مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

الفواصل والأسجاع من واد واحد فيبقى ذكر القوافي ويدل على أنه ليس مرادا أنه لو أراد ما ذكر لكان المناسب أن يقول : ما ليس بلازم فيهما بالإضمار ، والروي في البيت هو الحرف الأخير من القافية الذي تنسب إليه القصيدة ، فيقال هذه القصيدة رائية إن كان حرف قافيتها راء أو لامية إن كان لاما أو دالية إن كان دالا ، وهكذا جميع الحروف وهو مأخوذ إما من رويت الحبل إذا فتلته لأنه يجمع بين الأبيات كما أن الفتل يجمع بين قوى الحبل أي : طاقته وهي خيوطه المعدة لفتله ، والغالب أن يكون كل منها مجموعا من عدة خيوط ، وإما مأخوذ من رويت البعير إذا شددت عليه الرواء بكسر الراء وهو الحبل الذي يجمع بين الأحمال ، لجمع الحرف بين الأبيات أو من رويت إذا شربت حتى أذهبت العطش ؛ لأن الحرف إذا وجد في القصيدة على وجهه أغنى عن طلب غيره ، ولذلك كان الإتيان بآخر قبله من لزوم ما لا يلزم ثم المراد بالإتيان بحرف آخر قبل الروي أو قبل ما يجري مجراه أن يؤتى به في بيتين أو في فاصلتين فأكثر كما سيأتي في التمثيل ؛ لأنه لو لم يشترط وجوده في أكثر من بيت أو فاصلة لم يخل بيت أو فاصلة منه ؛ لأنه لا بد أن يؤتى قبل حرف الروي بحرف لا يلزم في السجع فقوله مثلا :

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل (١)

قد جيء قبل الروي بالميم وهي حرف لا يلزم في السجع ، وعليه يكون البيت من هذا النوع وليس كذلك وإنما الإتيان المذكور من هذا النوع إن التزم في بيتين فأكثر أو في فاصلتين فأكثر واللزوم في السجع هو حرف واحد آخر تبنى عليه الفواصل ، ولا يشترط بناؤها على حرف آخر يلتزم فيها كما التزم هو فلزوم ما لا يلزم هو لزوم حرف آخر في بيتين أو في فاصلتين فأكثر قبل الأخير كما التزم ذلك الأخير وقد فهم من هذا أنه يجري في الشعر والنثر فهو في النثر (نحو) قوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٢) فالراء في تقهر وتنهر بمنزلة الروي من القافية في التواطؤ على الختم به وهو كاف في باب السجع في الفواصل إذ لا يشترط فيه إلا

__________________

(١) البيت لامرئ القيس في معلقته المشهورة ، وديوانه ص (١١٠) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٩٢).

(٢) الضحى : ٩ ـ ١٠.

٦٤١

التواطؤ في الحرف الواحد وقد جاء قبل تلك الراء فيهما هاء فكان التزام الهاء في الفاصلتين من التزام ما لا يلزم فيهما ؛ لتحقق السجع بدون تلك الهاء ، كما لو ختمت فاصلتين بتقهر ويسخر فإنه سجع ولو اختلف الحرف الذي قبل الآخر (و) أما التزام ما لا يلزم في النظم فك (قوله : سأشكر عمرا) (١) يقال شكرته أي : شكرت نعمته ويقال شكرت له نعمة فهو يتعدى إلى النعمة بنفسه وإلى صاحبها باللام ، وقد يتعدى إلى صاحبها بتقديرها فكأنه هنا يقول سأشكر نعم عمرو (إن تراخت منيتي) أي : إذا تأخرت مدتي وطال عمري شكرت عمرا أي : أديت حق شكر نعمه بالمبالغة في إظهارها ، وفي الثناء عليه بها وخدمته عليها فالمراد بالشكر الموعود به أكمله بالمبالغة ، وإلا فقد شكرها بذكرها وحبه عليها وثنائه عليه بها (أيادي) جمع أيد والأيدي جمع يد وهي النعمة فهو جمع الجمع وهو بدل اشتمال من عمرو بتقدير الرابط أي : سأشكر عمرا أشكر أيادي له (لم تمنن) أي : لا يمنن عمرو بتلك الأيادي ولا يذكرها ممتنا بها (وإن هي جلت) أي : وإن عظمت ما عظمت ويحتمل أن يريد لم تقطع بل تسترسل منه من المن الذي هو القطع فالمعنى أشكر أيادي عمرو التي لم تمنن أي : لم تقطع ، أو لم انخلط بمن أي : بذكره لها على وجه المنة وإن عظمت ما عظمت فإنه لا يقطعها ولا يمن بها (فتى) أي : هو فتى من صفته أنه (غير محجوب الغنى عن صديقه) أي يصل غناه كل صديق له ، ولا يستقل به عن الأصدقاء (ولا مظهر الشكوى) أي : وهو غير مظهر الشكوى (إذا النعل زلت) أي : يتجمل بالصبر والتحمل إذا وقعت شدة ، أو نزلت محنة وشر ، يقال : زلت النعل إذا نزلت مصيبة فزللت النعل كناية عن الوقوع في الشدة ، وصفه بنهاية كمال المروءة وحسن الطبع ، وأنه لا يتضعضع للشدائد ولا يشكوها إلا لله تعالى وينزه أخلاءه عن مشاركته في الشدة ويؤثرهم حيث ترك التشكي لهم بخلوهم عن معاناة مضايقه ، وأنه إذا كان في الغنى لم يستأثر به على الأحباء بل يعمهم به ويكرمهم بالتمتع في لذائذه على طريقة قوله : إذا افتقر الحر لم ير فقره

__________________

(١) الأبيات لعبد الله بن الزبير فى ديوانه ص (١٤٢) ، وهما فى ديوان إبراهيم بن العباس الصولى فى الطرائف الأدبية (١٣٠) ، وفي التبيان للطيبى (١ / ١٤٧) ، وشرح عقود الجمان (١ / ٥٢) ونسبهم إلى أبى الأسود الدؤلى.

٦٤٢

وإن أيسر الحر أيسر صاحبه (رأى خلتي) بفتح الخاء أي : فاقتي وحاجتي (من حيث يخفى مكانها) ورؤية الخلة : رؤية آثارها ، أو المراد العلم بها وكونه يراها مع أن صاحبها يخفي مكانها بالتجميل وإظهار آثار الغنى يدل على شدة الاهتمام بأمر الأصحاب حتى يطلع على أسرارهم في ضررهم قصدا لرفعتهم (ف) لما رأى خلتي (كانت قذى عينيه) أي كالقذى في عينيه وهو العود الواقع في العين وهو أعظم ما يهتم بإزالته ؛ لأنه واقع في أشرف الأعضاء (حتى تجلت) أي : لم تزل الفاقة كالقذى لديه حتى أجلاها أي : أذهبها ، فتجلت أي : ذهبت ، فقد وصفه بنهاية المروءة حتى إن فاقة أصحابه لديه بمنزلة العود الواقع في أشرف أعضائه حتى يزيلها ويكشفها فتكشفت بإصلاحها بالأيادي النافية لها ، وفي هذا الكلام من القوة ما لا يخفى بحرف الروي هو التاء وقد جيء قبله بلام مشددة مفتوحة في هذه الأبيات ، والإتيان بها ليس بلازم في السجع فكان من التزام ما لا يلزم ، فإنك لو ختمت قرائن فتجلت ، ومدت ، وحقت ، وانشقت ونحوها كان توافق فواصلها في التاء سجعا وإن اختلفت فيما قبلها ومن أمثلة التزام ما لا يلتزم في الشعر قوله :

يقولون في البستان للعين راحة

وفي الخمر والماء الذي غير آسن (١)

إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها

ففي وجه من تهوى جميع المحاسن

ثم التزام ما لا يلزم إما في الحرف والحركة معا ـ كالمثالين ـ وإما في الحرف فقط كما لو ختمت بيتا بتمر وآخر بنمر وإما في الحركة فقط بأن تكون متحدة مع اختلاف الحرف كقوله :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد (٢)

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأوسع مما كان فيه وأرغد

__________________

(١) البيتان للمعرى ، فى الإيضاح ص (٢٣٦).

(٢) البيتان لابن الرومى.

٦٤٣

ولما فرغ مما قصد الإتيان به من البديع اللفظي أشار إلى نكتة تصحح الحسن بهذا البديع فقال (وأصل الحسن في ذلك كله) أي : الأمر الذي لا بد أن يحصل ليحصل الحسن في جميع المحسنات اللفظية كما يقال أصل الجود الغنى ، أي : الأمر الذي لا بد أن يحصل ليحصل الجود ، وإطلاق الأصل على شرط الشيء صحيح لتوقف المشروط على الشرط كتوقف الفرع على الأصل (أن تكون الألفاظ) أي : الأصل في ثبوت الحسن بما ذكر هو أن تكون الألفاظ (تابعة للمعاني) ، وذلك أنه إذا كان المقصود بالذات الحسن المعنوي أي إفادة معنى يطابق فيه اللفظ مقتضى الحال ، ويكون فيه فصيحا فحينئذ يكون الإتيان بالمحسنات اللفظية مقبولا (دون العكس) أي : دون أن يكون الحسن اللفظي أي البديع اللفظي هو الأصل ويكون الحسن المعنوي تابعا له ؛ لأنه إذا اختل موجب البلاغة بطل التحسين اللفظي ، فهذا الكلام تذكرة لما تقدم من أن وجوه البديع إنما تعتبر بعد وجود البلاغة التي لها تعلق بالمعنى ، وبالحسن الذاتي ، وعليه يقال ينبغي أن لا تخص المحسنات اللفظية بالذكر ، بل وكذلك البديع المعنوي إنما يعتبران وجد الحسن الذاتي المتعلق بالمعنى الأصلي ؛ ولكن لما كان الغلط في التعلق بالمحسنات اللفظية أكثر نبه عليه دون المعنوية هذا إن جعلنا الإشارة لأقرب مذكور ، وهو المحسن اللفظي ، ويحتمل أن تكون لمطلق البديع فلا يرد ما ذكر ، ويلزم من كون المقصود بالذات المعنى ، وقصد إفادة ما يطابق الحال كون الألفاظ غير متكلفة بل تأتي بها المعاني حيث تركت على سجيتها التي تنبغي لها من المطابقة ؛ لأن ما لا يقصد بالذات لا تكلف فيه ، وإذا لم تتكلف جاء الكلام حسنا وتبعا ؛ لأن مقتضى الحال طلب حسنا ذاتيا فاعتبر في اللفظ بالأهمية فتكمل كما ينبغي فإذا جاء حسن زائد على الذاتي وهو البديعي صار ذلك الحسن البديعي تابعا للذاتي فيبقى كل منهما على سجيته وأصله ، ولم يتحول الكلام بالنسبة لأحدهما فحسن ويلزم من جعل الحسن اللفظي أو البديعي مطلقا هو المقصود بالذات كون الألفاظ متكلفة مطلوبة ويتحقق في ضمن ذلك الإخلال بما يطلب للمعاني فتكون تلك المطالب غير مرعية في تلك المعاني ، إذ القصد بالذات تلك الألفاظ البديعية وإيجادها لا الحسن المعنوي فربما لم تخل الألفاظ حينئذ من خفاء الدلالة حيث تكون

٦٤٤

كناية أو مجازا أو من ركاكة حيث تكون حقيقة بألا يراعى فيها الاعتبار المناسب ، فتصير الألفاظ البديعية في تلك المعاني كغمد من ذهب ركب على سيف من خشب ، وقلائد الدر في أعناق الخنازير.

وإذا كان الواجب هو أن يكون المقصود بالذات الإتيان بألفاظ تطابق في دلالتها مقتضى الحال وتفيد معنى يناسب الواقعة الفعلية الخارجية ، فلا يشك أن الأحوال التي تساق لها المعنى لا تنضبط لكثرتها فبرعاية المعاني التي تناسب الوقائع على تفاصيلها فيه تظهر البلاغة والقوة ، والبراعة ، ويتبين الكامل من القاصر ، ولهذا يكون الإنسان له قدرة على إيجاد ألفاظ لمعان تحسن تلك الألفاظ في تلك المعاني بعد إيجادها فيها ، وفي أحوال تناسبها ، ولكن تلك الأحوال لم تقع بعد بل هي أمور فرضية فتصير رعاية الحال تابعة للحسن اللفظي لأن الحال المناسبة اجتلبت بعد الحسن اللفظي ، والواجب كون الحسن اللفظي تابعا لرعاية الحال الواقعة ، ومع ذلك لا تكون له قوة على إيجاد ألفاظ لمعان تطابق الحال الحاضرة ، والحالة الراهنة ، ولهذا لما رتب الحريري في ديوان الإنشاء أي : كلف إنشاء معان بألفاظ تطابق بتلك المعاني المدلولة مقتضى الحال وتكون مع ذلك مع بديعياتها عجز وقد كانت له قوة وكمال في إنشاء ألفاظ لمعان مع بديعاتها تناسب أحوال مقدرة تجتلب كما أراد فقال فيه ابن الخشاب حينئذ : الحريري رجل المقامات أي : رجل له قدرة على المعانى المستحسنة المطابقة للتقدير لا المعانى المطابقة للواقع لأن المقامات حكايات تقديرية فإذا رام إيجاد البديعيات مع المناسبة البلاغية تأتت له بفرض المستحيلات وفرض ما لم يقع وبين هذا وبين ما إذا أمر أن يكتب في قضية عينية واقعة ما يناسبها بون بعيد فإن هذا أخص يلزم من القدرة عليه القدرة على الأول دون العكس ؛ لأن الأول من كتابة ما يريد الإنسان ويخترعه وهو سهل التناول بالتجربة ، والثاني من كتابة ما يؤمر به وهو صعب إلا على الأقوياء ، ولهذا استحسن ما قيل في الترجيح بين الصاحب والصابي أن الصاحب يكتب كما يريد بتقديره والصابي يكتب كما يؤمر وقد عرفت أن بين الحالين بونا بعيدا ألا ترى إلى الصاحب ، فإنه طلب أن يجانس بين قم ـ الذي هو فعل أمر ـ وقم ـ الذي هو اسم

٦٤٥

مدينة ـ فلما لم يتيسر له معنى مطابق لمقتضى الحال واقع في نفس الأمر يكون اللفظ فيه بليغا أنشأ العزل بلا سبب لقاضي تلك البلدة فكتب إليه أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم ففطن القاضي بأنه لا غرض في المعنى وأنه لا يناسب حاله وحال الملك فصار الكلام فيه كالهزل فقال القاضي والله ما عزلني إلا هذه السجعة فإن قلت عند تقدير الحال نظير الحاضرة فإنشاء ما يطابقها كإنشاء ما يطابق الحاضرة فلا فرق بين الحالين قلت : هناك اعتباران أحدهما : أن يفرض الحال أولا فكأنه يقول : كيف تخاطب من وقع له كذا؟ فلا شك أن من له قوة على الأحوال التقديرية على هذا الوجه عموما تكون له في الوقائع الحاضرة غالبا ، والآخر إيجاد اللفظ ثم يفرض له ما يطابق ولو لم يقع ، وهذا هو الأسهل كما وقع للملك مع القاضي ، وبهذا يعلم أن الحريري لا ينبغي أن يقال إن عجزه لما ذكر بل الغالب أن ذلك لحياء عرض أو نحو ذلك وإلا فالأقرب أنه إنما كان يأتي بما يناسب بعض التقدير الذي هو بمنزلة الإتيان للحالة الراهنة فافهم.

٦٤٦

خاتمة

أي : هذه خاتمة للفن الثالث وليست خاتمة لما ذكر في الكتاب الشامل للفنون الثلاثة إذ لا يرجع معناها إلى ما تشترك فيه الفنون الثلاثة أو ينفع فيها حتى تكون خاتمة لمجموع ما في الكتاب وسنقرر ذلك قريبا ثم بين موضوع هذه الخاتمة بذكر ما يبحث عنه فيها بقوله (في السرقات الشعرية) أي : هذه الخاتمة يبحث فيها عن السرقات الشعرية ببيان كيفية ذلك وبيان المقبول من ذلك وغيره فصار المبحوث عنه فيها متوهم الظرفية لها فهي في السرقات الشعرية (و) في (ما يتصل بها) أي : بالسرقات الشعرية كالاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح ، وستأتي معاني هذه الألقاب ، ووجه اتصال هذه بالسرقات كون كل من القبيلين فيه إدخال معنى كلام سابق في لاحق (و) هي أيضا في (غير ذلك) أي يذكر في الخاتمة ما ذكر من السرقات وما يتصل بها ، ويذكر فيها غيرهما مما فيه حسن غير ذاتي مثلهما وذلك كالقول في الابتداء والتخلص منه إلى غرض آخر ، وكالقول في الانتهاء ، وذلك ببيان أن هذه المواطن ينبغي أن يعتني بها ، ويزداد الكلام بها حسنا وإنما جمع هذه الأشياء في الخاتمة ، ولم يجعلها بابا من البديع أو يجعل كل واحد منها بابا على حدة لوجهين أحدهما أن كلا منهما ليس أمرا يعم كل كلام ويغلب مكان جريانه في كل موطن أما في السرقات فظاهر لخروج النثر ، وكذا فيما يتصل بها لاختصاصها بالأخذ عن الغير ، وأما في الابتداء والانتهاء والتخلص فلخروج ما ليس في تلك المحال وهذا الوجه بعينه يمكن أن يجعل هو السر في جمعها لاشتراكها فيه ، والوجه الثاني أن الحسن فيها دون الحسن في غيرها مع سهولة التناول فلم تجعل بابا لقلة الاهتمام بشأنها ويسرها باعتبار غيرها وإن كان الناس يهتمون بأمورها أما في السرقات فلما علم من أن الابتداع أرفع وأصعب من الاتباع وإن كان فيه تغيير ما وكذا فيما يتصل بها ، وأما في الابتداء وما والاه فلما علم من أن رعاية تمام الحسن في جميع أجزاء الكلام أعلى وأصعب ويمكن جعل هذا أيضا هو السر في جمعها ، وإنما جعلت هذه الخاتمة المشتملة على ما ذكر من هذا الفن الأخير دون مجموع ما في الكتاب كما جعلها بعضهم لوجهين أحدهما : أن المصنف ـ وهو من أرباب الفن ومما

٦٤٧

يقتضي به في مداركه ـ جعلها في الإيضاح من هذا الفن حيث قال في آخر المحسنات اللفظية هذا ما تيسر لي بإذن الله تعالى جمعه ، وتحريره من أصول الفن ، يعني : من مسائل هذا الفن الثالث وبقيت أشياء يعني : مما تعد منه يذكرها بعض المصنفين في علم البديع وهو أي : ما يذكره بعض المصنفين قسمان أحدهما ما يجب ترك التعرض له أي : ترك عده من هذا الفن وإن ذكره ذلك البعض ووجوب ترك التعرض له إما لكونه غير راجع إلى تحسين الكلام أصلا ، وإنما يعد من هذا الفن ما يرجع لتحسين الكلام حسنا غير ذاتي ، وهذا قسمان ؛ لأنه إما راجع إلى تحسين الخط على تقدير كونه فيه حسن كما تقدم في جناس الخط كما في ما بين يشفين ويسقين ، ويجري مجرى هذا أن يؤتى بقصيدة أو رسالة حروفها كلها منقوطة أو كلها غير منقوطة ، أو حرف بنقط وحرف بدونه ، أو كلمة بنقط كل حروفها وأخرى بدون ... ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن هذا يرجع إلى الشكل المرئي لا المسموع والحسن المسموح هو المعتبر ، ومع ذلك لا يتعلق به غرض البلغاء غالبا ، والثاني من قسمي هذا القسم ما لا يسلم كونه حسنا أصلا بل المعتبرون من الفصحاء جازمون بإخراجه عن معنى الحسن كموالاة كلمة لمثلها على غرضين ؛ كأن تقول جاءني غلام زيد زيد حقيق بالإحسان وكذكر موصوف ثم تذكر له أوصافا عديدة كأن يقال جاءني زيد تاجرا عاقلا كبير السن عالما بالفقه فهذا مما يجزم بأنه لا يعد من المحسنات ، وإما لكونه راجعا إلى تحسين الكلام لكن ذكر فيما تقدم من الإطناب والإيجاز والمساواة فقد تقدم أن بعض تلك الأشياء قد يكون من المحسنات عند كونها لم يعتبر فيها مطابقتها المقضي الحال فذكرها هنا خلو عن الفائدة لتقدم صورتها هنالك نعم ، لو ذكرت فيها هذه النكتة وأنها يصح أن تكون من البابين بالاعتبارين حسن ؛ لكن لا يختص ذلك بها وإما ذكرها على أنها من هذا الفن جزما فهو خلو عن الفائدة والثاني مما يذكر في هذا الفن مما بقي ما لا بأس بذكره منه لاشتماله على فائدة مع عدم دخوله فيما سبق مثل القول في السرقات الشعرية ، وما يتصل بها هذا كلام المصنف مع زيادات تتعلق بمعنى كلامه وهو يدل على أن هذه الأشياء من هذا الفن لقوله بقيت أشياء منه ، ولا يضر ذلك بحثه في بعضها وإسقاطها منه ؛ لأن كلامه يقتضي

٦٤٨

تسليمه كون هذه الأشياء المضمومة للخاتمة منه وهذا الوجه كاف أعني كون المصنف عدها منه ؛ لأنه من أهل الفن المقتضى بهم في مداركه كما ذكرنا ، والوجه الثاني مما يدل على أنها منه ما أشار إليه بقوله غير راجع إلى تحسين الكلام وهو أن هذه الأمور ترجع كما أشرنا إليه أولا إلى حسن غير ذاتي وكل ما فيه حسن غير ذاتي فهو داخل في حد هذا الفن الثالث ، ثم مهد لبيان السرقات وما يقبل منها قوله : (اتفاق القائلين) هو بصيغة التثنية ، لا بصيغة الجمع ، يعني أنه إذا قال قائلان قولا ، وإنما أعربناه مثنى ؛ لأن ذلك يكفي ولا حاجة لزيادة قائل على اثنين في المراد ؛ لأن الغرض هو النظر فيما بين كل اثنين باتفاقهما (إن كان في الغرض) الكائن (على) وجه (العموم) بأن يكون ذلك الغرض مما يتناوله ويقصده كل أحد (كالوصف بالشجاعة و) كالوصف ب (السخاء) وحسن الوجه وبهائه ، ونحو ذلك كاعتدال القامة وسعة العين (فلا يعد) الاتفاق على هذا الوجه (سرقة) إذا نظر فيه باعتبار شخصين تقدم أحدهما وتأخر الآخر ، وكما لا يعد ذلك الاتفاق سرقة لا يعد استعانة بأن يعتقد أن الثاني منهما استعان بالأول في التوسل إليه ، ولا أخذا بأن يدعى أن أحدهما أخذه من الآخر ولا نحو مما يؤدي هذا المعنى كالانتهاب والإغارة والغصب والمسخ وما أشبه ذلك مما يأتي من الألقاب وإنما قلنا إن هذه الألقاب تؤدي المعنى الواحد لأنها كلها تشترك في الاستناد إلى الغير في التوصل وإنما اختلفت معانيها باعتبار العوارض على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وإنما لم يعد الاتفاق في الغرض على العموم من السرقة وما يرجع إليها (ل) أجل (تقرره) أي تقرر ذلك الغرض العام (في العقول) جميعا (و) في (العادات) جميعا فلم يخص ابتداعه بعقل مخصوص حتى يكون غيره آخذا له منه ولا بعادة وزمان حتى يكون أرباب ذلك الزمان مأخوذا منهم وعموم العقول يستلزم عموم العادات والعكس ، فالجمع بينهما تأكيد ، ولما استوت فيه العقول والعادات اشترك فيه الفصيح والأعجم وهو ضد الفصيح هنا ، واستوى فيه الشاعر ، والمفحم بفتح الحاء وهو ضد الشاعر أي الذي لا قدرة له على الشعر فلا يكون فيه أحد العقلاء أغلب لتساويهم فيه ، ولا أقدم ينقل عنه لعدم

٦٤٩

اختصاصه به دون من قبله ، وبعده ثم الاتفاق في نفس الغرض على العموم يتضمن شيئين :

أحدهما : كون الاتفاق في الغرض لا في الدلالة عليه بل الدلالة عليه من الجهة المعهودة للاتحاد ، وهي الدلالة بالحقيقة.

وثانيهما : كون الغرض عام الإدراك فيخرج به الغرض الخاص أي : المعنى الدقيق الذي لا يستخرجه إلا الأذكياء وإن كانت الدلالة عليه بالحقيقة لا بالمجاز كما في نحو حسن التعليل فإن قوله :

ما به قتل أعاديه ولكن

يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب

معنى لطيف مدلول عليه بالحقيقة ، ومن المعلوم أن الأغراض ، أي : المعاني الدقيقة مما يتفاوت الناس في إدراكها ، فيمكن أن يدعى فيها السبق أي : الغلبة أو التقدم والزيادة وعدم ذلك ، ولكن هذا المعنى لم يتعرض له المصنف هنا ؛ لأنه معلوم لا تفصيل فيه ، وإنما تعرض لمفهوم الاتفاق في نفس الغرض ، وهو اتفاق في الدلالة على الغرض لما فيه من التفصيل ، وإليه أشار بقوله (وإن كان) أي : الاتفاق القائلين لا في نفس الغرض ، بل (فى وجه الدلالة) أي : طريق الدلالة على ذلك الغرض بأن يكون أحد القائلين دل على الغرض بالحقيقة (كالتشبيه) بالنسبة لإثبات الغرض الذي هو ثبوت وجه الشبه ، أو فائدته ، والآخر كذلك أو دل عليه أحدهما بالتجوز أو الكناية ، والآخر كذلك ، ثم عطف على قوله كالتشبيه قوله (وكذكر هيئات) أي : ذكر أوصاف (تدل على الصفة) التي هي الغرض (ل) أجل (اختصاصها) أي : اختصاص تلك الهيئات (بمن) أي بموصوف (هي) أي : تلك الصفة التي هي الغرض (له) أي لذلك الموصوف ؛ فيلزم أن تكون تلك الهيئات مستلزمة للصفة التي هي الغرض ، والانتقال من الملزوم إلى اللازم كناية ؛ فعلم أن ذكر الهيئات داخل فيما يقابل الحقيقة الممثل لها بالتشبيه ، وذلك المقابل هو مطلق التجوز الشامل للكناية ، ثم مثل لذكر الهيئات ؛ لينتقل منها إلى الغرض فقال (كوصف الجواد) أي ذات الجواد ، لا من حيث ما يشعر بالجود (بالتهلل) أي : بكون الوجه فرحا مسرورا (عند ورود العفاة) جمع عاف وهو السائل ، فإن هذه الهيئات ـ

٦٥٠

أعني ـ كون الإنسان متهلل الوجه ، وكون ذلك التهلل بسبب ، وكون ذلك السبب هو ورود السائلين ينتقل منها إلى الوصف بالجود ، فالوصف بالهيئات لذات الجواد ؛ لينتقل منه إلى وصفه بالجود لا بما يشعر بالجود حتى يكون الانتقال غير مفيد ، ويجري مجرى ذلك ذكر الهيئة الواحدة وإنما جمعها باعتبار كون الجمع أظهر ، كما في مضمون المثال ، أو باعتبار الوقائع.

(و) كوصف (البخيل بالعبوس) وهو تلون الوجه تلونا يدل على الاغتمام عند ورود العفاة (مع سعة ذات اليد) أي : وصفه بالعبوس لأجل ذلك في وقت وجود سعة ذات اليد ، أي : الغنى وكثرة المال فإن ذكر هذه الهيئات ، أعنى : كونه عبوسا ، وكون ذلك عند ورود العفاة ، وكون ذلك عند سعة اليد يدل على البخل فهذا من الدلالة الكنائية أيضا ، وإنما قيد بوجود سعة ذات اليد ؛ لأن العبوس عند ذلك هو الدال على البخل ، وأما العبوس عند الفقر فهو يدل على الجود ؛ لأن عبوسه يدل على تأسفه على ما فات من مراتب السخاء بعدم وجدان المال ، وأما البخيل فهو يرتاح لذلك العذر ويطمئن به ، فلا يتصور منه العبوس إذا كان الاختلاف في وجه الدلالة من حقيقة كتشبيه أو تجوز ككناية أو مجاز استعارة أو إرسال (ف) حينئذ (إن اشترك الناس في معرفته) أي : في معرفة وجه الدلالة (لاستقراره) أي : ذلك الوجه (فيهما) أي في نفوس الناس ، وفي عقولهم وعاداتهم ، لشيوعه قديما وحديثا حتى صار شيئا تداولته الخاصة والعامة وذلك (كتشبيه) الرجل (الشجاع بالأسد) أي : في الشجاعة (و) تشبيه الرجل (الجواد بالبحر) في الكرم (فهو) أي : فذلك الوجه المتفق عليه العام الإدراك (كالأول) أي كالاتفاق في نفس الغرض العام في أنه لا يعد سرقة ولا أخذا ولا نحو ذلك لتساوي الناس فيه كالأول وقد علم من هذا أن الاتفاق الذي يحصل فيه التفاوت أو عدمه يكون في نفس الوجه كالتشبيه كما ذكر أو كالمجاز المخصوص أو الكناية ولا يراعى عند اختلاف الوجه إلا جهة المعنى كأن يقع فيه التشبيه لشخص ويقع فيه التجوز لآخر فيكون قسما آخر اختلف فيه الوجه واتفق المعنى فهو إما عام أو خاص والأمور المعتبرة هنا ثلاثة : الاتفاق في المعنى مع اتحاد الوجه ، والاتفاق في المعنى مع الاختلاف في الوجه ،

٦٥١

والاتفاق في الوجه مع اختلاف المعنى ، لكن على وجه التشابه كتشبيه الميت المصبوغ بالدم باللابس ثم تشبيه السيف اليابس عليه الدم بالمغمد فهذه يمكن فيها التفاوت وأما الاختلاف في الوجه والمعنى أو في المعنى فقط لا على وجه التشابه كتشبيه إنسان بالرمح ثم تشبيه الآخر بالادرة (١) فيه فلا يكون من هذا القبيل (وإلا) يشترك الناس في معرفة الوجه المعبر به عن المعنى (جاز أن يدعي في) أي : أن يدعي في هذا الوجه من الدلالة بأن يكون مجازا مخصوصا أو كناية أو تشبيها على وجه لطيف (السبق) أي : إذا كان غريبا أمكن ادعاء السبق أي : غلبة أحد الآتيين به الآخر بأن يكون أكمل منه وأفضل (والزيادة) أي : وزيادة أحدهما على الآخر فيه بالغلبة والآخر أنقص منه ويحتمل أن يراد بالسبق التقدم أي يجوز حينئذ أن يدعي أن أحدهما أقدم والآخر أخذه من ذلك الأقدم (وهو) أي : ما لا يشترك الناس في معرفته من وجه الدلالة على الغرض كالدلالة بالتشبيه والدلالة بالتجوز الخاص (ضربان) أي : نوعان أحدهما (خاصي في نفسه غريب) لا يدركه من ذاته إلا الأذكياء كتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل وكالتجوز بإطلاق الاحتباء على ضم العنان الذي في فم الفرس لقربوسه كما تقدم فنحو ذلك غريب لا يدرك إلا بفكر (و) الآخر (عامي) يدركه كل أحد في أصله لكن (تصرفه فيه بما أخرجه من الابتذال إلى الغرابة كما مر) في تشبيه الوجه البهي بالشمس في قوله :

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلا بوجه ليس في حياء (٢)

فإن تشبيه الوجه البهي بالشمس مبتذل عامي لكن أضاف إلى ذلك كون عدم الحياء من الشمس هو الذي أوجب لها ادعاء المقابلة لهذا الوجه فخرج بذلك عن الابتذال وقد تقدم بسطه وكما في التجوز في إطلاق السيلان على سير الإبل فإنه مبتذل ولكن تصرف فيه بإسناده إلى الأباطح ، وإدخال الأعناق فيه فخرج بذلك عن الابتذال وقد تقدم أيضا بسطه ، ونحو هذا التقسيم سبق في التشبيه والاستعارة أن منهما الغريب الذي للخاصة والمبتذل العامي الباقي على ابتذاله والمتصرف فيه بما أخرجه عن الابتذال

__________________

(١) كذا بالأصل المطبوع ، ولعل الصواب (بالدّرة) وهى العصا ، والله أعلم.

(٢) البيت للمتنبي فى ديوانه (١ / ١٧٤).

٦٥٢

كالمثالين فإن قلت التفاوت في الوجه إن كان غير حقيقة ظاهر ، وأما إن كان حقيقة وهو التشبيه فلا غرابة فيه إلا من جهة المعنى فلا يدخل في الغرابة من جهة وجه الدلالة لأن المعنى إن كان غريبا فذاك وإلا أمكن التشبيه من كل أحد بلا تكلف فلا تفاوت فكيف عد التشبيه من هذا القسم؟! قلت يقع في التفاوت من جهة إدراك صلاحية المعنى له أولا وأيضا الدلالة على التشبيه قد تكون بتصرف في الألفاظ وتعتبر الحالة المعهودة للتشبيه كما تقدم في قوله : (لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا) إلخ فيقع فيها التفاوت نعم حسن الدلالة لا ينفك عن غرابة المعنى لا في الحقيقة ولا في المجاز تأمل وذلك كاف في ادعاء السبق والزيادة.

ولما ذكر ما لا يعد من باب السرقة أشار إلى تقسيم ما هو من بابها سواء كان منها لكونه دقيقا غير عام الإدراك مع كون وجه الدلالة فيه متحدا بكونه حقيقة أو كان منها لكونه وجه الدلالة التي ليست بشائعة لا من جهة كونه معنى غريبا كما تقدم أن ما عد من السرقة قسمان فقال وإذا ميزت بين ما يكون من السرقة ومالا.

نوعا الأخذ والسرقة

(فالأخذ والسرقة) أي : الأخذ الذي هو السرقة في الجملة من أي قسم هو أعنى سواء كان من قسم وجه الدلالة أو من قسم دقة المعنى فقط (نوعان) أي ينقسم أولا إلى نوعين :

الأخذ الظاهر

(ظاهر) بأن يكون لو عرض الكلامان على أي عقل حكم بأن أحدهما أصله الآخر بشرطه المعلوم (وغير ظاهر) بأن يكون بين الكلامين تغيير محوج في كون أحدهما أصله الآخر إلى تأمل.

(أما) الأخذ (الظاهر) من النوعين (ف) هو (أن يؤخذ المعنى كله) مع ظهور أن أحدهما مع الآخر وإنما زدنا هذا القيد ؛ لأن غير الظاهر فيه المعنى أيضا إلا أنه مع خفاء والذوق السليم يميز ذلك في الأمثلة وهو حينئذ ثلاثة أقسام لأن أخذ المعنى كله (إما) أن يكون (مع) أخذ (اللفظ كله أو) يكون مع (أخذ بعضه) أي : أخذ بعض اللفظ وترك

٦٥٣

البعض (أو) يكون مع أخذ المعنى (وحده) بدون أخذ شيء من اللفظ أصلا بل يبدل جميع الكلام بتركيب آخر ولا يدخل في هذا تبديل الكلمات المرادفة بما يرادفها مع بقاء النظم ؛ لأنه كما سيأتي في حكم أخذ اللفظ كله ، فالمراد بأخذ المعنى وحده تحويله إلى صورة أخرى تركيبا وإفرادا كما سيأتي في الأمثلة ، ولا ضرر في المعية الكائنة في قولنا أخذ المعنى كله مع أخذه وحده ؛ لأن الصحبة بين المعنى كله ووحدته لا بين المعنى كله وبين نفسه وهو ظاهر.

ثم أشار إلى بيان قبيح هذا القسم أعني الظاهر وإلى بيان غير قبيحه فقال (فإن أخذ) الأخذ للمعنى كله (اللفظ كله من غير تغيير لنظمه) أي لكيفية الترتيب والتأليف الواقع بين اللفظيين أي : بين اللفظ المأخوذ واللفظ المأخوذ منه وذلك بأن يكون كل من اللفظ المأخوذ والمأخوذ منه متحدا نوعا وعدم تغييره هو اتحاده نوعا من كل وجه وإنما اختلف شخصه فإن بينهما ترتيبا وتأليفا متعددا شخصا باعتبار اللافظين وليس مرادنا باللفظين ما وقع فيه التركيب الأول ؛ لأنه لا يتعين أن يكون لفظين ، ولا ثلاثة حتى يثنى ، أو يجمع (فهو مذموم) أي : أن أخذ جميع اللفظ بلا تغيير فذلك الأخذ مذموم (لأنه سرقة محضة) أي : غير مشوبة بشيء آخر ليس للمسروق منه فإن السرقة المحضة أشد في الحرمة من السرقة المشوبة بشيء من غير مال المسروق منه (ويسمى) هذا الأخذ المذموم (نسخا) ؛ لأنه نسخ كلام الغير ونسبه لنفسه وذلك (كما) أي : كالأخذ الذي (حكى عن عبد الله بن الزبير) وهو الشاعر المعلوم وليس المراد به عبد الله بن الزبير بن العوام الصحابي المعلوم ، وإنما المراد به شخص آخر كان قدم على عبد الله بن الزبير الصحابي المعروف فلما حرمه من العطاء قال ابن الزبير أعني هذا المذكور هنا للسيد عبد الله بن الزبير لعن الله ناقة حملتني إليك فقال له السيد عبد الله بن الزبير الصحابي إن وراكبها (أنه فعل ذلك) أي الأخذ الذي روي أن الإنسان المذكور فعله أي : أوقعه (بقول معن بن أوس) وهو قوله (إذا أنت لم تنصف أخاك) (١) أي إذا لم تعطه النصفة بفتح النون والصاد وهي اسم مصدر للإتصاف الذي هو العدل وتوفية الحق ومعنى

__________________

(١) البيتان إنشاد عبد الله بن الزبير ، وإنشاد ابن أوس فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٧٨) ، والإشارات ص (٣٠٦).

٦٥٤

إعطاء النصفة أي : العدل إيقاعه (وجدته) أي : إذا لم تنصفه وجدته (على طرف الهجران) أي على طرف الذي هو الهجران ، فالإضافة بيانية ، وكون الهجران طرفا باعتبار أنه مكان خارج ، وطرف عن المكان الأوسط الذي هو المواصلة ويحتمل أن تكون الإضافة على أصلها بأن يجعل للهجران طرفان ، والمقام يقتضي أن الذي يكون عليه المظلوم هو الأبعد ، والخطب في ذلك سهل ، وكثيرا ما نتعرض لأمثال هذه المباحث ؛ لأن بعض النفوس يصعب عليها الوقوف على حقيقتها (إن كان يعقل) أي : إذا لم تنصفه وجدته مهاجرا لك مبتدلا بك غيرك رافضا لصحبتك إن كان له عقل يطلب به معالي الأمور ؛ لأنه لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له ، فكيف بمن يظلمك ولا ينصفك وأما من لا عقل له فيرضى بأدنى الأمور بدلا من أعلاها ، فلا يقام له وزن في المعاملات ، ولا يلتفت إليه في التخصيص بالمكرمات (ويركب) ذلك الأخ الذي لم تنصفه (حد السيف) أي : طرفه القاطع وهو يحتمل أن يراد به الحقيقة على سبيل المبالغة أي : يكون معك بحيث لو فرض أنه هاجرك لقيه حد السيف ، وركبه ركوبا يقطعه لفعل ذلك بدلا (من أن تضيمه) أي : أن تذله وتظلمه ويحتمل أن يكون كناية عن الشدة والمشقة أي يركب إذا لم تنصفه مشاق وتأثيرات وإذايات لأن ركوب حد السيف ملزوم للإذايات والمشاق في الجملة (إذا لم يجد) أي يركب شفرة السيف ليتركك إذا لم يجد (عن شفرة السيف) أي : عن حد السيف الحقيقي ، أو عن الشدائد اللازمة في الجملة لحد السيف على الاحتمالين السابقين (مزحل) يحتمل أن يكون بالراء المهملة أي يركب ما ذكر إذا لم يجد عنه بعدا ، وارتحالا ، ويحتمل أن يكون بالزاي المعجمة أي بعدا وانفصالا وزوالا وفي القاموس زحل يعني بالزاي المعجمة عن مقامه كمنع زال ، وإنما قلنا إن ابن الزبير المذكور فعل ذلك بقول معن السابق لما حكى أن ابن الزبير المذكور دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه فأنشده هذين البيتين فقال له معاوية لقد شعرت بضم العين أي صرت شاعرا بعدي أي : بعد ملاقاتي الأولى يا أبا بكر ثم إن عبد الله بن الزبير المذكور لم يفارق المجلس حتى دخل معن بن أوس المزني على معاوية فأنشد بين يديه قصيدته التي أولها :

٦٥٥

لعمرك ما أدري وإني لأوجل (١)

أي : لأخاف.

على أينا تعدو المنية أول

أي : لا أدري الذي تعدو عليه المنية منا قبل الآخر ، وإني لأخاف ما يقع من ذلك ثم استمر على إنشاد القصيدة حتى انتهى وفيها هذان البيتان فأقبل معاوية على عبد الله بن الزبير وقال له ألم تخبرني أنهما ـ أي البيتين ـ لك؟ فقال : اللفظ له والمعنى لي وبعد هذا فهو أخي من الرضاعة وأنا أحق بشعره ، وقول معاوية ألم تخبرني يدل على أنه أخبره أولا بأن البيتين له ويحتمل أن يكون نزل حاله في إظهاره أنهما له ولم ينسبهما لصاحبهما متمثلا منزلة الإخبار قيل ولعله لم يقصد بنسبتهما لنفسه الكذب والافتخار بل لعله يريد أنهما لي ومناسبان لحالي ، فمعناهما ثابت لدي وعندي ، وهذا أيضا هو مراده بقوله المعنى لي أي : أنا الموصوف بمعناها ، وهو معبر بلفظهما عن المعنى الحاصل لي ، وقوله وبعد هذا فهو أخي من الرضاعة ، وأنا أحق بشعره اعتذار ملحى يستظرفه أهل المجلس فلا شك أن ابن الزبير المذكور أتى بقول معن كما هو من غير تبديل للفظ ولا تغيير للنظم فهو سرقة محضة.

(وفي معناه) أي وفي معنى ما لم يغير في اللفظ والنظم (أن يبدل) أي : أولا يغير هيئة اللفظ التركيبية ولكن يبدل (بالكلمات) الإفرادية (كلها أو بعضها ما يرادفها) بأن يأتي بدل كل كلمة بما يرادفها أو يأتي مكان البعض دون البعض بما يرادفه ؛ لأن المرادف يتنزل منزلة رديفه فلازم أحدهما من القبح لازم للآخر لسهولة ذلك التبديل فهو يعد أيضا مذموما وسرقة محضة ومثال تبديل جميع الألفاظ بالمرادف مع بقاء المعنى والنظم أن يقال في قول الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (٢)

ذر المكارم لا تذهب لمطلبها

واقعد فإنك أنت الآكل اللابس

__________________

(١) البيت لمعن بن أوس فى ديوانه ص (٣٩) ، وخزانة الأدب (٨ / ٢٤٤) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص (١١٢٦) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٨) ، وفيه (لا) بدلا من (ما).

(٢) البيت للحطيئة ، فى ديوانه ص (١٠٨) ، وفى التبيان ص (٤٧٨) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٧٨).

٦٥٦

فقد بدل كل لفظ من التركيب بمرادفه والمعنى لست أهلا للمكارم والمعالي فدعه لغيرك واقنع بالمعيشة وهو مطلق الأكل والتستر باللباس فإنك تناله بلا طلب يشق كطلب المعالي على أنه لو قيل هكذا لم يخل اللابس مكان الكاسي من قبح الثقل الوزني ومثال تبديل البعض قول طرفة في قصيدته الدالية :

وقوفا بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد (١)

فإنه بيت امرئ القيس ولم يزد فيه على تبديل تجمل بتجلد ، ووقوفا من الوقف الذي هو الحبس بدليل تعديه إلى المطي ، لا من الوقوف اللازم أي : نبك حال كون أصحابي واقفين أي حابسين مطيهم علي يقولون لا تهلك بالحزن ، وتجمل أي ادفع ذلك الأسى بالتجمل والصبر ، ويجري مجرى تبديل البعض ، أو الكل في القبح بالمرادف تبديله بالضد لقرب تناوله كما لو قيل في قول السيد حسان :

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

شم الأنوف من الطراز الأول (٢)

سود الوجوه لئيمة أحسابهم

فطس الأنوف من الطراز الآخر

ثم أشار إلى مفهوم قوله من غير تغيير لنظمه بقوله (وإن كان) أخذ اللفظ كله (مع تغيير لنظمه) أي : لنظم اللفظ ، والمراد بتغيير النظم هنا أن يدل على المعنى الأول ، أو على بعضه بوجه آخر بحيث يقال : هذا تركيب آخر سواء كان بتبديل نوع التركيب كتبديل جملة شرطية مثلا بغيرها ، أو بدون ذلك إما مع إفادة المعنى مثلا بطريق اللزوم إن أفيد أولا صراحة وهو الأكثر ، أو بدون ذلك ويدل على أن هذا هو المراد ما يأتي من الأمثلة ثم ما يكون بتغيير النظم إما أن يكون مع أخذ كل اللفظ (أو) مع (أخذ بعض) ذلك (اللفظ) لا كله (سمى) أي : إن كان الأخذ مع تغيير النظم سمى ذلك (إغارة) ؛ لأنه أغار على ما هو للغير فغيره عن وجهه (و) سمى أيضا (مسخا) ؛ لأنه بدل صورة ما للغير بصورة أخرى ، والغالب كونها أقبح والمسخ في الأصل تبديل صورة

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد فى ديوانه ص (٢٢) ، ط دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت.

(٢) البيتان لحسان بن ثابت ـ رضى الله عنه ـ ، فى شرح المرشدى (٢ / ١٧٨).

٦٥٧

بما هو أقبح منها ثم الكلام الذي هو متعلق هذا الأخذ المسمى بالإغارة ثلاثة أقسام ؛ لأن ذلك الكلام إما أن يكون أبلغ من الأول فيكون مقبولا غير مذموم ، أو يكون أدنى فهو مذموم غير مقبول ، أو يكون مثلا الأول فهو أبعد من الذم وأقرب إلى القبول ، فأشار إلى هذه الأقسام على هذا الترتيب ، فقال : (فإن كان) الكلام (الثاني) أي : الذي هو متعلق الأخذ المذكور (أبلغ) من الكلام الأول المأخوذ منه (لاختصاصه) أي : لاختصاص الثاني عن الأول (بفضيلة) لم توجد في الأول كحسن السبك الذي هو البعد عن أحد التقييدين اللفظي والمعنوي وكالاختصار حيث يناسب المقام وكالإيضاح لمعنى هو مظنة الغموض وهذا يدخل طرف منه في حسن السبك البعد عن التقييد وهو ترك الغموض الذي هو ليس من غرابة اللفظ بل كالخلل في اللزوم ، وإن شئت قلت يدخل في حسن السبك الاختصار بناء على أنه هو جودة اللفظ في الجملة أو زيادة معنى يناسب المقام لم يوجد في الأول (فممدوح) أي : إن اختص الثاني بمثل بعض هذه الفضائل فذلك الثاني ممدوح مقبول ؛ لأن تلك الزيادة أخرجته إلى طرف من فضاء الابتداع وذلك (كقول بشار : من راقب الناس) (١) أي راعاهم وحاذرهم فيما يكرهون فيتركه وفيما يبتغون فيقدم عليه (لم يظفر بحاجته) كلها ؛ لأنه ربما كرهها الناس فيتركها ، لأجلهم فتفوت مع شدة شوقه إليها (وفاز بالطيبات الفاتك اللهج) أي : من لم يراقبهم ولم يبالهم بالة فاز بالظفر بالطيبات الحسية كالظفر بالمعشوق والمعنوية كشفاء غيظ النفوس بالأخذ بالثأر وهذا الذي لا يراقب الناس هو الفاتك أي المقدم على القتل ، أو غيره من غير مبالاة بأخذ اللهج أي : الملازم لمطلوبه الحريص عليه من غير مبالاة قتلا كان أو غيره (وقول سلم) أي : كقول بشار مع قول سلم الخاسر وسمي خاسرا ؛ لأنه ورث مصحفا من أبيه فباعه فاشترى به عودا يضرب به (من راقب الناس مات غما) (٢) أي : لم يصل لمراده فيبقى مغموما من فوات المراد ويشتد عليه الغم كشدة الموت فقد دل على فوات الحاجة بموت الغم الذي هو أخص منه ولذلك قلنا إن تغيير

__________________

(١) البيت لبشار ، فى ديوانه ص (٦٠) ، وأورده الجرجانى فى الإشارات ص (٣٠٩).

(٢) البيت لسلم الخاسر ، فى الأغانى (٣ / ١٩٦) ، (٧ / ٧٢) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ٧٨) ، والإشارات (٣٠٩).

٦٥٨

النظم يكون بالدلالة على المعنى بغير وجهه الأول (فاز باللذة الجسور) والجسور هو الشديد الجراءة فهو بمعنى الفاتك اللهج وهو أصرح في المعنى وأخص.

فالمعنى في البيتين واحد وهو أن من لا يراقب الناس بفوز بالمرغوب ومن راعاهم فاته المطلوب لكن بيت سلم أجود سبكا لدلالته على المعنى بلا حاجة للتأمل بما هو أخص وأفصح وأخصر لفظا كما لا يخفى ، وما بين هذين البيتين ظاهر كما ذكروا وفى نفسي أن لفظ الفاتك اللهج أحسن من لفظ الجسور ولفظ الطيبات أحسن من لفظ اللذة.

والاختصار قد يدعي عدم مناسبة لأن الغرض التوصية بترك مراقبة الناس وذلك يناسبه البسط الدال على الاهتمام والتأكيد فانظره.

(وإن كان) الكلام الثاني (دونه) أي دون الأول في البلاغة والمراد بالبلاغة هنا ما يحصل به الحسن مطلقا لا خصوص البلاغة المعلومة بدليل الأمثلة وإنما يكون دونه بفوات فضيلة وجدته في الأول (فهو) أي : فالكلام الثاني (مذموم) إذا لم يصحبه شيء يشبه به أن يكون مبتدع الحسن بل هو نفس الأول مع رذيلة إسقاط ما في الأول من الحسن وذلك (كقول أبي تمام) في مرثية محمد بن حميد (هيهات) (١) أي : بعد ما تبين من إتيان الزمان بمثل الممدوح بدليل قوله (لا يأتي الزمان بمثله) أي بمثل هذا المرثي الممدوح (إن الزمان بمثله لبخيل) هو كجواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : لماذا لا يأتي الزمان بمثله هل لأنه بخيل بمثله أو لاستحالة مثله فقال إن الزمان بمثله لبخيل ، فالتأكيد هنا بأن ؛ لأن المقام مقام أن يتردد ويسأل هل بخل الزمان بمثله أو لم يبخل؟ بل استحال ولما كان هذا معنى الكلام ، وهو يشعر بإمكان المثل ، لكن منع من وجوده بخل الزمان ، ورد هنا أن الكلام قاصر ، وأن صوابه التعبير بما يفيد الامتناع لا بما يفيد الإمكان إلا أنه منع من الوجود عارض هو بخل الزمان ، وأجيب بأن بخل الزمان عبارة عن الامتناع ، أي : نفي الإتيان ، فهو كناية ؛ لأن البخل بالشيء يستلزم انتفاء فعله ، ويؤيده قوله : لا يأتي الزمان بمثله ، فكأنه قال : إن الزمان يستحيل في حقه الإتيان به ، وفيه تعسف ، ونسبة التأثير

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى شرح ديوانه ص (٣٦٣) ، والإشارات ص (٣٠٩) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).

٦٥٩

الزمان من الموحد لا يضر ؛ لأن المراد به تلبسه بالفعل ، وذم بالفعل أو مدحه به لا يضر من الموحد أيضا ؛ لأنه ينزل منزلة العاقل المكتسب ، وهو يدل على اكتسابه شرعا وطبعا ، فلذلك تجد أهل العلم لا ينكرون الإنكار على الزمان ، ولو كان المراد أن الزمان مؤثر حقيقة ثم يذم على تأثيره لكان كفرا ، وما ورد" يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" (١) يحتمل أن يراد به يسبون الزمان ويعتقدون أنه مؤثر ، وأنا المؤثر في الحقيقة ، فكأنهم سبوا المؤثر حين سبوا الزمان من حيث إنه مؤثر تسخطا للأقدار ، ويحتمل أن يراد : يتسخطون الأقدار ، ويسبون بها الزمان مع علمهم أن لا تأثير له ، ولا ينفعهم في نفي الاسم بالتسخط نسبتهم الأقدار للزمان ؛ لأنها لي ، وهم يعلمون. وعلى كل حال فساب الدهر على أنه مؤثر مخطئ ؛ لأنه إن عنى أنه المؤثر دون الإله فظاهر ، وإن عنى أنه مشارك فكذلك ، وإن عنى سب مطلق المؤثر فالكفر ظاهر ، ويحتمل أن يكون ما ورد على معنى الإنكار على الغافلين مطلقا ، وأنه لا ينبغي أن يسب على الفعل مطلقا ؛ لأني أنا الفاعل في الحقيقة ، ولكن هذا يعارضه إذن الشرع في سب المكلف فما ينزل منزلته كهو تأمله.

(وقول أبي الطيب) أي : كقول أبي تمام الذي هو الأصل مع قول أبي الطيب الذي هو المأخوذ :

(أعدى الزمان سخاؤه فسخابه

ولقد يكون به الزمان بخيلا) (٢)

فقول أبي الطيب : ولقد يكون به الزمان بخيلا ، مأخوذ من قول أبي تمام : إن الزمان بمثله لبخيل ، وظاهر أن الأول أحسن من الثاني ؛ لأن الثاني عبر بصيغة المضارعة ، والمناسب صيغة المضى كما دلت عليه الجملة الاسمية في الأول ؛ لأن أصلها الدلالة على الوقوع مع زيادة إفادتها الدوام والثبوت ، وإفادة الثانية التقليل بظاهر قد مع المضارع ، وأيضا المراد أن الزمان كان بخيلا به حتى أعداه بسخائه ، فلا تناسب المضارعة ؛ إذ لا معنى لكونه جاد به الزمان وهو يبخل به في المستقبل ؛ لأنه بعد الجود به خرج عن

__________________

(١) رواه البخارى ، ولكن بلفظ : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدى الأمر ، أقلب الليل والنهار".

(٢) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (١ / ١٩٠) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩) ، والإشارات (٣٠٩).

٦٦٠