مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

الحلّ

(٦٩٦) وأما الحلّ : فهو أن ينثر نظم ؛ كقول بعض المغاربة : (فإنّه لّما قبحت فعلاته ، وحنظلت نخلاته ، لم يزل سوء الظنّ يقتاده ، ويصدّق توهّمه الذى يعتاده) ؛ حلّ قول أبى الطيب [من الطويل] :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهّم

التلميح

(٦٩٨) وأما التلميح : فهو أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره ؛ كقوله (أبى تمام) (١) [من الطويل] :

فو الله ما أدرى أأحلام نائم

ألمّت بنا أم كان فى الرّكب يوشع؟!

أشار : إلى قصة يوشع ـ عليه‌السلام ـ واستيقافه الشمس (٢) ، وكقوله [من الطويل] :

لعمرو مع الرّمضاء والنّار تلتظى

أرقّ وأحفى منك فى ساعة الكرب

أشار إلى البيت المشهور [من البسيط] :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرّمضاء بالنّار

فصل

(٧٠١) ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه ؛ حتى يكون أعذب لفظا ، وأحسن سبكا ، وأصحّ معنى :

أحدها : الابتداء ؛ كقوله (٣) [من الطويل] :

__________________

(١) البيت لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغرى.

(٢) يشير إلى حديث أبى هريرة الذى أخرجه البخارى فى ك : (فرض الخمس) ، ومسلم فى ك (الجهاد) ، وفيه غزا نبى من الأنبياء ... إلى قوله ، فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها على شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه ...

٦١

قفا نبك من ذكرى حبيب

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

وكقوله (أشجع) (١) [من الكامل] :

قصر عليه تحيّة وسلام

خلعت عليه جمالها الأيّام

(٧٠٥) وينبغى أن يجتنب فى المديح ما يتطيّر به ؛ كقوله (٢) [من الرجز] :

موعد أحبابك بالفرقة غد

(٧٠٦) وأحسنه ما يناسب المقصود ، ويسمى : براعة الاستهلال ؛ كقوله فى التهنئة (٣) [من البسيط] :

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وقوله فى المرثيّة (الساوى) [من الوافر] :

هى الدّنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشى وفتكي

(٧٠٧) وثانيها : التخلّص ممّا شيب الكلام به من نسيب أو غيره إلى المقصود ، مع رعاية الملاءمة بينهما ؛ كقوله (أبى تمام) (٤) [من البسيط] :

تقول فى قومس قومى وقد أخذت

منّا السّرى وخطا المهريّة القود

أمطلع الشّمس تبغى أن تؤمّ بنا

فقلت كلّا ولكن مطلع الجود

(٧١٠) وقد ينتقل منه إلى ما لا يلائمه ، ويسمّى : الاقتضاب ، وهو مذهب العرب الجاهلية (٥) ومن يليهم من المخضرمين ؛ كقوله (أبى تمام) [من الخفيف] :

لو رأى الله أنّ فى الشّيب خيرا

جاورته الأبرار فى الخلد شيبا

كلّ يوم تبدى صروف اللّيالى

خلقا من أبى سعيد غريبا

__________________

(١) البيت لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغرى.

(٢) البيت من قصيدة له يمدح فيها هارون الرشيد ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص ٣٢٢.

(٣) أنشده ابن مقاتل لمحمد بن زيد الحسينى الداعى العلوى صاحب طبرستان فقال له الداعى : بل موعد أحبابك ولك المثل السوء.

(٤) هو لأبى محمد الخازن.

(٥) البيتان لأبى تمام ، ديوانه (أ) ص ١٢٠ ، (ب) ٢ / ١٣٢ ، والمصباح ص ٢٧٢ ، وقومس : بلد بالقرب من أصفهان.

(٦) فى نسخة الدكتور خفاجى : الأولى والمثبت من شروح التلخيص.

٦٢

ومنه : ما يقرب من التخلّص ؛ كقولك بعد حمد الله : «أمّا بعد» قيل : وهو فصل الخطاب ، وكقوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)(١) أى : الأمر هذا ، أو هذا كما ذكر. وقوله : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ)(٢) ومنه قول الكاتب : (هذا باب).

(٧١٤) وثالثهما : الانتهاء ؛ كقوله (أبى نواس) [من الطويل] :

وإنّى جدير إذ بلغتك بالمنى

وأنت بما أمّلت منك جدير

فإن تولنى منك الجميل فأهله

وإلّا فإنّى عاذر وشكور

(٧١٦) وأحسنه مأ آذن بانتهاء الكلام ؛ كقوله (المعرى) [من الطويل] :

بقيت بقاء الدّهر يا كهف أهله

وهذا دعاء للبريّة شامل

(٧١٦) وجميع فواتح السّور وخواتمها ، واردة على أحسن الوجوه وأكملها ؛ يظهر ذلك بالتأمّل ، مع التذكّر لما تقدّم.

وصلّى الله على سيّدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلّم ، اللهمّ اغفر لى بفضلك ولمن دعا لى بخير ، واغفر لوالدى ولكلّ المسلمين. آمين ، وصلّ وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى آلهم وأصحابهم والتابعين ، خصوصا النبى المصطفى ، والحبيب المجتبى ، وآله وأصحابه. آمين.

انتهى كتاب متن التلخيص للقزويني

بحمد الله وعونه وتوفيقه

وما توفيقى إلا بالله

__________________

(١) ص : ٥٥.

(٢) ص : ٤٩.

٦٣
٦٤

شرح مواهب الفتاح

لابن يعقوب المغربى

على كتاب التلخيص

الفن الثاني

علم البيان

٦٥
٦٦

الفن الثاني علم البيان

قد تقدم أنه أخره عن علم المعانى ؛ لأن مفاد علم المعانى من مفاد البيان بمنزلة المفرد من المركب ، وإن شئت قلت : لأنه بالنسبة إليه ككيفية مع المكيف أو كخاص بعد عام.

وبيان الأول أن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة الذى هو مرجع علم البيان إنما يعتبر بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال التى هى مرجع علم المعانى ، وتوقف المراد من البيان على المراد من المعانى كتوقف الكل على الجزء ، وفيه نظر تقدمت الإشارة إليه ؛ لأن إيراد المعنى الواحد بطريق من الطرق التى يقبلها لا يستلزم المطابقة لذاته ، فلا توقف وإن أريد أن الإيراد لا عبرة به فى باب البلاغة إلا أن تكون معه مطابقة لمقتضى الحال بمراعاة أحوال الكلام المذكورة فى علم المعانى ، وإلا أن تكون فيه مطابقة بمراعاة كون ذلك الطريق نفسه مطابقا بأن يؤتى بالطريق الأوضح عند مناسبة الأوضح مثلا وبما دونه عند مناسبته مثلا ، فهذا لا يستفاد.

من البيان بل المعانى هو المفيد أن كل حال مناسب للمقام تجب مراعاته ، سواء كان طريق وضوح أو خفاء أو غير ذلك ، ولو استفيد منه كان من المعانى ، وعلى تقدير استفادة كون الطريق المأتى به لا بد أن يكون مطابقا من هذا الفن ، فمطابقته المذكورة فى المعانى حينئذ غير المطابقة المستفادة من البيان ، ولا توقف لأحدهما على الآخر ، بل المتبادر أن مفاد علم البيان هو الذى يتنزل من مفاد المعانى منزلة الجزء من الكل ؛ لأنه هو للاحتراز عن التعقيد المعنوى الذى تتحقق به الفصاحة التى هى جزء من البلاغة فليفهم.

وأما الثانى ؛ وهو كونه كيفية من المكيف ، فإن الدلالة على أصل المعنى بكلام مطابق لمقتضى الحال بأن يراعى فيها الأحوال المناسبة المذكورة فى علم المعانى يعرض فى تلك الدلالة مفاد علم البيان ، وهو كونها بطريق مخصوص دون آخر مما ليس فيه التعقيد ، وهذا قريب ، غير أن تلك الكيفية لا تتميز ، فى الحقيقة عن المطابقة لأنها لا بد

٦٧

من مراعاة المطابقة فيها فليس للمطابقة تحقق بدونها حتى تكون كالمعروض لها ؛ لأن كونها بطريق مخصوص متى كان ذلك الطريق غير مطابق بطل عروضه لها لمضادته لها حينئذ. نعم هو غيرها من حيث إنه طريق مخصوص ، وإن لزم اعتبار أن يكون مطابقا ، فالأقرب إليه أن يكون معروضا للمطابقة لا عارضا لها ؛ إذ هو موصوفها فتأمل.

وأما الثالث ، وهو أن مفاده كذكر خاص بعد عام ؛ فلأن الإيراد بطريق مخصوص دون غيره لا بد فيه من المطابقة والمطابقة توجد بدونه ، وهو أيضا قريب ، غير أنه يرد عليه ما ورد على ما قبله ؛ لأن مطلق الإيراد لا يستلزم المطابقة ، وكونه لا بد فيه من المطابقة لا يستفاد من هذا الفن ، فتأمل حتى تعلم أن ما أطبق عليه المحققون هنا من هذا التعليل الموجب للتأخير ضعيف ، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.

تعريف علم البيان

(وهو) أي : البيان (علم) ، ويعنى بالعلم هنا الملكة الحاصلة من طول ممارسة قواعد الفن ، بمعنى أن من حصلت له تلك الممارسة حصلت له حالة بسيطة بها ، ويكون صاحبها بحيث يتمكن من إدراك حكم أى جزئى من جزئيات هذا الفن ، بمعنى أن أى معنى يريد إيراده بطرق مختلفة فى الوضوح والخفاء يتمكن له بتلك الملكة إيراده بما يناسب من تلك الطرق ، وعلى هذا تكون جزئيات هذا الفن هى المعانى التى يراده التعبير عنها وأحكامها كون هذا الطريق مثلا أنسب من هذا ، بحيث يورد كل معنى يدخل تحت القصد بما يناسبه من الطرق المختلفة فى الوضوح والخفاء ، ويحتمل أن تكون الأحكام مجرد كونه ، بحيث يورده بذلك أو بهذا من غير رعاية المناسبة ، وسيأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ ما فى ذلك ، ويحتمل أن يريد بالجزئيات التراكيب التى يورد بها المعانى ، وهو الأقرب ، ويراد بأحكامها كون هذا التركيب صالحا لهذا المعنى ، أى : لا يراده مع ذلك التركيب ، وكون هذا أنسب مثلا دون ذلك. هذا إذا أريد بالعلم الملكة ، ويحتمل أن يريد بالعلم القواعد والأصول المعلومة إذ بها تعرف أحكام المعانى المؤداة ، ولا يصح أن يريد بالعلم اعتقاد مسائل الفن ؛ لأن مجرد اعتقادها لا يعرف به أحكام الجزئيات ،

٦٨

كما سيذكره ، ما لم تحصل الملكة ، وإلى أن هذا العلم يدرك به ما أشرنا إليه من أحكام جزئياته.

أشار بقوله (يعرف به) ، أى يعرف بذلك العلم ، (إيراد المعنى الواحد) ، أى : كل معنى واحد يدخل تحت قصد المتكلم ، كما أشرنا إليه ؛ لأن اللام للاستغراق العرفى ، وخرج به إيراد المعانى المتعددة بطرق تتوزع على تلك المعانى ، مختلفة في الوضوح ؛ بأن يكون هذا الطريق مثلا فى معناه أوضح من الطريق الآخر فى معناه ، فلا تكون معرفة إيرادها كذلك من علم البيان ، وقد تقدم أن الحكم المعروف هنا إما الإيراد من حيث المناسبة لمقتضى الحال ، أو مجرد الإيراد بلا مناسبة ، (بطرق) أى : بتراكيب (مختلفة فى وضوح الدلالة) خرج به معرفة إيراد المعنى الواحد بتراكيب متماثلة فى الوضوح ، وذلك بأن يكون اختلافها فى ألفاظ مترادفة ؛ إذ التفاوت فى الوضوح لا يتصور فى الألفاظ المترادفة ؛ لأن الدلالة فيها وضعية على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ فإن عرف وضعها تماثلت ، وإلا لم يعرف منها أو من بعضها شيء ، والتوقف فى تصور معنى بعضها ليس اختلافا فى الوضوح ؛ إذ لا وضوح قبل تذكر الوضع ومعرفته ضرورة أنه لا يدرك شيئا ، حتى يتذكر الوضع ، وبعد تذكره لا تفاوت ، وذلك كالتعبير عن الحيوان المعلوم بالأسد والغضنفر ، وما أشبه ذلك فى تراكيب ، والاختلاف فى الوضوح يقتضى أن بعضها أوضح دلالة من بعض مع وجود الوضوح فى الكل ، ومعلوم أن الواضح بالنسبة إلى الأوضح خفى ، فلا حاجة إلى أن يزاد بعد قوله فى الوضوح والخفاء مع أن إسقاط لفظ الخفاء فيه فائدة ، وهى الإيماء إلى أن الخفاء الحقيقى ، وهو الذى ينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق لا بد من انتفائه عن تلك الطرق ، وإلا كان فيما وجد فيه تعقيد معنوى ، وجعلنا الألف واللام فى الواحد للاستغراق إشارة إلى أن معرفة المتكلم إيراد معنى كقولنا : " زيد جواد" بطرق مختلفة ، ولو كانت له الملكة فى ذلك ، لا يكون بذلك عالما بعلم البيان. وتفسير العلم بالملكة أو القواعد تصوير ؛ لأنه لا يمكن الإيراد عادة لكل معنى إلا بالملكة أو تلك القواعد. فمثال إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى باب الكناية أن يقال فى وصف زيد مثلا بالجود : زيد مهزول الفصيل ، وزيد جبان الكلب ، وزيد

٦٩

كثير الرماد ، فهذه التراكيب تفيد وصفه بالجود على طريق الكتابة ؛ لأن هزال الفصيل إنما يكون بإعطاء لبن أمه للأضياف ، وجبن الكلب لإلفه الإنسان الأجنبى بكثرة الواردين من الأضياف ، فلا يعادى أحدا أو لا يتجاسر عليه ، وهو معنى جبنه ، وكثرة الرماد من كثرة الإحراق للطبائخ من كثرة الأضياف ، وهى مختلفة وضوحا ، وكثرة الرماد أوضحها فيخاطب به عند المناسبة ، كأن يكون المخاطب لا يفهم بغير ذلك ، ومثال إيراده بطرق مختلفة فى باب الاستعارة أن يقال فى وصفه مثلا به أيضا" رأيت بحرا فى الدار" فى الاستعارة التحقيقية ، " وطم زيد بالإنعام جميع الأنام" فى الاستعارة بالكناية ؛ لأن الطموم وهو الغمر بالماء وصف البحر فدل على أنه أضمر تشبيهه بالبحر فى النفس ، وهو الاستعارة بالكناية على ما يأتى ولجة زيد تتلاطم أمواجها ؛ لأن اللجة والتلاطم للأمواج من لوازم البحر ، وذلك مما يدل على إضمار التشبيه فى النفس أيضا ، وأوضح هذه الطرق الأول ، وأخفاها الوسط ، ومثال إيراده فى باب التشبيه أن يقال : زيد كالبحر فى السخاء ، وزيد كالبحر ، وزيد بحر ؛ وأظهرها ما صرح فيه بالوجه وأخفاها ، وهو أو كدها ما حذف فيه الوجه والأداة معا ، فيخاطب بكل من هذه الأوجه فى هذه الأبواب بما يناسب المقام من الخفاء والوضوح ، ويعرف ذلك بهذا الفن ، ويأتى ما فيه ، ولا يضر فى التشبيه كونه حقيقة ؛ لأن الغرض فيه الإيماء بالتشبيه إلى الوجه ، والإيماء إلى معنى من المعانى لا يستلزم كون اللفظ مجازا ، والمصرح به فيه أوضح ؛ لأن الدلالة فيه تصريحية ، وصح إدخاله فى هذا الباب باعتبار ما لم يصرح به ، وها هنا بحث وهو أن ما ذكر من كون هذا الفن يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى الوضوح إن أريد به أن هذا الفن لما ذكرت فيه شروط المقبول من التشبيه والمجاز والكناية وحقيقة كل منهما وأقسامه كان فى ذلك تنبيه على فائدته ، وهو أن يطلب من تراكيب البلغاء واستعمالات العرب ما وقع ليقاس عليه غيره مما يراد استعماله ، ويعرف المقبول من ذلك من غيره ، فيصح للإنسان أن يحذو حذوهم وينسج على منوالهم ، فلا يقتضى أن هذا الفن يعرف به ما ذكر ، بل يقتضى أن معرفة هذا الفن ربما كانت سببا لتتبع تراكيب البلغاء الذى يحصل العلم بكيفية الإيراد ، إذ بممارسة ذلك

٧٠

يكتسب الإنسان قوة لاستعمال ما يريد كما يصع البلغاء ، فلا معنى لتعريفه بما ذكر ؛ إذ هو تعريف بلازم غير محقق اللزوم خفى ، ولو جاز لجاز تعريف النحو بعلم اللغة ، إذ ربما حمل على طلب معانى الألفاظ اللغوية من الأفعال وغيرها ، وهو فاسد ، وإن أريد أن هذا الفن يذكر فيه كل معنى يدخل تحت القصد وبين أنه يورد بهذه التراكيب المختلفة مثلا ، فهذا لا يصح ، إذ غاية ما ذكر فى الفن ـ كما أشرنا إليه ـ حقيقة التشبيه وأقسامه والمقبول منه وغيره ، وكذا المجاز والكناية تذكر حقيقة كل منهما وشروطه والمقبول وغيره ؛ ليحترز بذلك عن التعقيد المعنوى الذى يشتمل عليه غير المقبول ، وهذا البحث مما لم يظهر جوابه بعد فليتأمل ، ثم لما اشتمل التعريف على ما يفيد أن التراكيب اللفظية تختلف دلالتها على المعنى وضوحا وخفاء أراد أن ينبه على أن الدلالة اللفظية الوضعية لا تحتمل كلها للوضوح والخفاء ، حتى يجرى الإيراد المذكور فى جميعها ، بل منها ما يقبل ذلك الاختلاف ، ومنها ما لا يقبله ؛ تحريرا لمحمل البحث وتحقيقا لمحل ذلك الإيراد لئلا يتوهم جريانه فى جميع أقسام الدلالة الوضعية ، فمهد لذلك تقسيمها فقال : (ودلالة اللفظ) ، يعنى دلالته الوضعية وذلك بأن يكون للوضع مدخل فيها ؛ سواء كان نفس العلم بالوضع كافيا فيها ، أو لا بد معه من انتقال عقلى ؛ لأن الدلالة هى كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، والأول الدال ، والثانى المدلول ، ثم الدال إن كان لفظا ؛ فالدلالة لفظية ، وإلا فغير لفظية كدلالة الخطوط والعقد والإشارات والنصب ، ثم الدلالة اللفظية إما أن يكون للوضع مدخل فيها أو لا ، فالأولى هى المقصودة بالنظر ههنا ، وهى كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى عند الإطلاق بالنسبة إلى العالم بوضعه ، وهذه الدالة تنقسم إلى ثلاثة أقسام ؛ لأنها (إما) دلالة (على تمام) ، أى : مجموع (ما وضع له) اللفظ كدلالة الإنسان على مجموع الحيوان الناطق ، فإن لفظ الإنسان وضع لمجموع الجزأين ، أعنى الحيوان الناطق (أو) دلالة (على جزئه) ، أى : جزء تمام ما وضع له اللفظ كدلالة لفظ الإنسان على الحيوان فقط ، أو على الناطق فقط ، فإن كلا منهما جزء من الموضوع له (أو) دلالة (على) معنى (خارج عنه) ، أى : خارج عن تمام ما وضع له اللفظ كدلالة لفظ الإنسان على معنى الضاحك ، فإنها دلالة على

٧١

معنى خارج عن المسمى الذى هو الحيوان الناطق ؛ إذ هو لازم لهذا المعنى ، لا جزء منه ، كما لا يخفى (وتسمى) الأولى من هذه الأقسام الثلاثة ، وهى الدلالة على تمام ما وضع له اللفظ (وضعية) ؛ لأن السبب فى حصولها ـ بشرط سماع اللفظ أو تذكره ـ هو معرفة الوضع فقط دون حاجة لشيء آخر وراء الوضع ، والذى كان الوضع سببا له هو تمام ما وضع له جميعا ، إذ الواضع إنما وضع لذلك التمام لا للجزء ولا للازم ، (و) تسمى (كل واحدة من الأخيرتين) ـ وهما الدلالة على الجزء والدلالة على اللازم ـ (عقلية) ؛ لأن حصولهما بانتقال العقل إلى الجزء أو اللازم من الكل أو الملزوم ، وهذا الانتقال تصرف عقلى لا يتوقف فيه العقل الأعلى بمجرد حصول المعنى لا على شيء آخر وراءه ، وهذا معلوم لا يتوقف فى تحققه ضرورة حكم العقل بأن حصول الكل أو الملزوم يستلزم حصول الجزء أو اللازم ، فسميتا عقلية لذلك ، فإن قيل استلزام المعنى للازمه ربما يتصور فيه الانتقال ، وأما استلزامه لجزئه فهو حصول مع حصول لا يتصور فيه الانتقال ، وكذا اللازم فى اللزوم الذهنى ؛ لأنه دفعى. قلنا : أما إذا حصل الكل تفصيلا أو حصل الملزوم الذهنى مع اللازم للزوم الذهنى إن توسط الكل والملزوم فى الجزء أو اللازم صارا به فى الرتبة الثانية كالمنتقل إليه ، وأما إذا حصل الكل إجمالا أو اللزوم بلا لزوم ذهنى ، فالانتقال إلى الجزء تفصيلا أو اللازم الغير الذهنى واضح لا يقال لا يصح الانتقال باعتبار الأخير لصحة الغفلة عن التفصيل وعن الإلزام الغير البين ؛ لأنا نقول : لا بد من الانتقال عند القرينة عادة ، وذلك كاف فى اللزوم العقلى فى هذا الفن ، كما يأتى ، ولا يقال الانتقال من الجملة إلى التفصيل انتقال فى الحقيقة من وجه من أوجه الكل إلى غيره ، فيكون انتقالا إلى اللازم لا إلى الجزء ، فلا يتصور الانتقال الثانى فى التضمن ؛ لأنا نقول : التضمن فهم جزء مدلول اللفظ بأى وجه ، وقد حصل ، واللفظ لم يوضع لذلك الوجه الذى تصور به الكل إجمالا فافهم. وتخصيص اسم الوضعية بالدلالة على تمام الموضوع له دون الدلالة على الجزء ، واللازم اصطلاح غير المناطقة ، وأما المناطقة فالوضعية إذا كانت لفظية عندهم فللوضع فيها مدخل ، فتدخل ذات الجزء ، واللازم كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وهى مقابلة عندهم للعقلية المحضة أو الطبيعية

٧٢

لا لذات الجزء واللازم ، وذلك أن الدلالة التى هى كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر كحال التغير مع الحدوث ؛ فإنه يلزم من العلم بثبوت التغير للجرم العلم بحدوثه ، كالرجل فإنه يلزم من العلم به العلم بمعناه ، سواء كان هذا اللزوم بوسط.

أو لا تنقسم عندهم ستة أقسام اللفظية وغيرها وغير اللفظية إما عقلية بأن لا يمكن تغيرها كدلالة التغير على الحدوث ، وإما طبيعية بأن يكون الربط بين الدال والمدلول يقتضيه الطبع كدلالة الحمرة على الخجل والصفرة على الوجل ، وإما وضعية بأن تحصل بالاختيار كدلالة الإشارة المخصوصة مثلا على معنى نعم أو لا ، واللفظية أيضا إما عقلية بأن يمكن تغيرها كدلالة اللفظ على لافظ به ، وإما طبيعية بأن يكون الربط بين اللفظ الدال والمدلول يقتضيه الطبع كدلالة أخ على وجع ، وإما وضعية بأن تكون بالاختيار والوضع ، وتعرف بأنها فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه بالنسبة إلى من هو عالم بالوضع ، وعنى بالفهم الكائن عن الوضع الفهم المسند إلى مطلق الوضع من غير شرط ، كون ذلك المفهوم تمام الموضوع أو لازمه أو جزأه لتدخل الأقسام الثلاثة المنسوبة إلى الوضع ، واحترزوا بالقيد الأخير ، وهو قولهما بالنسبة إلى من هو عالم بالوضع من العقلية والطبيعية ؛ لأنهما تحصلان بالنسبة لمن لا معرفة له بالوضع ، ورد على هذا التفسير أن الفهم إن جعل مصدرا منسوبا للفاعل ، فلا يكون وصفا للفظ ؛ إذ هو وصف للإنسان الفاهم ، وإن جعل منسوبا للمفعول كان وصفا للمعنى المفهوم ، وعلى التقديرين لا يكون وصفا للفظ ، فلا يشتق له منه ، وتعريف وصف اللفظ به يقتضى كونه بحيث يشتق منه للفظ ما يحمل عليه على قاعدة أن من قام به وصف حمل عليه بالاشتقاق ، وأجيب بأن ما ذكر إنما هو حيث لم يعتبر تعلقه بالمجرور ، فإن اعتبر من حيث تعلقه بالمجرور صار وصفا للفظ على أنه للمفعول ، فالفهم من اللفظ وصف له فيشتق له منه ، فيقال : هذا اللفظ مفهوم منه المعنى ، فقد عرفت الدلالة التى هى وصف اللفظ بما هو وصف له بهذا الاعتبار ، وهو واضح ، ثم هذه الدلالة إن كانت على تمام ما وضع له اللفظ سميت مطابقة ، وإن كانت على جزئه سميت تضمنا ، وإن كانت على لازمه سميت التزاما ، وهذا الاصطلاح فى التسمية متفق عليه ، وإليه أشار بقوله :

٧٣

(وتختص الأولى) من الدلالات الثلاث ، وهى الدلالة على تمام ما وضع له اللفظ (ب) اسم (المطابقة) بمعنى أنها تسمى دلالة المطابقة دون غيرها ، وإنما سميت بذلك لتطابق اللفظ والمعنى ، أى : توافقهما ؛ فلم يزد اللفظ بالدلالة على الغير ، ولا زاد المعنى بالمدلولية للغير ، أو لتطابق الفهم والوضع ، بمعنى أن ما فهم هو ما وضع له اللفظ ، (و) تختص (الثانية) ، وهى الدلالة على جزء ما وضع له اللفظ (ب) اسم (التضمن) ، أى تسمى دون غيرها دلالة تضمن ، وإنما سميت بذلك لكون المدلول فيها جزءا متضمنا للمعنى الموضوع له اللفظ ، (و) تختص (الثالثة) ، وهى الدلالة على لازم ما وضع له اللفظ (ب) اسم (الالتزام) بمعنى أنها تسمى دون غيرها بدلالة الالتزام ، وإنما سميت بذلك ؛ لأن المدلول فيها لازم للمعنى الموضوع له اللفظ خارج عنه ، فتحصل من هذا أن المطابقة تعرف بأنها دلالة اللفظ على تمام ما وضع له ، والتضمن دلالته على جزء ما وضع له ، والالتزام دلالته على خارج عن مسماه لازم ، ويرد على تعريفها البحث المشهور ، وهو أن هذه التعاريف ينخرم طرد كل واحد منها بالآخر لدخول فرد من أفراد كل منها فى الآخر إذا فرضنا أن لفظا وضع على طريق الاشتراك للكل والجزء والملزوم واللازم كلفظ الشمس الموضوع كما قيل لمجموع القرص والضوء وللقرص الذى هو أحد الجزأين وللضوء الذى هو أحد الجزأين أيضا ولازم للقرص. قلنا : إذا أطلقناه على مجموعهما وفهم منه أحد الجزأين ففهم الجزأ منه حينئذ تضمن لأنه دلالة على جزء ما وضع له اللفظ ، ويصدق عليه أنه مطابقة ؛ لأنه دلالة على ما وضع له اللفظ ، أعنى بوضع آخر غير هذا الوضع الموجود فى هذا الإطلاق ، فقد دخل هذا الفرد من المطابقة فى حد التضمن ، وكذا إذا أطلق على الجرم وحده ؛ لأنه وضع له وفهم منه لازم الجرم وهو الضوء كان التزاما ؛ لأنه دلالة على لازم ما وضع له اللفظ بوضع آخر ، ويصدق عليه أنه مطابقة ؛ لأنه دلالة على ما وضع له اللفظ بوضع آخر ، فقد دخل هذا الفرد من المطابقة فى الالتزام أيضا ، فقد انخرم كل من التضمن والالتزام بدلالة المطابقة لدخول فرد منها فى حد كل منهما ، وكذا إذا أطلق على الجرم وهو القرص لوضعه له وفهم منه كان هذا الفهم مطابقة ؛ لأنه دلالة على تمام ما وضع له اللفظ ، ويصدق عليه أنه

٧٤

تضمن ؛ لأنه دلالة على جزء الموضوع له بوضع آخر ، فتنخرم المطابقة بالتضمن لدخول هذا الفرد من التضمن فى المطابقة ، أو أطلق على الضوء لوضعه له كان مطابقة ، ويصدق عليه أنه إلتزام ؛ لأنه دلالة على لازم ما وضع له ؛ لأنه كان موضوعا للجرم الذى كان الضوء لازما له ، فينخرم حد المطابقة بالالتزام أيضا ، كما انخرم بالتضمن ، وكذا ينخرم كل من التضمن والالتزام بالآخر ، فإنه إذا أطلق على الجرم وفهم الضوء كان التزاما ، ويصدق عليه أنه تضمن ؛ لأنه فهم الجزء ، إذ الضوء كان جزءا من مجموع ما وضع له ، حيث فرض وضعه أيضا لمجموع القرص والضوء ، وإذا أطلق على المجموع وفهم الضوء فى ضمنه كان هذا الفهم تضمنا ؛ لأنه فهم الجزء ويصدق عليه أنه فهم اللازم لما وضع له ، لأنا فرضنا أنه موضوع للجرم أيضا والضوء لازمه ، فقد تبين أن المطابقة تنخرم بكل من التضمن والالتزام ، والالتزام والتضمن ينخرم كل منهما بالمطابقة ، وينخرم كل منهما بالآخر ، فتفسد حد كل بحد الآخر ، وأجيب بأن الأمور التى تصدق فى شيء واحد وتجتمع فيه حقائقها إنما تتميز فيه بحيثيات صادقة عليه تراعى تلك الحيثيات فى تعريفها ، ولكن مع ذكر ما يشعر بتلك الحيثيات ، وذلك كالمطابقة واللزوم والتضمن فإنها تجتمع فى دلالة الشمس مثلا على الضوء ، فهى مطابقة من حيث الوضع الموجود فيها ، وتضمن من حيث الجزئية الموجودة فيها والتزام من حيث اللزوم الموجود فيها ولكن باعتبارات مختلفة وإضافات مرعية بخلاف الأمور المختلفة المتباينة لذواتها لأمور لا تجتمع كالإنسان مع الفرس فإنهما لا يتصادقان لاختصاص الأول بالناطقية المباينة لذاتها للصاهلية المختصة بالثانى ، فلا يحتاج إلى الحيثيات فى تعاريفها لكفاية تلك المتباينات عن رعاية الحيثية فى تعاريفها ، وإنما تحتاج فى تعاريف الأمور المتصادقة المختلفة بالاعتبار ، فالحيثية مراعاة فى الحدود للأمور التى بتلك الصفة ، ويستغنى كثيرا عن ذكرها لإشعار اللفظ بها ، كما أشعرت الدلالة هاهنا ؛ حيث علقت فى كل تعريف بما يناسبها أنها من حيثيته ؛ لأن تعليق الشيء بما يناسبه يشعر بالعلية ، فالدلالة علقت فى حد المطابقة بالوضع ، ففهم أنها من جهته ؛ لأن الوضع معلوم أنه يكون سببا لها فكأنه قيل : هى دلالة اللفظ على تمام ما وضع له من حيث إنه وضع له ،

٧٥

أى بسبب الوضع ، فإذا أطلق لفظ الشمس على الجرم لوضعه له أو على الضوء لوضعه له لم يرد أنه دلالة على الجزء اللازم ؛ لأن الدلالة من حيثية الوضع لا من حيث الجزئية واللزوم ، فلا تنخرم المطابقة بهما ، وعلقت فى حد التضمن بالجزئية المناسبة لكونها من حيثيتها وسببها للعلم بأن الجزء يفهم من الكل ، علقت فى حد الالتزام باللازم ففهم أنها من حيثية اللزوم وسببه للعلم بأن اللازم يفهم من فهم الملزوم ، فكأنه قيل : التضمن الدلالة على الجزء ، الحاصلة من حيث إنه جزء وبسبب كونه جزءا والالتزام الدلالة على اللازم من حيث إنه لازم وبسبب كونه لازما ، فإذا أطلق اللفظ على المجموع وفهم الجزء الذى هو الضوء لم يرد أنها مطابقة ؛ لأن الفهم من حيث الجزئية لا من حيث الوضع ، ولا أنها التزام لأنها من حيث الجزئية لا من حيث اللزوم ، وكذا إذا أطلق على الجرم وفهم الضوء لزوما لم يرد أنها مطابقة ؛ إذ ليست من حيث الوضع ، بل من حيث اللزوم ، ولا أنها تضمن ؛ إذ ليست من حيث الجزئية ، بل من حيث اللزوم ، فقد انفك كل حد عن الآخر بمراعاة الحيثية المستغنى عن ذكرها ، وذلك ظاهر ، ولا يستغنى فى دفع البحث عن مراعاة الحيثية المشار إليها فى كل حد بجعل الدلالة بالإرادة بناء على أن الدلالة الوضعية موقوفة على الإرادة الجارية على قانون الوضع ، بمعنى أن اللفظ المشترك الذى ورد البحث لسبب فرد من أفراده لا بد فى دلالته على أن يراد به المعنى الواحد مما وضع له لأنه إنما وضع ليراد به كل معنى على حدة ، فإذا شرط فى الدلالة أن يراد المعنى على قانون الوضع ، فإذا أطلق لفظ الشمس مثلا على الجرم وحده أو الضوء وحده وأريد به كل منهما على حدة لم ينخرم حد المطابقة فى هذا الإطلاق بحد التضمن والالتزام ؛ لأنها دلالة على ما وضع مرادا إرادة جارية على قانون الوضع بإرادة المعنى وحده ، ولا يصدق عليها أنها تضمن أو التزام ؛ لأنهما إنما يكونان بإرادة الكل أو الملزوم ، كما وضع اللفظ لهما فينتقل من الكل إلى الجزء ومن الملزوم إلى اللازم وكذا إذا أريد بلفظ الشمس المجموع على قانون الوضع وفهم الجزء أو ما هو لازم للجرم وهو الضوء لم يصدق عليهما حد المطابقة ؛ لأن الإرادة الجارية على قانون الوضع فى المطابقة لم توجد فيهما ، فلا ينخرم كل من حد المطابقة وحدهما بالآخر ، وإنما قلنا : لا

٧٦

يستغنى فى دفع البحث بما ذكر ؛ لأن توقيف الدلالة على تلك الإرادة غير مسلم ؛ لأن الفهم من اللفظ كاف فى تحقق الدلالة من غير رعاية الإرادة ، وعلى تقدير تسليمه لا يغنى ذلك عن رعاية الحيثية ، حيث يراد البيان لأن الإحالة على الإرادة ، ولو كانت الدلالة تنتفى بانتفائهما على هذا ؛ إحالة على خفى ، فليفهم.

(وشرطه) أى : وشرط الالتزام ، بمعنى أن كون فهم اللازم دلالة الالتزام إنما يشترط فيه (اللزوم الذهنى) فقط لا لزومه خارجا أيضا ، فإنه لا يشترط ، ففهم البصر من العمى الذى هو عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا دلالة الالتزام ، مع أنه إنما يلازم فى الذهن فقط لا فى الخارج لتنافيهما ، كما أن فهم الزوجية من الأربعة اللازمة لها ذهنا وخارجا معا دلالة الالتزام ، والمراد باللزوم الذهنى هنا أن يكون المعنى الملزوم إذا حصل فى الذهن ترتب عليه حصول لازمه مطلق الترتب بأن يوجد ، ولو بعد التأمل فى القرائن والعلامات وليس المراد به أن يكون الملزوم كلما فهم فهم لازمه الذى هو اللزوم البين عند المناطقة ، ولا أن يكون إذا تصور الملزوم وتصور اللازم حكم بثبوت اللزوم بينهما ، فإنه لو أريد خصوص الأول أو الثانى خرج عن دلالة الالتزام هنا كثير من المجازات والكنايات وهى المفتقرة إلى مطلق التأمل فى القرائن ، وخرجت التى لا يحكم بالربط بين طرفيها عقلا بعد تصورهما ، وأيضا لو أريد ذلك لما تأتى الاختلاف فى الوضوح المبنى على دلالة الالتزام هنا ، كما يترتب على دلالة التضمن ؛ لأن اللازم إن كان بحيث يفهم متى فهم ملزومه أو كان بحيث يحكم باللزوم بينهما بعد التصور من غير توقف على تأمل أصلا لم يوجد خفاء ووضوح فى ذلك اللزوم ، وهو واضح ، وبعض الناس فهم من كلامهم أن المراد باللزوم الذهنى المشترط هنا اللزوم البين عند المناطقة فنازع فى اشتراطه ؛ لأن المشترط ـ كما تقدم ـ مطلق الترتيب ، ولو مع التأمل فى القرائن. ومما يدل على أن ليس المراد اللزوم البين المشترط فى دلالة الالتزام عند المناطقة قول المصنف : (و) يشترط فى دلالة الالتزام كون اللزوم ذهنيا ، لا بشرط كون الربط عقليا فقط ؛ سواء كان بينا أو لا ، بل يكون ذهنيا (ولو) كان الربط (ل) أجل (اعتقاد المخاطب) اللزوم بين ذلك الملزوم واللازم (ب) سبب إثبات (عرف) عام ذلك الربط

٧٧

وهو أن يكون اللفظ يفهم منه أهل العرف لزوما بين معناه وبين معنى آخر كلفظ الأسد ، فإن أهل العرف العام قاطبة يفهمون من معناه لازما هو الجراءة والشجاعة ، ولو كان لا لزوم عقلا بين تلك الجثة والجراءة ، وقد يمثل له كما قيل بالطنين فى الأذن فإنه يفهم منه أهل العرف أن صاحب ذلك الطنين قد ذكر ، فيجوز أن يقال : " إن لفلان طنينا فى أذنه" ليفهم منه أنه مذكور ، وكالخلجان فى العين فإنه يلزمه عرفا لقاء الحبيب ، وفيه شيء ؛ لأن عرف هذا الفاهم لا يسلم أو لا يخلو من خصوص وفهم من قوله اعتقاد المخاطب أن المعتبر فى تحقق اللزوم ما عند المخاطب من الربط لا ما عند المتكلم ، وهو كذلك ، وإلا فربما خلا الخطاب عن الفائدة ، (أو) بسبب إثبات (غيره) ، أى : غير العرف العام ذلك الربط ، ويدخل فى غير العرف الخاص كالشرع كما يقال مثلا بلغ الماء قلتين والقلة من الماء مقدار منه مخصوص ليفهم منه لازمه فى عرف الشرع ، وهو أنه لا يحتمل الخبث أى لا يقبل التنجس بقليل النجاسة ويدخل فيه اصطلاح أرباب الصناعات كإطلاق التسلسل ليفهم منه البطلان اللازم له فى عرف أهل صنعة الكلام ، ولو كان لا يستلزم البطلان مطلقا عند الحكماء ، وإنما يستلزم بشرط الترتب ، وأما وجوده معيا فلا ، ويدخل فيه الربط لاعتقاد المخاطب لخصوصه كأن تقول لمخاطب يعتقد أن فلانا يؤذيه سكنى هذا البلد : اسكن هذا البلد ؛ قصدا لإفهامه الأمر بإذاية فلان ، ونحو هذا كثير كما تقدم فيمن اعتقد أن خلجان العين يدل على لقاء الحبيب ، فإذا أردت إفهامه هذا المعنى قلت : تختلج عينك ، وكذا إذا كان يعتقد أن أكل كف اليد يستلزم قبض الدراهم مثلا فتقول له : تأكلك يدك غدا قصدا لإفهامه قبض الدراهم إلى غير ذلك ، ويحتمل أن يراد بالعرف مطلقه ، كما هو ظاهر العبارة الشامل للخاص والعام ، ويراد لغيره الربط الحاصل باعتقاد المخاطب الخاص به للزوم تقرره عنده ، ولو بقرائن الأحوال ، وذلك ظاهر ، ثم ظاهر ما تقرر هنا أن دلالة المجاز من باب دلالة الالتزام ، وقيل : إنها مطابقة ، ويأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ تحقيق ذلك ، ولما بين أن هذا العلم به يعرف إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة ، وقد تقدم أن الدلالة اللفظية ثلاثة أقسام بين ما يتأتى به ذلك الإيراد من أقسام تلك الدلالات فقال :

٧٨

(والإيراد المذكور) وهو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة (لا يتأتى) ، أى : لا يمكن حصوله (فى) الدلالة (الوضعية) أى : التى سميت فيما تقدم وضعية ، وهى المطابقة ، وإنما لم يتأت فيها ، (لأن السامع) وهو الذى يعتبر بالنسبة إليه الخفاء والوضوح غالبا (إذا كان عالما بوضع الألفاظ) أى : جميع الألفاظ التى تستعمل فى التراكيب التى يخاطب بها لإفهامه معنى من المعانى ، وكان عالما بمدلول هيئة التركيب بناء على وضع هيئة التركيب (لم يكن بعضها) أى : إن كان السامع عارفا بما ذكر لم يكن بعض الألفاظ التى تستعمل فى ذلك المعنى وبعض الهيئات (أوضح) فى دلالته على ذلك المعنى من بعض ضرورة تساويها فى العلم بالوضع المقتضى لفهم المعنى عند سماع الموضوع ، وإذا تساوت فلا يتأتى الاختلاف فى دلالتها وضوحا وخفاء ، (وإلا) أى : وإن لم يكن عارفا بوضع جميع تلك الألفاظ وهيئاتها إما بأن لا يعلم شيئا منها أصلا ، أو يعلم البعض دون البعض (لم يكن) أى : إن لم يعلم الجميع ، لم يكن (كل واحد) من الألفاظ وهيئاتها (دالا) على ذلك المعنى ، وما انتفت دلالته على ذلك المعنى منها لا يوصف بخفاء الدلالة ، ولا بوضوحها ، كما لا يوصف بهما من ثبتت دلالته مع العلم بالوضع السابق ، وإنما قلنا : إن لم يكن عالما بالوضع لم يدل ما لم يعلم وضعه على شيء بالنسبة لذلك السامع لما علم بالضرورة من توقف وجود الدلالة الوضعية على العلم بالوضع ، فإذا انتفى العلم بالوضع انتفت مثلا إذا قيل : خد فلان يشبه الورد ، وفرضنا أن السامع يعلم هذه الهيئة ويعلم موضوعات ألفاظها الإفرادية ، فهم المعنى منها بتمامه ، وإذا بدل له كل لفظ بمرادفه والهيئة المعلومة له بحالها كأن يقال وجنته تماثل الورد وهو عالم بوضع كل رديف كالأول فهم المعنى أيضا بتمامه من غير حاجة لتأمل كما لم يحتج أولا وكذا إذا قلنا فلان يشبه البحر فى السخاء وبدلنا كل لفظ برديف مساو فى العلم بالوضع لم يختلف الفهم أيضا ، فلا خفاء ولا وضوح فى الدلالة بخلاف ما إذا دللنا على معنى الكرم مثلا بمستلزمه كفلان مهزول الفصيل وجبان الكلب وكثير الرماد ، فإنه يجوز أن يكون استلزام بعض هذه المعانى لمعنى الكرم أوضح من بعض ، فتختلف الدلالة فيها وضوحا وخفاء كما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ فى الدلالة العقلية ،

٧٩

فإن لم يعلم ببعض المرادفات من الألفاظ لم يحصل من ذلك البعض فهم أصلا فلا يتصور الخفاء والوضوح فى الفهم الذى هو الدلالة لانتفائه رأسا ، وإنما قال لم يكن كل واحد دالا ، ولم يقل لم يدل شيء منها أصلا ؛ لأن المراد بعلم السامع بوضع الألفاظ علمه بوضع جميعها كما تقدم ؛ لأنه لا يفهم المعنى المراد بتمامه إلا بفهم الجميع واللازم المحقق عن نفى دلالة كل واحد هو نفى دلالة الكل الصادق بنفى دلالة البعض ، وكل لفظ انتفت دلالته انتفى عنه الخفاء والوضوح ، وكل لفظ ثبتت دلالته انتفى عنه الخفاء والوضوح أيضا ، فالغرض حاصل بتقدير العموم فى الإثبات ومقابلته بما يصدق من النفى بالعموم أو الجزئية ، وأيضا لو قوبل بعموم السلب لم يحصل تناقض بين الإثبات العام الذى أراده أولا ، وبين النفى المقابل له فى قوله : وإلا فيتوهم أن الغرض لا يحصل وهو انتفاء الخفاء والوضوح فى الوضعية إلا إذا لم يعلم شيئا من وضع الألفاظ أو علم جميعها ، وليس كذلك لما أشرنا إليه من أن كل لفظ ثبت علم وضعه ، فلا خفاء فيه ولا وضوح ، وكذلك ما لم يثبت ، وورد على كون الدلالة الوضعية لا يتصور فيها الخفاء والوضوح أنا نجد فى أنفسنا ألفاظا محفوظة لدينا فى خزانة الخيال معلومة الوضع جميعا ، ومع ذلك يحضر لنا معنى بعضها بنفس الالتفات إلى معناه لكثرة ممارسة لمعناه أو لقرب العهد باستعماله فى معناه أو لقرب العهد بعلم وضعه ، وبعضها لا يحضر معناه إلا بعد التوقف ومراجعات الإحضار مرة بعد أخرى لطول العهد بعلم وضعه وعدم ممارسة استعماله فى معناه ، فقد تحقق الخفاء والوضوح فى دلالة المطابقة مع العلم بالوضع ، والدليل على العلم بالوضع فى الكل أنها لا تحتاج فى دلالتها إلى تفسير ، بل إلى تأمل وتوقف ، وأجيب بأن التوقف والمراجعة لطلب تذكر الوضع المنسى لا لخفاء الدلالة بعد العلم بالوضع بدليل أنا بنفس ما نتذكر الوضع نعلم المعنى من غير توقف ، وورد أيضا على ذلك أن التركيب الذى فيه التعقيد اللفظى لا يفهم معناه إلا بعد التأمل بعد العلم بجميع الألفاظ وضعا ، فقد تصور الخفاء والوضوح فى الألفاظ الوضعية بعد العلم بوضعها من غير طلب تذكر الوضع المنسى ، وأجيب بأن الهيئة مختلفة والكلام عند اتفاق الهيئة ؛ لأن لها دخلا فى الفهم الوضعى ، كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وورد أيضا

٨٠