مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

على إفادة التجريد ، وذلك (نحو) قوله : (فلئن بقيت) (١) حيا (لأرحلن) أي : لأسافرن (بغزوة). من وصف تلك الغزوة إنها (تحوي) أي : تجمع (الغنائم) أي : يجمعها أهلها يعني نفسه (أو) بمعنى إلا على حدها في قولك ؛ لأقتلن الكافر أو يسلم. أي : إلا أن يسلم ، والفعل بعدها منصوب بأن ؛ فالمعنى تحوي تلك الغزوة الغنائم إلا أن (يموت كريم). ومعناها لكن أي : لكن إن مات هذا الكريم يعني نفسه لم يحو الغنائم ، وإنما كانت كذلك لأن البقاء المتعلق بالغزوة لا يشتمل على الموت ولا شك أن معنى الكلام كما أفاده السياق : أني أجمع الغنائم ، أو أموت فالمراد بالكريم نفسه ـ كما ذكرنا ـ فقد انتزع من نفسه بقرينة التمدح بالكرم كريما مبالغا في وصفها بالكرم لدلالة الانتزاع على أنه بلغ في الكرم إلى حيث يفيض ويخرج عنه كريم آخر مثله في الكريم. وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن المتكلم بنحو هذا الكلام مما يتبادر منه أنه أقيم الظاهر فيه مقام المضمر ، يحتمل أن يقصد المبالغة في وصف نفسه بذلك الوصف ، كما وصف نفسه بالكرم هنا ، ثم بالغ حتى انتزع من نفسه كريما آخر.

وقد دلت قرينة المدح هنا على قصد ذلك لأن المبالغة في المدح أنسب له ، فيكون تجريدا كما قررناه ويحتمل أن يريد مطلق التنطع في التعبير وتحويل الكلام ، من أسلوب إلى أسلوب ؛ ليتجدد فيمال إليه ولا يمل ، فيكون التفاتا والمعنيان لا تنافي بينهما فيمكن أن يقصدهما المتكلم معا فيكون في الكلام تجريد والتفات فعلى هذا لا يرد أن يقال : التعبير بالكريم من باب الالتفات ، حيث أقيم الظاهر الذي هو لفظ الكريم مقام المضمر ، إذ لا يخفى أن الأصل كما قررناه : أو أموت. وإنما لم يرد ؛ لأنه لا تنافي بين الالتفات والتجريد على ما ذكرنا ذلك الآن وقررناه وظاهر ما دفع الإيراد المذكور أن الالتفات يجتمع مع التجريد في لفظ واحد وفي قصد واحد بحيث يراد باللفظ الواحد أن يكون للالتفات والتجريد في استعمال واحد ، وفيه بحث ؛ لأن مبنى الالتفات على الاتحاد ومبنى التجريد على التعدد ، يعني أن الالتفات هو أن يعبر عن معنى بعد التعبير

__________________

(١) البيت لقتادة بن مسلمة الحنفى ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (٢٧٨) ، وشرح المرشدى (٢ / ٩٨).

٥٤١

عن ذلك المعنى بنفسه ، أو بعد استحقاق المقام التعبير عنه بلفظ آخر ، من غير أن يكون ثم اختلاف بين المعبر عنه لفظا أو تقديرا أولا ، وبين المعبر عنه ثانيا.

والتجريد هو أن يعبر عن معنى مجرد عن معنى آخر مع اعتبار أن المجرد شيء آخر فعلى هذا لا يصح أن يقصد الالتفات والتجريد في لفظ واحد ؛ لتنافي لازميهما وتنافي اللوازم يوجب انتفاء الملزومات. نعم لو قيل في الجواب أنه كما صح الالتفات يصح فيه التجريد على البداية لا على الاجتماع ؛ وذلك أن من المواد ما يصلح لقصد التجريد فقط ، ومنها ما يصلح للالتفات فقط ومنها ما يصلح لهما معا ، فالأول كما تقدم في قولهم لي من فلان صديق حميم ، إذ لا معنى للالتفات فيه ؛ لاتحاد الطريقتين فيه إذ هما معا غيبة.

والثاني : كقوله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ) (١) إذ لا معنى للتجريد هنا.

والثالث : كالمثال الذي نحن في البحث فيه ، والتمثيل به ، على أنه تجريد ، ويدل على ذلك قرينة المدح كما تقدم ، كان وجها وأما أنهما يجتمعان قصدا فلا يصح كذا قيل : والحق أن الالتفات إن شرط فيه الاتحاد حقيقة ومن كل وجه من غير اعتبار المخالفة أصلا ـ كان منافيا في القصد للتجريد لوجود المخالفة فيه ؛ لأن المعنى المجرد قد اعتبر غير المجرد منه ، وإن شرط فيه وجود مطلق الاتحاد في نفس الأمر صح معه اعتبار المخالفة المصححة للتجريد الدال على المبالغة ، ويعتبر الاتحاد في نفس الأمر المصحح لقصد التنطع في التعبير ، وقصد تجديد الأسلوب زيادة في حسن الكلام فليتأمل.

(وقيل : تقديره) أي تقدير الكلام السابق (أو يموت منى كريم) بزيادة منى فحينئذ لا يكون قسما يرأسه لعوده إلى ما دخلت فيه من على المنتزع منه كقولهم : لي من فلان صديق حميم ، وذلك أن المقدر كالمذكور.

(وفيه نظر) أي وفي هذا القول نظر ؛ لأن تقدير شيء زائد في الكلام إنما يحوج إليه عدم تمام المعنى بدونه وهذا الكلام يفهم منه أن المتكلم جرد من نفسه كريما آخر

__________________

(١) الكوثر : ١ ، ٢.

٥٤٢

بلا تقدير المجرور بمن لأنه عادل بين كونه يحوي الغنائم أو يموت الكريم. والمطروق الجاري على الألسن أن يقال : لا بد لي من الغنيمة أو الموت فيفهم منه أن المراد بالكريم نفسه والمدح المستفاد من التعبير بلفظ الكريم يقتضي المبالغة المصححة للتجريد. وقيل وجه النظر أن الكلام حينئذ يكون التفاتا من التكلم إلى الغيبة ، ويرد بوجهين.

أحدهما : أن الالتفات لو كان هو وجه النظر لم يتوقف على تقدير قوله : مني ؛ لأن المقام للمتكلم بدون تقدير مني. فكيف يقال : وفيه نظر ؛ لأنه التفات مع وجود مثل هذا النظر في مثال المنظر وهو المصنف؟ والآخر : أن الالتفات لا ينافي التجريد على ما قررناه آنفا ، فلا يصح التنظير به في التجريد.

(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون مدلولا فيه على المعنى المجرد بطريق الكناية ، التي هي أن يعبر بالملزوم ويراد اللازم ، مع صحة إرادة الأصل ، وذلك (نحو قوله : يا خير من يركب المطي) (١) جمع مطية وهي المركوب من الإبل (ولا يشرب كأسا) وهو إناء من خمر (بكف من بخلا) أي : بكف من هو موصوف بالبخل فقوله : ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، كناية عن المراد (أي : يشرب الكأس بكف الجواد) والجواد تجريد ؛ وذلك أن المتكلم (انتزع منه) أي من المخاطب (جوادا) آخر (يشرب بكفه).

وجرى في إفادة هذا المعنى (على طريق الكناية ؛ لأنه) أي : وبيان جريانه على طريق الكناية التي هي التعبير بالملزوم عن اللازم أنه أي أن المخاطب (إذا نفي عنه الشرب بكف البخيل) وذلك هو المصرح به في قوله ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، ومعلوم أن ذلك المخاطب من أهل الشرب (فقد أثبت له) أي للمخاطب (الشرب بكف كريم) لأن الشرب لما تحقق في نفس الأمر ولم يكن بكف بخيل فقد كان بكف كريم ، إذ لا واسطة بينهما. (ومعلوم) أيضا (أنه إنما يشرب غالبا بكف) نفسه (فهو) حينئذ (ذلك الكريم) في نفس الأمر.

__________________

(١) البيت للأعشى الأكبر ، أعشى قيس ، فى الإيضاح ص (٢٤٤) ، وشرح المرشدى (٢ / ٩٨).

٥٤٣

ومن البين أن الغرض في الكناية عن الشرب بكف الكريم ـ بنفي الشرب بكف البخيل ـ إنما هو الوصف بالكرم وأما الشرب بالكف فهو واسطة لا يتعلق به الغرض ، ولكن شربه بكف كريم يستلزم لما كانت الكف للممدوح ـ أنه كريم ـ فالكناية في الحقيقة عن الكريم ، لا عن كونه يشرب الخمر بكفه ، وقد يقال : إن الشرب مما يتمدح به لزعمهم في الجاهلية أن فيه مصالح كالشجاعة وزيادة الكرم ، فعليه تكون الكناية عنه مقصودة أيضا وعلى كل حال فقد جرد كريما آخر من المخاطب ، وكنى عنه أو عن شربه بكفه المستلزم له بنفي الشرب بكف البخيل ، ولا منافاة بين الكناية وكون المكنى عنه مجردا من غيره ، فإنه كما صح التعبير عن المجرد بالتصريح يصح بالكناية. فلو امتنع التعبير عن المجرد بالكناية لامتنع بالتصريح. وقد خفى هذا الذي قررناه ـ من كون التجريد لا ينافي الكناية ـ على بعضهم ، فزعم ذلك البعض أن كلام المصنف ـ في جعل هذا تجريدا بالكناية ـ لا يصح لأن الخطاب في قوله : يا خير من يركب المطي. إن كان لنفسه فهو تجريد ؛ لأنه صير نفسه أمامه مخاطبا ، وإنما يصيرها كذلك بالتجريد.

وإذا كان هذا تجريدا فقوله : ولا يتشرب كأسا بكف من بخلا كناية عن الكريم ؛ ليكون وصفا للمجرد أولا.

ولا تجريد في الكناية نفسها ؛ لأن التجريد وقع أولا. والكلام في كون الكناية تتضمن تجريدا مستقلا ولم يوجد على هذا وإن كان خطابا لغيره كان قوله : ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، كناية عن الكريم الذي هو ذلك المخاطب ، بواسطة دلالته على أنه يشرب بكف كريم ، مع العلم بأن الكف كفه ونحن نقول في الرد على هذا البعض أن الكناية لا تنافي التجريد ، كما قررناه قريبا إذ يصح أن يجرد المعنى ، ثم يعبر عنه بلفظ الكناية ، كما يصح بلفظ التصريح. ونقول أيضا في الرد على ذلك البعض في مقتضى كلامه ـ وهو أنه يصح أن يكون خطابا لنفسه ـ : لو كان الخطاب لنفسه لم يكن هذا المثال قسما برأسه ، بل يكون داخلا فيما بعد وهو التجريد في مخاطبة الإنسان نفسه ، ولكن هذا الرد يتوقف بالنسبة إلى الطرف الثاني من الاعتراض ، وهو أنه إن أراد خطاب غيره كان كناية ، ولا يكون تجريدا ، على أن المعترض يقول بمنافاة التجريد

٥٤٤

للكناية ، وأن ذلك وجه الاعتراض وأما إن كان مراده أن كونه كناية عن ثبوت الكرم يكفي في ثبوت المراد ، ولا يحتاج إلى تطويل المسافة بأن يجرد من المخاطب كريم ثم يكنى عنه لحصول المقصود بدونه ، مع انتفاء الدليل على اعتباره ـ فلا يتم الرد إلا ببيان أن التجريد مقصود لدليل من الأدلة ، وأن المجرد هو المكنى عنه ، وقد بين ذلك بأن العدول عن الإضمار بأن يقول : لا يشرب بكفه حال كونه بخيلا مثلا إلى المدح بوصف الكرم بطريق الإظهار يدل على قصد المبالغة في المدح ؛ لأنها أنسب به كما تقدم. والمبالغة تقتضي التجريد مع ظهور التباين في التعبير بهذا الظاهر بالذوق السليم تأمله.

ويتوقف بالنسبة إلى الطرف الأول على أن المعترض يقول بصحة حمله على التجريد بواسطة كونه خطابا نفسيا ويقول بأن كلام المصنف يصح بذلك التقدير على أن يكون قسما مستقلا ؛ وذلك لأنه حينئذ يتجه أن يقال : لا يصح كونه مستقلا ؛ لدخوله فيما بعده وأما إن أراد الرد على المصنف على كل حال فكأنه يقول : إن أراد خطاب غيره فهو فاسد ؛ لكذا ، وإن أراد خطاب نفسه فلا يصح أيضا ؛ لأنه وإن كان تجريدا فهو داخل فيما بعده ؛ فكيف يصح عده مستقلا؟ فلا يرد عليه الرد المذكور قطعا ؛ لأنه نفس اعتراضه حينئذ تأمل.

فإن المكان سهل ممتنع ، والسهل الممتنع أصعب من الصعب المحض ؛ لأنه لا يغتر فيه ، ولذلك تراني في مثله أطيل النفس ، وأبسط العبارة ؛ ليتضح المراد والله الموفق بمنه وكرمه.

ثم أشار إلى التجريد الحاصل بمخاطبة الإنسان نفسه ؛ وأنه قسم من التجريد فقال.

(ومنها) أي : ومن أقسام التجريد ما تدل عليه (مخاطبة الإنسان نفسه) وذلك أن المخاطب أمام الإنسان فلا يخاطب نفسه حتى يجعل نفسه أمامه ليخاطبها ، ولا يجعلها أمامه حتى يجرد من نفسه مخاطبا آخر ، أي انتزع من نفسه شخصا آخر ، يكون مثله في الصفة التي سيق الكلام لبيانها ، وبيان ما يلائمها ؛ ليتمكن له خطابه فمخاطبة

٥٤٥

الإنسان نفسه تستلزم التجريد وذلك (كقوله) أي : المتنبي (لا خيل عندك تهديها ولا مال) (١) فهذا الكلام إنما سيق لبيان فقره ، وأنه عديم الخيل والمال ، أي : لا غناء عنده يهدي منه ليكافيء بذلك إحسان الممدوح ، فجرد من نفسه مخاطبا مثل نفسه في هذه الصفة التي هي كونه لا خيل عنده ولا غنى يهدي منه فخاطبه بقوله :

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

أي وحيث لم يوافق في تحصيل الغرض الحال أي الغنى ؛ لامتناعه وعدم وجدانه فليوافق النطق بالمدح والثناء ليكون ذلك مكافأة للممدوح بما أمكن.

المبالغة

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (المبالغة المقبولة) أي : النوع المسمى بذلك ، وقيد بالمقبولة إشارة إلى أن من المبالغة ما لا يقبل ، فلا تكون من البديع المعنوي ردا على من قال : تقبل مطلقا إذ حاصلها أن يثبت في الشيء من القوة أو الضعف ما ليس فيه. وأعذب الكلام أكذبه مع إيهام الصحة وظهور المراد فتكون من المحسنات مطلقا.

وإنما قلنا مع إيهام الصحة وظهور المراد ؛ لئلا يتوهم أن أحدا من العقلاء يقول في الكلام الكذب المحض الذي قصد ترويج ظاهره مع فساده أنه مستحسن وردا على من قال : لا تقبل مطلقا. إذ لا خير في كلام أوهم باطلا ، أو حققه كما قال السيد حسان رضي الله تعالى عنه.

فإن أشعر بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا (٢)

فهذان قولان مطلقان. والمختار كما أشار إليه المصنف التفصيل وهو أن المبالغة إن كانت غير غلو قبلت ، وإن كان غلوا ـ وسيأتي تفسيره ـ فإن كان معها لفظ يقربها من الصحة ، أو تضمنت نوعا حسنا من التخييل ، أو خرجت مخرج الهزل والخلاعة

__________________

(١) البيت للمتنبي فى ديوانه (٢ / ٢٥٠) ، وهو ضمن قصيدة قالها يمدح بها أبا شجاع ، انظر شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٩٩).

(٢) لحسان بن ثابت فى شرح المرشدى (٢ / ١٠١).

٥٤٦

قبلت وإلا ردت ثم فسرها على الإطلاق ليرتب على تفسيرها تفصيلها. وبيان المقبول منه كما أشرنا إليه فقال :

(والمبالغة) على الإطلاق أي من غير تقييد بالمقبولة (أن يدعى لوصف) أي أن يثبت لوصف بالدعوى لا بالتحقيق ، ولتضمين يدعى معنى الإثبات عداه باللام (بلوغه) نائب فاعل يدعى (في الشدة) متعلق بمقدر أي ذاهبا ، أو مترقيا في مراتب الشدة (أو الضعف حدا) مفعول بلوغ والتقدير هي أن يدعي مدع أن هذا الوصف بلغ ووصل من مراتب الشدة حدا أي طرفا ومكانا (مستحيلا أو) مكانا (مستبعدا) يقرب من المحال ويحتمل أن تكون في بمعنى من في قوله في الشدة كما أشرنا إلى ذلك في تقدير أصل الكلام ثم أشار إلى العلة الحاملة للبليغ على إيجاد تلك المبالغة فقال : وإنما يدعى ذلك البلوغ للوصف إلى تلك المنزلة ؛ (لئلا يظن) أي : يتوهم (أنه) أي : أن ذلك الوصف (غير متناه) بل متوسط أو هو دون المتوسط (فيه) أي في أحد المذكورين وهما الشدة والضعف ، ولاعتبار عود الضمير إلى أحد الأمرين أفرده وذكره ، فإنك إذا عطفت بأو جاز أن تعيد الضمير مفردا مذكرا ؛ لأن المحكوم عليه في المتعاطفين بأو هو :

أحدهما كما تقول : جاءني زيد أو عمرو فأكرمته ، إذ معنى الكلام جاءني أحدهما فأكرمت ذلك الأحد.

وفي ذلك تفصيل عند بعض النحويين ، وفهم من قولنا : أشار إلى أن العلة الحاملة على إيجاد المبالغة أن قوله لئلا يظن إلخ ليس داخلا في حد المبالغة ، وإنما هو بيان لعلة أصلها وإيجادها ، ويحتمل أن يعتبر أنها إن لم تكن بهذه العلة ، ولهذا القصد بأن كانت مع الغفلة عن ذلك لم تسم ، مبالغة فيكون التعليل المذكور داخلا في الحد.

أقسام المبالغة : التبليغ والإغراق والغلو

ثم أشار إلى حصر أقسامها بقوله (وتنحصر) المبالغة في الجملة (في التبليغ) أي فيما يسمى تبليغا أخذا من قوله : بلغ الفارس إذا مد يده بالعنان ليزداد الفرس في الجري (والإغراق) أي : وفيما يسمى بالإغراق أخذا من أغرق الفرس إذا استوفى الحد في جريه (والغلو) أي : وفيما يسمى بالغلو أخذا من غلا في الشيء تجاوز الحد فيه ويتبين بتفسير

٥٤٧

مأخذ التسامي وجه مناسبتها لمسمياتها فيما يأتي تفسيرها ، وحصر المبالغة في الثلاثة متقرر بالدليل القطعي لا بمجرد الاستقراء ، وبيان ذلك أن المبالغة كما تقدم هي أن يدعي أن الوصف منته في الشدة أو الضعف إلى الغاية فالمدعي وهو انتهاؤه إلى الغاية لا يخلو إما أن يكون ممكنا عادة ويلزمه كونه ممكنا عقلا أو لا يكون ممكنا عقلا ، ومن المعلوم أنه إن لم يمكن عقلا لم يمكن عادة وإنه لا يلزم من عدم إمكانه عادة عدم إمكانه عقلا ومن ثم انحصر الثاني في قسمين فالأول وهو الممكن عادة وعقلا هو المسمى بالتبليغ ؛ لأن فيه مجرد الزيادة على المقدار المتوسط فناسب معناه اللغوي كما تقدم.

والثاني وهو أن لا يمكن عادة ويمكن عقلا هو المسمى بالإغراق ؛ لأنه بلغ فيه إلى حد الاستغراق حيث خرج عن المعتاد فناسب المعنى اللغوي أيضا. والثالث وهو أن يستحيل عادة وعقلا هو المسمى بالغلو لتجاوزه حد الاستحالة العادية إلى الاستحالة العقلية ، فناسب معناه اللغوي أيضا وإلى هذا التفصيل وأمثلته أشار بقوله (لأن المدعى) أي إنما انقسمت المبالغة إلى الأقسام الثلاثة لأن المدعى وهو بلوغ الوصف إلى النهاية شدة أو ضعفا (إن كان) هو أي : ذلك المدعى (ممكنا عقلا وعادة) وقد علمت أن الإمكان العادي يستلزم العقلي دون العكس (فهو) أي : فدعوى بلوغه ما ذكر (تبليغ) أي يسمى تبليغا كما تقدم وذلك (كقوله) أي : امرئ القيس (فعادى) (١) أي : والى الفرس (عداء) أي ولاء يقال والى موالاة وولاء بين صيدين إذا صرع أحدهما على أثر الآخر في طلق واحد وصرع كمنع ، يصرع كيمنع ألقى الصيد أو غيره على وجه الأرض ، والطلق للفرس : سبق واحد لم يتخلله وقفة إراحة (بين ثور) متعلق بعادى أي : والى بين ثور وهو الذكر من بقر الوحش (ونعجة) وهي الأنثى منه (دراكا) بكسر الدال على وزن كتاب وهو لحاق الفرس الصيد وإتباع بعضه بعضا في القتل ، وهو من أدرك إذا لحق ، وأدرك هذا بهذا أتبعه إياه وينبغي أن يحمل هنا على معنى أن الموالاة بين الصيدين أتبع بعضها بعضا ليفيد أنه قتل الكثير في طلق واحد ولئلا يكون تأكيدا لقوله عداء (و)

__________________

(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٢٢) ، والإشارات ص (٢٧٨) ، والمصباح ص (٢٢٤) ، وشرح المرشدى (٢ / ٩٩).

٥٤٨

من وصف ذلك الفرس الذي تابع بين الصيدين أو تابع بين موالاتهما في طلق واحد أنه (لم ينضح) أي : لم يرشح (بخروج) (ماء) أي عرق (فيغسل) مجزوم عطف على لم ينضح أي لم يعرق ولم يغسل ، والغسل المنفي يحتمل أن يراد به غسل العرق ويكون تأكيدا لنفي العرق ويحتمل أن يراد الغسل بالماء القراح أي لم يصبه وسخ العرق وأثره ، حتى يحتاج إلى الغسل بالماء فمضمون هذا الكلام أن فرسه أدرك ثورا ونعجة أو أثوارا ونعاجا على الاحتمالين في مضمار واحد وهذه الدعوى أعني ادعاء بلوغ الفرس في القوة والسبق إلى هذه الحالة ممكنة عادة وعقلا ، وإن كان وجودها في الفرس في غاية الندور ، ومن ثم كانت مبالغة وتسمى أو دعواها تبليغا كما تقدم.

(وإن كان) المدعى (ممكنا عقلا لا عادة) فهو أي : فدعوى بلوغه إلى حيث يستحيل بالعادة ، وإنما بقى له الإمكان العقلي (إغراق) أي يسمى إغراقا لما تقدم وذلك (كقوله : ونكرم جارنا ما دام) (١) مقيما (فينا) أي : معنا وفي مكاننا (ونتبعه) إن رحل عنا وسكن مع غيرنا (الكرامة) واتباع الكرامة للجار إرسالها إليه وبعثها في أثره وإبلاغها إياه (حيث مالا) أي : حيث صار ووصل فمضمن هذا البيت أنهم يكرمون الجار في مقامه لديهم ، وفي كونه مع غيرهم وارتحاله عنهم ولا شك أن إكرام الجار لتقدم جواره في حال كونه مع الغير محال عادة حتى إنه يكاد أن يلتحق بالمحال عقلا في هذا الزمان لانطباع النفوس على الشح وعدم مراعاة غير المكافأة ، وهذا المثال إنما يصح كما ذكر إذا حمل الكلام على أن المراد إعطاء الجار الإحسان بعد جواره ولو بعد الانفصال والكون مع الغير وإدامة ذلك أبدا.

وأما إن حمل على أن المراد إعطاء الجار زاده حال الارتحال إلى جهة أخرى فهذا لا يستحيل عادة لوقوع مثل ذلك في بعض الأوقات من الأكابر وذوي المروءات.

(وهما) أي التبليغ والإغراق (مقبولان) معا على الإطلاق لعدم ظهور الامتناع الكلي فيهما الموجب لظهور الفساد والكذب (وإلا) أي وإن لم يكن المدعى ممكنا عقلا ويلزم أن لا يكون ممكنا عادة أيضا ؛ إذ لا يتصور أن يكون الشيء ممكنا عادة ممتنعا

__________________

(١) البيت لعمرو بن الأيهم الثعلبى فى الإشارات ص (٢٧٩) ، والمصباح ص (٢٢٤) ، شرح المرشدى (٢ / ١٠).

٥٤٩

عقلا ضرورة أن الممكن عادة ممكن عقلا ولا ينعكس كليا أي ليس كل ممكن عقلا ممكنا عادة لأن دائرة العقل أوسع من العادة.

(فهو) أي : فادعاء بلوغ الشيء إلى تلك المنزلة وهو أن يكون الشيء غير ممكن عقلا المستلزم لكونه غير ممكن عادة (غلو) أي : يسمى بالغلو لما تقدم وذلك (كقوله) أي : أبي نواس (وأخفت أهل الشرك) (١) أي أدخلت في قلوبهم الرعب ببطشك وهيبتك (حتى إنه) أي : حتى إن الأمر والشأن هو هذا وهو قوله (لتخافك النطف) جمع نطفة وهي الماء المخلوق منه الإنسان (التي لم تخلق) أي النطف التي لم يخلق منها الإنسان بعد أو لم تخلق هي بنفسها أي لم توجد فقد بالغ في إخافته أهل الشرك حتى صيره تخافه النطف التي لم توجد أصلا أو لم يوجد إنسانها بعد ومعلوم أن خوف النطف محال لأن شرط الخوف عقلا الحياة فيستحيل الخوف من الموجود بدونها فضلا عن خوف المعدوم ، فهذه المبالغة غلو فمنه المردود مثل هذا المثال لعدم اشتماله على شيء مما يأتي من موجبات القبول ومنه المقبول.

(والمقبول منه) أي من ذلك الغلو (أصناف منها) أي من تلك الأصناف (ما) أي صنف (أدخل عليه) أي ما اشتمل الغلو فيه على (ما) أي لفظ (يقربه) أي يقرب ما وقع فيه الغلو (إلى الصحة) لأن في ذلك اللفظ عدم التصريح بوقوع ذلك المحال وذلك نحو لفظه يكاد في قوله تعالى (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) (٢) فإن إضاءة الزيت إضاءة كإضاءة المصباح محال عقلا ، فلو قيل في غير القرآن مثلا : يضيء هذا الزيت بلا نار. لرد وحيث قيل يكاد يضيء أفاد أن المحال لم يقع ولكن قرب من الوقوع مبالغة ومعنى قرب المحال من الوقوع توهم وجود أسباب الوقوع وقرب المحال من الوقوع قريب من الصحة ؛ إذ قد تكثر أسباب الوهم المتخيل بها وقوعه ولو كان لا يقع فلفظ كاد لما دل على القرب ، والقرب قريب من الصحة لما ذكر أن المحال قد

__________________

(١) البيت لأبى نواس فى ديوانه ص (٤٥٢) ، والطراز (٢ / ٣١٤) ، والمصباح ص (٢٢٩) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٠٠).

(٢) النور : ٣٥.

٥٥٠

يقربه الوهم لأسباب جاءت المبالغة مقبولة في الغلو فإن قيل : قرب المحال من الوقوع محال في نفسه فيحتاج في ادعائه المفاد يكاد إلى ما يقربه وذلك يؤدي إلى التسلسل.

قلنا : قرب المحال من الوقوع لما فسر بما ذكر صار ليس بمحال ، وعلى تسليمه فيجعل كأنه أمر ضروري في بعض الصور لما ذكر من توفر أسباب توهمه واقعا ، فقيس على بعض الصور غيره لأن الباب باب المبالغة يتسمح فيه فلا يطلب له حيث عد قريبا بالضرورة مقرب آخر تأمله.

قيل : وينبغي لما مثل بالآية أن يقول بدل قوله يقربه إلى الصحة لا يظهر معه الامتناع تأدبا ، وهو كذلك ثم إن ما ذكر من كون إضاءة الزيت محالا عقلا غير ظاهر لصحة اتصاف كل جسم بما اتصف به الآخر ، اللهم إلا أن يراد بالاستحالة العقلية الاستحالة في عقول العامة ، أو يراد بالزيت الزيت بقيد كونه غير مضيء ، كما هو المشاهد وفي كل ذلك تمحل باعتبار إطلاقهم التفصيل ؛ لأن الظاهر منه الاستحالة الحقيقية المتقررة على الإطلاق وإلا فإكرام الجار نائيا أبدا باعتبار عقول العامة محال ، وكذا بقيد كونه غير مكرم كما هو في العرف والشهود.

(ومنها) أي : ومن الأصناف المقبولة من الغلو (ما) أي : الصنف الذي (تضمن نوعا حسنا من التخييل) أي : تخييل الصحة لكون ما اشتمل على الغلو يسبق إلى الوهم إمكانه لشهود شيء يغالط الوهم فيه فتتبادر صحته كما يذاق من المثال وقيد بقوله حسنا إشارة إلى أن تخييل الصحة لا يكفي وحده إذ لا يخلو عنه محال حتى إخافة النطف فيما تقدم وإنما المعتبر ما يحسن لصحة مغالطة الوهم فيه بخلاف ما يبدو انتفاؤه حتى للوهم بأدنى التفات كما في إخافة النطف ، فليس التخييل فيه على تقدير وجوده فيه حسنا فلا يقبل لعدم حسنه ، ثم مثل لما يتضمن النوع الحسن من التخييل فقال (كقوله) أي : كقول المتنبي (عقدت سنابكها) (١) أي حوافر الخيول الجياد (عليها) أي فوق رؤوسها (عثيرا) مفعول عقدت أي أثارت سنابك الخيل عثيرا : بكسر العين وسكون الثاء المثلثة وفتح الياء المثناة وهو الغبار من الأرض وأكثرت إثارته حتى انعقد

__________________

(١) البيت للمتنبى فى شرح التبيان للعكبرى (٢ / ٤٥٦) ، والإشارات (٢٧٩) ، وشرح المرشدى (٢ / ١٠٠).

٥٥١

أي : تضام وتراكم فوق رؤوسها ثم وصف الغبار بما فيه غلو فقال : من وصف ذلك الغبار إنه (لو تبتغي عنقا) أي لو تريد تلك الجياد عنقا أي : سيرا مسرعا (عليه لأمكنا) ذلك العنق وإرادة الخيل السير عبارة عن إرادة أهلها ، والخطب فيه سهل فلا شك أن إمكان مشي الخيل على الغبار في الهواء وهو مدعى الشاعر محال لضعف مقاومته ثقل الخيل بل مشي الدرة عليه غير ممكن لوهنه ولكن يخيل إلى الوهم تخييلا حسنا من ادعاء كثرته وكونه كالجبال في الهواء صحته فلا يحيله حتى يلتفت إلى القواعد ، فصار مقبولا بخلاف إخافة النطف فيما تقدم.

ولقائل أن يقول : إنما هنا أيضا الاستحالة العادية لإمكان مشي الخيل وعنقها في الهواء والريح فضلا عما إذا وجد جسم آخر معه ، وإن أريد الاستحالة العامية أو المقيدة بنفي الإمكان كان فيه من التمحل ما تقدم تأمل.

وههنا في العثير لطيفة أشار إليها بعضهم وهو الشارح العلامة في شرح المفتاح ، وذلك أنه لما فسره أشار إلى ضبطه بنوع لطيف متضمن للإيهام أو التوجيه فقال : العثير الغبار لا تفتح فيه لعين فعدم فتح العين يحتمل أن يراد به عدم فتح عين العثير أي أوله فيكون إشارة إلى ضبطه ، ويحتمل أن يراد عدم فتح العين المعلومة في نفس الغبار والمراد المعنى الأول. فإن قلنا إنه أبعد المعنيين كان في كلامه إيهام وتورية ، وإلا فتوجيه ، ولكن التوجيه يبعده قصد الضبط بالقرينة إلا أن يجوز تعيين القرينة في التوجيه ، وقد ذكرت هنا أيضا قصة تشتمل على هذه النكتة من فتح العين لإرادة معنى خفي فيكون تورية أو مساو فيكون توجيها لمناسبتها ، وهي ألطف مما ذكر العلامة لما فيها من التفطن الغريب والهجو بوجه لطيف لما يستحقه بدعوى القائل ، وذلك أن بعض البغالين أعني السائقين للبغال كان يسوق بغلة بسوق بغداد وكان بعض عدول دار القضاء حاضرا بالسوق ، فضرطت البغلة أي : تنفست بصوت فقال البغال على عادة أمثاله عند فعل البغلة ذلك تنزيها لنفسه عن أن تقابله بذلك الفعل بلحية العدل بكسر العين أي : ما فعلت يقع بلحية العدل لا في وجه السائق والعدل بالكسر : شق الوقر أي : الحمل فقال بعض الحذاق الظرفاء على الفور للبغال : افتح العين فإن المولى حاضر ، وقد

٥٥٢

أغرب هذا القائل في تفطنه لما فيه إيهام أو توجيه مع الهجو بلطف وخفاء لأن قوله افتح العين يحتمل افتح عينك ترى المولى أي من هو أولى وأحق أن يقع ذلك في لحيته وهو العدل أي الشاهد ويحتمل افتح عين لفظ العدل لتصيب صاحب ما ذكرت ، فإن كان المعنى المراد خفيا فإيهام وإلا فتوجيه ، وهو أقرب في هذا المثال لصلاحيتهما معا ومن هذا المعنى أيضا أعني مما فيه تورية أو توجيه في مادة فتح العين ما وقع للشارح في قصيدة له وهو قوله في مدح ملك من الملوك :

علا فأصبح يدعوه الورى ملكا

وريثما فتحوا عينا غدا ملكا (١)

فقوله : فتحوا عينا يحتمل أن يراد فتحوا عين لفظ ملكا ـ أي : وسطه ـ فغدا بسبب الفتح ملكا فيكون معناه كذلك ، ويحتمل أن يراد فتحوا أعينهم فيه ونظروا إليه فوجدوه قد تبدل وصار ملكا ، فيتجه فيه التوجيه أو التورية على ما تقدم والريث مصدر راث إذا أبطأ يستعمل كثيرا بمعنى الزمان لإشعار البطء بالزمان ، ويضاف للجمل نائبا عن الزمان فيقال اجلس ريث أنا أكلمك بكلمتين أي : اجلس زمانا مقداره ما أكلمك فيه قيل ودخول ما فيه تكفه عن الإضافة إلى الجمل وفيه نظر والتقدير هنا أنه غدا ملكا في الزمان الذي مقداره ما يفتحون فيه العين ومما يناسب ما ذكره لكونه فيه الإشارة بضم العين إلى معنى خفي ولو لم تكن الإشارة باللفظ ولا فيه تورية ولا توجيه ما ذكره الشارح عن بعض أصحابه وهو أنه أتاه بكتاب فقال له أعني الشارح لمن هو فقال ذاك الآتي وهو من قوم يميلون في لهجتهم وكلامهم بالضم نحو الفتح هو يعني الكتاب لمولانا عمر بفتح العين يعني عمر بضمها ولعله أراد بعمر غير الفاروق كتب له كتابا إلى سائله فلما قال ذلك ضحك الحاضرون فنظر القائل إلى سائله كالمعترف بوجه سبب ضحكهم إلا أنه خفى عنه كالمسترشد لطريق الصواب أي كالطالب لما ينفي عنه سبب ضحكهم ومعلوم أن نفي السبب بعد إدراكه ، فأشار له السائل بضم عينه حسا ففهم الناظر أن سبب الضحك فتحه لعين عمر وأنه ينبغي له ضم عينه فاستظرف ذلك الحاضرون أي اعترفوا بظرافة المشير وفهم المشار له.

__________________

(١) البيت للمتنبى فى الإشارات ص (٢٧٩) ، والتبيان (٢ / ٤٥٦).

٥٥٣

ولما ذكر أن من أسباب قبول الغلو وجود لفظ يقرب من الصحة وكذا وجود تخييل يستحسن على ما أوضحنا ذلك ، ومن المعلوم أن اجتماع السببين أخروي في القبول أتى بمثال اجتمعا فيه فقال (وقد اجتمعا) أي اجتمع السببان الموجبان للقبول وهما إدخال ما يقربه للصحة وتضمنه تخييلا حسنا (في قوله يخيل لي) (١) أي يوقع في خيالي ووهمي (أن سمر الشهب) أي : أنه أحكمت الشهب ، وهي النجوم بالمسامير (في الدجى) أي : في ظلمة الليل (و) يخيل مع ذلك أن ، أي : أنه (شدت بأهدابي إليهن أجفاني) أي : شدت أجفاني بأهدابي إلى تلك الشهب ، فمضمون ما بعد قوله : يخيل لي وهو إحكام الشهب بالمسامير في الدجى ، وشد الأجفان بأهداب العين محال ، ولكن تضمن تخييلا حسنا ؛ إذ تسبق إلى الوهم صحته من جهة أن مثل هذا المحسوس تقع المغالطة فيه ـ كما تقدم في وجه الشبه الخيالي ـ وذلك أن النجوم بدت في جانب الظلمة ولم يظهر بحقيقة كنهه غيرها فصارت النجوم كالدر المرصع به بساط أسود فيسبق إلى الوهم من تخييل المشابهة قبل الالتفات إلى دليل استحالة شد النجوم بالمسامير في الظلمة صحة ذلك ولما ادعى أنه ملازم للسهر وأنه لا يفتر عن رؤية النجوم في الظلمة فصارت عينه كأنها لا تطرف فنزلت أهدابه مع الأجفان بمنزلة حبل مع شيء شديد في التعلق وعدم التزلزل خيل للوهم من المشابهة لما ذكر صحة ذلك أيضا ولما تضمن هذا التخيل الذي قرب هذا المحال من الصحة قبل الغلو الموجود في البيت ، وزاد ذلك قبولا تصريحه بأن ذلك على وجه التخييل لا على سبيل الحقيقة وتخيل المحال واقعا بمنزلة قربه من الصحة لكون ذلك غالبا ناشئا عن تخيل الأسباب فالتخيل موجود في نفسه ولفظ التخيل يقرب من الصحة ، فاجتمع السببان ، فإن قلت ما ضابط وجود التخييل الحسن؟ قلت المحكم في ذلك الذوق ويزاد بيانا في كل جزئية بما يناسب كما أشرنا إليه في المثالين قال قلت الدجى التي هي الظلمة إن كانت من قبيل الجرم فتسمير النجوم في أجرام لا يستحيل ، وكذا شد الأهداب إلى النجوم ممكن بإطالتها. قلت : النجوم كما هي يستحيل تسميرها بالمسامير المعهودة وهي المتحدث عنها في الجرم الكثيف فضلا

__________________

(١) البيت للقاضى الأرجانى كما فى الإشارات ص (٢٨٠) ، وشرح المرشدى (٢ / ١٠٠).

٥٥٤

عن اللطيف الذي معه ما يشبه الهشاشة هذا إذا قلنا إنها جرم كما هو مبنى السؤال ، وأما إن قلنا : إنها عرض فلا إشكال وهو المنصوص عن الحكماء إذ هي عندهم عدم الضوء وكذا شد الأهداب كما هي إلى النجوم كما هي مستحيل ضرورة ، فإن قيل هذا رجوع لعقول العامة أو حمل الاستحالة على وجود قيد مفيد وجودها وعند انتفائه يثبت الإمكان قلنا : التحدث عن الأشياء إنما هو على حسب معناها المعهود وما دام ذلك المعنى فالاستحالة متقررة وإجازة هذه الأمور بالحمل على غير المعتاد خروج عما يفهم من الخطاب ومثل هذا يقال في إضاءة الزيت والمشي على الغبار فيما تقدم وفي الكلام بعد لا يخفى فتأمل.

(ومنها) أي ومن أصناف الغلو المقبول (ما) أي : صنف (خرج مخرج الهزل) أي : خرج على سبيل الهزل وهو الإتيان بما يكون للتضاحك (والخلاعة) وهي عدم المبالاة بما يؤتى من منكر أو غيره والإتيان بما يراد من غير رعاية لفساده أو صحته وذلك (كقوله :

أسكر بالأمس إن عزمت على الشر

ب غدا إن ذا من العجب) (١)

والسكر بالأمس للعزم اليوم على الشرب غدا مستحيل لما فيه من تقدم المعلول على علته ، ولو قال : أسكر اليوم لما كان مستحيلا عقلا ، ويكون سبب السكر هو العزم على الشرب ، بل كان مستحيلا عادة ، ولك أن تقول كون فعل الجواب ماضيا ، وفعل الشرط مستقبلا أمر كما يمتنع عقلا يمتنع لغة ؛ فينبغي أن يكون هذا التركيب حينئذ غير صحيح لغة فلا يكون كلاما غريبا ، فليس مما نحن فيه شيء وليس هذا كقول القائل سكرت أمس لشربي غدا فإن هذا كلام عربي ؛ إذ ليس فيه أمر لفظي مخالف للغة العرب فيه يحسن التمثيل لهذا ، والذي يظهر أن هذا تمثيل فيكون كقولهم : زيد يقدم رجلا ويؤخر أخرى إلا أن المشبه به هنا وهمي لا تحقيقي ، فإن مدلول هذه الألفاظ ليس موجودا ، بل متوهما وليس من شرط التمثيل أن يكون المشبه به الذي استعير تحقيقيا ، ألا ترى أنهم عدوا من التمثيل قوله تعالى (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ

__________________

(١) البيت أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (٢٧٩) ، بلا عزو ، وشرح المرشدي (٢ / ١٠١).

٥٥٥

مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(١) وإذا تقرر ذلك اتجه لك منع كون هذا القسم غير مقبول فإن المبالغة كلما قويت ازداد القبول كما أن الاستعارة كلما زيد فيها ازدادت حسنا.

(تنبيه) ما ذكره المصنف من المبالغات هو فيما يتعلق بالمركبات وذكر جماعة المبالغة على وجه يعم المفرد والمركب فقال الرماني المبالغة على ضروب منها المبالغة في الصفة المعدولة غير الجارية فإنها جاءت على فعلان وفعال وفعول وفعيل ومفعل معدول عن فاعل مثل مدعس عن داعس ومطعن عن طاعن ومفعال مثل مطعام وزاد عبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة فزاد فيها مفعيل وفعيل وفعل وفعال في النداء مثل يالكع ويالكاع قال الجاحظ : قالوا للفارس شجاع فإن زاد قليلا قالوا بطل فإن زاد قالوا لهمة فإن زاد قالوا كمي فإن زاد قالوا صنديد فإن بلغ الغاية قالوا : أليس وكذلك يجرى الحال في سائر الطبقات مثل الكريم والحليم والبخيل والعالم والجاهل فإنهم يقولون سليم الصدر ، فإن زاد قالوا : مغفل ، فإن زاد قالوا : مائق ثم أنوك ثم معتوه ، قلت : ما ذكره الجاحظ في تفصيل أحوال الفارس فيه مخالفة لغيره قال الفراء رجل شجاع ثم بطل ثم لهمة ثم ذمر ثم حلس وحليس ثم أمعس أليس ثم غشمشم وأيهم ، وقال مثله ابن الأعرابي وقال غيرهما شجاع ثم بطل ثم صمة ثم لهمة ثم ذمر ونكل ثم نهيك ومحرب ثم حلس ثم أهيس أليس ثم غشمشم وأيهم وقد ذكر الثعالبي في فقه اللغة كثيرا من هذا النوع وذكر ابن الشجري من الأمثلة المحولة للمبالغة فعل وفعال ومفعال وذكر أيضا مفعلان في النداء مثل يا مكذبان ويا مكلمان وما ذكرناه من صيغ المبالغة ليس مقتصرا عليه كما أفهمه كلامهما ، فإن للعرب أوزانا لا تكاد تستعمل إلا للمبالغة مثل فعل وفعيل مثل سكيت وفعلة مثل همزة لمزة ، وأما ذكر هذه الصيغ من أنواع المبالغات ففيه نظر ؛ لأن معنى كون هذه الألفاظ للمبالغة أن العرب وضعتها لذلك المعنى بقيد كونه كثيرا فوضعت العرب راحما ليفيد أصل الرحمة ووضعت رحيما ليفيد رحمة كثيرة فرحيم معناه راحم كثيرا فالمعنى المستفاد منه أبلغ من المعنى المستفاد من صيغة راحم وهذا المعنى ليس هو المذكور في علم البديع ؛ لأن المبالغة في البديع أن تدعى لوصف

__________________

(١) الزمر : ٦٧.

٥٥٦

بلوغه في الشدة والضعف لحد مستحيل أو مستبعد ليعلم بذلك أن مبناه في أحدهما فلا بد فيه حينئذ من التعبير عن الواقع من تلك الصفة بعبارة موضوعة لأكثر منه على سبيل المجاز ، فأنت إذا قلت عن شخص كثير الرحمة هو رحيم فهذه ليست مبالغة ؛ لأنك أخبرت عنه باشتماله من الصفة على الكثرة التي هي موضوع رحيم كما أنك إذا قلت عنه إنه كثير الرحمة لم تبالغ وكما أنك إذا قلت عندي ألف ليس فيه مبالغة بالنسبة إلى من قال عندي واحد ، ولا بد في المبالغة من تجوز. نعم تحسن المبالغة إذا قلت زيد رحيم ولم يكن كثير الرحمة بل أردت أن تبالغ في الرحمة اليسيرة الواقعة منه لغرض من الأغراض فهذه حينئذ مبالغة وكذلك إذا قلت عندي ألف رجل وأردت مائة تعظيما لهم فقد تبين بذلك أن هذه الألفاظ ليست موضوعة للمبالغة البديعية وأن من يطلق عليه المبالغة فذلك بحسب اصطلاح النحاة واللغويين نظرا إلى ما دل عليه بالنسبة إلى ما دلّ عليه مطلق اسم الفاعل ، فليتأمل.

ثم قال الرمّانى : من المبالغة التعبير بالصفة العامة فى موضع الخاصة كقوله عزوجل (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(١) قال وكقول القائل أتاني الناس ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة فاستكثرهم وبالغ في العبارة عنهم قلت هذا صحيح إلا أن التقييد بالخمسة لا أدري مستنده فيه ، وقد أطلق الناس على واحد كقوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ)(٢) وأريد نعيم ابن مسعود على ما ذكره جماعة على أن الشافعي رضي‌الله‌عنه نص على أن اسم الناس يقع على ثلاثة فما فوقها ، وأن المراد بالناس في قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أربعة ، ثم جعل الرماني من المبالغة : إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم للمبالغة كقوله تعالى (وَجاءَ رَبُّكَ)(٣)(فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ)(٤) وإن كان المراد جاء أمره وجعل من المبالغة إخراج الممكن إلى الممتنع مثل

__________________

(١) الأنعام : ١٠٢.

(٢) آل عمران : ٧٣.

(٣) الفجر : ٢٢.

(٤) النحل : ٢٦.

٥٥٧

قوله تعالى (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(١) وجعل من المبالغة إخراج الكلام مخرج الشك ومثله بقوله تعالى (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢) ونحو قوله تعالى (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ)(٣) وجعل منه حذف الأجوبة للمبالغة نحو (وَلَوْ تَرى)(٤) وهذا كله عرف مما سبق من علم المعاني والبيان قال عبد اللطيف البغدادي ومتى وقعت المبالغة في قافية سميت إيغالا وهو أن يأتي البيت تاما من دون القافية ثم تأتي القافية لحاجة البيت إلى الوزن فيزداد المعنى جودة وأنشد :

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب (٥)

وقد تقدم هذا في باب الإيجاز والإطناب.

(تنبيه)

سمعت بعض المشايخ يقول : إن صفات الله تعالى التي هي على صيغة المبالغة كغفار ورحيم وغفور ومنان كلها مجازات وهي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له وصفات الله تعالى متناهية في الكمال لا تمكن المبالغة فيها ، والمبالغة أيضا تكون في صفات تقبل الزيادة والنقص وصفات الله تعالى منزهة عن ذلك وعرض هذا الكلام على الوالد فاستحسنه ولا شك أن هذا إنما يأتي تفريعا على أن هذه الأسماء صفات فإن قلنا علام فلا يراد السؤال ؛ لأن العلم لا يقصد مدلوله الأصلي من مبالغة ولا غيرها ، وسمعت بعض أهل العلم يقول إنما لم يوجد لكثير من الشعراء المسلمين كثير من الشعر يمدحون به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الشعر إنما يحسن بالمبالغة وهي متعذرة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن المادحين وإن بذلوا جهدهم لا يصلون إلى قطرة من بحره عليه أفضل الصلاة والسّلام.

__________________

(١) الأعراف : ٤٠.

(٢) سبأ : ٢٤.

(٣) الزخرف : ٨١.

(٤) الأنعام : ٢٧.

(٥) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٢١٧) ، والمصباح ص (٢٣١) ، والإيضاح ص (١٧٨).

٥٥٨

المذهب الكلامى

(ومنه المذهب الكلامي إلخ) من البديع ما يسمى المذهب الكلامي والجاحظ أول من ذكره وأنكر وجوده في القرآن (وهو) أي : المذهب الكلامي (إيراد حجة) أي : الإتيان بحجة (للمطلوب) كائنة تلك الحجة (على طريقة أهل الكلام) وطريقة أهل الكلام أن تكون الحجة بعد تسليم المقدمات فيها مستلزمة للمطلوب ولكن لا يشترط هنا الاستلزام العقلي ، بل ما هو أعم من ذلك.

والمراد بكون الحجة على طريقة أهل الكلام صحة أخذ المقدمات من المأتى به على صورة الدليل الاقتراني أو الاستثنائي لا وجود تلك الصورة بالفعل بل صحة وجودها من قوة الكلام في الجملة كاف كما يؤخذ من الأمثلة وذلك (نحو) قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) أي لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله تعالى لفسد نظامهما لما تقرر عادة من فساد المحكوم فيه عند تعدد الحاكم فعلى هذا تكون الملازمة بين التعدد والفساد عادية ويكون الدليل إقناعيا لحصوله بالمقدمات المشهورات ، وإن أريد بالفساد عدمهما بمعنى أن وجود التعدد يستلزم انتفاء السموات والأرض وهو محال للمشاهدة ، ووجه الاستلزام لزوم صحة العجز عند التمانع كان الدليل برهانيا.

وعلى كل حال فقد حذف الاستثنائية والمطلوب لظهورهما أي لكن وجود الفساد على الاحتمالين محال فوجود التعدد محال (وقوله) أي وكذا نحو قول النابغة معتذرا للنعمان بن المنذر في تغيظه عليه بمدحه آل جفنة (حلفت) (٢) لك بالله ما أبغضتك ولا خنتك ولا كنت لك في عداوة (فلم أترك لنفسك) بسبب ذلك اليمين (ريبة) شكّا فى أنى لست لك بمبغض ولا عدو (وليس وراء الله للمرء مطلب) أي لا ينبغي للمحلوف له بالله العظيم أن يطلب ما يتحقق به الصدق سوى اليمين بالله إذ ليس وراء الله أعظم منه يطلب الصدق بالحلف به ؛ لأنه أعظم من كل شيء فاليمين به

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

(٢) البيت للنابغة فى ديوانه ص (٧٢) ، والمصباح ص (٢٠٧) ، والإيضاح ص (٣١٠).

٥٥٩

كاف عن كل يمين إذ لا يحلف به كاذبا (لئن كنت) اللام لتوطئة القسم بمعنى أنها دالة على القسم المحذوف كما تدل التوطئة على الموطأ له (قد بلغت عني خيانة) أي غشا وعداوة وبغضا (لمبلغك) اللام فيه جواب القسم أي والله لمبلغك تلك الخيانة (الواشي) وهو الذي يذهب بالكلام على وجه الإفساد (أغش) من كل غاش وهو مأخوذ من غش إذا خان وخدع في الباطل (وأكذب) من كل كاذب ثم أشار إلى سبب مدح آل جفنة ليكون ذلك ذريعة لنفي اللوم عنه فقال (ولكننى) أي : ما كنت امرأ قصدت بمدحهم التعريض بنقصك ولكني (كنت امرأ لى جانب) أي : جهة (من الأرض فيه) أي : في ذلك الجانب (مستراد) موضع طلب الرزق وأصله من راد الكلأ أي الربيع إذا جاء طالبا له ، وعبر بالاسترادة هنا عن مجرد طلب الرزق (و) فيه (مذهب) أي موضع الذهاب لطلب الحاجات والأرزاق ؛ لأن ذلك الجانب مظنة الغنى والوجدان (ملوك) يحتمل أن يكون مبتدأ حذف خبره ؛ لأن من المعلوم أن الرزق ليس من ذات المكان بل من ساكنيه فكأنه قيل : من في ذلك الجانب الذي تطلب الرزق فيه فقال فيه ملوك وتكون الجملة كالجواب لسؤال مقدر ويحتمل أن يكون بدلا بتقدير المضاف أي مكان ملوك ، وقد فهم المقصود على كل تقدير وهو أن الرزق من هؤلاء الملوك ، ثم أشار إلى مدح هؤلاء الملوك بالتواضع وأنهم يصيرون الناس مع اتصافهم برفعة الملك إخوانا فقال (وإخوان) أي : فيه ملوك بالمعنى وإخوان بالتواضع ، فعلى هذا لا يرد أن يقال وصفهم بالأخوة ينافي مدحهم بالملك ، للعلم بأن المادح ليس بملك مثلهم ، فكونهم ملوكا لا يناسب كونهم إخوانا للمادح من وصف أولئك الملوك أنى (إذا ما مدحتهم) أي : إذا مدحتهم (أحكم) أي أجعل حاكما (في أموالهم) متصرفا فيها بما شئت أخذا وتركا (وأقرب) بالتوقير والتعظيم والإعطاء (كفعلك) أي كما تفعل أنت (في قوم أراك اصطنعتهم) أي : اصطفيتهم لإحسانك واخترتهم لصنعك وتفضيلك بسبب مدحهم إياك ، فترتب على إحسانك إليهم واصطناعك إياهم أنك (لم ترهم في مدحهم لك أذنبوا) أي لم تعدهم مذنبين في مدحهم إياك ، وقد أنتج هذا الكلام أني لا عتاب علىّ في مدحهم من قبلك ، كما لا عتاب من قبلك لمن مدحك ضرورة أن سبب نفى

٥٦٠