مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

العتاب موجود كما وجد فيمن لم تعاتبهم ، وهو كون المدح للإحسان ، فكأنه يقول : لا تعاتبني على مدح آل جفنة المحسنين إلى المنعمين على كما لا تعاتب قوما أحسنت إليهم فمدحوك ، وهذه الحجة إن قصد الشاعر أن تؤخذ على هذا الوجه كانت على طريق التمثيل وهو المسمى عند الفقهاء بالقياس الذي هو أن يحمل معلوم على معلوم لمساواته إياه في علة الحكم وتقريره هنا ، كما بينا أنه حمل مدحه آل جفنة على مدح القوم للمخاطب في حكم هو نفي العتاب لمساواة الأول للثاني في علة الحكم وهي كون المدح للإحسان ، فإن أراد المصنف بالمذهب الكلامي مطلق الاستدلال المتقرر عند أهل النظر في الجملة كان المثال مطابقا للمراد على هذا الوجه ، وإن أراد به الاستدلال بتركيب المقدمات على طريق الاقتراني والاستثنائي لم يكن المثال بتقريره بهذا الوجه مطابقا لما ذكر ، وإنما يطابقه برده إلى صورة الاستثنائي أو الاقتراني ، ويمكن رده إلى الاستثنائي ، فيقرر هكذا لو كان مدحي لآل جفنية ذنبا كان مدح أولئك القوم لك ذنبا ، وبيان الملازمة اتحاد الموجب للمدحين وهو وجود الإحسان ، فإذا كان أحد السببين ذنبا كان الآخر كذلك لكن كون مدح القوم لك ذنبا وهو اللازم باطل باتفاقك فالمقدم وهو كون مدحي لهم ذنبا مثله فثبت المطلوب وهو انتفاء الذنب عني بالمدح ولزم منه نفي العتب إذ لا عتب إلا عن ذنب ، ويمكن رده إلى الاقتراني فيقرر هكذا مدحي مدح بسبب الإحسان وكل مدح بسبب الإحسان فلا عتب فيه ينتج مدحي لا عتب فيه ودليل الصغرى الوقوع والمشاهدة ودليل الكبرى تسليم المخاطب ذلك في مادحيه وورد على ما أشير إليه من الاستدلال أن قوله اصطنعتهم فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا يقتضي أنه قدم الإحسان لمادحيه وقوله : إذا ما مدحتهم أحكم في أموالهم يقتضي تقدم المدح على الإحسان ولا يلزم من تسليم إيجاب الإحسان للمدح وكونه لا ذنب في تسليم أن المدح المبتدأ ليتوصل به إلى الإحسان لا ذنب فيه فلم يتم الاستدلال إذ يصح أن يعاتب على الابتداء بالمدح ولا يعاتب على كونه مكافأة.

ويجاب بأن المراد كما أشرنا إليه في التقرير أنك اصطنعتهم بسبب مدحهم إياك وأحسنت إليهم بسبب المدح إذ لو رأيت المدح ذنبا لما كافأت عليه. ورد أيضا أن

٥٦١

كون الإنسان لا يعاتب مادحه الطالب لإحسانه لا يستلزم أن لا يعاتب مادح غيره لطلب إحسان ذلك الغير. ويجاب بأن المراد لم يرهم أحد مذنبين وأنت من جملة من لم يرهم مذنبين وعبر عن هذا العموم بالخطاب والمراد العموم كما يقال لا ترى فلانا إلا مصليا أي لا يراه أحد إلا مصليا أنت وغيرك والخطب في مثل هذه الأبحاث سهل وقد تعرضنا لذلك ؛ لأنه مما تشحذ به القرائح المكدودة وتنفتح به البصائر المسدودة والله الموفق بمنه وكرمه.

حسن التعليل

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (حسن التعليل) أي النوع المسمى بحسن التعليل (وهو) أي حسن التعليل (أن يدعى لوصف علة مناسبة له) أي أن يثبت لوصف علة مناسبة ويكون ذلك الإثبات بالدعوى ولتضمن يدعى معنى الإثبات عدى إلى الوصف باللام وقد تقدم مثله (باعتبار لطيف) أي ويشترط في كون إثبات العلة المناسبة للوصف من البديع أن يكون إثبات تلك العلة المناسبة مصاحبا لاعتبار أي لنظر من العقل لطيف أي : دقيق يحتاج فيه إلى تأمل بحيث لا يدرك المعتبر فيه في الغالب إلا من له تصرف في دقائق المعاني وفي الاعتبارات اللطيفة (غير حقيقي) نعت للاعتبار بمعنى المعتبر أي يكون غير حقيقي أي غير مطابق للواقع بمعنى أنه ليس علة في نفس الأمر بل اعتبر علة بوجه يتخيل به كونه صحيحا كما يأتي في الأمثلة ، ويحتمل أن يكون نعتا للاعتبار على أنه مصدر على أصله ؛ لأن الوصف إذا كان غير حقيقي في التعليل أي ليس علة في نفس الأمر فاعتباره علة أيضا غير حقيقي فإن قيل : كون الاعتبار لطيفا إنما يكون بكون الوصف غير مطابق للواقع في التعليل إذ بذلك يثبت لطفه لأن جعل ما ليس بواقع واقعا على وجه لا ينكر ولا يمج هو الاعتبار اللطيف فعليه لا حاجة لقوله غير مطابق لأن ذلك هو معنى كون المعتبر لطيفا قلت يجوز أن يكون لطيفا أي دقيقا حسنا ويكون مطابقا وما يكون من البديع يشترط فيه أن لا يطابق فلذلك وصفه بكونه غير حقيقي وذلك كما قيل : إن العلة في إطلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العفريت الذي اعترض له في الصلاة هي أن لا يتوهم أن سليمان لم يستجب له في طلبه ملكا لا ينبغي لأحد من

٥٦٢

بعده ، فإن المتبادر أن العلة هي تحقيق اختصاص سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسّلام بما ذكر ولكن هذا الاختصاص لا ينتفي ، ولو لم يطلق العفريت لأنه ملك جميع الشياطين وسخروا له فلا يلزم من تسخير واحد وغلبته في وقت تسخير الكل والمناسب هو دفع توهم عدم الاختصاص ، ولا شك أن هذه العلة إن صحت كانت مطابقة وفيها دقة فلذلك زاد غير حقيقي وبعض الناس توهم أن قوله باعتبار يقتضي كون الوصف المدعى اعتباريا أي لا وجود له خارجا كوجود الأمور المتقررة في نفسها مثل البياض والسواد لما سمع أهل المعقول يقولون إن الاعتبار يقابل الحقيقي أي الموجود خارجا توهم أن قوله غير حقيقي مستغنى عنه بذكر الاعتبار وفيه نظر ؛ لأنه إن أراد بغير الحقيقي ما ليس وجوديا ولو طابق الواقع كما هو ظاهر كلامه لزم عدم مطابقته لما أصلوه من كون حسن التعليل ما لم يطابق ما في نفس الأمر وإن أراد به ما لم يطابق الواقع فكون الاعتبار المستفاد من قوله باعتبار لطيف مغنيا عما بعده إنما يصح إن كان يرى أن كل وصف اعتباري لا يطابق ما في نفس الأمر وهو فاسد ؛ إذ لو قيل إنما احتاج الحادث لسبب لإمكانه كان تعليلا بالوصف الاعتباري ، وهو مطابق ولذلك ألزم على تقدير الاستغناء به عن قوله غير حقيقي أن يكون الاعتباري غير مطابق وهو فاسد ، وإن كان يرى أن الوصف الاعتباري قد يكون غير حقيقي أي : غير مطابق وقد يكون حقيقيا أي مطابقا فظاهر أنه لا يستغنى بالاعتبار عن قوله : غير حقيقي على أن التحقيق كما تقدم أن الاعتبار اللطيف هو نظر العقل نظرا دقيقا لا كون الوصف اعتباريا فقد ظهر أن ما قاله ذلك القائل غلط نشأ عما يقال من أن الوصف الاعتباري يقابله الحقيقي وعن اعتقاده أن التعليل المصاحب للاعتبار يستلزم كون الوصف اعتباريا أي : لا وجود له خارجا فافهم.

أضرب حسن التعليل

(وهو) أي : حسن التعليل (أربعة أضرب) أي ينقسم باعتبار ثبوت المعلل وعدم ثبوته ، ولكن أريد إثباته ممكنا أو غير ممكن وباعتبار العدول عن علة ظهرت أولا إلى أربعة أنواع (لأن الصفة) أي إنما انقسم إلى الأربعة من جهة أن الصفة التي ادعى لها

٥٦٣

علة مناسبة (إما ثابتة) في نفسها و (قصد) بما أتى به (بيان علتها أو غير ثابتة) في نفسها ولكن (أريد إثباتها و) الصفة (الأولى) وهي الثابتة التي أريد بيان علتها قسمان ؛ لأنه (إما أن لا يظهر لها في العادة علة) أخرى غير التي أريد بيانها ، وإنما قال لا يظهر ولم يقل لا يكون لها علة ؛ لأن الحكم لا يخلو عن علة في الواقع لما تقرر أن الشيء لا يكون إلا لحكمة وعلة توجبه.

أما على المذهب الباطل من رعاية الحكم وجوبا فظاهر وأما على المذهب الصحيح فالقادر المختار وصف نفسه بالحكيم فهو يرتب الأمور على الحكم بالاختيار والتفضل وإن كان ذلك لا يجب عقلا ، ثم مثل لهذا القسم وهو ما لا يظهر له في العادة علة فقال (كقوله) أي كقول المتنبي (لم يحك) (١) أي لم يشبه (نائلك) أي عطاءك (السحاب) أي : عطاء السحاب وإنما قدرناه كذلك ؛ لأن المناسب أن يشبه بالنائل عطاء السحاب لا نفسه فيفهم منه أنه لا يحكيك في نائله فكأنه قال لا يشابهك السحاب في عطائه ، ثم أشار إلى أن إتيان السحاب بكثرة الأمطار ليس سببه طلبه مشابهتك ، وإنما ذلك لسبب آخر ، وفي ضمن ذلك زيادة على نفي مشابهة السحاب للممدوح أن السحاب لا يطلب المشابهة بل آيس منها لما رأى من غزير عطائك فقال ليست كثرة أمطار السحاب لطلبه مشابهتك (وإنما حمت) السحاب (به) أي بشهوده أعنى بشهود نائلك وعلمه بتفوق نائله أي كون نائلك فوق نائله بمعنى أنه كان يتوهم أنه ممن يطلب محاكاتك في النائل ، فلما شاهد نائلك أيس من طلب المحاكاة ، فلحقته غيرة وتغيظ ودهش مما رأى وقد أيس من إدراكه وأوجب له ذلك الدهش والتغيظ حمى (فصبيبها) أي فمطرها المصبوب (الرحضاء) بفتح الحاء وضم الراء وهو عرق المحموم وسمى أمطارها صبيبا احتقارا له بين يدي عطاء الممدوح ، وحاصله : أن السحاب لم يأت بالمطر لمحاكاة عطائك وإنما أمطارها عرق من حمى أصابته من إياسه من مشابهتك ، ولا يخفى ما في جعل السحاب مما يدركه وتدركه الحمى من التجوز اللطيف ، ولا شك أن مضمن هذا الكلام أن الصفة التي هي نزول المطر من السحاب عللها

__________________

(١) البيت لأبى الطيب ، وهو فى شرح التبيان للعكبري (١ / ٣٣).

٥٦٤

باتصاف السحاب بحمى أصابته من إياسه من إدراك ما رأى وتغيظه وأسفه على الفوات فالعلة هي الحمى والصفة هي نزول المطر ونزول المطر لم تظهر له علة أخرى عادة ، ولا شك أن استخراج هذه العلة المناسبة إنما ينشأ عن لطف في النظر ودقة في التأمل وليست علة في نفس الأمر فانطبق عليه حد حسن التعليل (أو يظهر) هذا مقابل قوله : أما أن لا يظهر أي أما أن لا تظهر للصفة الثابتة التي قصد بيان علتها علة أخرى عادة كما تقدم وإما أن تظهر (لها) أي لتلك الصفة الثابتة (علة) أخرى (غير) العلة (المذكورة) التي ذكرها المتكلم لحسن التعليل ، وقد عرفت أن العلة في حسن التعليل لا بد أن تكون غير مطابقة لما في نفس الأمر فإذا ظهرت علة أخرى سواء كانت مطابقة أو غير مطابقة فلا بد أن تكون هذه المأتي بها غير حقيقية أي غير مطابقة لتكون من حسن التعليل كما أنه لا بد أن تكون غير مطابقة ، حيث لا تظهر للمعلول علة أخرى أيضا ، إذ كونها غير مطابقة لا بد منه في كل موطن من مواطن حسن التعليل ، وبهذا علم أن ذكر كونها لا بد أن تكون غير مطابقة حيث تظهر علة أخرى فيه إيهام اختصاص هذا المعنى بما إذا ظهر غيرها وإيهام أن الظاهرة تكون مطابقة حيث ذكر غير المطابقة معها والتحقيق ما قررنا من جواز كون الظاهرة غير مطابقة لصحة أن تكون من المشهورات الكاذبة كما لو قيل : هذا متلصص لدورانه في الليل بالسلاح فافهم. ثم مثل لما تظهر له علة أخرى فقال :

(كقوله) أي : كقول المتنبي (ما به قتل أعاديه) (١) أي ليس بالممدوح حنق وغيظ أو خوف أوجب قتل أعاديه لإشفاء الغيظ أو ليستريح من ترقب مضرتهم ، لأنه ليس طائعا للغيظ ولا خائفا من أعدائه إذ هو قاهرهم قهرا لا يخشى معه ضررهم ويهون عليه تناولهم أينما أراد فلم يحمله ما ذكر على قتل أعدائه (ولكن) حمله على قتلهم أنه (يتقي) بقتلهم (إخلاف ما ترجو الذئاب) منه من إطعامهم لحوم الأعداء ؛ لأنه لو لم يقتلهم فات هذا المرجو للذئاب (فإن قتل الأعداء) أي : إنما قلنا إن الصفة هنا

__________________

(١) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (١ / ١٤٤) ، والأسرار ص (٣٣٧) ، والإشارات ص (٢٨١) ، وشرح التبيان للعكبرى (١ / ٩٨).

٥٦٥

ظهرت لها علة أخرى ؛ لأن الصفة المعللة هنا هي قتل الأعداء وقتل الأعداء (في العادة) قد ظهر أنه إنما يكون (ل) علة (دفع مضرتهم) ولعلة حصول صفو المملكة من منازعاتهم (لا لما ذكره) وهو أن طبيعة الكرم قد غلبت عليه فصارت محبته لصدق رجاء الراجين لكرمه هو الباعث له على قتل الأعداء ومن جملتهم الذئاب ؛ لأنه عودها إطعامها لحوم الأعداء فكان من المعلوم أنه إذا توجه إلى الحرب صارت الذئاب راجية له حينئذ ليوسع عليهم الرزق بلحوم القتلى من الأعداء ، ولما كان ذلك من المعلوم لتعويده ، لم يرض بخيبة رجائهم لغلبة طبع الكرم عليه ، فصار يقتل الأعداء لتكميل رجاء الذئاب وفي البيت وصف الممدوح بكمال وصف الجود فيه حتى إنه لو لم يتوصل إليه إلا بالقتل ارتكبه وصفه بكمال الشجاعة حتى ظهرت للحيوانات العجم ووصفه بأنه لا يقتل حنقا ولا تستفزه العداوة على القتل لحكمه على نفسه وغلبته إياها فلا يتبعها فيما تشتهي وإنه لا يخاف الأعداء ؛ لأنه تمكن بسطوته منهم حيث شاء كما أشرنا إليه فيما تقدم فالعلة هنا في الصفة التي هي قتل الأعداء وهي تكميل رجاء الذئاب غير مطابقة وفيها من اللطف والدقة ما لا يخفى لما تضمنته من مقتضياتها فانطبق حد حسن التعليل على الإتيان بها فهذان قسمان من الأربعة المذكورة أولا أحدهما : ما يكون في الصفة الثابتة بلا ظهور علة أخرى والآخر ، ما يكون فيها مع الظهور ثم أشار إلى تحقيق القسمين الباقيين من الأربعة فقال :

(والثانية) عطف على قوله والأولى أي : الأولى وهي الثانية فيها قسمان كما تقدم والثانية وهي غير الثابتة التي أريد إثباتها فيها قسمان أيضا ؛ لأنها (إما ممكنة) بمعنى أنها مجزوم بانتفائها ولكنها ممكنة الحصول (كقوله : يا واشيا) (١) أي يا ساعيا بالكلام على وجه الإفساد من وصفه أنه (حسنت فينا إساءته) أي حسن عندنا ما قصد هو إساءتنا فحسن إساءة الواشي هو الصفة المعللة الغير الثابتة علل ثبوتها بقوله (نجي حذارك إنساني من الغرق) أي إنما حسنت لأجل أنها أوجبت حذارى منك ، فلم أبك

__________________

(١) البيت لمسلم بن الوليد فى ديوانه ص (٣٢٨) ، والطراز (٣ / ١٤٠) ، والمصباح ص (٢٤١) ، وفى الشعر والشعراء (٢ / ٨١٥) ، وطبقات الشعراء ص (١١١).

٥٦٦

لئلا تشعر بما لدي. ولما تركت البكاء نجا إنسان عيني من الغرق بالدموع. فقد أوجبت إساءتك نجاتي من إنسان عيني (فإن استحسان) أي إنما قلنا إن الصفة هنا ولو لم تقع هي ممكنة ؛ لأن استحسان (إساءة الواشي) معلوم أنه (ممكن لكن) هو غير واقع ولذلك كان المثال من قسم الصفة الغير الثابتة ، و (لما خالف) الشاعر (الناس فيه) أي في ادعائه الوقوع دون الناس ، إذ لا يستحسنه الناس (عقبه) أي : ناسب أن يأتي عقبه أي عقب ذكره حسن إساءة الواشى (ب) تعليل يقتضي وقوعه في زعمه ، ولو لم يقع وهو (أن حذاره منه) أي من الواشي (نجى إنسان عينه من الغرق بالدموع) التي يتأذى بها وذلك لترك البكاء خوفا من الواشي فنجاة إنسانه من الغرق بحذاره علة لما ذكر غير مطابقة لما في نفس الأمر وهي لطيفة.

كما لا يخفى فكان الإتيان بها من حسن التعليل فإن قيل هنا أمران عدم وقوع المعلل وكون العلة غير مطابقة وكلاهما غير مسلم ، إذ لا يكذب من ادعى أن الإساءة حسنت عنده لغرض من الأغراض فالصفة المعللة على هذا ثابتة والعلة التي هي نجاة إنسانه من الغرق بترك البكاء لخوف الواشي ، لا يكذب مدعيه لصحة وقوعه.

فعلى هذا لا يكون هذا المثال من هذا القسم ولا من حسن التعليل ، فلمطابقة العلة له لا يكون من حسن التعليل ، ولثبوت الصفة لا يكون من هذا القسم قلت المعتاد أن حسن الإساءة لا يقع ، لا من هذا الشاعر ولا من غيره فعدم الوقوع مبني على العادة وترك البكاء للواشي باطل عادة ؛ لأن من غلبه البكاء لم يبال بمن حضر عادة ، وأيضا ترك البكاء له لا يكاد يتفق في عصر من الأعصار وعلى المعتاد بني الكلام.

فدعاوى الشاعر استحسانات تقديرية ؛ لأن أحسن الشعر أكذبه فيثبت المراد والله الموفق بمنه وكرمه.

ثم لا يخفى ما في قوله : نجى حذارك إنساني من الغرق ، من لطف التجوز ، إذ ليس هنالك غرق حقيقي وإنما هنالك عدم ظهور إنسان العين فافهم.

(أو غير ممكنة) عطف على قوله إما ممكنة أي الصفة الغير الثابتة إما ممكنة كما تقدم ، وإما غير ممكنة ادعى وقوعها وعللت بعلة تناسبها (كقوله :

٥٦٧

لو لم تكن نية الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق) (١)

الجوزاء معلومة وهي برج من البروج الفلكية ، وحولها نجوم تسمى نطاق الجوزاء ومعنى البيت أن الجوزاء على ارتفاعها لها عزم ونية لخدمة الممدوح ؛ ومن أجل ذلك انتطقت أي شدة النطاق تهيؤا لخدمته فرؤية النطاق دليل على النية ، فلو لم تنو خدمته ما رأيت عليها نطاقا شدت به وسطها والنطاق والمنطقة ما يشد به الوسط ، وقد يكون مرصعا بالجواهر ، حتى يكون كعقد خالص من الدر فالانتطاق هنا أراد به الحالة الشبيهية بالانتطاق ، وهي كون الجوزاء أحاطت بها تلك النجوم ، كإحاطة النطاق الذي فيه جوهر ، فصار كعقد من الدر بوسط الإنسان فقد جعل علة الانتطاق في الخارج نية خدمة الممدوح ، وجعل الانتطاق دليلا على نية الخدمة ؛ لأنه يصح الاستدلال برؤية المعلوم على وجود العلة ونحو هذا الاعتبار هو المفاد بنحو هذا التركيب لغة ، فإنه إذا جاءك إنسان وكان مجيئه سبب إكرامك إياه في الخارج ، وأردت أن تستدل على أن المجيء كان فكان مسببه الإكرام قلت لو لم تجئني ما أكرمتك أي لكني أكرمتك فانتفى التالي فينتفي المقدم وهو عدم المجيء فيثبت المجيء المستلزم للإكرام.

فعلى هذا تكون العلة كما ذكرت ، نية خدمة الممدوح ، والمعلول هو الانتطاق.

ومن المعلوم أن انتطاق الجوزاء ثابت ، إذ المراد به إحاطة النجوم بها كإحاطة النطاق بالإنسان وإذا كان المراد بالانتطاق الحالة الشبيهة بالانتطاق فهي محسوسة ثابتة ونية الخدمة التي هي علتها غير مطابقة فيكون هذا المثال لقسم ما عللت فيه صفة ثابتة بعلة غير مطابقة كما تقدم في قوله (٢) :

لم يحك نائلك السحاب وإنما

حمت به فصبيبها الرحضاء

لا من قسم ما عللت فيه صفة غير ثابتة ، يعني لأن النية لا تتصور إلا من الحي العالم دون الجوزاء ، وهو يقتضي أن المعلل هو النية والعلة هي الانتطاق وهذا المعنى لا يدل عليه التركيب ، ولا يوجد في المعنى ؛ لأن النية سبب الانتطاق ، وليس الانتطاق سببا

__________________

(١) البيت مترجم عن بيت فارسى فى الإيضاح ص (٥٢٢) ، وفي عقود الجمان (٢ / ١٠٧ ، ٣٨٢).

(٢) البيت لأبى الطيب فى شرح التبيان للعكبرى (١ / ٣٣).

٥٦٨

للنية كما لا يخفى. اللهم إلا أن يراد بالعلة العلة العلمية ، بمعنى أن علة علمنا بأن نية خدمة الممدوح كانت هي انتفاء عدم الانتطاق بثبوت الانتطاق ، ورؤيته كما ذكرنا ، أنه يستدل بالمعلول على العلة فيكون المعلول علة للعلم بوجود العلة لهذا المعلول في الخارج ؛ لأن العلة كما تطلق على ما يكون سببا لوجود الشيء في الخارج تطلق على ما يكون سببا لوجود العلم به ذهنا.

فالانتطاق وإن كان معلولا مسببا عن النية في الخارج يجعل علة للعلم بوجود النية ؛ لأن يستدل بوجود المسبب على وجود السبب وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم المستلزم لحصول المراد كما في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فإن انتفاء الفاسد انتفاء اللازم ، ويكون علة للعلم بانتفاء الملزوم الذي هو التعدد ، فيثبت المراد الذي هو الوحدة. وهذا ولو كان هو الأقرب لأن يحمل عليه المثال لتصحيح كلام المصنف ، لكن فيه تمحل ؛ لأن الظاهر أن مرادهم بالعلة ما يكون علة في الوجود لا في العلم كما تشهد به الأمثلة السابقة.

وأما ما قيل لتصحيح كلام المصنف من أنه أراد أن الانتطاق صفة ممتنعة للجوزاء ، إذ الانتطاق صفة مخصوصة بالإنسان الذي يشد النطاق في الوسط ، فهو صفة غير ثابتة عللها بعلة هي نية خدمة الممدوح غير مطابقة لما فى نفس الأمر فيكون المثال لغير الثابتة التي لا تمكن لأن الانتطاق غير ممكن فيرد من وجهين :

أحدهما : أن المصنف صرح في الإيضاح كما تقدم بأن الصفة الغير الثابتة وهي المعللة إنما هي نية خدمة الممدوح لا الانتطاق ، ولم يجعل النية هي العلة كما ذكر هذا القائل.

والآخر : أن الانتطاق أطلق تجوزا على معنى صحيح هو هيئة إحاطة النجوم بالجوزاء كما ذكرنا ، فهو أمر محسوس ، لا يمكن كونه غير حقيقي ، وحمله على الانتطاق المعهود مع قيام القرينة على إرادة خلافه إحالة للدلالة اللفظية عن وجهها ، ولا وجه له.

٥٦٩

فتقرر بهذا أن المثال إن حمل على ما يفهم عرفا من التركيب عاد إلى القسم الأول ، وهو تكون في الصفة ثابتة عللت بعلة غير مطابقة. فالصفة الثابتة الحالة الشبيهة بالانتطاق والعلة نية خدمة الممدوح ، وإن تؤول على العكس أي على أن تكون العلة الانتطاق والمعلول النية صحة على أن يراد بالعلة علة العلم ودليله ، ولكن فيه تمحل كما تقدم ، وحمله على الظاهر مع إدعاء كون الانتطاق صفة غير ثابتة يرده كلام المصنف في الإيضاح ، ويرده أن المراد بالانتطاق محسوس ، وإن كانت الدلالة عليه مجازا.

وقد تم بهذين القسمين الأربعة السابقة وأعني بالقسمين : ما تكون فيه غير الثابتة ممكنة كما تقدم ، وما تكون غير ممكنة كما في هذا المثال ؛ لأن نية خدمة الممدوح محالة من الجوزاء. فافهم.

ولما كان تعريف حسن التعليل إنما يشمل بحسب الظاهر ما فيه وجود العلة على وجه الشك ذكره ملحقا بما تقدم فقال (وألحق به) أي وألحق بحسن التعليل (ما يبنى على الشك) أي الإتيان بعلة ترتب الإتيان بها على الشك فيؤتى في الكلام بما يدل على الشك وإنما لم يجعل من حسن التعليل حقيقة ؛ لأن العلة لما كانت غير مطابقة وأتى بها لإظهار أنها علة لما فيه من المناسبة المستظرفة لم يناسب فيها إلا الإصرار على إدعاء التحقق وعلى ذلك يحمل التعريف كما هو الأصل. وأشرنا إليه آنفا والشك ينافي ذلك ثم مثل لهذا الملحق فقال (كقوله) أي كقول أبي تمام :

ربي شفعت ريح الصبا لرياضها

إلى المزن حتى جادها وهو هامع (١)

كأن السحاب الغر غيبن تحتها

حبيبا فما ترقا لهن مدامع

والضمير في تحتها يعود إلى الربى جمع ربوة ، وهي ما ارتفع من الأرض ، والمزن معلوم ، والهامع منه هو الغزير المطر ، وجاد بالدال أي بالجود بفتح الجيم وهو المطر الكثير ، يقال : جاد السحاب الأرض فهي مجيدة إذا أصابها بالجود ، والغر جمع أغر ، وهو في الأصل الأبيض الجبهة ، والمراد به هنا مطلق الأبيض ؛ لأن السحاب الممطر الأبيض

__________________

(١) البيتان لأبى تمام فى ديوانه ص (٤٢٥) ، والإيضاح (٣١٤) ، والمصباح ص (٢٤٢).

٥٧٠

أكثر هموعا من الأسود ، فهو عبارة عن كثير المطر ، وترقا مهموز خفف للضرورة ، يقال : لا يرقأ لفلان دمع ، إذا كان لا ينقطع.

ومعنى البيتين أن ريح الصبا شفعت للرياض إلى المزن فجادت به بشفاعتها إلى رياض تلك الربى والحال أنه كثير الهموع أي سيلان المطر فصارت السحاب البيض لكثرة أمطارها كأنها غيبت تحت الربى حبيبا ، فجعلت تبكي عليه فلا يرقأ أي ينقطع لها دمع ، وكأن في نحو هذا الكلام يؤتى بها كثيرا عند قصد عدم التحقق في الخبر ، كما نقول : كأنك تريد أن تقوم ، عند عدم جزمك بإرادته القيام.

ومضمن الشاهد أن السحاب البيض يظن أو يشك أنه غيبت حبيبا تحت الربى فمن أجل ذلك لا ينقطع دمعها ، فبكاؤها صفة عللت بدفن حبيب تحت الربى. ولما أتى بكأن أفاد أنه لم يجزم بأن بكاءها لذلك التغيب ، فكأنه يقول : أوجب لي بكاؤها الدائم الشك أو الظن في أن سبب ذلك تغييبها حبيبا تحت تلك الربى. فقد ظهر أنه علل بكاءها على سبيل الشك والظن بتغييبها حبيبا تحت الربى ولا يخفى ما في تسمية نزول المطر بكاء من لطف التجوز وبه حسن التعليل هذا إن حمل على ما ذكر من الشك وإن حمل على أنه شبه السحاب ببواك غيبن تحت تلك الربى حبيبا ، فجعلت لا يرقأ لها دمع ويكون التقدير : كأن السحاب بواك غيبن الخ.

خرج الكلام عما نحن بصدده ، لكن العلة في المشبه به حينئذ وهي مطابقة.

فافهم.

التفريع

(ومنه) أي : ومن البديع اللغوي (التفريع) أي النوع المسمى بالتفريع (وهو) أي التفريع (أن يثبت لمتعلق أمر حكم) أي أن يثبت حكم من الأحكام لشيء بينه وبين أمر تعلق ، ونسبة تصحح الإضافة أو ما يشبهها فالمراد بالتعلق هنا النسبة ، ويكون الإثبات لهذا المتعلق أي المنسوب لذلك الأمر (بعد إثباته) أي بعد أن ثبت ذلك الحكم (لمتعلق له آخر) أي لمنسوب له آخر.

٥٧١

فالمتعلق في الموضوعين بفتح اللام ، ففهم من التعريف أنه لا بد من متعلقين أي منسوبين لأمر واحد ، كغلام زيد وأبوه ، فزيد أمر واحد وله متعلقان أي منسوبين له أحدهما غلامه والآخر : أبوه. ولا بد من حكم واحد يثبت لأحد المتعلقين وهما الغلام والأب بعد إثباته لآخر كأن يقال : غلام زيد فرح ، وأبوه فرح ، فالفرح حكم أثبت لمتعلقي زيد ، وهما غلامه وأبوه ، ولكن لا بد أن يكون إثباته للثاني على وجه التفريع عن إثباته للأول ، كأن يقال : غلام زيد فرح ، كما أن أباه فرح. فيخرج نحو هذا المثال ، أعني قولنا : غلام زيد فرح وأبوه فرح ؛ لعدم التفريع في الإثبات للثاني ولو اتحد الحكم فيهما. وأما إخراج نحو زيد راكب وأبوه راجل فمن شرط اتحاد الحكم ؛ لأنه تعدد الحكم فى هذا المثال ، ولا يحتاج إلى إخراجه من شرط كون الإثبات للثاني على وجه التفريع ثم مثل للتفريع فقال (كقوله :

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفى من الكلب) (١)

فمدلول الكاف الذي هو الممدوحون وهم أهل البيت أمر واحد له متعلقان ، وهما الأحلام أي : العقول المنسوبة لهم والدماء المنسوبة لهم. أثبت لأحد متعلقيه وهو الدماء الشفاء من الكلب ، بعد إثبات ذلك الحكم ، وهو الشفاء في الجملة لمتعلق آخر هو العقول. ولا يضر في اتحاد الحكم كون الشفاء في أحدهما منسوبا للكلب وفي الآخر للجهل لاتحاد جنس الحكم.

والكلب داء يشبه الجنون ينشأ عادة من عضة الكلب يصيبه ذلك من أكله لحم الإنسان أو من كثرة سمنه في زمن الحرارة ثم لا يعض أحدا إلا أصابه ذلك بإذن الله تعالى. وربما دووي قبل ظهور ذلك الداء في المعضوض فلا يظهر وهو صعب البرء بعد ظهوره في المصاب ولا يفارقه غالبا حتى يموت. فقالوا : إن أنفع أدويته دماء الأشراف قيل إن كيفية ذلك أن يشرط الشريف من إصبع رجله اليسرى ، فتؤخذ من دمه قطرة ، تجعل على تمرة يطعمها المصاب فيبرأ بإذن الله تعالى.

__________________

(١) البيت لأبى تمام ، وهو فى الإيضاح ص (٣١٤) ، والمصباح ص (٢٣٨).

٥٧٢

ومعنى تفريع إثبات الشفاء من الكلب على إثبات الشفاء لاستقام الجهل ، أن إثبات الشفاء من سقام أي مرض الجهل ، جعل كالمقدمة والتوطئة لإثبات الشفاء من الكلب ، ففرع الثاني على الأول فى الذكر. وفي جعله مرتبا عليه ، بتوسطه فيه احترازا مما إذا عطف أحد الحكمين على الآخر ، أو ذكر مستقلا ، وليس المراد التفريع في الوجود.

فإن كون الدماء شفاء لا يترتب في الخارج على كونهم ذوي عقول تشفي من الجهل ، وإنما يترتب على الشرف الملكي أو النسبي اللهم إلا أن يدعي أن شرف العقل كاف في ترتب الشفاء من الكلب ، وهو بعيد وعلى تقدير تسليمه ، فالكاف إن جعلت للتشبيه فالمشبه به هو الأصل المتفرع عنه ، والمشبه هو الفرع ، فلم يصح معه التفريع المعهود.

نعم لو قال : فدماؤكم إلخ بالفاء ؛ كان تفريعا ؛ فلهذا قيل إن المراد بتفريع الثاني عن الأول كونه ناشئا ذكره عن ذكر الأول ، حيث جعل الأول وسيلة إليه حتى إن الثاني في قصد المتكلم لا يستقل عن ذكر الأول وقوله كما دماؤكم الخ يحتمل أن تكون ما فيه غير كافة من الجر ، فيكون دماؤكم مجرورا ، وجملة تشفي في موضع الحال ، ويحتمل أن تكون كافة فيكون دماؤكم مبتدأ ، وتشفي خبره. ومعنى البيت أن الممدوحين ملوك وأشراف وأرباب العقول ، فعقولهم شفاء لجهل مخالطيهم ودماؤهم شفاء للكلب وكون دماء الملوك والأشراف أنفع شيء للمصاب بالكلب أمر مشهور عندهم ولذلك قال الحماسي :

بناة مكارم وأساة كلم

دماؤكم من الكلب الشفاء

أي أنتم الذين تبنون المكارم ، وترفعون أساسها بإظهارها وأنتم الذين تؤاسون أي تطبون الكلم أي جراحات القلوب. وجراحات الفاقة وغيرها. فبناة جمع بان ، وأساة جمع آس كقاض وقضاة وأنتم الذين دماؤكم تشفي من الكلب لشرفكم وكونكم ملوكا.

تأكيد المدح بما يشبه الذم

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (تأكيد المدح بما يشبه الذم) أي النوع المسمى بذلك (وهو) أي تأكيد المدح بما يشبه الذم (ضربان) أي : نوعان والمناسب لقوله بعد

٥٧٣

ذكر الضربين ، ومنه ضرب آخر أن يقول هنا وهو ضروب ، وكأنه رأى أن الضربين هما الأكثر أو الأشهر فلم يتعرض للآخر هنا (أفضلهما) أي أفضل الضربين وهو أولهما (أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة المدح) لذلك الشيء فقوله صفة مدح نائب فاعل يستثنى وإنما يستثنى صفة مدح من صفة ذم (بتقدير دخولها) أي بأن يقدر المتكلم أن صفة المدح المستثناة داخلة في صفة الذم المنفية. ثم إنه ليس المراد بالتقدير إدعاء الدخول على وجه الجزم والتصميم ، بل تقدير الدخول على وجه الشك المفاد بالتعليق ؛ لأن معنى الاستثناء كما يأتي : أنا نستثني هذا العيب من المنفي الذي نقدر أي نفرض دخوله إن كان عيبا ، هذا إذا كانت الباء على أصلها ، ولو جعلت بمعنى على أفادت التقدير على وجه التعليق الموجب لكونه على وجه الشك ، فلا يحتاج للتنبيه على أنه المراد. فافهم.

وإنما كان ما ذكر من تأكيد المدح بما يشبه الذم لأن نفي صفة الذم على وجه العموم حتى لا يبقى ذم في المنفي عنه مدح وبما تقرر أن الاستثناء من النفي إثبات كان استثناء صفة المدح بعد نفي الذم إثباتا للمدح فجاء فيه تأكيد المدح وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في كلام المصنف وإنما كان مشبها للذم ؛ لأنه لما قدر الاستثناء متصلا ، وقدر دخول هذا المستثنى في المستثنى منه كان الإتيان بهذا ـ المستثنى لو تم التقدير وصح الاتصال ـ ذما ؛ لأن العيب منفي فإذا كان هذا عيبا كان إثباتا للذم ، لكن وجد مدحا ، فهو في صورة الذم وليس به ولهذا كان هذا التأكيد مشبها للذم ، وفي صورته ، حيث أتى به مستثنى مقدر الاتصال وفائدة تقديره متصلا إفادة أن هذا المستثنى لا يثبت العيب إلا به ، إن صح كونه من جنسه فيفيد ذلك تعليق ثبوت العيب على المحال ؛ لأن الفرض أن المستثنى مدح لا ذم ، فتعليق إثبات الذم على كونه صفة ذم مع كونه صفة مدح تعليق بالمحال كما سيقرره المصنف أيضا.

ثم مثل لتأكيد المدح بما يشبه الذم فقال : (كقوله) أي كقول النابغة الذبياني

(ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب)

٥٧٤

الفلول جمع فل ، وهو الكسر يصيب السيف في حده ، وهو القاطع منه ، والكتائب جمع كتيبة وهي الجماعة المستعدة للقتال جيشا كانت أو بعضه ، وتكون خيلا مؤخرة عنه أو خيلا أغارت من المائة إلى الألف ، وقراعها مضاربتها عند اللقاء فقوله لا عيب فيهم نفي لكل عيب ونفي كل عيب مدح ثم استثنى من العيب المنفي كون سيوفهم مفلولة من مضاربة الكتائب ، على تقدير كونه عيبا (أي إن كان فلول السيف عيبا) ثبت العيب وإلا فلا (فأثبت) بصيغة الماضي أي أثبت الشاعر (شيئا منه) أي من العيب (على تقدير كونه) أي الفلول (منه) أي من العيب (وهو) أي هذا المقدر ، وهو كون الفلول من العيب (محال) لأنه إنما يكون من مصادمة الأقران في الحروب ، وذلك من الدليل على كمال الشجاعة (فهو) أي فتعليق إثبات شيء من العيب على كون الفلول عيبا (في المعنى تعليق بالمحال) والمعلق على المحال محال ، وقد تقدم أن إفادة التعليق بالمحال هو السر في تقدير الاتصال.

قيل إن قوله على تقدير كونه منه أي من العيب زيادة تأكيد وتوضيح لقوله : إن كان فلول السيف عيبا ، ورد بأنه إنما يلزم ذلك إن قريء أثبت بصيغة المضارع ، فيكون من تتمة كلام الشاعر. وأما إن قريء بصيغة المضي فهو من كلام المصنف إخبارا عما أراد الشاعر ، فلا يكون تأكيدا. نعم مجموع أثبت إلى آخره توكيد وتوضيح لمضمون كلام الشاعر. تأمله.

ومثل هذا التعليق بالمحال أن يقال مثلا : لا أفعل كذا حتى بيض القار أي : الزفت وحتى يلج الجمل أي : يدخل في سم الخياط أي : في ثقب الإبرة ؛ لأنه في تأويل الاستثناء على التعليق ؛ لأن المعنى لا أفعله على وجه من الوجوه ، إلا إن ثبت هذا الوجه وهو أن يبيض القار ، أو يلج ، في السم. وثبوت هذا الشرط محال ، ففعل ذلك الشيء محال.

(فالتأكيد فيه) أي في هذا الضرب وهو أن يستثنى من صفة ذم منفية صفة مدح على تقدير دخولها فيها (من) جهتين (جهة أنه) أي إثبات المدح فيه (كدعوى الشيء ببينة) أي كإثبات المدعي بالبينة ، وإنما قال كدعوى الشيء ببينة ولم يقل إنه نفس

٥٧٥

الإثبات ببينة ؛ للعلم بأن ليس هنا استدلال أصلا ، وإنما هنا مجرد الدعوى. لكن لما تقرر أن الاستدلال قد يكون بأن يقال : إن هذا الشيء لو ثبت ثبت المحال ، فإذا سلم الخصم هذا اللزوم لزم قطعا انتفاء ذلك الشيء فيلزم ثبوت نقيضه فإذا كان نقيضه هو المدعي لزم إثباته بحجة التعليق بالمحال ، صار هذا الاستثناء بمنزلته في الصورة ؛ لأن المتكلم علق ثبوت العيب على كون المستثنى عيبا ، وكونه عيبا محال فالمعلق على المحال محال فعدم العيب محال.

ويكفي في التأكيد إيهام وجود هذا الاستدلال ؛ لاشتراك البابين في مجرد التعليق ، ولو كان هنا على سبيل الإثبات بالدليل فافهم.

(و) جهة (أن الأصل في) مطلق (الاستثناء) هو (الاتصال) أي كون المستثنى من جنس المستثنى منه وكون المستثنى منه ، ملابسا لما يفيد فيه العموم بحيث يدخل فيه المستثنى على تقدير السكوت عنه ، وإنما كان الأصل في الاستثناء الاتصال لما تقرر في محله وهو أن الاستثناء المنقطع مجاز. وقولنا : الاستثناء المنقطع مجاز تريد أن أداة الاستثناء في المنقطع مجاز ، وأما إطلاق لفظ الاستثناء على المنقطع فهو حقيقة اصطلاح وقيل إن لفظ الاستثناء في المنقطع مجاز أيضا ، وإذا كان فى الأصل في أداة الاستثناء الاتصال أو في نفس الاستثناء (فذكر أداته) أي أداة الاستثناء ، فالضمير في أداته عائد على الاستثناء ، إلا أننا إن قلنا : إن المراد بالاستثناء أولا أداته كان الضمير في أداته على الاستثناء بمعنى الأداة ، أو بمعنى نفس الاستثناء على طريق الاستخدام. وإن قلنا إن المراد به الاستثناء بناء ، على أن لفظه مجاز في المنقطع ، كان الضمير على أصله.

(قبل ذكر ما بعدها) أي فذكر الأداة قبل أن يتلفظ بما بعدها وهو المستثنى (يوهم إخراج شيء) وهو المستثنى ؛ لأن الأصل في الاستثناء الاتصال ، فيفهم أولا بناء على الأصل أنه أريد إخراج ما دخل (مما قبلها) أي مما قبل أداة الاستثناء ، والذي قبل أداة الاستثناء هو المستثنى منه (فإذا وليها) أي فإذا ولي الأداة (صفة مدح) ، وتحول الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع ، وتعين أن المراد به الانقطاع (جاء التأكيد) لما في ذلك الاستثناء من زيادة المدح على المدح ، مع أن المزيد على وجه أبلغ.

٥٧٦

والمدح الأول المزيد عليه نفي العيب على العموم حيث قال : لا عيب فيهم ، والمدح الثاني المزيد إشعار استثناء المدح بعد العموم بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها ؛ لأن أصل الإتيان بالأداة بعد عموم النفي استثناء الإثبات من جنس المنفي ، وهو الذم ، فلما أتى بالمدح بعد الأداة فهم منه أنه طلب الأصل ؛ لأنه هو الذي ينبغي أن يرتكب فلما لم يجده أي لم يجد الأصل الذي هو استثناء الذم اضطر إلى استثناء المدح ، فتحول الاستثناء عن أصله إلى الانقطاع ولا يخفى أن هذا أبلغ وأنه توجيه يستملح ، ويثلج به الصدر في إفادة التأكيد حقيقة ، والأول إنما أفاد التأكيد بأمر تخييلي كما تقدم ، وهو الفرق بينهما وقوله ذكر الأداة يوهم إخراج شيء دخل ، لا يخلو من تمحل وإيهام : أما التمحل فلأن الإيهام المذكور إنما يتحقق في الخارج إن فرض أن الأداة ذكرت ثم ذكر المستثنى بعد مهلة ، وأما إن ذكر بإثرها فلم يتحقق إيهام إخراج شيء دخل ؛ لأنه بنفس سماع الأداة سمعت صفة مدح بعدها ، والإيهام حيث تعلق بإخراج شيء دخل يحتاج إلى مهلة في حصوله ؛ لطوله.

وأما الإيهام ، فلأن هذا الكلام يتبادر منه أن التأكيد يتوقف على حصول إيهام استثناء ما هو عيب ، وأن ذلك التأكيد لا يحصل حتى يذهب الوهم إلى الاتصال ، ثم يعود إلى الانقطاع ، وليس كذلك ، بل إنما يتوقف على كون الأصل في الاستثناء الاتصال ، فالفائدة إنما هي في بيان أن المتكلم لما كان الأصل في الاستثناء ما ذكر فهم بعد الفراغ من الكلام أنه كان طلب الأصل وهو الاتصال ، إذ هو الذي ينبغي أن يرتكب ويحمل عليه طلب الطالب فلم يجده فلذلك تحول إلى الانقطاع باستثناء المدح فيفهم التأكيد والمدح الذى يطلب معه عيب ، ولا يوجد أصلا أوكد فتأمل.

فإن قلت : من أين يفهم أن التعليق كان في الاستثناء المذكور ، فإن مدلول قولنا مثلا : لا عيب فيه إلا الكرم استثناء الكرم فيطلب له وجه يصح اتصالا وانقطاعا ، وأما أن المعنى لا عيب إلا الكرم إن كان عيبا فلا دليل عليه؟ قلت : يفهم من موارد الكلام ، فإن معناه هو ما ذكر عند البلغاء ، حتى إنه ربما صرح به فيقال مثلا : فلان لم نجد له

٥٧٧

عيبا إلا عيبا واحدا هو حسن الخلق إن كان حسن الخلق عيبا ، ولذلك سر ، وهو أن هذا التعليق يفيد فائدتين :

إحداهما : ثبوت المدح ببينة كما تقدم.

والأخرى : تقريب الاستثناء من الاتصال الحقيقي الذي هو الأصل ؛ لأنه إنما استثنى الكرم في المثال على

تقدير كونه عيبا وعلى ذلك التقدير يكون الاستثناء متصلا ، وإن كان الاستثناء بحسب الظاهر ظاهر الانفصال فتأمل.

(والثاني) من ضربي تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وهو المفضول منهما هو : (أن يثبت لشيء صفة مدح وتعقب) تلك الصفة (بأداة استثناء) ومعنى تعقيب الصفة بأداة أن تذكر تلك الأداة بعقب إثبات تلك الصفة الموجبة لذلك الشيء. (تليها) أي تذكر تلك الأداة حال كونها تليها أي تأتي بعدها (صفة مدح أخرى) كائنة (له) أي : لذلك الشيء الموصوف بالأولى ، ويؤخذ من مثالهم هنا لهذا الضرب : أن الصفة الثانية لا بد أن تكون مما يؤكد الأولى ، ولو بطريق اللزوم ، حتى لو قيل مثلا : زيد كريم ، غير أنه حسن الوجه ، لم يكن من هذا الباب ، وإنما يكون من هذا الباب نحو قولك : أنا أعلم الناس بالنحو غير أنى أحرر منه أبواب التصريف ؛ لأن إثبات الصفة في مقام المدح يشعر بإثباتها على وجه الكمال المقتضي لانتفاء جميع أوجه النقصان عن تلك الصفة ، فإذا أتى بأداة الاستثناء وسيق بعدها ما أشعر به ثبوت الصفة على وجه الكمال بأن يثبت بتلك الصفة ـ المأتي بها ثانيا ـ وجه من أوجه الكمال ، جاء التأكيد ويحتمل أن يكون ما ذكر منه نظرا إلى التقاء الصفتين في المدحية ، فيحصل المراد بحصول مجرد التأكيد في المدح ؛ بسبب مجرد ذكر مطلق الصفة المدحية ، ولو لم تكن مما يلائم المذكورة أولا ، وربما يدل عليه ما يأتي في قوله :

هو البدر إلا أنه البحر زاخرا.

(نحو) أي مثل أن يقال : (أنا أفصح العرب بيد أنى من قريش) (١) فإن إثبات الأفصحية على جميع العرب يشعر بكمالها ، والإتيان بأداة الاستثناء بعدها يشعر بأنه

__________________

(١) أورده العجلونى فى كشف الخفاء (١ / ٢٠١) ، وقال : قال فى اللآلئ : معناه صحيح ، ولكن لا أصل له.

٥٧٨

أريد إثبات مخالف لما قبلها ؛ لأن الاستثناء أصله المخالفة ، فلما كان المأتي به كونه من قريش المستلزم لتأكيد الفصاحة ، إذ قريش أفصح العرب جاء التأكيد كما لا يخفى عند كل ذي طبع سليم.

وإنما كان مدحا بما يشبه الذم ، لما ذكرنا من أن أصل ما بعد الأداة مخالفته لما قبلها ، فإن كان ما قبلها إثبات مدح كما هنا ، فالأصل أن يكون ما بعدها سلب مدح ، وإن كان سلب عيب كما في السابق فالأصل فيما بعدها أن يكون إثبات عيب ، وهو هنا ليس كذلك ، فكان مدحا في صورة ذم ؛ لأن ذلك أصل دلالة الأداة وبيد : فيه لغتان أخريان ميد بالميم أولا ، وببد بالباءين الموحدتين قيل إنها بمعنى غير وعليه بنى المثال ، وأما إن جعلت بمعنى لأجل كما قيل إنها تدل على ذلك ؛ فلا يكون المثال من هذا الباب كما لا يخفى.

ثم أشار إلى ما يتبين به أن هذا الضرب إنما يفيد التأكيد من وجه واحد من الوجهين السابقين ، ليرتب على ذلك أن الأول أفضل منه فقال : (وأصل الاستثناء فيه) أي في هذا الضرب (أيضا أن يكون منقطعا) كما أن الاستثناء في الضرب الأول منقطع. أما الانقطاع في الضرب الأول ؛ فلأن الفرض أن معناه : أن يستثنى من العيب خلافه ، فلم يدخل المستثنى في جنس المستثنى منه فيه. وأما الانقطاع في هذا الضرب فلانتفاء العموم في المستثنى منه ، فلم يدخل المستثنى في المستثنى منه ، وكون الأصل في الضربين الانقطاع لا ينافي كون الأصل في مطلق الاستثناء الاتصال ؛ لأن المتعلق فى الأصلين مختلف عموما وخصوصا فإن قلت : لما قال : أصل الاستثناء فيه الانقطاع كالأول لأن لفظة أيضا تدل على ذلك ، ولم يقل والاستثناء فيهما منقطع؟ قلت : كأنه راعى ما عسى أن يعرض فيهما من تكلف ردهما متصلين ، فيكون المراد بالأصل ما يتبادر من التركيب دون ما يتأول.

أما التأويل في الأول فكأن يقدر لا شيء فيه إلا هذا الأمر أو يراعى الاتصال بتقصير كون المستثنى عيبا. وأما الثاني فكأن يقدر أنا أفصح العرب فلا شيء يخل بفصاحتي إلا أني من قريش ، إن كان مخلا ، فأشار إلى أن ذلك خلاف الأصل وقد ظهر

٥٧٩

بما ذكر أن الضربين اشتركا في الانقطاع لكن بين إنقطاعيهما مخالفة وهو أن الانقطاع في الأول يقدر متصلا لوجود العموم فيه ، فيضعف التكلف في تقديره.

والانقطاع في الثاني لا يقدر فيه الاتصال ؛ لكثرة التمحل بكثرة التقدير فيه ، وإلى هذا أشار بقوله : (لكنه) أي الاستثناء المنقطع في هذا الضرب (لم يقدر متصلا) كما قدر في الضرب الأول لما ذكر من سهولة تقدير الاتصال في الأول دون الثاني ؛ لأن الثاني ليس فيه صفة ذم منفية على وجه العموم ، فيمكن تقدير دخول المستثنى فيها ، وهو صفة مدح بتقدير كونها صفة ذم ، وإنما فيه إثبات صفة لا على وجه العموم فتقدير دخول ما بعد الآلة فيها يحتاج إلى تأويل الكلام ، بأن يكون المراد في المثال كما أشرنا إليه : أنا أفصح العرب فلا شيء يخل بفصاحتي ، أو لا عيب في فصاحتي إلا أني من قريش ، إن كان عيبا فيعود حينئذ إلى الاتصال.

ولا يخفى ما فيه من التعسف المحتاج إلى تقدير جملة أخرى لم ينطق بها ، وإذ لم يكن في هذا الضرب الثاني تقدير الاتصال (فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني) فقط.

وهو أن ذكر أداة الاستثناء قبل ذكر المستثنى يوهم الاتصال ، فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى ، جاء التأكيد ؛ لأن كون الأصل في الاستثناء الاتصال يقتضي أنه هو المطلوب أولا. فالعدول عنه إلى خلافه يفهم عدم إمكانه ، ويشعر بأنه طلب فلم يوجد ولا شك أن طلب استثناء ذم حتى لا يوجد فيستثنى المدح أوكد من مجرد إنشائه ابتداء ، ففيه إثبات مدح على مدح ، وكون المزيد على وجه أبلغ كما تقدم وفي قولنا في تفسير الوجه الثاني تبعا للمصنف أن ذكر الأداة يوهم إلى آخر ما تقدم من البحث ، وهو أن المحتاج إليه في بيان التأكيد هو كون الأصل في الاستثناء الاتصال ؛ ليفهم أنه ما عدل عنه حتى لم يمكن. وأما ذكر الإيهام فلا يفيد في هذا المعنى. نعم ربما كانت في الإشارة إلى وجه تسميته مشبها للذم ؛ لأن إيهام استثناء ما يخالف ما قبله يقتضي أنه بآلة ذم في أصلها ، وأما إفادة هذا الضرب التأكيد بالوجه الأول ، وهو أنه كدعوى الشيء ببينة فلا يصح لأنه مبني على التعليق بالمحال. والتعليق بالمحال مبني على تقدير الاستثناء متصلا.

فأما إذا قلنا : لا عيب فيه إلا الكرم إن كان عيبا ، أفاد أن العيب منتف عنه في كل ما

٥٨٠