مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

الاستخذام

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الاستخذام) أي : ما يسمى بالاستخذام بالخاء والذال المعجمتين ، وربما يقال بالحاء المهملة (١) ، وكلاهما بمعنى القطع ، ومنه المخذم للسيف القاطع ، يقال : خذمه قطعه ، وإنما سمي هذا النوع بذلك ؛ لأن الضمير فيه قطع عما يستحق أن يعود له من المعنى ، وجعل لغيره على ما يأتي تفسيره المشار إليه بقوله (وهو) أي : الاستخدام (أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما) أي : يراد أحد ذينك المعنيين باللفظ (ثم يراد بضميره) أي : بالضمير العائد إلى ذلك اللفظ معناه (الآخر ، أو يراد) باللفظ معنى ، ويراد (بأحد ضميريه أحدهما) أي : أحد معنيى اللفظ اللذين لم يرادا باللفظ ، بل أريد به غيرهما معا (ثم يراد بالآخر) أي : بضميره الآخر معناه (الآخر) الذي هو من جملة المعنيين اللذين لم يرادا ، وقد أطلق في المعنيين في كلا وجهي التفسير ، فتناول الكلام ما كان فيه المعنيان المرادان معا باعتبار اللفظين حقيقتين ، وما كانا فيه معا مجازين وما كان فيه أحدهما حقيقة والآخر مجازا ، وكذا إذا كان له معان متعددة يجوز أن يطلق على أحدها حقيقة أو مجازا ، ويعود على اللفظ ضمائر بعدد معاني اللفظ حقيقة أو مجازا ، ويكون إعادة الضمائر كلها استخداما (ف) الوجه (الأول) من الوجهين المذكورين في التعريف وهو أن يراد باللفظ أحد المعنيين ، ويراد بالضمير معناه الآخر (كقوله) يصف رياستهم وتصرفهم في بلاد الناس كيف شاءوا :

(إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا) (٢)

بمعنى أنهم يفعلون في بلاد الأقوام ما شاءوا من الرعي ، ولا يعترض عليهم أحد ، ولا يقدر على منعهم قوم ، بل يرعون الكلأ بأرضهم وإن غضبوا ، فقد وصف رياستهم بالانتهاء والغلبة حتى إنهم يرعون كلأ الناس من غير رضاهم ، والسماء أطلقت

__________________

(١) وبالخاء المعجمة والدال المهملة ، وهو وجه لقراءة الكلمة لم يذكره ابن يعقوب على الرغم من استخدامه له في بقية الباب ، لكن ذكره العلامة الدسوقى فى شرحه على السعد قال : " وبمعجمة ومهملة". أى : بالخاء المعجمة والدال المهملة.

(٢) البيت لمعاوية بن مالك ، فى ديوان الأدب (٤ / ٤٧) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٨٨) ، والإيضاح ص (٣٠١).

٥٢١

على الغيث مجازا ؛ لأنه نازل من جهة السماء المعلومة ، ثم أعاد الضمير على لفظ السماء في قوله رعيناه باعتبار معنى آخر مجازي أيضا وهو النبات ؛ لأنه هو المرعى ، فقد أريد بلفظ السماء معنى وأريد بضميره معنى ، آخر فهذا من الوجه الأول.

(و) الوجه (الثاني) من الوجهين المذكورين في التعريف ، وهو أن يراد بأحد ضميريه أحد معنييه ، وبضميره الآخر معناه الآخر ، وقد تقدم في تفسير ما يفيد أنه لا بد أن يراد باللفظ غير مفاد الضميرين ، وإلا كان أحدهما ليس استخداما وكلامنا في الضمير العائد على الاستخدام (كقوله) أي الوجه الثاني مثل ما في قوله (فسقى الغضا) (١) وهو نوع من الشجر ، دعا له بالسقي حيث ينزل الأحباء في خلله (والساكنيه) الضمير في الساكنيه يعود على الغضا باعتبار أنه مكان الغضا إذ يطلق عليه الغضا مجازا ؛ ثم بين أنه يطلب لهم الغيث وإن عذبوه فقال (وإن هم) أي نطلب لهم السقى قضاء لحق الصحبة ، وإن (شبوه) أي : أوقدوه ، والضمير فيه يعود على الغضا باعتبار معنى آخر مجازي له أيضا ، وهو النار التي تتوقد لأنها تتعلق بشجر الغضا (بين جوانحي) جمع جانحة وهي العظم مما يلي الصدر ، وهو كناية عن القلب وقوله (وضلوعي) من عطف التفسير ، وشب النار في القلب عبارة عن إيذاء شدة الحب إذ كأنه تحترق به الأحشاء من شدته وإذايته ؛ لأن الحب يوصف بتعذيب كتعذيب النار كما يوصف باللذاذة قال :

إن هذا الهوى نعيم وعز

ضمنا أبدا عذابا وذلا

فقد صدق أنه أطلق الغضا على معنى هو الشجر ، ثم أعاد عليه الضمير بمعنى المكان مجازا ، ثم أعاد عليه آخر بمعنى النار مجازا أيضا ؛ لأنها يتعلق بها الشب ، ويصح أن يعود عليه الضمير بمعنى المكان ، ويراد بنفس اللفظ المكان أيضا ، فيصدق أنه أريد بأحد الضميرين معنى ، وأريد بالآخر معنى آخر ، ولكن يكون الاستخدام في الضمير الواحد وهو الثاني كما تقدمت الإشارة إليه ، فلا يفارق الأول إلا في تعدد الضمير في الجملة ، وأما الاستخدام فليس إلا في محل واحد كالأول فلا افتراق بينهما من جهة الاستخدام

__________________

(١) البيت للبحترى ، فى الإيضاح ص (٣٠٢) ، وبلا نسبة فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٨٨).

٥٢٢

وظاهر العبارة أن الاستخدام لا يتصور إلا مع الإضمار ، قيل : ويتصور في الإظهار بأن يذكر للفظ شبه به مثلا وجهان باعتبار معنيين كانا لذلك اللفظ ، كقوله :

مثل الغزالة إشراقا وملتفتا

فالغزالة تطلق على الشمس ، وعلى الحيوان المعلوم ، وقد شبه بها بوجهين أحدهما على أنها شمس وهو قوله إشراقا ، والآخر على أنها الحيوان وهو قوله" ملتفتا" ، ولكن الأقرب أن مثل ذلك من التوجيه المرشح معنياه حيث استويا ولو بالقرينة.

اللف والنشر

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (اللف والنشر) أي : النوع المسمى باللف والنشر (وهو) أي هذا النوع المسمى باللف والنشر هو (ذكر) معنى (متعدد) ذكرا كائنا (على) وجه (التفصيل) بأن يعبر عن كل من أفراد مجموع ذلك المعنى المتعدد بلفظه الخاص به يفصله عما عداه (أو) على وجه (الإجمال) بأن يعبر عن المجموع بلفظ يجتمع فيه ذلك المجموع (ثم ذكر) أي : ثم بعد ذكر المتعدد على الوجهين المذكورين يذكر (ما لكل واحد) من آحاد ذلك المتعدد ذكرا كائنا (من غير تعيين) أي : من غير أن يعين لشيء مما ذكر ، أو لا ما هو له مما ذكر ثانيا ، ويكون ترك التعيين (ثقة) أي : لأجل الثقة ، أي : الوثوق (بأن السامع يرده) أي : يرد ما لكل (إليه) أي : إلى كل ما هو له وإنما يفعل ذلك حيث يعلم أن السامع يعلم ما لكل بالقرينة اللفظية ، فيتكل عليها ، كأن يقال : رأيت الشخصين ضاحكا وعابسة ، فتأنيث عابسة يدل على أن الشخص العابس هو المرأة ، والضاحك هو الرجل ، أو المعنوية كأن يقال : لقيت الصاحب والعدو فأكرمت وأهنت ، ومعلوم أن القرينة هنا معنوية ، وهو أن المستحق للإكرام الصاحب ، وللإهانة العدو ، ولما شمل كلامه ما يكون اللف فيه تفصيليا ، وما يكون إجماليا أشار إلى تفصيل الأول منهما ، ومثاله ، ثم إلى مثال الثاني فقال (فالأول) أي : فالقسم الأول مما اشتمل عليه التعريف ، وهو أن يذكر المتعدد على التفصيل (ضربان) أي : نوعان باعتبار وجود الترتيب وعدمه وذلك (لأن النشر) وهو أن يذكر ما لكل مما في اللف (إما) أن يكون (على ترتيب) ذلك (اللف) لأن الفرض أن اللف

٥٢٣

فيه تفصيل يذكر كل فرد ، فيمكن أن يجاء بالنشر على حسب ما كان في اللف ، بأن يكون الأول من المتعدد في النشر للأول من المتعدد في اللف ، والثاني للثاني وهكذا إلى آخرها ، ويمكن أن لا يجاء به كذلك ، فالأول من هذين الضربين وهو أن يؤتى بالنشر على ترتيب اللف (نحو) قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) فقد ذكر في هذه الآية الكريمة الليل والنهار ، ثم ذكر ما لليل أولا لتقدمه والذي لليل هو السكون فيه والهدوء بالمنام ، أو بمجرد ترك الحركات والتصرف ومناسبته لليل ظاهرة ، ثم ذكر ما للنهار ثانيا لتأخره وهو ابتغاء فضل الله فيه ، أي : طلب رزق الله فيه والمناسبة ظاهرة أيضا ، وعليه اتكل في عدم التعيين ، فصدق أنه ذكر متعدد على وجه التفصيل والتنصيص على كل ، ثم ذكر ما لكل من المتعدد على الترتيب الأول للأول والثاني للثاني من غير تعيين ما لكل ، للاتكال على رد السامع ما ذكر في النشر لما ذكر في اللف بالمناسبة المعنوية ، فإن قلت : فما معنى اللف في هذا القسم ؛ لأن اللف هو الضم والجمع ، ولا لف للتفصيل أولا وإنما هنا رد مفصل لمفصل للمناسبة ، فالمناسبة أن يقال : رد نشر إلى نشر لا رد نشر إلى لف ، قلنا : في النشر بيان بعض أحوال المفصل أولا ففيه زيادة تفصيل له باعتبار أحواله ، فناسب أن يسمى لفا ؛ لأن الحال المبينة أولا ملفوفة ، أي : لم تذكر ولم تنشر لعدم بيانها ، وناسب أن يسمى الثاني نشرا ، أي : بيانا لما انطوى أولا أي : انبهم ، وسمى المنبهم ملفوفا ؛ لأن الملفوف منبهم في دخيلائه وسمى المتبين منشورا ؛ لأن المنشور تبينت دخيلاؤه فهو من باب تسمية اللازم بالملزوم ، وصار حقيقة عرفية فافهم ، ثم إن الآية الكريمة ربما يتوهم فيها وجود التعيين لفظا فيما سمى فيها نشرا فلا يكون من هذا الباب لاشتراطنا فيه عدم التعيين ؛ وذلك لأن الضمير المجرور في قوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) عائد إلى الليل في نفس الأمر قطعا ، فقد تعين ما يعود إليه السكون بالضمير ، وليس كما تقدم في قولنا : لقيت الشخصين ضاحكا وعابسة ؛ لأن التأنيث عارض للفظ ، فصار قرينة ، واللفظ بنفسه محتمل بخلاف الضمير ، فهو عبارة عن معاده ؛ فكأنه قيل لتسكنوا في الليل : ولو قيل كذلك ، لم يكن الكلام من هذا الباب ، ولكن هذا التوهم ضعيف ، وقد أجيب عنه بأن

٥٢٤

المراد بعدم التعيين كون اللفظ بحسب ظاهره محتملا ، والضمير يحتمل الليل والنهار بحسب ظاهره ، وإن كان مصدوقه في نفس الأمر هو الليل ، وليس المراد به الاحتمال في نفس الأمر ؛ إذ لا معنى له ؛ لأنه لو أريد ذلك لم يتحقق لف ونشر أبدا ؛ لتعين المراد في نفس الأمر بكل من أفراد النشر ، ولأجل هذا قلنا : إن هذا التوهم ضعيف فلا ينبغي أن يلتفت إليه ، ولو أورد في هذا المقام ، ثم عطف على قوله : إما على ترتيب اللف قوله (وإما) أن يكون أعني : النشر (على غير ترتيبه) أي : على غير ترتيب اللف ، وهو ـ أعني ـ القسم الذي يكون فيه النشر على غير ترتيب اللف قسمان : أحدهما : ما يكون نشره على عكس ترتيب اللف ؛ بأن يكون الأول من النشر للآخر من اللف ، والثاني من النشر للذي يليه الآخر من اللف ، والثالث من النشر للذي يليه ما قبل الآخر من اللف ، وهكذا (كقوله : كيف أسلو) (١) أي : كيف أصبر عنك ، والاستفهام للإنكار ، والنفي ، أي : لا أسلو عنك (و) الحال أنك (أنت حقف) أي : مثل الحقف ، وهو المتراكم من الرمل ، ومثله النقا ، وقيل : وهو الموافق لبعض أهل اللغة أن الحقف من الرمل ما فيه اعوجاج مع التراكم ، والنقا ما فيه تراكم في الجملة ، والمراد هنا المعنى الأول ، شبه به ردف المرأة ، أي عجيزتها ، في العظم والاستدارة (وغصن) أي : وأنت مثل الغصن (وغزال) أي : وأنت مثل الغزال ، ولما كان هنا تقدير مضاف ، أي : كيف أسلو وردفك مثل الحقف ، وقدك مثل الغصن ، ولحظك مثل الغزال ، أي : مثل لحظ الغزال ، ووقع الإبهام بحذف ذلك المضاف ، احتيج إلى تمييزه فأتى بالتمييزات على حسب هذه التقادير ، فقيل (لحظا) هذا عائد كما لا يخفى على الغزال ، وهو الآخر من اللف عاد إليه أول النشر (وقدا) هذا عائد كما لا يخفى إلى الغصن ، وهو الذي يليه الآخر من اللف عاد إليه ما بعد الأول من النشر (وردفا) هذا كما لا يخفى أيضا عائد إلى الحقف ، وهو الأول من اللف عاد إليه الذي يلي ما بعد الأول من النشر ، فكان هذا من عكس الترتيب ، والثاني ما يكون نشره مخلوطا ؛ فيعود الأول مثلا من النشر للآخر من اللف ، ويكون الثاني منه للأول من اللف ، والآخر منه للوسط من اللف ، كقولنا : هو شمس

__________________

(١) البيت لابن حيوس فى ديوانه (٢ / ٤٧) ، والمصباح ص (٢٤٧) ، والإيضاح ص (٣٠٢).

٥٢٥

وأسد وبحر جودا وبهاء وشجاعة ، ولا يخفى اختلاطه ؛ لأن الجود وهو الأول من النشر عائد إلى البحر وهو الآخر من اللف ، والبهاء وهو الثاني من النشر عائد للأول من اللف وهو الشمس ، وشجاعة وهو الآخر من النشر عائد إلى الوسط من اللف.

(و) القسم (الثاني) مما اشتمل عليه تعريف اللف والنشر ، وهو أن يكون ذكر المتعدد على سبيل الإجمال ، فهذا مقابل قوله : فالأول ضربان ، أي : القسم الثاني من قسمي التفصيل والإجمال ، وهو الإجمالي منهما (نحو) قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (١) فقد ذكر الضمير المجمل لليهود والنصارى في" قالوا" ؛ لأن ضمير الجمع فيه عائد للفريقين ، أعني : اليهود والنصارى ، ثم ذكر ما يخص كلا منهما في قوله : " إلا من كان هودا أو نصارى" (أي : قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلف) في قوله" قالوا" أي : قائلين ؛ إذ لم يميز كل فريق باسمه الخاص به ، أو نقول لف بين قولي الفريقين ؛ إذ لم يبين فيه مقول كل فريق ، فالإجمال الموجب للف إما بالنسبة إلى الفريقين المذكورين بقوله تعالى" وقالوا" أو إلى قول الفريقين ما ذكروا ، إنما سوغ الإجمال في اللف ثبوت التضاد بين اليهود والنصارى ، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة ، فوثق بالعقل في أن يرد كل قول إلى فريقه أو يرد كل مقول إلى قوله (لعدم الالتباس) أي : لأمن الاشتباه (للعلم بتضليل كل فريق) من اليهود والنصارى (صاحبه) واعتقاده أن داخل الجنة هو لا صاحبه ؛ لقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ)(٢) وقائل ذلك يهود المدينة ، ونصارى نجران ، وهود جمع هائد كعائذ وعوذ ، ووحد اسم كان وهو الضمير المستتر فيها ، وجمع خبرها مراعاة للفظ من ومعناها ، ولا يتصور في هذا الضرب وهو ذكر المتعدد على سبيل الإجمال الترتيب وعدمه.

__________________

(١) البقرة : ١١١.

(٢) البقرة : ١١٣.

٥٢٦

ومن غريب اللف والنشر أن يذكر متعددان أو أكثر على التفصيل ، ثم يذكر ما لكل في نشر واحد ويؤتى بعده بذكر ذلك المتعدد على الإجمال ملفوظا أو مقدرا ؛ فيقع النشر بين لفين أحدهما مفصل والآخر مجمل ، كما نقول : الراحة والتعب والعدل والظلم قد سد من أبوابها ما كان مفتوحا وفتح من طرقها ما كان مسدودا ؛ فالراحة والتعب متعدد واحد ، والعدل والظلم متعدد آخر ، فقد ذكر متعددان لكل منهما فردان ثم ذكر ما للجميع في نشر واحد وهو قد سد الخ ، وهذا النشر راجع إلى كل من آحاد كل من المتعددين ؛ فضمير كل من أبوابها وطرقها راجع إلى كل من الأربعة المذكورة ، ولا تنافي في الحكم ؛ كسد باب الراحة وفتح طريقها ؛ لأن المراد أن لها أبوابا فسد واحدا وفتح آخر فهو أبدا مجهود ، ويصح رجوع النشر إلى المتعدد الأول بأن يرجع شقه [...](١) أسباب التوصيل إلى الضرر من كل وجه من مال ومقال ورأى ورياسة وغير ذلك ، وإيجاد النفع لمستحقه يقتضي وجود صفة العقل والكرم ورعاية حق الأحباء ووجود الأموال والرياسة وكل ما يتبع ذلك ، ثم جمع ما قسم في كونها سجية فيهم بقوله (سجية تلك) (٢) أي : تلك الخصلة ، وهي كونهم نافعين وضارين لمن يستحق طبيعة فيهم وغريزة وخلق قديم مركوز فيهم ، فهي (منهم غير محدثة) فهي طبيعة موروثة ، ثم أجاب عن سؤال مقدر ، وهو أن يقال : لم جعلتها غير محدثة؟ فإن هذه الخليقة ممدوحة مطلقا؟ فقال (إن الخلائق) جمع خليقة وهي الطبيعة والخلق الثابت (فاعلم شرها البدع) أي : أن الصفات الثابتة الطبيعية أقبحها البدع ، فاعلم ذلك أيها السائل ، والبدع كعنب جمع بدعة وهي الأمور المبدعات : أي ، المحدثات ، ومنه البدعة التي هي خلاف السنة ، لا يقال : كون الصفة في الشيء بدعة

__________________

(١) ما بين المعكوفتين بياض بالأصل ووجد بهامش نسخة دار السرور ـ بيروت ما نصه : " سقط من جميع النسخ التى تيسرت لنا من شرح ابن يعقوب شرح هذا المحل من قول صاحب التلخيص كقوله ما نوال الأمير إلى قوله أو حاولوا النفع فى أشياعهم نفعوا* وبعد بحث الملتزم عنها فى الأستانة ومصر والمغرب لم يجدها فتركنا محلها بياضا لعلها تتيسر للقارئ فيلحقها. كتبه مصححه".

(٢) البيت لحسان بن ثابت فى ديوانه ص (٢٣٨) ، والطراز (٣ / ١٤٤) ، والمصباح ص (٢٤٩) ، والإيضاح ص (٣٠٥).

٥٢٧

ينافي كونها خليقة للزوم الخليقة ؛ لأنا نقول : قد تسمى خليقة باعتبار دوامها بعد حدوثها فتكون خليقة دواما ، وبدعة ابتداء ، وهذه هي التي ذمها باعتبار اللازمة قديما ودواما ، فقد ظهر أنه قسم ما وصف به الممدوحين إلى كونه ضر الأعداء ، وكونه نفع الأحباء ، ثم جمعه في كونه سجية غير محدثة ، قيل : الفرق بين التقسيم السابق والجمع مع التقسيم أن التقسيم يذكر فيه المقسم أولا مفصلا والجمع مع التقسيم يذكر فيه المقسم مجملا ، كما في قوله : تشقى به الروم إلخ ، قيل : ويلزم عليه أن نحو قولنا الكلمة : إما اسم أو فعل أو حرف ليس من التقسيم ، لعدم ذكر المقسم مفصلا ، يعني : وليس أيضا من الجمع مع التقسيم ، لعدم جمع المقسم تحت حكم ، والمشهور أنه من التقسيم ولا يخفى ضعف هذا البحث ؛ لأنا نلتزم أنه ليس من التقسيم المذكور ، بل هو من أحد التقسيمين الآتيين فتأمله.

الجمع مع التفريق والتقسيم

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الجمع مع التفريق والتقسيم) وهذه التسمية تقتضي أن هذا النوع فيه معان ثلاثة ، وقد تقدم كل واحد منها فيوجد الجمع فيه ، وهو كما تقدم أن يجمع بين متعدد في حكم ، ويوجد فيه التفريق ، وهو كما تقدم أيضا أن يدخل شيئان في معنى ويفرق بين جهتي الإدخال ، ويوجد فيه التقسيم ، وهو أن يذكر متعدد ثم يضاف ما لكل إليه على التعيين ، ولما كان معنى هذه الأشياء المجموعة في هذا النوع ظاهرا مما سبق لم يتعرض لتفسيره ، لظهور أجزائه مما تقدم ، وإنما تعرض لمثاله فقال وذلك (كقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ) (١) أي : أذكر يوم يأتي الله أي : يوم يأتي أمره ، وقد تقدم ما في إسناد الإتيان إلى الأمر ، فالضمير في يأتي عائد إلى الله تعالى على تقدير مضاف ، ويحتمل أن يعود إلى اليوم ، وإتيان اليوم عبارة عن حضوره ؛ للزوم الحضور

__________________

(١) هود : ١٠٥.

٥٢٨

للإتيان ، ولما كان المقصود من حضور اليوم حضور ما يقع فيه ، قدر هنا مضاف أيضا ، أي : يأتي هوله وشدته ورحمته وعذابه ، فالظرف على هذا ، أعني : لفظ يوم منصوب على الظرفية بقوله (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أي : لا تتكلم نفس في ذلك اليوم مما ينفع من جواب يقبل أو شفاعة تقبل (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي : لا تتكلم نفس إلا بإذن الله تعالى كما قال (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)(١) وقوله في الآية الأخرى (لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(٢) لا ينافي ما تقدم ؛ لأن المأذون فيه هو الجواب الحق المقبول ، والممنوع هو العذر الباطل الغير المقبول ، أو الأول في موقف وهذا في آخر ، وتخصيص المأذون فيه بما ينفع من جواب أو شفاعة ، إما لأن غيره لم يعذر فيه أصلا ، ولكن هذا لا يناسب قوله تعالى حكاية عنهم (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)(٣) وأما لأن غيره لا عبرة به فالإذن فيه أو التمكين منه لا ينفع (فَمِنْهُمْ) أي فمن أهل الموقف ، وإنما جعل معاد الضمير أهل الموقف ؛ لأن النفس في" لا تكلم نفس" نكرة في سياق النفي فتعم كل نفس في ذلك اليوم والنفوس في ذلك اليوم هي نفوس الموقف ، فاتحد المراد بالنفس بالمراد بأهل الموقف ، ولذلك فسر الضمير بأهل الموقف ، وذلك ظاهر (شَقِيٌ) أي : محكوم له بالشقاوة ، أي : وجوب النار كما اقتضاه الوعيد في الدنيا (وَ منهم (سَعِيدٌ) أي محكوم له بالسعادة أي : وجوب الجنة كما اقتضاه الوعد الحق في الدنيا (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) أي حكم لهم بالشقاوة فهم (فَفِي النَّارِ) لأن ذلك مقتضى وجوبها (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي : إخراج النفس على وجه مخصوص وهو كونه بشدة وتتابع وصوت منكر وأسف (وَشَهِيقٌ) أي : إدخال النفس على وجه مخصوص أيضا وهو كونه بشدة وتتابع وصوت منكر وأسف (خالِدِينَ فِيها)

__________________

(١) النبأ : ٣٨.

(٢) المرسلات : ٣٥ ، ٣٦.

(٣) النحل : ٢٨.

٥٢٩

أي في النار (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) إن حملت السموات على سموات الآخرة ؛ لأنها هي الدائمة والأرض كذلك ، كما اقتضى أن للآخرة سموات وأرضا أخرى قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ)(١) دل تقييد الخلود بدوامها على الأبدية ، ولكن يرد عليه أن ذلك لا يفهمه إلا من يعتقد وجود السموات للآخرة ، والمعتقد لذلك لا يفتقر إلى أن يخبر بأن الخلود بخلود السموات الأخروية ؛ لأن ذلك معتقده ، ومن لا يعتقدها لا يفيد التأبيد بها الأبدية باعتباره ، وإن حملت على سموات الدنيا والأرض كذلك لزم أنها غير دائمة ، والجواب أن التأييد بها كناية عن الأبدية كما ، يقال : لا أفعل كذا ما دام ثبير أو ما طلع نجم ، والمراد لا أفعله أبدا وهذا وارد في كلام العرب كثيرا.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي : إلا وقت مشيئة ربك. وكون المستثنى هو الوقت إما بتقدير ما مصدرية ظرفية أي : إلا مدة مشيئة ربك أو بتقدير ما مصدرية فيقدر الوقت مضافا أي إلا وقت مشيئة ربك ، والمعنى واحد ، وهو ظاهر ، وإنما لم يجعل المستثنى غير ذلك ؛ لأن العموم قبله إنما وجد في الوقت المذكور ؛ لأن الخلود يتضمن أوقاتا لا تنتهي ، وفي الموصول الذي هو الذين ولا يتأتى الاستثناء منه هنا إلا بتكلف ؛ فلذلك جعل الاستثناء من الأوقات على التقديرين.

(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا معترض عليه في مراده ، ومن ذلك تخليد البعض كالكفرة وإخراج البعض ، كالعصاة غير الكفرة. وبهذا علم أن استثناء الوقت إنما هو باعتبار بعض الأشقياء ، وهم العصاة غير الكفرة.

واعلم أن المراد بالشقاوة ما يعم الكبرى والصغرى ، وكذلك المراد بالسعادة في قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ) ما يعم الكبرى والصغرى ، فدخل في الشقاوة بعض ما دخل في السعادة والعكس ، ولا يضرك ذلك التعبير بآلة الانفصال وهي" أما" لأن الانفصال يكون بمنع الخلو ، وهو موجود هنا ؛ إذ لا يخلو أمر أهل الموقف من الشقاوة والسعادة ولو اجتمعا في العاصي المؤمن باعتبارين.

__________________

(١) إبراهيم : ٤٨.

٥٣٠

(خالِدِينَ فِيها) أي باقين في الجنة إلى غير نهاية ، والحال في المحلين مقدرة أي مقدرين الخلود أو مقدرا لهم الخلود ؛ لأن الخلود لا يجامع دخول إحدى الدارين وإنما بجامعه تقديره.

(ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي : مدة دوام السموات والأرض وفيه ما تقدم من كونها كالأرض أخروية أو دنيوية.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي : إلا وقت مشيئة ربك ، ويتجه فيه ما تقدم في نظيره.

(عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي أعطوا ذلك عطاء غير منقطع فهذا المثال فيه جمع الأنفس في الحكم بعدم الكلام إلا بإذن الله تعالى ؛ لأن نفسا نكرة في سياق النفي فتعم كما ذكرنا آنفا ، وفيه تفريق ذلك المجموع بأن جعل منه الشقي والسعيد وفيه تقسيم هذا التعدد ، بأن أضيف لفريق السعادة ما له من الخلود في الجنة ، وأضيف لفريق الشقاوة ما له من الخلود في النار ، فإن قيل الشقاوة قد ذكرت أنها حكم بالنار ، والسعادة ذكرت أنها حكم بالجنة ، وهذا هو المستفاد من التقسيم هنا ، وقد تقدم أن التقسيم هو : أن يضاف لكل من المتعدد ما له مما لم يذكر أولا ، كما تقدم في قوله :

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج إلخ (١)

قلنا ما ذكر في التقسيم يكفي أن يكون غير ما ذكر ، ولو بالتفصيل لما أجمل أولا ، وهو هنا كذلك ، فإن كونهم في الجنة أو النار مع ذكر الخلود إلا ما شاء الله تفصيل لما حكم به وهكذا قوله : هذا مربوط وذا يشج تفصيل لما تضمنه الإجمال.

فقد تبين أن المثال مشتمل على الجمع والتفريق والتقسيم ؛ ولذلك يسمى نوع هذا المثال بما يدل على المجموع ، أما اشتماله على الجمع فظاهر ، وكذا اشتماله على التقسيم السابق فظاهر ؛ لأنه قسم المتعدد الذي هو قسم الشقاوة ، وقسم السعادة المذكورين بالتفصيل أولا بأن أضاف لكل منهما ما له. وأما اشتماله على التفريق السابق ففيه بحث ؛ لأنه كما تقدم إنما يتصور بين شيئين جمع بينهما ، ثم فرق بين جهتي إدخالهما كما في قوله :

__________________

(١) البيت للمتلمس ، وهو جرير بن عبد المسيح ، انظر شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٩٣).

٥٣١

فوجهك كالنار في ضوئها

وقلبي كالنار في حرها (١)

وهذا المعنى لم يوجد هنا إذ لم يفرق بين جهتي إدخال النفوس في عدم الكلام اللهم إلا أن يراد بالتفريق مطلق ذكر الفصل بين شيئين ، وحينئذ لا يستفاد تفسيره صراحة مما تقدم ، وقد تبين بما ذكر في تقدير المستثنى أن المستثنى من أهل الشقاوة هم عصاة المؤمنين ، وهم بعض المحكوم عليهم ، استثنوا من الخلود بقطع العذاب عنهم بإخراجهم من النار وإدخالهم الجنة. والمستثنى من أهل السعادة هم العصاة أيضا ، استثنوا باعتبار الابتداء ؛ لأن الخلود لما جعل له مبدأ وهو وقت وجود الدخول في الجملة ، وجعل ما بعد المبدأ هو الاستمرار إلى غير نهاية جاز أن يستثنى منه بقطعه في الاستقبال عن البعض ، كما في الشقاوة ودخول النار وأن يستثنى منه بقطعه ابتداء كذلك ، كما في السعادة ودخول الجنة ، وهذا كما تقول : بنو فلان ينفق عليهم من يوم العيد إلى تمام السنة ، أو إلى الأبد ، إلا في الشهرين الأولين من تلك السنة ، أو من ذلك الأبد ، فلا ينفق على بعض منهم ، وعلى هذا لا يرد أن يقال : الخلود إنما هو بعد الدخول ، ودخول الجنة لا يكون بعده انقطاع ؛ لأنا لم نرد الاستثناء من وقت الدخول ، باعتبار ذلك الداخل ، بل الاستثناء من وقت الدخول في الجملة ، أعني : من وقت يقع فيه الدخول ، لا من هذا المستثنى بل ممن وقع منه الدخول ، أيا كان ، ولكن في تأويل الاستثناء في الآية الكريمة على ما ذكر تمحل من أوجه :

أحدها : أن الظاهر في استثناء الوقت انصبابه على جميع الأفراد ، فانك إذا قلت : أنفق على أولادي من يوم كذا إلى كذا إلا وقت كذا فمعناه أنك لا تنفق على المجموع في ذلك الوقت لا على البعض. وقد جعل الاستثناء في الآية باعتبار البعض ، وهم العصاة ، الذين نفذ فيهم الوعيد.

والآخر : أن في الكلام تداخلا حينئذ كما أشرنا إليه آنفا ؛ لأن المستثنى من الشقاوة هو المستثنى من السعادة ، إذ العصاة استثنوا من الخلود في النار ، فيلزم استثناؤهم من الدخول الأولى ، وكذا العكس.

__________________

(١) البيت للوطواط ، فى شرح المرشدى (٢ / ٩٣).

٥٣٢

والآخر : أن الخلود إنما يعهد انقطاعه باعتبار الاستقبال ، كما أن القدم إنما ينتفي باعتبار الماضي.

والآخر أن الاستثناء لا يكون على نسق واحد ؛ لأنه في الأول لقطع الخلود استقبالا ، وفي الثاني لقطعه من ابتداء أوقاته ؛ ولذلك حمل على معنى أن أهل الجنة لا يخلدون في نعيمها ؛ لخروجهم في بعض الأوقات إلى ما هو أعظم ، كالرضوان والشهود وأهل النار لا يخلدون في عذابها ؛ لخروجهم في بعض الأوقات إلى عذاب الزمهرير.

ويرد على هذا الحمل أن الكون في الجنة يتضمن جميع النعم روحانيا وبدنيا ، والكون في النار يتضمن أنواع العذاب المجددات بعد وقت الدخول. فكيف يصح إخراج بعض الأحوال دون بعض؟ فإن قدر ففي نعيم الجنة المحسوس ، وفي عذاب النار الذي هو الحرارة بالخصوص ، خرج المستثنى عن التناول ، مع أن التقدير كالتحكم ؛ فلأجل ما ذكر على التأويلين قيل إن الاستثناء تقديري. أي : إلا ما شاء ربك ، على تقدير مشيئته ، بمعنى أنه لو شاء الخروج من كليهما لكان. ويكون في ذلك إشارة إلى أن الخلود ليس بواجب ذاتي بل بالمشيئة ، وعليه يكون المراد بالشقاوة الشقاوة الكبرى ، وبالسعادة ما يقابلها. كما أن المراد بها على التأويل الثاني ما ذكر أيضا ، بناء على أن النكرة تنصرف عند الإطلاق للفرد الأكمل ، وهذا في غاية البعد عن الدلالة اللفظية.

فالوجهان الأولان أقرب لصحتهما لفظا على ما فيها فتأمل.

(وقد يطلق التقسيم على أمرين آخرين) غير ما تقدم ، والذي تقدم هو أن يذكر متعدد ، ثم يضاف لكل من المقصود في التعدد ما له على التعيين.

التقسيم مع ذكر أحوال الشيء مضافا لما يليق به

(أحدهما) أي : أحد هذين الأمرين اللذين ليس كل منهما من التقسيم السابق (أن تذكر أحوال الشيء) بعد ذكره (مضافا) أي : حال كون تلك الأحوال قد أضيف (إلى كل) منها (ما يليق به كقوله) أي : كقول المتنبي :

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهم من طول ما التثموا مرد (١)

__________________

(١) البيت لأبى الطيب المتنبى فى التبيان (١ / ٢٥٧) ، وفى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٩٦).

٥٣٣

والقناء الرماح ، وأراد بالمشايخ الكهل من ذكور قومه. وقوله : هم كالمرد الذين لا لحى لهم من طول اللثام ، عبارة عن لزومهم زي الكبراء وأهل المروءة في عرفهم. فقد ذكر المشايخ ثم أشار إلى أحوالهم مضافا لكل حال ما يليق به بقوله هم (ثقال) على الأعداء ، من شدة شوكتهم وصعوبة وطأتهم (إذا لاقوا) والثقل هنا عبارة عن شدة نكاية الملاقي لهم ، وعجزه عن تحمل أذاهم ، وهم (خفاف) جمع خفيف أي مسرعين بالإجابة (إذا دعوا) إلى كفاية مهم ، أو دفاع ملم (كثير إذا شدوا) لأن واحدا منهم يقوم مقام الجماعة في الكناية. فحكم ما كان منهم حكم الكثير في الإفادة.

(قليل إذا عدوا) لأن أهل النجدة والإفادة مثلهم في غاية القلة فقد ذكر المشايخ أولا ، ثم ذكر أحوالهم من الثقل والخفة والكثرة والقلة ، وأضاف لكل حال ما يليق بها ، فأضاف للثقل حال الملاقاة وللخفة حال الدعوة للإجابة ، وللكثرة حال الشدة والحمل على الأعداء ، وللقلة حال العد.

ولا يخفى ما اشتمل عليه هذا التقسيم من الطباق بذكر القلة والكثرة ، والخفة والثقل ، إذ بين كل اثنين منها تضاد. وإنما لم يكن هذا من قبيل التقسيم السابق ؛ لأن التقسيم السابق يذكر فيه نفس المتعدد ـ مضافا لكل مما قصد من أفراده ـ ما يناسبه ، وهذا لم يذكر فيه نفس المتعدد المذكور أولا ، وإنما ذكرت أحواله ، وأضيف لكل من تلك الأحوال ما يليق بها كما رأيت فافهم.

التقسيم باستيفاء أقسام الشيء

(و) القسم (الثاني) من الأمرين اللذين ليسا من التقسيم السابق هو (استيفاء أقسام الشيء) بحيث لا يتصور للمقسم قسم آخر غير ما ذكر ، وذلك (كقوله تعالى) في تقسيم الإنسان باعتبار أمر الولادة : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) فقط (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (١) فقط وقدم الإناث في الذكر على الذكور هنا ؛ لأن سياق الآية في بيان أنه ليس للإنسان ما يشاء من الولادة ؛ وإنما يكون منها ما يشاء الله تعالى والذي لا يريده الإنسان هو الإناث ، فناسب تقديم الدال عليهن ، ثم عرف الدال على الذكور

__________________

(١) الشورى : ٤٩.

٥٣٤

بأل ؛ للإشارة إلى مرتبتهم والامتنان بهم ، فكأنه قيل ويهب لمن يشاء الجنس المعروف لكم المعهود كما له لديكم. فأعطى للفظ الإناث مناسبة التقديم ، وأعطى للفظ الذكور مناسبة التنويه والتعريف ، ثم أتى بهما على أصل استحقاق التقديم والتأخير ، بعد بيان المناسبة الأولية في قوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) (١) ثم أتى بالقسم المقابل لهذه الثلاثة في قوله : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لا يولد له أصلا أنه عليم بالحكمة في ذلك قدير على ما يريد لا يتعاصى عليه شيء ، ففي ضمن الآية الكريمة أن الإنسان باعتبار شأن الولادة ينقسم إلى الذي لا يولد له أصلا ، وإلى الذي يولد له جنس الذكور فقط ، وإلى الذي يولد له جنس الإناث فقط ، وإلى الذي يولد له الذكور والإناث معا ، فكأنه قيل : الإنسان إما أن لا يكون له ولد أصلا ، وإما أن يكون له جنس الذكور فقط ، وإما أن يكون له جنس الإناث فقط ، وإما أن يكون له الجنسان معا.

فهذا تقسيم مستوف لأقسام الإنسان باعتبار الولادة وعدمها. ومن هذا القسم قولهم : الكلمة : اسم ، أو فعل ، أو حرف.

ومما يتأمل فيه هنا السر في الإتيان بأو فى قوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) ولم يقل : ويزوجهم بالواو كما ذكر فيما قبل هذا القسم وبعده. قيل : إن السر في ذلك أنه لما عبر بالضمير في قوله (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) ولم يقل : يزوج من يشاء ، وأعاد الضمير على من يشاء قبله أتى بأو للإشارة إلى المباينة ، وأن هذا غير ما ذكر أولا ، والمذكور أولا هو هبة الذكور فقط ، أو الإناث فقط بخلاف ما لو عبر بالواو فإنه يفيد أن الذى اختص بالذكور أو اختص بالإناث يجمع له بين الذكور والإناث ، وليس بصحيح ؛ لأن المراد كما تقدم ذكر كل قسم على حدة ، ومفيده أو المقتضية للمباينة ، دون الواو المقتضية للجمع.

وأما الأقسام الأخرى فلما قال فيها : " يهب لمن يشاء ويجعل من يشاء" فعبر بالظاهر عن الموهوب له والمجعول له ، فهم أنها أقسام مستقلة مختلفة في نفس الأمر ؛ لأن

__________________

(١) الشورى : ٥٠.

٥٣٥

اللفظ الظاهر إذا كرر أفاد المغايرة ، بخلاف الضمير. ولكن يرد أن يقال فلم لم يقل ويزوج من يشاء ذكورا وإناثا؟ أي يجعل لمن يشاء الذكور والإناث معا ، فيفيد المباينة ويجري الكلام على نسق واحد؟ وأجيب بأن تلك الأقسام لو علقت جميعها بلفظ المشيئة ولم يعبر بالضمير العائد على ما ذكر لاستشعر أن كل قسم يستحق ذلك بالمشيئة التابعة لرعاية الأصلح ، كما يقول المعتزلي ؛ لأن أصل المباينة الصريحة أن تكون لحكمة اقتضتها ، والمشيئة صلحت للكل ، فيكون التخصيص لحكمة الرعاية إذ لا يظهر غيرها.

وحيث ذكر الضمير العائد على القسم المخصوص بالذكور أو الإناث أو لهما معا استنشق منه بحسب الظاهر. وإن كان المراد غير شخص المذكور أن ذلك باعتبار المشيئة المحضة التي لا يجب فيه رعاية الأصلح ؛ لإفادته بحسب الظاهر أنه لا يجب عليه تخصيص ذلك الشخص ، بل لو شاء لجعل له الجميع. فلما وجدت هذه الفائدة في التعبير بالإضمار عدل إليه ، ولما عدل ناسب التعبير بأو ؛ ليفيد المباينة وإلا أفادت الواو أن الذي وهب الذكور فقط ، أو وهب الإناث فقط يجعل له الزوج أي الذكور والإناث معا ، وهو لا يصح ، هكذا أشار إليه بعضهم ، فتعرضنا له مع إيجاز وإيضاح ؛ لأنه مما تتشوف لمثله النفوس لدقته والله الموفق بمنه وكرمه.

ولكن لا يخفى ما في كون التعليق بالمشيئة في كل قسم مفيدا لاتباع المصلحة من مجرد الدعوى والتحكم بلا دليل. بل المشيئة إنما تفيد عدم الوجوب لوجه من الوجوه ، سواء كان مصلحة أو غيرها ، وذلك أصلها. تأمل.

التجريد

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (التجريد) أي : النوع المسمى بالتجريد (وهو) أي : التجريد (أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر) أي هو : أن ينتزع من أمر له صفة أمر آخر ، فآخر نائب فاعل ينتزع (مثله فيها) أي ويكون الأمر المنتزع من ذي صفة مثل ذي الصفة في تلك الصفة ، ويدل على أنه منتزع على أنه مثله في الصفة تعبير المتكلم عنه بما يدل على تلك الصفة كما يأتي في الأمثلة.

٥٣٦

(مبالغة) أي والمقصود من ذلك الانتزاع إفادة المبالغة أي إفادة أنك بالغت في وصف المنتزع منه بتلك الصفة وإنما تبالغ كذلك (ل) أجل (كمالها) أي : لادعائك كمال تلك الصفة (فيه) أي : في ذلك المنتزع منه وإنما قلنا : لادعاء الكمال إشارة إلى أن إظهار المبالغة بالانتزاع لا يشترط فيه كونه كاملا في تلك الصفة في نفس الأمر ، بل الادعاء كاف سواء طابق الواقع أم لا.

ووجه دلالة الانتزاع على المبالغة المبنية على ادعائك الكمال ما تقرر في العقول من أن الأصل والمنشأ لما هو مثله في غاية القوة ، حتى صار يفيض بمثالاته فإذا أخذ وصف باعتبار تلك الصفة من موصوف آخر بها فهم أنك بالغت في وصفه ، حتى صيرته في منزلة هي بحيث كانت فيه تلك الصفة منشأ لتفريع أمثالها عنها وإيجادها عنه ، فهي فيه كأنها تفيض بمثالاتها لقوتها كما تفيض الأشعة عن شعاع الشمس ، وكما يفيض الماء عن ماء البحر فليفهم فإنه سهل ممتنع.

أقسام التجريد

وبمثل هذا علم أن فنون هذا العلم لا يخلو سهلها ـ كالبديع ـ من وجود الدقائق ورعايتها ، فضلا عن صعبها ، كالبيان والمعاني (وهو) أي التجريد (أقسام) عديدة ؛ لأن الانتزاع إما أن يكون بحرف أو بدونه ، والحرف إما من أو الباء أو في ، والباء إما داخلة على المنتزع منه أو داخلة على المنتزع ، وما يكون بدون حرف إما أن يكون لا على وجه الكناية ، أو يكون على وجهها ، ثم هو إما انتزاع من غير المتكلم ، أو انتزاع من المتكلم نفسه. فهذه أقسام أشار إليها وإلى أمثلتها بقوله :

(فمنها) أي : من تلك الأقسام ما يكون حاصلا بمن التجريدية (نحو قولهم) في المبالغة في وصف فلان بالصداقة : (لي من فلان صديق حميم) أي : صديق قريب لي كأنه نفسي ، بحيث يهتم بأمري كما أهتم أنا به.

وإنما يقال هكذا إذا قصد إظهار المبالغة في صداقته ، حتى صار بحيث يفيض عنه صديق آخر.

٥٣٧

وهذا القسم لم يمثلوا منه إلا بما تدخل فيه من على المنتزع منه ، ولما كان تسميتها تجريدية أمرا عاما لها وللباء ، لم يفهم من تلك التسمية أمر يشعر إشعارا بينا ببعض المعاني المعهودة لمن ، كما أنه كذلك في الباء فيحتاج إلى أن يبين لها ما يناسب من معانيها ، وكذلك الباء فيما يأتي والمناسب لها حيث دخلت على المنتزع منه أن تكون للابتداء ؛ لأن المنتزع مبدؤه ونشأته من المنتزع منه ، الذي هو مدخول من. وأما جعلها للبيان فلا تفيد المبالغة ، فإن بيان شيء بشيء لا يدل على كمال المبين في الوصف ، بخلاف جعله مبدأ ومنشأ لذي وصف باعتبار ذلك الوصف ، فكأنه قيل : خرج من فلان إلى وأتاني منه صديق آخر حميم فليتأمل.

فقولهم : لي من فلان صديق حميم يفيد المبالغة في وصف فلان بالصداقة (أي : بلغ) فلان (من) مراتب (الصداقة حدا) أي : مكانا (صح معه) أي : صح مع ذلك الحد وذلك المكان ، أي : صح بمصاحبته للاتصاف بذلك القدر من الصداقة (أن يستخلص منه) أي أن يستخرج من فلان صديق (آخر) حميم (مثله فيها) أي : في الصداقة.

وينبغي أن يعلم أن المبالغة إنما يناسبها كل المناسبة خروج صديق منه ؛ لأن صداقته بلغت إلى حيث تفيض عنها صداقة أخرى وأما الاستخلاص فإنما يناسب الانتزاع بالدعوى ، وفيها الإشعار بالتطلب والتكلف وإن كان يفيد أنه قد اشتمل على زائد يستخلص منه. إلا أن المعنى الأول أقوى كما قررناه فيما تقدم.

(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه ، (نحو قولهم) في المبالغة في وصف فلان بالكرم : (لئن سألت فلان لتسألن به البحر) فقائل هذا القول بالغ في اتصاف فلان بالسماحة حتى صار بحيث ينتزع منه كريم آخر يسمى بحرا مثله في الكرم والباء هذه حيث قامت قرينة على أن المراد بالبحر ما يجرد من مدخولها يناسبها من معانيها الأصلية أن تكون للمصاحبة ، أي : لتسألن مع فلان حين سؤالك له بحرا آخر معه يسأل ؛ لكونه مثله في الكرم ، ويحتمل أن تكون سببية أي : لتسألن بسببه البحر بمعنى أنه كان سببا لوجود بحر آخر معه مجردا منه ، أي : خارجا منه مثله يسأل معه.

٥٣٨

(ومنها) أي : ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بدخول الباء التجريدية الداخلة في المنتزع بعد دخول الأصلية في المنتزع منه وذلك (نحو قوله : وشوهاء) (١) أي : وفرس شوهاء ، أي : قبيحة المنظر والوصف بالشوهائية أي قبح الوجه ، وإن كان قبيحا في أصله ، لكنه يستحسن في الخيل لأن ذلك يكون لمجرد سعة أشداقها ؛ وذلك يدل على كمالها وقوتها. وقد يكون ذلك لما يصيبها من شدائد الحرب ، من الإصابة عند الطعن والضرب ، وذلك يدل على أنها مما تعد للشدائد ؛ لقوتها وأهليتها ، ومما جرب للملاقاة ، ويتكل عليها في الحروب والتصادم ، وذلك كمال فيها أيضا. (تعدو) أي من وصف تلك الفرس أنها تعدو أي : تسرع (بي إلى صارخ الوغى) أي : إلى الصارخ في مكان الوغى ، والوغى : الحرب ، والصارخ : هو الذي يصيح وينادي لحضور الحرب والاجتماع إليه. (بمستلئم) أي بلابس اللأمة وهي : الدرع من الحديد فقوله : بمستلئم مجرد من المجرور ، وبالباء الأصلية ، والباء فيه للمصاحبة ، أي : تعدو مع مستلئم آخر فقد بالغ في ملابسة لبس اللأمة للحروب وملازمتها حتى صار بحيث يجرد منه مستلئم آخر مثله في ملابستها ولزومها استعداد للحروب.

ولا يناسب هنا إلا معنى المصاحبة في الباء ؛ لأنها لو جعلت للسببية كان التقدير : تعدو بي بسبب مستلئم ، فيكون المستلئم الذي هو نفس المنتزع سببا للمجرد منه وهو اللابس للأمة حقيقة ، والمقدر أن المجرد منه هو السبب والمنشأة لا العكس ؛ ولذلك جعلت هنا للمصاحبة دون السببية ولو كان يمكن هنا اعتبار السببية فيها أيضا بتكليف ، وذلك بأن تدعى المبالغة حتى صار الأصل والسبب فرعا ومسببا ، أو يدعى أن عدو الفرس بسببية ذلك المستلئم ، أي : استعداده أوجب عدو الفرس للحرب ، كأنه حث على ذلك ، وهو يرجع إلى الأول ، إذ كونه سببا في العدو معناه كونه سببا في وجودي حال كوني مسرعا للحرب وإنما لم يحمل على ذلك ؛ لأن المبالغة المفيدة للتجريد تكفي للحسن ومتى زيد عليها ما أوجب العكس صار الكلام كالرمز ، وصار في غاية البرودة بالذوق السليم.

__________________

(١) البيت لذى الرمة فى ديوانه ص (١٤٩٩) ، وشرح عمدة الحافظ ص (٥٨٩) ، وبلا نسبة فى المقاصد النحوية.

٥٣٩

ثم وصف الشوهاء بإنها (مثل الفنيق) وهو الفحل من الإبل الذي ترك أهله ركوبه تكرمة له. (المرحل) أي المزعج ، فالمرحل من رحل البعير ، بتشديد الحاء إذا أشخصه وأرسله وأزعجه عن مكانه وشبه الفرس به في القوة والعلو وعدم القدرة على مصادمتها فقد ظهر أنه انتزع من نفسه مستلئما آخر أي مستعدا للحرب مبالغة في استعداده للحرب ولزومه ليس اللأمة ، له حتى صار بحيث يخرج منه مستعد آخر يصاحبه ، وقد أدخل الباء على المنتزع دون المنتزع منه ، كما في القسم قبل هذا.

(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بدخول في على المنتزع منه وذلك (نحو قوله تعالى) في التهويل بأمر جهنم ووصفها بكونها محلا للخلود ، وكونها لا يعتريها ضعف ولا اضمحلال ولا انفكاك أهلها عن عذابها : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(١) أي) لهم (في جهنم) دار الخلد (وهي) أعني جهنم نفسها (دار الخلد) ولكن بولغ في اتصافها بكونها دارا ذات عذاب مخلد ، حتى صارت بحيث تفيض وتصدر عنها دار أخرى ، هي مثلها في الاتصاف بكونها دارا ذات عذاب مخلد وفي هنا للظرفيه فكأنه قيل إن ثم دارا أخرى كانت في هذه الدار التي هي دارهم الملازمة لهم ، التي لا ينفك عنهم عذابها ، ولا يضعف مع طول الخلود ، ولا تفني بتصرم الأحقاب ولا تبيد ولا تنال فيها الراحة باستمرار الارتقاب ، وكل ذلك للمبالغة في اتصافها بالشدة وللتهويل بأمرها في العذاب ، وعدم انقطاعه بطول المدة ، فكأنه قيل : ما أعظم تلك الدار ، في لزومها لهم وكونها لا تضعف بالخلود ، حتى إنها تفيض بدار أخرى مثلها في اللزوم وقوة العذاب بلا ضعف مع التخليد. وقانا الله برحمته من هولها وعذابها نحن وآباءنا ، وأولادنا ، وأزواجنا ، وأشياخنا ، وإخواننا ، وجميع المؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحبه وسلم.

(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بدون توسط حرف أصلا ، ولكن يؤتى بالمنتزع على وجه يفهم منه الانتزاع بقرائن الأحوال بلا حرف يستعان به

__________________

(١) فصلت : ٢٨.

٥٤٠