلى الشعر ، وسنمثل بباقي الأمثلة ، فأشار إلى مثاله في النظم إلى القصة فقال (كقوله) أي : كقول أبي تمام :

لحقنا بأخراهم وقد حوم الهوى

قلوبا عهدنا طيرها وهى وقع

فردت علينا الشمس والليل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى

لبهجتها ثوب السماء المجزع

(فو الله ما أدرى أأحلام نائم

ألمت بنا أم كان في الركب يوشع) (١)

__________________

(١) الأبيات لأبى تمام فى ديوانه ص (١٧٨) ، ط دار الكتب العلمية ، ومطلعها :

أما إنه لو لا الخليط المودع

وربع خلا منه مصيف ومربع

٦٩٨

الضمير في أخراهم ولهم للمرتحلين بالمحبوب ، وحام الطير على الماء دار عليه ، وحومه جعله يحوم ، ونضا بمعنى ذهب به وأزاله ، والوقع جمع واقع أي : محبوس ، والضمير في ضوئها وبهجتها للشمس الطالعة من الخدر ، والدجنة الظلمة ، وانطوى انضم وزال ، والثوب المجزع هو ذو لونين ، وأشار به إلى ظلمة الليل المختلطة ببياض النجوم ، وكأنه أخذ من الجزع ؛ لأن فيه لونين ، وقوله : أأحلام نائم استعظام للواقع وتجاهل لإظهار التحير والتوله حتى لا يدري الواقع فكأنه يقول : خلط على الأمر لما شاهدت ، فلم أدر هل أنا نائم وما رأيته حلم أم شمس الخدر ألمت بنا؟ أي : نزلت بالركب ، فعاد ليلهم نهارا ، أم حضر يوشع فرد الشمس (أشار) بذلك (إلى قصة يوشع) على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام (و) إلى (استيقافه الشمس) أي : طلبه من الله تعالى وقوف الشمس لما عزمت على الغروب ، وذلك أنه روى أن قتاله للجبارين الذين أمره الله تعالى بقتالهم كان يوم الجمعة ، فأدبرت الشمس ، وكادت أن تغرب ، فخاف أن تغرب فيدخل السبت فلا يحل له قتالهم ، فيفوت كمال قتالهم وغلبتهم حينئذ ، فسأل الله تعالى فرد له الشمس عن الغروب ، حتى فرغ من قتالهم.

ثم أشار إلى مثال التلميح في النظم إلى الشعر فقال (كقوله : لعمرو) (١) اللام فيه لام الابتداء (مع الرمضاء) أي : الأرض الحارة التي ترمض فيها القدم أي : تحترق ، والظرف حال من الضمير في أرق ، أي : لعمرو أرق حال كونه الرمضاء ، وفي هذا الإعراب تقديم الحال على العامل الذي هو اسم تفضيل ، ولا يجوز في المشهور إلا في نحو : زيد مفردا أنفع من عمرو معانا ، وليس هذا الموضع منه ، وقوله (والنار) يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على الرمضاء ، فيكون في حيز الحالية ، وقوله (تلتظى) حال منه أي : مع النار حال كونها تلتظى أي : تتوقد ، وأما جعل تلتظى صلة الموصول المحذوف ففيه حذف الموصول وبقاء صلته ولا يرتكب إلا لضرورة فلا حاجة إليه مع إمكان ما هو أقرب ، ويحتمل أن يكون مرفوعا على أنه معطوف على المبتدأ الذي هو عمرو والخبر عنهما معا قوله (أرق) وصح الإخبار باسم التفضيل عن اثنين لإفراده منكرا ، وهو

__________________

(١) شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٢).

٦٩٩

مأخوذ من الرقة التي هي الرحمة ويحتمل أن تكون النار مرفوعة على الابتداء ، وتلتظي خبره ، وإنما صحت هذه الأوجه ؛ لأنه ليس المراد أحد هذه المعاني على الخصوص ، وإنما المراد الإشارة إلى بيت صحب فيه عمرو ذكر النار ، وذكر الرمضاء فصح مع ذلك كل إعراب ؛ إذ لم يعين المعنى.

(وأحفى) من حفي عليه تلطف وتشفق عليه يعنى أن عمرا الكائن مع ذكر الرمضاء والنار أرق وأحفى (منك في ساعة الكرب) وقد (أشار) بذلك (إلى البيت المشهور) وهو قوله (المستجير بعمرو عند كربته) أي : الذي يستغيث بعمرو في وقت كربته ، فالضمير يعود على الموصول (كالمستجير من الرمضاء بالنار) أي : كالفار من الأرض الرمضاء إلى النار ، ولهذا البيت قصة وهى : أن امرأة تسمى البسوس ذهبت لزيارة أختها وهى أم جساس بن مرة ، ومعها ناقة لجار لهم ، وكان كليب من كبار تغلب ، وجساس المذكور من بكر ، وحمى كليب أرضا فلا يرعى فيها غيره إلا إبل جساس ، لمصاهرة بينهما ، ثم خرجت ناقة الجار التي مع خالته في إبل جساس فأبصرها كليب وعرف أنها ليست من إبل جساس فرماها وأبطل ضرعها فرجعت حتى بركت بفناء جساس وضرعها يشخب دما ولبنا ، فصاحت البسوس وا ذلاه وا غربتاه فقال جساس : اسكتي يا حرة والله لأعقرن فحلا هو أعز على أهله منها فلم يزل جساس يتوقع غرة كليب حتى خرج وبعد عن الحي فركب جساس فرسه حتى لحقه فرمى ظهره فسقط فقال يا جساس أغثني بشربة ماء فقال جساس تركت الماء وراءك فولى عنه وأتبعه عمرو بن الحارث حتى وصل إليه فقال له يا عمرو أغثني بشربة ماء فأجهز عليه فقيل :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

وإليه يشير بقوله : لعمرو مع الرمضاء إلخ ، ونشبت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة كلها لتغلب على بكر ، ولذلك قيل في المثل : أشأم من البسوس ، وبما ذكرناه يعلم أنه ليس المراد بعمرو جساسا كما قيل : بل المراد به عمرو بن الحارث ، فهذان مثالان للتلميح في النظم إلى الشعر ، أو القصة ، وأما مثاله في النظم إلى المثل فكقوله :

٧٠٠