مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

تصرفه وحمله على معنى ولقد يكون الزمان بخيلا في المستقبل بإهلاكه لما فيه من نظام العالم تكلف لا دليل عليه ، ومع ذلك فمصراع أبي تمام أحسن منه ، لاستغنائه عن هذا التكلف ، فعلى تقدير التصحيح بما ذكر لا يخرج به عن المفضولية ، ولا يضر في كونه مأخذوا منه كون البخيل في الأول متعلقا بالمثل ، وكونه في هذا متعلقا بنفس الممدوح ؛ لأن المصراعين اشتركا في الحاصل ، ولو اختلف الاعتبار ؛ إذ الحاصل من الثاني أن وجود هذا الممدوح من الزمان لا يكون إلا على الانفراد لبخله به ، فلم يوجد منه إلا بسبب خاص ، وقد اشترك المعنيان في انفراد وجود الممدوح من الزمان وبخله بمثله ، وبه يعلم أنه لا يضر في الأخذ تغاير في المعنى ، والتعبير إذا وقع الاشتراك في الحاصل ، ولو مع زيادة شيء ؛ إذ لو اشترط الاتحاد في المعنى من كل وجه لم يكن المصراع الثاني مأخوذا من الأول على كل تقدير ، مما يفسر به هنا ؛ لأنا إن فسرنا البيت الثاني بمعنى أن الزمان كان بخيلا به أولا ، ثم أعداه ، أي : أعدى الزمان ، جود الممدوح بأن تعلق به في عدم الممدوح ، فصار الزمان ساخيا به ، ولو لا سخاؤه الذي أعدى الزمان لبخل بمثله على الدنيا ، ولاستبقاه لنفسه ـ فهو يفيد أن الذي بخل به أولا هو نفسه ، وكلام أبي تمام يفيد أن الذي بخل به هو مثله فالمعنيان مختلفان ولو اتحدا المآل ، والحاصل كما قررنا أن البخل به إلا لسبب خاص يفيد البخل به ؛ لانتفاء ذلك السبب كما قررنا ، والبخل بمثله مع وجوده يفيد البخل به إلا لسبب خاص ، وهذا تأويل ابن جني ، ويلزم فيه أن قوله أعدى الزمان سخاؤه من باب الغلو كما تقدم في قوله :

حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق.

لأن الجود لم يوجد قبل وجود الممدوح حتى بعدي الزمان ، ولهذا عدل عنه ابن فورجة ، وإن فسرناه بما قال به ابن فورجة فرارا من هذا اللازم وهو أن المراد أن الممدوح كان موجودا سخيا ، وكان الزمان بخيلا بإظهاره لي وهدايتي له لعزازة أموره عند الزمان ، فلما أعدى الزمان سخاء ذلك الممدوح جاد على به ، أي : بالاتصال به ، والوقوف عليه بعد خفائه عنى ، فالمعنى : أن الزمان هداني إليه بعد البخل بالهداية فعرفته ، وأغناني كأن المعنى : ولقد كان الزمان بخيلا بإظهاره ، وهو مخالف للبخل بإيجاد مثله

٦٦١

أيضا ، فعلى هذا التقدير أيضا لا يكون مأخوذا من الأول ، ولكونه أظهر في عدم الأخذ لم يتعرض له في الشرح ، ويرجع المعنى على هذا التقدير إلى حاصل واحد أيضا ؛ لأنه إذا بخل بإظهار وجوده لي لعزازته فهو بخيل بفائدته اللازمة لوجوده إلا لسبب ، فيلزم البخل بوجوده ؛ لأن نفي اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، فنفي فائدته كنفيه باعتباره ، فيؤخذ منه أن من شأنه مع فائدته البخل به ، إلا لسبب خاص ، فيلزم البخل بأمثاله لانتفاء السبب ، وأيضا يشتركان في البخل بالشيء لعزازته في الجملة ، وهو يكفي في الاتفاق ، وإن فسرناه كما تقدم بأن الزمان جاد به ، وهو بخيل في المستقبل بإهلاكه ، فهو أظهر في المخالفة ، لكن يرجع إليه على هذا التقدير أيضا ؛ لأنهما قد اشتركا أيضا في عزازة شيء خاص عند الزمان بسبب خاص ، ولذلك انفرد حتى بخل بإهلاكه للحاجة إليه وحده ، وإن شئت قلت : لأنه يلزم من البخل بإهلاكه دون غيره ، أن غيره لا يبخل بإهلاكه لعدم وجود مثل أوصافه في ذلك الغير ، فيلزم أن وجوده منفرد عن الغير فلا يوجد له مثل ، فيلزم البخل بالمثل ، فقد تقرر بما ذكر وجه رجوع كل من الأوجه الثلاثة في حاصل المعنى لشيء واحد ، فتحصل مما تقرر أن الاتفاق في حاصل المعنى يصحح هذا الأخذ ، ومن توهم أن المخالفة في الجملة مانعة من الأخذ وأنها موجودة في أحد هذه التقادير المحتملة دون غير فقد غلط.

(وإن كان) الكلام الثاني في الأخذ المسمى بالإغارة (مثله) أي مثل الكلام الأول في البلاغة (ف) هذا الثاني (أبعد من الذم) أي هو حقيق بأن لا يذم بخلاف الكلام الثاني الذي هو أدنى كما تقدم ، وإنما قلنا هكذا ؛ لأن ظاهر العبارة يقتضي أن ثم بعيدا من الذم ، وهذا أبعد منه وليس كذلك ، أما الأول فهو أبعد من هذين أن لا يذم ، وأما ما يليه فهو مذموم فلا يتصف بالبعد من الذم (و) لكن مع كونه أبعد من الذم إنما (الفضل ل) لكلام (الأول) لا له (كقول أبي تمام :

لو حار مرتاد المنية لم يجد

إلا الفراق على النفوس دليلا) (١)

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى عقود الجمان (٢ / ١٧٩) ، وشرح ديوانه ص (٢٢٨) ، ولكن فيه (لو جاء) بدلا من (لو حار).

٦٦٢

هذا الكلام الأول (وقول أبي الطيب :

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا) (١)

هذا الثاني ومعنى البيت الأول أن مرتاد المنية ، أي : المنية التي ترتاد ، أي : تطلب النفوس كطلب الرائد للكلأ ؛ فالإضافة بيانية إذ ليس للمنية مرتاد غيرها ، لو حار أي : لو تحير ذلك المرتاد الذي هو المنية في طلب النفوس بسبب خفاء أماكنها عليه ، لم يجد ذلك المرتاد دليلا يدل على النفوس المطلوبة له إلا الفراق ، فجعل دليل المنية على النفوس محصورا في الفراق ، أي : فراق الأحبة ، وقيد كونه دليلا بحال الحيرة في طلب النفوس ، ومعنى البيت الثاني أن مفارقة الأحباب هي الموصلة للمنية عند طلبها للأرواح ، فلولاها ما اتصلت المنية بالأرواح ، فيفهم أن المواصلة مانعة من الوصول إلى الأرواح ، فالفراق إما أن يكون دليلا أو جزءا من الدليل ، ومن المعلوم أن المراد بالحيرة في البيت الأول رغبة المنية في النفوس وطلبها لها ، وقد علم أن التوصل مطلقا لا يكون إلا بالطلب ، فالتقييد بالحيرة لا يحتاج إليه لوجهين : أحدهما : أن الطالب للشيء يتحير عند انتفاء الدليل فلا يحتاج لذكر التحير

والآخر : ما تقرر من كون المنية لا عدو لها إلا النفوس فهي أبدا طالبة لها متحيرة عند عدم الدليل ، وقد اجتمع البيتان على الحاصل ، وهو أنه لا دليل للمنية على النفوس إلا الفراق ، أما في الأول فواضح وأما في الثاني فإن لو لا تفيد أن نفي الفراق بنفي الموصل ، كما أشرنا إليه ، فلزم انحصار الموصل في الفراق على أنه دليل أو جزء الدليل ، فمعنى كل من البيتين يعود إلى معنى الآخر ، فما يقال : من أن في الأول الحصر والتقييد بالحيرة ، فجاء أبلغ من الثاني لا عبرة به ، وقد ظهر أن أبا الطيب أخذ المعنى كله مع لفظ المنية والفراق والوجدان وبدل النفوس بالأرواح ، وهما متساويان في البلاغة ، فكان الثاني أبعد من الذم.

__________________

(١) البيت لأبى الطيب فى شرح ديوانه (١ / ٥٩) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).

٦٦٣

الإلمام والسلخ

ثم أشار إلى مقابل قوله وإن أخذ اللفظ كله أو بعضه مع تغيير لنظمه وهذا المقابل هو أن يأخذ المعنى وحده كله مع تغيير النظم من غير أن يأخذ اللفظ بعضا أو كلا ، وقد تقدم أن تغيير النظم بوجود غير الدلالة الأولى بحيث يقال هذا كلام وتركيب آخر ، سواء كانت الجملتان من جنس الشرطية مثلا أم لا فقال (وإن أخذ المعنى وحده) دون شيء من اللفظ (سمى) هذا الأخذ (إلماما) وهو في الأصل مصدر ألم بالمنزل إذا نزل به ، ويعبر به عن القصد إلى الشيء ، وسمى به هنا الآخر لنزوله بالمعنى وقصده إياه ، والتسمية يكفي فيها أدنى ملابسة.

(و) سمي أيضا (سلخا) لأنه سلخ المعنى عن اللفظ الأول كسلخ الشاة عن الجلد وكشطها عنه ، وذلك أن اللفظ يتوهم فيه كونه كاللباس للمعنى من جهة الاشتمال عليه بالدلالة ، فأخذ المعنى عنه ككشط الجلد عن صاحبه (وهو) أي : والكلام الذي تعلق هذا الأخذ بمعناه (ثلاثة أقسام كذلك) أي : كالكلام الذي يسمى الأخذ فيه إغارة ومسخا ، فهو أيضا إما أن يكون أبلغ من الأول المأخوذ منه ، أو يكون دونه في البلاغة ، أو يكون مثله فيها.

(أولها) أي : أول الأقسام الثلاثة ، وهو الذي يكون أبلغ من الأول (كقول : أبي تمام

هو الصنع إن يعجل فخير وإن يرث

فللريث في بعض المواضع أنفع) (١)

هذا الكلام الأول (وقول : أبي الطيب

ومن الخير بطء سيبك عني

أسرع السحب في المسير الجهام) (٢)

هذا الكلام الثاني فقد اشترك البيتان في أن تأخر العطاء يكون خيرا وأنفع ، ولكن بيت المتنبي فيه أجود ؛ لأنه زاده حسنا بضرب المثل له بالسحاب ، فكأنه دعوى بالدليل إذ كأنه يقول : العطاء كالسحاب فبطء السحاب في السير أكثر نفعا ، وسريعها

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى عقود الجمان (٢ / ١٧٩) وفى شرح ديوانه ص (١٨١).

(٢) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (١ / ٢١٠) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).

٦٦٤

وهو الجهام أي السريع سيرا أقلها نفعا ، فكذلك العطاء بطيئه أكثر نفعا فكان تأخر عطائك أفضل من سرعته ، ولا يخفى أن البطء في السحاب خلاف البطء في العطاء ؛ لأنه فى السحاب في مسيره ، وفى العطاء فى عدم ظهوره في زمان انتظاره مع أن الأول يفيد أن الريث ، أى : البطء أنفع في بعض المواضع دون بعض ، والثاني يفيد أنه من الممدوح لا يكون إلا خيرا ، وهو آكد فى المدح وأما الأول فيشعر بأنه قد يكون من الممدوح خيرا ، وقد لا ، فحيث يستحي مثلا لتأخر العطاء حياء يوجب الزيادة يكون خيرا ، وحيث لا يكون مثلا كذلك لا يكون أنفع بخلاف البيت الثاني ، وقوله : هو الصنع ، الضمير للشأن ، أي : الشأن هو هذا ، وهو قوله : الصنع ، أي : الإحسان أن يعجل فخير ، وإن يرث أي يبطئ فقد يكون أنفع ، ويحتمل أن يكون عائدا على حاضر في الذهن يفسره الصنع ، والجملة بعده مستأنفة ، وعود الضمير على ما في الذهن صحيح ، إلا أنه تارة يتعين كما في قوله : " هو الهجر حتى ما يلم" ، أي : ما ينزل ، " خيال" من هذا الذي يهجرنا ، " وبعض صدود الزائرين وصال" أي : لم ننل ممن هجرنا حتى الصدود ؛ لأنا لا نلقاه لا يقظة ولا مناما ، والصدود قد يعد وصالا بالنسبة لمثل هذا الهجر ، وتارة لا يتعين كما في قوله : هو الصنع إن يعجل إلخ ، وإنما قلنا : يتعين في قوله هو الهجر ؛ لأنه لو جعلناه للشأن احتاج إلى جملة يخبر بها عنه ، ولا جملة كذلك في قوله هو الهجر إلخ ، ومثله (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)(١) أي : إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ، ولا يصح أن يكون الضمير للشأن هنا ، وهذا الإعراب ، أعنى جعل الضمير عائدا على حاضرة في الذهن لطيف لا يكاد يتنبه له إلا الأذهان الرائضة ، أي : المرتضاة بالإعراب من أئمة العربية ؛ لأن التفطن لحاضر ذهنا يلتئم الكلام فيه ، ويحسن بحيث يفيد الكلام معه فائدة البيان بعد الإجمال ، ويصح به المعنى مما يدق ، ولا ينتبه له كل أحد وهو حيث يتأتى الإعراب بضمير الشأن أفضل من الإعراب بالإضمار الشأني ؛ وذلك لأن ضمير الشأن خلاف الأصل ، لكونه ملازما للإفراد ، وملازما للإخبار بالجملة ، وكونه لازما للابتداء أو الناسخ فلا يعمل فيه غيرهما ، وكونه لا يتبع وعوده على ما بعده ، وفائدته

__________________

(١) الأنعام : ٢٩.

٦٦٥

التي هي الإجمال ثم التفصيل موجودة في هذا الأخير مع زيادة إفادة حكمين ؛ لأن قوله : هو الصنع إن يعجل فخيرا إلخ يفيد إثبات الصنيعة وإثبات ذلك الصنع إن يعجل فكذا ، وإن يرث فكذا بخلاف ما لو جعل شأنيا.

وثانيها : أي : ثاني الأقسام الكائنة للكلام الذي فيه أخذ المعنى وحده وهو ما يكون أدنى من الكلام الأول المأخوذ منه في البلاغة (كقول البحتري : وإذا تألق) (١) أي : لمع (في الندى) أي : مجلس الاجتماع للتحدث (كلامه المصقول) أي : المنقح المصفى من كل ما يشينه (خلت) أي : حسبت (لسانه من عضبه) أي : من سيفه القاطع ، هذا الكلام الأول (وقول أبي الطيب كأن ألسنهم في النطق) (٢) أي : عند النطق (قد جعلت على رماحهم في الطعن) أي : عند الضرب بالقنا (خرصانا) مفعول ثان لجعلت ، وهو جمع خرص بضم الخاء وكسرها وهو سنان الرمح هذا هو الكلام الثاني ، ولا شك أن كلا منهما تضمن تشبيه اللسان بآلة الحرب في النفاذ والمضي ، وإن كانت الآلة المعتبرة في الأول السيف والآلة المعتبرة في الثاني الرمح ، ولكن بيت البحتري أجود ؛ لأنه نسب فيه التألق والصقالة للكلام ، وهما من لوازم السيف على حد ذكر المنية والأظفار ، فكان في كلامه استعارة بالكناية فيما يتعلق بالمشبه ، فازداد بهذا حسنا بخلاف كلام المتنبي ، مع أن في بيت المتنبي قبحا من جهة أخرى ، وهو أن المتبادر من كلامه أن ألسنهم قطعت وجعلت خرصانا ، وفيه من القبح ما لا يخفى ، وفي الأول أيضا الدلالة على التشبيه بفعل الظن ، وهو أقوى من الدلالة بكأن ، فإن قلت : ليس في كلام البحتري استعارة بالكناية ، وإنما فيه ترشيح بالتشبيه ؛ لأن المشبه بالسيف في الحقيقة هو الكلام لا اللسان ؛ لأن الموصوف بوجه الشبه وهو النفوذ والتأثير فيما يتعلق به هو الكلام لا اللسان ، قلت : على تقدير تسليمه يلزم أن يكون أجود من بيت المتنبي بترشيح التشبيه كما زعمت على أنا لا نسلم أن التشبيه ليس للسان ، بل هو باعتبار تلبسه بما يوجب التأثير والمضاء

__________________

(١) البيت للبحترى ، فى عقود الجمان (٢ / ١٧٩).

(٢) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (١ / ٢٢٨) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).

٦٦٦

في الأرواح ، كالسيف في تلبسه بما يوجب التأثير من الجذ ولا قطع ، ولا ينافي ذلك اعتبار الاستعارة بالكناية فيما تحقق به وجه الشبه ، وهو الكلام بنسبة لوازم السيف له.

(وثالثها) أي : وثالث الأقسام التي هي للكلام الذى فيه أخذ المعنى وحده ، وهو ما يكون مثل الأول المأخوذ منه في البلاغة (كقول) زياد (الأعرابي : ولم يك) (١) أي : الممدوح (أكثر الفتيان) أي : الأقران (ما لا ولكن كان) هذا الممدوح (أرحبهم) أي : أوسعهم (ذراعا) أي : أسخاهم ، يقال : فلان رحب الراحة ورحب الباع ورحب الذراع ، بمعنى أنه : سخي ، وهو مجاز مرسل من إطلاق اسم الملابس وهو سعة الذراع أو الباع الذي هو مقدار اليدين مع ما يتصلان به ، أو الراحة على كثرة المعطى ؛ لأن الراحة والذراع والباع بها يحصل المعطي عند قصد دفعه ، فإذا اتسع كثر ما يملؤه فلابست السعة الكثرة عند العطاء ، فأطلقت السعة على الكثرة بتلك الملابسة مع القرينة وهذا هو الكلام الأول ، (وقول أشجع : وليس) (٢) أي : الممدوح الذي هو جعفر بن يحيى (بأوسعهم) أي : بأوسع الملوك (في الغنى) أي : في المال (ولكن معروفه) أي : إحسانه (أوسع) من معروفهم ، وهذا هو الكلام الثاني ، فقد اتفق البيتان على أن الممدوح لم يزد على الأقران في المال ، ولكن فاقهم في الكرم وهما متماثلان ؛ إذ لم يختص أحدهما بفضيلة عن الآخر ، فكان الثاني أبعد من الذم كما تقدم في ثالث أقسام الأول ، ولكن لا يخفى أن الأول فاق الثاني في التعبير عن الكرم بطريق التجوز ، ولهذا قيل : إن معروفه لا يعجب ، وقيل : إن وجه كونه لا يعجب أن المعروف قد يعبر به عن الدبر ، فيقال : معروفه أوسع ، أي : الشيء المعروف منه كناية عن الدبر أوسع ، فاستهجن هذا التعبير لما عهد فيه من هذا المعنى ، ولا يخفى أن هذا التوجيه إنما يتجه إن صح الإخبار عن المعروف بقوله : أوسع مرادا به هذا المعنى على وجه الكثرة ، وإلا فلا يخفى فساده ؛ لوجود المعروف في الكلام البليغ ، ولا يعتريه الاستهجان بوجه تأمله.

ولما فرغ من الأخذ الظاهر وأقسامه شرع في غير الظاهر فقال.

__________________

(١) البيت لأبى زياد الأعرابى فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩) ، والإشارات ص (٣١٢).

(٢) البيت لأشجع بن عمرو السلمى فى الأغانى (١٨ / ٢٣٣) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩) ، والإشارات (٣١٢).

٦٦٧

الأخذ غير الظاهر

(وأما) الأخذ (غير الظاهر ف) أقسام ، ولم يعددها إلى الأبلغ ، والأدنى المذموم ، والمساوي إلا بعد عن الذم ؛ لأن أقسام غير الظاهر كلها مقبولة من حيث ما أخذت ما لعدم ظهورها منه فإن اعتراها رد فمن جهة أخرى خارجة عن معنى الأخذ كما يفيد ذلك قوله فيما يأتي ، وأكثر هذه الأنواع يعني كلها مقبولة (منه) قسم هو (أن يتشابه المعنيان) أي : معنى البيت الأول المأخوذ منه ، ومعنى البيت الثاني المأخوذ بلا نقل (كقول جرير : فلا يمنعك من أرب) (١) أي : من حاجة تريدها عندهم (لحاهم) فاعل يمنع ، أي : يمنع أصحاب اللحى جمع لحية ؛ لأنهم في المعنى نساء ، وإن كانوا في الصورة رجالا ، فلا تمنعك صورتهم مع انتفاء المعنى الذي يقع به المنع ، ولذلك قال (سواء) منهم (ذو العمامة و) ذو (الخمار) يعني أن رجالهم ونساءهم متساوون في الضعف ، فلا مقاومة للرجال منهم على الدفع عن النساء منهم ، هذا هو البيت الأول (وقول أبي الطيب : ومن فى كفه منهم قناة) (٢) أي : رمح (كمن في كفه منهم خضاب) أي : صبغ الحناء هذا هو البيت الثاني ، وقد اشتبه البيتان في المعنى من جهة إفادة كل منهما أن الرجال لهم من الضعف مثل ما للنساء ، إلا أن الأول أفاد التساوي والثاني أتى بآلة التشبيه ، والأول عبر عن النساء بذوات الخمار وعن الرجال بذوي العمامة ، والثاني عبر عن النساء بذوات الخضاب وعن الرجال بذوي القناة في أكفهم ، والأول أيضا جعل ذلك التساوي علة للأمر بتناول الحوائج لديهم بخلاف الثاني ، فان قلت : قد تقدم في قسم الظاهر أنه لا يشترط فيه التساوي في المعنى من كل وجه ، ولا أن يوجد في المعنى المأخوذ لفظ المأخوذ منه ، وإنما يشترط الاتحاد في المعنى الحاصل في الجملة ، وإن كان بين القائلين اختلاف ما ، وهذا المثال لغير الظاهر ، كذلك لاشتراك البيتين ـ كما بينت ـ في الحاصل الذي هو كون الرجال لهم من الضعف مثل ما للنساء ، ولا يضر التعبير المخالف ولا مصاحبة شيء آخر كما في البيت الأول ، قلت : الفرق بين الظاهر وغيره

__________________

(١) البيت لجرير ، فى شرح ديوانه ص (١٤٧) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).

(٢) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (٢ / ١٣٧) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).

٦٦٨

قد تقدم ، وهو أن غير الظاهر لا بد أن يكون بحيث لا يدرك كون الثاني من الأول إلا بتأمل ، كما يتضح في الأمثلة بعد ، والذوق السليم شاهد بذلك ، وأما هذا المثال فوجه الخفاء أن الأول سوى بين مفهوم ذي العمامة والخمار في مصدوقهما ، والثاني شبه مفهوم من في كفه خضاب بمن في كفه قناة باعتبار مصدوقهما فيتبادر ـ قبل التأمل ـ أن المعنيين لما اختلف المفهوم فيهما مختلفين بخلاف ما تقدم ، فالمعنى ظاهر الاتحاد ، هذا والحق أن هذا المثال قريب من الظاهر بل ينبغي أن يجعل منه ، والمثال الذي فيه التشابه بلا ظهور كقوله :

لقد زادني حبا لنفسي أنني

بغيض إلى كل امرئ غير طائل (١)

وقوله :

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل (٢)

فمعنى البيت الأول أن بغض ما ليس بطائل أي : لا فائدة فيه يزيدني حبا في نفسي ؛ لأني أعلم بذلك أنه ما أبغضني إلا لكونه لم يناسب ما فيه من المعاني والأخلاق ما في ، ومعنى الثاني أنه إذا ذمني ناقص ذميم في نفسه كان ذمه شهادة بكمالي ، ومعلوم أن البغض يستلزم عادة ذم المبغوض ، وحب الإنسان نفسه يستلزم إدراك كمالها فالمعنيان مشتبهان في أمر يعمهما ، وإن اختلف مفهومهما ، وذلك الذي يعمهما هو أن مباعدة الأرذال وإذايتهم للإنسان تفيد رفعته ، لكن لخفاء أخذ أحدهما من الآخر ؛ لأن التماثل إنما هو باعتبار هذا الأمر العام الذي يبعد استشعار الأخص منه ، فنزلا فيه بمنزلة الأخصين باعتبار الجنس الأعلى جعل الثاني أي : أخذه من خلاف الظاهر ، والذوق السليم شاهد بذلك فتأمل.

المنقول

ولما كان غير الظاهر مشعرا بالحاجة إلى التأمل صح فيه نقل المعنى من مكان إلى آخر ، إذ غاية ما فيه زيادة الخفاء ولا ينافيه ، فيصح أن ينقل المعنى من نسيب أي : وصف بالجمال يقال نسب بكسر سين المضارع ، إذا شبب بامرأة ذكر منها ما يلائم

__________________

(١) البيت للطرماح ، فى الإيضاح ص (٣٤٦).

(٢) البيت لأبى الطيب ، فى الإيضاح ص (٣٤٦).

٦٦٩

الشبيبة والفتوة إلى مديح وبالعكس ، وإلى هجاء وافتخار ونحو ذلك وبالعكس ، ونقل المعنى من بعض الثلاثة الأخيرة إلى آخر وبالعكس ، وذلك يمكن من الشاعر الحاذق عند قصد اختلاس المعنى وإخفائه ؛ فيحتال فيه حتى ينظمه على غير نوعه الأول وعلى غير وزنه وقافيته ، فيدخل في غير الظاهر على هذا ما نقل من نوع إلى غيره سواء كان المنقول عنه وإليه مما ذكر أو من غير ذلك.

وإلى هذا القسم ـ وهو المنقول من محل إلى آخر مطلقا ـ أشار بقوله (ومنه) أي : من غير الظاهر (أن ينقل المعنى إلى محل آخر) بأن يكون المعنى وصفا ، والمنقول إليه موصوف ، وقد كان في المنقول وصفا على جهة أخرى (كقول البحتري : سلبوا) (١) ثيابهم (وأشرقت الدماء) أي : ظهرت الدماء (عليهم) ملابسة لإشراق شعاع الشمس (محمرة) وزاد محمرة لنفي ما يتوهم من غلبة الإشراق عليها حتى تصير بلون الإشراق البياض (ف) لما ستروا بالدماء بعد سلبهم صاروا (كأنهم لم يسلبوا) لأن الدماء المشرقة عليهم صارت ساترة لهم كاللباس المعلوم ، هذا هو المنقول عنه المعنى (وقول أبي الطيب : يبس النجيع) (٢) أي : الدم المائل إلى السواد (عليه) أي : على السيف (وهو) أي : السيف (مجرد عن غمده) أي : والحال أن السيف خارج عن الغمد (ف) صار السيف لما ستر بالنجيع الذي له شبه بلون الغمد (كأنما هو مغمد) أي : مجعول في غمده لستره بالنجيع ، كما يستره الغمد ، هذا هو المنقول فيه المعنى ، فالكلام الأول في القتلى وصفهم بأن الدماء سترتهم كاللباس ، ونقل هذا المعنى إلى موصوف آخر وهو السيف ، فوصفه بأنه ستره الدم كستر الغمد ، فإن قلت : النقل فيه تشابه المعنيين أيضا ، ضرورة أن في كل من البيتين الدلالة على ستر الشيء بعد تجرده ، فلم جعل هذا القسم من غير الظاهر مطلقا ، ولم يجعل من قسمه الذي هو تشابه المعنيين قلت فرق بين التشابه بلا نقل كما في قوله :

__________________

(١) البيت للبحترى ، فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠) ، والإشارات (٣١٣) ، والإيضاح (٣٤٧).

(٢) البيت للمتنبي ، فى ديوانه (١ / ٣٣٧) ، والإشارات (٣١٣).

٦٧٠

سواء ذو العمامة والخمار (١)

مع قوله :

ومن في كفه منهم قناة

كمن في كفه منهم خضاب

ولذلك قيدنا به فيما تقدم ، وبين التشابه مع النقل فإن هذا أدق وأخفى ، فمن جعله من التشابه ثم جعله من غير الظاهر أراد التشابه الكائن مع النقل تأمله.

الشمول

(ومنه) أي : ومن غير الظاهر (أن يكون معنى) البيت (الثاني أشمل) وأجمع من معنى البيت الأول (كقول جرير :

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلهم غضابا) (٢)

هذا هو المشمول الأول فقد أفاد بهذا الكلام أن بنى تميم ينزلون منزلة الناس جميعا في الغضب فغضبهم غضب جميع الناس ويلزم أن رضاهم هو رضا جميع الناس ؛ لأن المتابعة في الغضب تقتضي المتابعة في الرضا ؛ لاقتضائه الرياسة المفيدة لذلك ، فتحصل منه أنه أقام بني تميم مقام الناس جميعا في أعلى ما يطلب ، وأعلى ما يطلب هو رضا الناس جميعا.

(وقول أبي نواس) لهارون الرشيد لما سجن الفضل البرمكي غيرة منه حين سمع عنه التناهي في الكرم مشيرا إلى أن في الفضل شيئا مما في هارون وأن في هارون جميع ما في الفضل ، وما في العالم من الخصال مبالغة :

قولا لهارون إمام الهدى

عند احتفال المجلس الحاشد

أنت على ما فيك من قدرة

فلست مثل الفضل بالواجد

(وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد) (٣)

__________________

(١) البيت لجرير ، فى الإيضاح ص (٣٤٧).

(٢) البيت لجرير ، فى ديوانه ص (٧٨) ، والإشارات ص (٣١٣).

(٣) الأبيات لأبى نواس ، فى الإشارات ص (٣١٤) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠) ، وفى ديوانه ص (١٤٦).

٦٧١

وروى أنه أطلقه من السجن لما سمع الأبيات ، وهذا البيت هو الأشمل ، الثاني وهو يفيد أنه أقام الممدوح مقام جميع العالم لجمعه جميع أوصافه ، فهو أشمل مما في بيت البحتري لاختصاصه بإقامة الممدوحين مقام الناس في الرضا والغضب ، وهو أفاد إقامة واحد مقام جميع الناس في كل شيء ، ولا يخفي خفاء الأخذ بينهما ، فإنه لو لا اعتبار اللوازم الخفية ما فهم انتشاء الأول من الثاني ـ كما قررنا ـ ولم يتعرض للعكس وهو أن يكون الأول أشمل مع إمكانه ، وكأنه لعدم وجدان مثاله.

القلب

(ومنه) أي : ومن غير الظاهر (القلب وهو) أي : القلب (أن يكون معنى) البيت (الثاني نقيض معنى) البيت (الأول) كأن يقرر البيت الأول حب اللوم في المحبوب لعلة ، ويقرر الثاني أنه مذموم لعلة أخرى ، فيكون التناقض والتنافي بين البيتين بحسب الظاهر ، وإن كانت العلة تنفي التناقض ؛ لأنها مسلمة من الشخصين فيكون الكلامان غير كذب معا ، ومعلوم أن من كانت عنده العلة الأولى صح الأول باعتباره ، ومن كانت عنده الثانية صح الكلام باعتباره ؛ فالتناقض في ظاهر اللفظين ، والالتئام باعتبار العلل والمحال ، وذلك (كقوله : أجد الملامة) (١) أي : اللوم والإنكار على (في هواك لذيذة) أي : أجد لذلك اللوم فيك لذة ، لتناهى حبي فيك ، حتى صرت أتلذذ بمطلق ذكرك على أي وجه كان ، وإلى هذا أشار بقوله (حبا) أي : إنما وجدتها لذيذة لأجل حبي (لذكرك) على أي وجه كان (فليلمني اللوم) جمع لائم ، وهذا هو الأول المنقوض (وقول أبي الطيب :

أأحبه وأحب فيه ملامة

إن الملامة فيه من أعدائه) (٢)

وهذا هو الثاني الناقض للأول ، وإنما كان اللوم فيه من العدو ؛ لأن الحب يتضمن كمال المحبوب ورفعته ، واللوم على أمر فيه تعظيم لأحد ، وكمال لا يكون إلا من عدوه المبغض له ، وإن كان يمكن أن يكون اللوم رفقا بالملوم وإبقاء عليه ، لكنه خلاف الأصل بل لا يسمى في الحقيقة لوما ، بل عزاء وحملا على التصبر بالتقصير ،

__________________

(١) البيت لأبى الشيص ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص (٣١٤) ، والإيضاح (٣٤٨).

(٢) البيت لأبى الطيب فى ديوانه (١ / ١) ، والإشارات ص (٣١٤) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).

٦٧٢

والواو في : وأحب فيه ملامة يحتمل أن تكون واو الحال من غير تقدير المبتدأ على مذهب من يجوز موالاة المضارع المثبت واو الحال ، أو بتقدير المبتدأ على مذهب من لا يجوز ، أي : كيف أحبه مع حبي فيه الملامة ، فالمنكر في الحقيقة هو مصاحبة تلك الحال لا كونه يحبه ، مع مفارقة حبه لمضمون هذه الحال ، كما يقال : أتصلى وأنت محدث؟ فالمنكر هو وقوع الصلاة مع الحدث لا وقوع الصلاة من حيث هي ، وكما نقول أتتكلم وأنت بين يدي الأمير؟ فالمنكر هو كونه يتكلم مع كونه بين يدي الأمير ، ويحتمل أن تكون تلك الواو للعطف ، والعطف بالواو وإن كان لا يقتضي المعية ، لكن يقتضي الاجتماع في الحكم ، فحبه وحب اللوم فيه يقتضي عطف أحدهم على الآخر ، اجتماعهما في الوقوع من شخص واحد وهو الحكم ، وهذا الاجتماع هو محط الإنكار أي : كيف يجتمع حبه وحب اللوم في الوقوع منى؟ وهذا النوع الأحسن فيه بيان العلة ، بل لا بد فيه من بيانها ؛ لأنه إن لم يبينها فهو دعوى للنقض بلا بينة ، وهو غير مسموع ، فلو قال هنا : أأحبه وأحب فيه ملامة ، كان دعوى لعدم الصحة بلا دليل ولا يفيد ، بل الكلام المنقوض ينبغي فيه بيان العلة أيضا ؛ لأن هذا المنزع أخرج لباب المعارضة والإبطال ، وهو يفتقر لدليل التصحيح والإبطال ، فناسب الإتيان بالعلة من الطرفين ، فلا بد منها إلا أن تكون ظاهرة كقول أبي تمام :

ونغمة معتف جدواه أحلى

على أذنيه من نغم السماع (١)

والمعتفي الطالب ، والجدوى النفع ، والسماع أريد به ما يحسن سماعه كالعود ، ومعنى البيت أن هذا الممدوح لفرط محبته للكرم والإعطاء تصير عنده نغمة السائل لحب سؤاله لإعطائه أحلى من نغمات العود ونحوه ، وهذا الحكم علته ظاهرة ، وهى حب الإعطاء والكرم ، فإنه هو السبب في كون نغمة السائل كنغمة العود ، وقد ناقضه المتنبي بقوله :

والجراحات عنده نغمات

سبقت قبل سيبه بسؤال (٢)

__________________

(١) البيت لأبى تمام ، فى الإيضاح ص (٣٤٨) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨٠).

(٢) البيت للمتنبى ، فى الإيضاح ص (٣٤٨) ، وشرح المرشدى (٢ / ١٨٠).

٦٧٣

السيب هو العطاء ، فقد جعل المتنبي نغمات السؤال عند الممدوح تؤثر فيه وتؤذيه كالجرح ، وهو نقيض لاستحسانها ، وذلك حيث تسبق تلك النغمة سيبه أي : عطاءه ، والعلة أيضا ظاهرة وهى حبه الإعطاء بلا سؤال ، فلو سبقت نغمات السؤال عطاءه أثرت فيه تأثير الجرح ، فكأنه يقول : إذا كانت نغمة السؤال كالعود عند ذلك الممدوح فهمنا ممدوح النغمة عنده كالجرح ؛ لأنه يحب الإعطاء بلا سؤال ، فقد تناقض الكلامان وإن اختلفا علة ومحلا ، ووجه الكلام الذي هو نقيض للأول مأخوذ من ذلك الأول ، فإن المتبادر أن نقيض الشيء ينافيه ، لا أنه منه ولا هو هو بعينه ، ولم يزد إلا السلب في الإثبات أو العكس ، ونريد بالسلب والإثبات هنا الإتيان بالمنافي في الجملة ، وأيضا نقض الشيء فرع الشعور به ، فذلك الشيء هو الحامل على طلب النقيض فقد انتشأ النقيض عن الأول فافهم ، وانظر أي : المعنيين أبلغ التلذذ بلومه في المحبوب ، أو بغض اللوم في المحبوب والأظهر التلذذ باللوم ؛ لاقتضائه عدم الشغل عن حبه لعارض من العوارض ، ولو كان منافيا بخلاف بغض اللوم عند سماعه فإنه يقتضي شغل القلب ببغض اللائم والفناء في الحبيب مطلقا ، بحيث لا يحس إلا بحبه أعظم من العداوة بسببه.

الأخذ والتحسين

(ومنه) أي : ومن غير الظاهر (أن يؤخذ بعض المعنى) من الكلام الأول ويترك البعض ، ثم لا يقتصر في الكلام الثاني على ذلك (و) لكن (يضاف) إلى ذلك البعض المأخوذ (ما يحسنه) من المعاني ومفهوم هذا الكلام أنه إن لم يضف إليه شيء أصلا فظاهر ؛ لأن أخذ المعنى من الأول لا لبس فيه كلا كان أو بعضا ، فيعد من الظاهر ، وأما إذا أضيف إليه مالا يحسنه فالزيادة كالعدم فيكون المأخوذ ولو قل لا لبس فيه أيضا ، فيصير من الظاهر بخلاف البعض مع تزيينه بما أضيف إليه ، فإن ذلك يخرجه عن سنن الاتباع إلى الابتداع ، فكأنه مستأنف فيخفى ، ثم مثل لما ذكر وهو أن يؤخذ البعض مع إضافة ما يحسن به إليه فقال (كقول الأفوه : وترى الطير على آثارنا) (١) أي : تبصر الطير

__________________

(١) البيتان للأفوه الأزدى ، فى الإشارات ص (٣١٤) ، وعقود الجمان (٢ / ١٨٠).

٦٧٤

وراءنا تابعة لنا (رأي عين) أي : معاينة ، وإنما أكد قوله : ترى ، بقوله رأي عين ، لئلا يتوهم أنها بحيث ترى بالنسبة لمن أمعن النظر بتكلف لبعدها ، ولئلا يتوهم أن المعنى أنها لما تبعتنا كأنها رؤيت ، ولو لم تر لبعدها ؛ لأنه يقال : ترى فلانا يفعل كذا ، بمعنى أنه : يفعله ، فهو بحيث يرى في فعله لو لا المانع.

(ثقة) مصدر بمعنى اسم الفاعل وهو حال من الطير أي : تراها حال كونها واثقة ، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله من العامل المتضمن للمجرور الذي هو على آثارنا ، أي : ترى الطير كائنة على آثارنا ؛ لأجل وثوقها (أن ستمار) فكان ثقة على هذا جوابا لسؤال مقدر ؛ إذ كأنه قيل لماذا كانت الطيور على آثاركم؟ فقال : كانت على آثارنا وتبعتنا لثقتها بأن ستمار ، أي : بأنها ستطعم من لحوم القتلى ، يقال : ماره أتاه بالميرة ، أي : الطعام وأطعمه إياه ، هذا هو المأخوذ منه (وقول أبي تمام : وقد ظللت) (١) بالبناء للمجهول (عقبان) نائب فاعل ظللت ، أي : ألقي الظلل على عقبان (أعلامه ضحى) وإضافة عقبان إلى الأعلام من إضافة المشبه به إلى المشبه أي : الأعلام التي هي كالعقبان في تلونها وفخامتها ، فالمراد بالعقبان : الأعلام نفسها ، وقيل : الإضافة على أصلها من مباينة الأول للثاني ، والمراد بعقبان الأعلام الصور التي على حد الأعلام من ذهب أو فضة أو غيرهما ، وهذا يتوقف على أن تلك الصور صنعت على هيئة العقبان ولم يثبت (بعقبان) متعلق بظللت أي : ظللت عقبان الأعلام بعقبان (طير) لأنها لزمت فوق الأعلام ، فألفت ظلها على الأعلام ، ومن وصف عقبان الطير أنها (في الدماء نواهل) أي : نواهل في الدماء ، ونواهل جمع ناهل اسم فاعل من نهل إذا روى ضد عطش ، وهذه الحال يحتمل أن تكون على طريق التقدير أي : يؤول أمرها حال تظليلها الأعلام إلى أن تكون بعد أن تضع الحرب أوزارها ، أو بعد وقوع القتلى ، أو لها نواهل في الدماء ، فكأنه يقول : ظللنها لرجائها النهل في الدماء ، ويحتمل أن تكون حقيقة ، وأنها تلزم الأعلام حال كونها قد نهلت في الدماء ، ويلزم أنها شبعت من اللحوم وإنما لزمت حينئذ لتتوقى لحوم القتلى المتأخرة بعد شبعها من الأوائل والأول أنسب بحال الطير

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (٢٣٣) ، والإشارات (٣١٤) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).

٦٧٥

(أقامت) تلك العقبان (مع الرايات) أي : الأعلام وثوقا بأنها ستطعم لحوم القتلى ثانيا أو ابتداء على التقديرين (حتى كأنها* من الجيش) أي : لزمن الرايات ، حتى صارت من شدة اختلاطها برؤوس الرماح والأعلام من أفراد الجيش ، ومن أجزائه فلما صارت كأنها من أفراد الجيش حسن أن يقدر أنها أعانت الجيش وقاتلت معه فلذلك استدرك فقال (إلا أنها لم تقاتل) أي : لكنها لم تباشر القتال ، ثم بين ما أسقطه أبو تمام من المعنى الكائن في البيت المأخوذ منه ، وما زاده فحسن به أتى به من ذلك المعنى بقوله (فإن أبا تمام) أي : إنما كان كلام أبي تمام بالنسبة لكلام غيره السابق مما ذكرناه لان أبا تمام (لم يلم) أي : لم ينزل ولم يأت (بشيء من معنى قول الأفوه : رأي عين) الدال على كمال قرب الطير من الجيش بحيث ترى عيانا لا أنها ترى على سبيل التخيل ، بأن يكون ثم من البعد ما يوجب الشك في المرئي هل رئي أم لا؟ أو يوجب عدم الإبصار فيعود معنى الرؤية إلى ظن الوجود ، أو تيقنه.

وكون الطيور قريبة بحيث ترى معاينة يدل على أن كمال شجاعتهم وقتلهم للأعادي عادة مستمرة ، حتى صارت الطيور عند التوجه تتيقن ذلك ، وتهوى إلى قرب النزول ؛ لأن ما سيحصل عندها لاعتياده كالحاصل ، ولا ألم بشيء من معنى قوله ثقة أن ستمار الدال على مثل ما دل عليه رأي عين بل هذا أصرح في الدلالة ؛ لأن قربها بحيث ترى أنها هو للثقة بالميرة ، والثقة لاعتياد ذلك ، وكونه معتادا يدل على كمال الشجاعة والجراءة على القتل ، فكلا المعنيين يؤكد المقصود الذي هو الوصف بالشجاعة ويفيده ، واعترض قول المصنف أن أبا تمام لم يلم بمعنى رأي عين بأن قوله ظللت بعقبان طير ، يفيد قرب الطير من الأعلام ولذلك وقع ظلها عليها ، إذ لو بعدت عن الجيش ما وقع ظلها على الرايات ، ورد بأن وقوع الظل لا يستلزم القرب بدليل أن الظل للطير يمر بالأرض أو غيرها ويحسن ، وإن كان الطير في الجو بحيث لا يرى.

والحق أن وقوع الظل لا يستلزم القرب كما قيل : لصحة أن يبعد الطير في الجو ويظهر ظله ، وأما عدم استلزامه للرؤية فمحل نظر ؛ لأن الظل يضمحل بالبعد الكثير الذي يوجب عدم الرؤية ؛ ولذلك لم تحفظ رؤية الظل من غير رؤية صاحبه.

٦٧٦

وعلى هذا إذا كانت رؤية العين لا تستلزم القرب المفرط استوى المعنيان ، واعترض أيضا بأن قوله : حتى كأنها من الجيش ، قد يقال إن فيه إلماما بمعنى قوله رأي عين فإنها إنما تكون من الجيش إذا كانت قريبة منهم مختلطة معهم ، وإلا فالمنفصل عن الشيء البعيد عنه لا يعد من أفراده ، ويزيد هذا تأكيدا قوله : أقامت مع الرايات ؛ لأن صحبة الرايات في المكانية تستلزم القرب ، فلو جزم بأنه إلمام بمعنى رأي العين كان صوابا.

(ولكن) أي : أن أبا تمام لم يلم بشيء مما ذكر ، ولكنه (زاد عليه) أي : على الأفوه زيادة محسنة للمعنى المأخوذ من الأفوه وهو تساير الطير على آثارهم ، ووجودها معهم عند الزحف وفي وقته (بقوله) أي : زاد عليه بأمور ثلاثة أحدها قوله (إلا أنها لم تقاتل وبقوله) أي : وثانيها قوله (في الدماء نواهل وبإقامتها) أي : وثالثها قوله : أقامت (مع الرايات حتى كأنها من الجيش وبها) أي : وبهذه الزيادة الأخيرة من كلام المصنف وهي إقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش (يتم حسن) القول (الأول) في كلام المصنف أيضا وهو قوله إلا أنها لم تقاتل لأنه لو لم يقل أقامت مع الرايات حتى كأنها من الجيش بل قال :

لقد ظللت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدماء نواهل

ثم قال إلا أنها لم تقاتل لم يحسن ، وكذا لو قال : أقامت مع الرايات إلا أنها لم تقاتل لم يحسن ؛ لأن الاستدراك إنما يحسن فيما من شأنه أن يتوهم فيه خلاف المستدرك ، والذي يتوهم معه خلاف المستدرك مما ذكر هنا هو أنها أقامت مع الرايات حتى صارت معدودة من الجيش مظنونة منه ، بناء على أن كأن في قوله : كأنها من الجيش لظن الوقوع ، ويكون ادعائيا هنا أو أنها شبيهة بأفراد الجيش بناء أن كأن للتشبيه أي : كأنها فرد من أفراد الجيش ، فيحسن توهم كونها تقاتل ، حيث ظنت من الجيش ، أو حيث شبهت بفرد من أفراده ، إذ من جملة ما يحتمل من أوجه الشبه كونها مقاتلة وقد تقدمت الإشارة لهذا.

٦٧٧

فإذا حسن تخيل قتالها حسن استدراك أنها لم تقاتل ، وأما كونها مع الرايات نواهل في دماء القتلى وتظليها الأعلام فلا يحسن معه تخيل قتالها ، كالجيش إذا نظر إلى ما ذكر من حيث هو ، وإن روعي أن كونها مع الرايات نواهل في الدماء وتظليها لها يوجب اختلاطها مع الجيش ويشعر بها ، وذلك يقتضي عدها منه ، وتخيل قتالها أمكن الاستدراك باعتبار هذا اللزوم ، ولكن لا يحسن الاستدراك كحسنه في التصريح بكونها من الجيش ، لخفاء هذا اللزوم ؛ ولأن الاستدراك لا يتكل فيه غالبا على اللزوم والذوق السليم شاهد صدق على عدم حسنه كحسنه مع ذكر كونها من الجيش وقيل إن الضمير في قوله : بها عائد إلى الأمور الثلاثة التي ذكرها المصنف وهى التي زادها أبو تمام وأن المراد أن بتلك الأمور حسن معنى البيت الأول أي : المعنى الذي أخذه أبو تمام من بيت الأفوه الأول ، وهو تساير الطيور على آثارها واتباعها إياهم في الزحف ، وفيه تكلف ؛ لاحتياجه إلى التقدير ، وإيهامه أن حسن معنى البيت الأول متوقف من حيث هو على هذه الزيادات ، وفيه مخالفة لما في الإيضاح أيضا.

فإن قلت : ما وجه تحسين هذه الأمور للمأخوذ من الأفوه؟ قلت : إقامتها مع الرايات وكونها مختلطة بالجيش يفيد المقصود من كمال شجاعتهم ، وأن الطيور دائما تثق بهم في القتل ، وتشبع من قتلاهم ، والاستثناء يزيد حسنا لمناسبته ، ولكن هذا يفيد الإلمام بمعنى رأي العين ، والوثوق بالميرة كما تقدم.

ولا يناسب كلام المصنف إلا أن يقال : معنى قوله لم يلم أنه لم يأت بذلك على وجه ، بين بل يحتاج إلى تأويل ، وفيه ضعف ، والأحسن بناء على كلام المصنف أن يقال في الجواب : إن ذكر كونها نواهل في الدماء يفيد أنها لا تتكلف أكل اللحم ؛ لكثرة القتلى بل تكتفي باحتساء الدماء وما في معناها مما يسهل كالكبد والطحال.

وفي ذكر كونها مقيمة مع الرايات حتى كأنها من الجيش حكاية لحال عجيبة من الطيور مع الجيش في تظليلها الجيش حتى كأنها مسخرة لهم ، كما سخرت لسليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام ، مع زيادة أن ذلك ضحى ، والمعهود أن الطير تقيل ضحى ، فقد اتضح وجه كون تلك الزيادة مفيدة لحسن المأخوذ ، فإن قلت أي

٦٧٨

فائدة لزيادة قولك إثر ما تقدم من الأبيات : هذا هو الأول المأخوذ منه ، وهذا هو الثاني المأخوذ ونحو هذا مما تقدم فإنه معلوم أن الأول أول ، والثاني ثان؟ قلت : المراد بيان أنه الأول في نفس الأمر ، والثاني في نفس الأمر ، ولا يلزم من كونه أول في الكلام أو ثانيا كونه كذلك في نفس الأمر ، وإن كان ذلك يؤخذ بطريق المناسبة ، والخطب سهل ، لأن هذا الكتاب مبنى على قصد كمال البيان. والله الموفق بمنه وكرمه.

(وأكثر هذه الأنواع) المذكورة لغير الظاهر (ونحوها) أي : ونحو هذه الأنواع (مقبولة) لما فيها من نوع تصرف ، والظاهر أن نحوها معطوف على هذه أي : وأكثر نحو هذه الأنواع مقبول وهذا الكلام يقتضي أن من هذه الأنواع ما هو غير مقبول وإن من نحو هذه الأنواع ما هو غير مقبول أيضا ، وتعليلهم المقبول بوجود نوع تصرف فيه يقتضي قبول جميع أنواع غير الظاهر ، أعنى ما ذكر منها ، وما هو نحو ما ذكر ، ويؤيد ذلك أن الظاهر يقبل بالتصرف فكيف بغير الظاهر ، ولا يقال لا يلزم من خفاء الأخذ حسن الكلام ؛ لصحة قبحه من عدم استكماله شروط البلاغة أو الحسن لأنا نقول : كلامنا فيما يوجب القبول باعتبار المأخوذ منه احترازا مما ظهر أنه سرقة ، وأقسام غير الظاهر كلها كذلك ، وعروض عدم القبول من جهة أخرى لا بحث لنا عنه الآن وبهذا يعلم أن الأولى أن يقال : إن هذه الأنواع ونحوها مقبولة ، وكون التعبير بالكثرة لاعتبار ما يعرض من الرد العارض فيه ضعف ؛ لما ذكرنا أنه لا بحث لنا عن ذلك الآن.

حسن التصرف

(ومنها) أي : ومن هذه الأنواع التي تنسب لغير الظاهر مطلقا لا بقيد كونها مذكورة (ما أخرجه حسن التصرف) الواقع من حذق الآخر ، ومعرفته كيفية التعيين (من قبيل الاتباع إلى حيز الابتداع) فإن حسن الصنعة يصير المصنوع غير أصله حتى في المحسوسات ، فإن الشيء كلما ازدادت فيه لطائف وأوصاف كان أقرب إلى الخروج عن الأصل والجنس ألا يرى إلى الجوهر مع الحجر ، والمسك مع الدم (وكل ما كان) الكلام المأخوذ من غيره (أشد خفاء) من مأخوذ آخر ، وذلك بأن يكسى من التصرف وإدخال اللطائف ما أوجب كونه لا يفهم أنه مما أخذ منه ، وأن أصله ذلك المأخوذ منه

٦٧٩

إلا بعد مزيد التأمل وإمعان النظر (كان أقرب إلى القبول) مما ليس كذلك ، وذلك أنه يصير بتلك الخصوصيات المزيدة أبعد من الاتباع ، وأدخل في الابتداء ؛ لما ذكرنا. وتقرر أن زيادة اللطائف تخرج عن الجنس ، ألا ترى إلى قول أبي نواس :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

مع أصله فيما تقدم وهو قوله :

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلهم غضابا

فإنه لا يفهم أن الأول من الثاني إلا بإمعان النظر ، واعتبار اللوازم كما تقدم ، وذلك أنه أخذ مجرد إقامة الشيء مقام الكثير فكساه بكسوة أرفع من الأولى ، وجعل ذلك منسوبا لقدرة القاهر الحكيم ، وإنه لا يستنكر منه جعل ذلك في فرد واحد من جميع العالم ، فكان أبعد من إقامة بنى تميم مقام الناس في الغضب والرضا.

(هذا) الذي ذكر في الظاهر وغيره من ادعاء سبق أحدهما للآخر ، وادعاء أخذ الثاني من الأول ، وحينئذ يتفرع على ذلك كون الثاني مقبولا أو مردودا ، ويتفرع على ذلك أيضا تسمية كل من الأقسام السابقة بالأسامي المذكورة (كله) أي : كل ذلك إنما هو (إذا علم أن الثاني أخذ من الأول) يعنى أن جعل الكلام الثاني سرقة ومأخوذا من الأول ، إنما يترتب ويحكم به فيتفرع عليه كونه مقبولا أولا ، وتسميته بما تقدم إن علم أن الثاني أخذ عن الأول إما بإخباره عن نفسه أنه أخذ ، أو يعلم أنه كان حافظ للكلام الأول قبل أن يقول هذا القول الثاني ، واستمر حفظه إلى وقت نظمه هذا الثاني ، كأن يشهد شاهد أنه أنشد له الكلام الأول قبل قوله إنشادا أيظن به حفظه واستمراره إلى وقت النظم ، وإنما اشترط استمرار العلم إلى وقت القول ؛ لأنه إن ذهب عن الحافظة جملة فينبغي أن يعد من توارد الخواطر ، وإن كان أقرب إلى الأخذ من محض التوارد.

وأما إن لم يعلم أخذه من الأول ، ولا ظن ظنا قريبا من العلم فلا يحكم على الثاني بأنه سرقة ولا أخذ ، لا بالقبول ولا بعدمه ، وذلك (لجواز أن يكون الاتفاق) بين القائل الأول والثاني في اللفظ والمعنى أو في المعنى وحده كلا أو بعضا (من توارد الخواطر أي : مجيئه) أي : الخاطر (على سبيل الاتفاق من غير قصد) أي : بلا قصد من الثاني (إلى

٦٨٠