مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

الإرصاد

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الإرصاد) أي : ما يسمى بالإرصاد والإرصاد في اللغة هو نصب الرقيب في الطريق ليدل عليه أو ليراقب من يأتي منها ، يقال رصدت ، أي : راقبت ، وأرصدته جعلته يرصد ، أي : يراقب الشيء (ويسميه) أي : ويسمي هذا الإرصاد (بعضهم التسهيم) والتسهيم جعل البرد ، أي : الثوب ذا خطوط كأنها فيها سهام ، وسيأتي قريبا وجه التسمية بكل من الاسمين.

(وهو) أي : والبديع المعنوي المسمى بالإرصاد والتسهيم (أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو من البيت ما يدل عليه) أي : أن يجعل قبل العجز مما ذكر ما يفهم منه ذلك العجز فما يدل نائب فاعل يجعل ، ثم لما كان ليس من شرطه أن يجعل هنالك ما يفهم به العجز ولو توقف ذكر الفهم على معرفة الروى ، فأحرى إذا وجد هنالك ما يفهم به المقصود ولو لم يعرف الروى زاد قوله (إذا عرف الروى) أي : الشرط في كونه إرصادا هو أن يفهم مما جعل هنالك العجز ، ولو توقف الفهم على معرفة الروى والبيت معلوم ، والفقرة ما هو من النثر بمنزلة البيت من الشعر في كونه يلتزم في ختم ما بعده ما التزم فيه ، والروى هو الحرف الملتزم في ختم الأبيات ، أو الفقر وأصل الفقرة عظم الظهر ، ثم استعير لحلي يصاغ على هيئة عظم الظهر ، ثم استعير لكلام لو ضم إليه غيره التزم في المضموم الحرف الآخر الكائن في المضموم إليه ، ولذلك قلنا : إنها بمنزلة البيت من الشعر ، وتسمى كل قطعة مما التزم آخره ذلك الحرف فقرة ، فقول الحريري : هو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه فقرة ، وقوله : ويقرع الأسماع بزواجر وعظه فقرة أخرى ، إذ كل منهما بمنزلة البيت فيما ذكر ، والسجع هو الكلام الملتزم فيه حرف آخره فهو قريب من الفقرة ، أو هو نفسها في المصدوق شبه بحلي يطبع بالجواهر فأضمر التشبيه في النفس استعارة بالكناية وأضاف إليه الطبع الذي هو من لوازم المشبه به ، وقرع الأسماع بزواجر الوعظ أسماع الموعظة على وجه محرك للمقصود ، ومن أجل أن الشرط هو أن يجعل هنالك ما يفهم العجز ولو مع الحاجة إلى معرفة الروي ، كان من الإرصاد قوله

٥٠١

تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١) فقد عرف أن العجز هو" يختلفون" من معرفة الروي ، وأنه نون بعد الواو كما كان ذلك قبل هذه الآية وفيما بعدها ، ولو لا تلك المعرفة لتوهم أن العجز هو" فيما فيه اختلفوا" ليطابق قوله : " فاختلفوا" لكن معرفة الروى أعانت على ذلك ، والمراد بالعجز هنا في البيت القافية فيه وهي الكلمة الأخيرة منه وقيل هي من المحرك السابق لساكنين وقعا آخرا وأما العجز من الفقرة فهو ما يماثل القافية من الشعر ومن الإرصاد قوله :

أحلت دمي من غير جرم وحرمت

بلا سبب يوم اللقاء كلامي (٢)

فليس الذي حللته بمحلل

وليس الذي حرمته بحرام

فإنه لو لا معرفة الروى ، ومعرفة أن القافية على وزن فعال لتوهم أن العجز هو أن يقال بمحرم مكان الحرام ؛ لأنه المناسب لقوله : بمحلل ولقوله أحلت وحرمت ، وبهذا علم أن المراد بمعرفة العجز معرفة صيغته وما يختم به ، كما في هذا المثال ، وأن المعرفة قد لا يكفي فيها الروى ؛ لأن الدلالة إنما تمت بمعرفة صيغة القافية ، وأما معرفة مادته في الجملة فلا تكفي ، اللهم إلا أن يكون ثم صيغ يقبلها المحل ، ولم يدل الدليل على مخصوص منها فيكفي المشترك بين تلك الصيغ ، وإنما قلنا : أن المقصود هنا الصيغة ؛ لأنه قد عرف من قوله كلام أن الروي ميم ، وعرف من قوله : أحلت وحرمت وليس الذي حرمته أن مادة العجز من التحريم ، ولم يكف ذلك في كونه إرصادا عندهم هنا لاحتمال أن تكون صيغة العجز أن يقال : بمحرم ، وعينت صيغة القافية الأولى أن الذي يقال هو بحرام لا بمحرم ، فالصواب على هذا أن يقال : إذا عرف الروى أو مع معرفة صيغة القافية أو ما يشبهها من النثر ، كذا قيل : ولك أن تقول : اقتصار المصنف في

__________________

(١) يونس : ١٩.

(٢) البيت في الإيضاح ص (٢٩٧) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوي ، ينسب للبحترى.

٥٠٢

المعرفة على الروى صحيح ؛ لأن معرفته تستلزم معرفة ما يلازمه ، وذلك كاف في معرفة العجز ؛ لأن المراد معرفة مادة الروى وما يلازمه كما تقدم في كلام وحرام ؛ لأن الألف لازمة ، وأما معرفة خصوص الصيغة من كل وجه فليس بمطلوب على ما ننبه عليه بعد فتأمله.

ووجه تسمية ما يدل على العجز إرصادا ظاهر ؛ لأن الإرصاد كما تقدم نصب المراقب على الطريق ليدل عليه ، أو على ما أتى منه ، وما يدل على العجز نصب ليدل على صيغته وختمه ، وأما وجه تسميته تسهيما فلأجل أن ما وضع كذلك مزيد في البيت أو الفقرة ملازم له ليزينه بدلالته على المقصود من عجزه ، فصار بمنزلة الخطوط في الثوب المزيدة فيه لتزينه ، ثم مثل للإرصاد في الفقرة فقال : وذلك (نحو) قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١) فإن مادة العجز دل عليها قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) إذ يفهم منه بعد قوله (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ) أن العجز هو من مادة الظلم ؛ إذ لا معنى لقولنا مثلا : وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم ينفعون أو يمنعون من الهلاك أو نحو ذلك ، ويعين كون المادة من الظلم مختومة بنون بعد واو معرفة الروى الكائن فيما قبل الآية ، إذ قبلها (٢)(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣) فقد ظهر أن الفقر رويها نون قبله واو أو ياء ، وذلك يدل بعد معرفة المادة أنها مختومة بنون قبلها واو أو ياء ، وبه يعلم كما تقدم أنه لا يتعين خصوص صيغة العجز ، وأن الروى

__________________

(١) العنكبوت : ٤٠.

(٢) الذى قبل الآية التى ذكرها المصنف قوله تعالى : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ ..) الآية. ولكن المصنف خلط بين آيتى النحل والعنكبوت ، وآية النحل هي : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.)

(٣) النحل : ٣٠ : ٣٢.

٥٠٣

مع ما يلازمه يكفي في فهم الصيغة ، وإنما قلنا لا يتعين ؛ لأنه لو قيل في غير القرآن مثلا بعد الفقرة السابقة : ولكن كانوا أنفسهم ظالمين لكفى ولكان من المعلوم بالإرصاد ؛ لأن الياء والواو يتعارضان في القافية وما يناسبها من الفقرة ، ومثل للإرصاد في البيت فقال (و) ذلك (نحو قوله :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع (١)

فإن قوله : إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما : يدل على أن مادة القافية من معنى الاستطاعة المثبتة ؛ إذ لا يصح أن يقال : إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما لا تستطيع أو جاوزه إلى كل ما تشتهي أو إلى فعل ما تعرض لك إرادته ولو كنت لا تستطيعه أو نحو ذلك ، والذوق شاهد صدق في ذلك ، والروى يدل على أن تلك المادة تختم بالعين قبلها ياء ، وليس ذلك إلا لفظ تستطيع فلا يصح ، وجاوزه إلى ما تطيق لعدم وجود الروى فيه ، وتعين خصوص الصيغة هنا من كل وجه لعدم وجدان غيرها وعدم صلاحية سواها في المحل ، ولا إشكال في ذلك.

المشاكلة

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (المشاكلة) أي النوع المسمى بالمشاكلة (وهو) أي : وذلك النوع من البديع المعنوي المسمى بالمشاكلة هو (ذكر الشيء بلفظ غيره) أي : ذكر المعنى ملتبسا في ذلك الذكر بالإتيان بلفظ غير ذلك المعنى ، فالباء في" بلفظ" للملابسة ، ولا يخفى أن تعلق الذكر بالمعنى كما هنا صحيح من باب نسبة ما للدال للمدلول ، وخرج بقوله : بلفظ غيره الذكر المتعلق بالحقيقة ، ودخل فيه جميع أنواع المجاز ؛ لأن الذكر فيها واقع في معانيها في ألفاظ غيرها على ما تقدم من البحث في الاستعارة بالكناية.

__________________

(١) البيت فى الإيضاح ص (٢٩٧) وهو منسوب لعمرو بن معد يكرب.

٥٠٤

قوله (لوقوعه في صحبة غيره) يتعلق بذكر ، أي : ذكره لأجل وقوعه .. الخ ، أو وقت وقوعه ، وذلك كما لو قيل لك : أسقيك ماء ، فقلت : بل اسقني طعاما ، فقد ذكرت الإطعام بلفظ السقي لوقوعه في صحبة السقي ، ومعنى الوقوع في صحبة الغير أن ذلك الشيء وجد مصاحبا للغير ، بمعنى أنه ذكر هذا عند ذكر هذا كما في المثال ، أو عند حضور معناه ، فشملت الصحبة الذكرية والصحبة العلمية ؛ لأنها في التقدير كالمذكورة ، وإلى ذلك أشار بقوله (تحقيقا أو تقديرا) أي : ذكره بلفظ الغير لوقوعه في صحبة ذلك الغير صحبة تحقيق بأن يذكر عند ذكره ، أو صحبة تقدير للعلم به فصار مقدر الذكر كالمذكور ، وإذا كان معنى الوقوع في الصحبة ما ذكر خرج جميع أنواع المجاورة ؛ لأن شيئا منها لا تكون علة ذكره وقوعه في صحبة الغير ذكرا أو تقديرا ، أما ما سوى المجاز الذي علاقته المجاورة كالظرف مع المظروف ، والملازمة كالجزء مع الكل فظاهر ، وأما الذي علاقته المجاورة أو الملازمة ، فليس العلة فيهما صحبة الذكر ، بل صحبة متقررة قبل الذكر ، هذا إن جعلت اللام في" لوقوعه" للتعليل ، وإن جعلت توقيتية كما تقدم أيضا فالإخراج حينئذ أظهر ؛ لأن شيئا منها ليس من شرطه أن يذكر وقت صحبته للغير ، ولهذا قيل المشاكلة ليست من الحقيقة ولا من المجاز ، وقيل : إنها من المجاز ؛ لأن العلاقة الحاصلة بالصحبة الذكرية والتقديرية ولو لم يذكرها القوم يؤخذ اعتبارها من المجاورة ، وكون علاقة المجاز لا بد فيها من التقدم إنما ذلك في الأغلب ، أو نقول سبقت هنا أيضا فإن قصد الإتيان به وإيقاعه في صحبة غيره سابق على ذكره بلفظ غيره مصاحبا له وهذا هو الذي يراعيه من يقول إن فيه مجاورة المقارن في الخيال ، وإلا فلا يخفى أن ليس هناك لزوم خيال سابق عن القصد والذكر ، والتحقيق أن المشاكلة من حيث إنها مشاكلة ليست حقيقة ولا مجازا ؛ لأنها مجرد ذكر المصاحب بلفظ غيره لاصطحابهما ، ولو كان نحو هذا القدر يكفي في التجوز ؛ لصح التجوز في نحو قولنا : جاء زيد وعمرو بأن يقال جاء زيد وزيد مرادا به عمرو لوقوعه في صحبة الغير ولا يصح ، بل المشاكلة أن يعدل عن لفظ المعنى إلى لفظ غيره في أماكن يستظرف فيها ذلك ، ولهذا قيل : إنها يجوز أن يكون لفظها مجازا ، وأن لا يكون كذلك فتجامعه

٥٠٥

وليست نفسه ، وكونها مجازا إما باعتبار حكاية اللفظ المجازي عن المصاحب ، كما تقول لمن تريد أن تطلب منه مالا وقد قال لك : رأيت اليوم أسدا بلبده في الحمام أعطني أسدا بلبده من مالك تريد أعطني شيئا طائلا من مالك من غير أن تعتبر أن المعبر عنه في لفظك أنت بالأسد شبهته بشيء أو باعتبار تشبيهه بالمذكور ، كأن تعتبر أن المال المطلوب بمنزلة الأسد في المهابة والفتك في الأنفس والقلوب ، فيكون لفظ الأسد مجازا باعتبار تشبيهه المال المراد بالأسد الحقيقي ، ومشاكلة باعتبار صحبته من عبر عنه بالأسد ، وكذا لو اعتبرت في المثال الآتي أن الطبخ الحقيقي شبه به النسج في الرغبة والحاجة ، فإنه يكون مجازا باعتبار التشبيه ، ومشاكلة باعتبار المصاحبة ، ولو لم تعتبر تجوزا لم يكن حقيقة بل مجرد مشاكلة ، ولا بد من قرينة إرادة التجوز ، وقوله في تعريف المشاكلة : ذكر الشيء بلفظ الغير لوقوعه في صحبة ذلك الغير ظاهره اختصاص المشاكلة بذكر نفس المصاحب ، وليس كذلك ، بل تجري المشاكلة بلفظ ضد المذكور وتجري بلفظ مناسبة ، أما جريانها في الضد فكقولك ـ لمن قال لك أنت سبط الشهادة أي : مستمر حفظها أو قبولها دائما ـ : لم تجعد تلك الشهادة عني ، بمعنى : أني حافظ لشهادتي ليست قاصرة عن إدراكي ، كما روى أن القاضي شريحا قال مثل الكلام الأول لرجل فقال هو مثل الثاني ، فقد عبر بسبوطة الشهادة الذي أصله انطلاق الشعر وامتداده عن استمرار الشهادة امتداد حفظها ، أو زمانها مطلق الامتداد الصادق بامتداد أمد قبول الشهادة أو أمد حفظها ، وعبر عن قصورها بضد السبوطة وهي الجعودة تعبيرا بالملزوم عن اللازم ؛ لأن الجعودة تستلزم القصور ، فلذلك قيل : لو لا مصاحبة السبوطة ما حسن ذكر الجعودة ، وأما جريانها في المناسب فكما ورد أن رجلا قال لوهب أليس قد ورد أن لا إله إلا الله مفتاح الجنة فقال وهب : بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بالأسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك فقد عبر عن لا إله إلا الله بالمفتاح ، وعبر عن الشرائع والأعمال المعتبرة في الإسلام بالأسنان مشاكلة بالمناسب ، إذا الأسنان تناسب المفتاح ، وقد عرفت أن التعبيرين في الأولين مجاز ، وكذا في الثانيين ولذا قيل : إن المشاكلة بالضد والمناسب لا تكون إلا مع تجويز ، ومن أجل ذلك اقتصروا في ذكرها على الأمر الأعم

٥٠٦

الجاري مطلقا ، وهو المشاكلة بلفظ المصاحب ، وقد أطنبت شيئا ما في هذا الموطن ، لقلة الكلام في المشاكلة على مثل هذه المباحث فيها والله الموفق بمنه وكرمه.

ولما قدم أن المشاكلة هي ذكر الشيء بلفظ غيره لمصاحبته معه ، ومن المعلوم أن اصطحاب المعنيين يستلزم اصطحاب اللفظيين ، وقد يسمى اصطحاب اللفظيين المعبر بهما صحبة تحقيق ، واصطحاب المقدر والمذكور اصطحاب تقدير فهما قسمان أراد أن يمثل لهما معا فأشار إلى مثال الأول بقوله (فالأول) أي القسم الأول من المشاكلة ، وهو ما تكون فيه الصحبة التحقيقية (كقوله : قالوا اقترح شيئا) أي اطلب ما شئت من المطبوخ ، وتحكم فيه علينا أخذا من قولهم اقترحت الشيء عليه إذا سألته إياه من غير روية ، أي : تأمل في بغية السؤال وعدمها ، بل طلبته على سبيل التكليف والتحكم على المسئول وقيل إنه مأخوذ من اقترح الشيء إذا ابتدعه وأوجده أولا ولا يخفى أن هذا المعنى غير مناسب هنا ؛ لأن قوله (نجد لك طبخه) أي نحسن لك طبخ ذلك المسئول مناف له إذ على تقديره كذلك يصير المعنى : ابتدع شيئا وأوجده نجد لك طبخه ولا معنى لإيجاد المطبوخ ليطبخ ، وإن حمل على معنى أوجد أصله ليطبخ نافاه السياق أيضا ؛ لأن المراد اطلب ما تريد من الأطعمة المطبوخة تعطاه ، وليس المراد ائتنا بطعام نطبخه لك على أن ابتداع أصل الطعام وإنشاؤه لا معنى له هنا.

(ونحوه) أي : نحو هذا المثال في كونه مشاكلة تحقيقا قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)(١) أي : ما في ذاتك وإطلاق النفس على ذات القديم تعالى لا يصح إلا للمشاكلة لوقوعه في صحبة من له النفس حقيقة مع ذكرها لفظا ، وهذا بناء على أن النفس مخصوصة بالحيوان أو بالحادث الحي مطلقا ، ويدل عليه قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(٢) وقيل إن النفس في الآية عام مخصوص بمن يقبل الموت من الحوادث ، وإلا فالنفس تطلق على ذاته

__________________

(١) المائدة : ١١٦.

(٢) آل عمران : ١٨٥.

٥٠٧

تعالى أخذا من قوله تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(١) وعليه فلا مشاكلة ؛ لأن اللفظ أطلق معناه على معناه لا على غيره لمصاحبته لذي اللفظ.

ثم أشار إلى مثال الثاني بقوله (والثاني) وهو ما يكون مذكورا بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير تقديرا (نحو) قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (٢) (وهو) أي : قوله صبغة الله (مصدر) على وزن فعلة بكسر الفاء وسكون العين من صبغ كالجلسة من جلس ومعلوم أن فعلة بكسر الفاء للهيئة أي : لحالة مخصوصة يقع عليها مطلق المصدر ، فالصبغة لمخصوص من مطلق المصدر وسنبين ذلك (مؤكد) ذلك المصدر الذي هو صبغة (ل) قوله (آمنا بالله) لدلالته على لازم الإيمان (أي : تطهير الله) بمعنى أن الصبغة أطلقت على التطهير بالإيمان من رذيلة الكفر ، وإنما كان التطهير لازما (لأن الإيمان يطهر النفوس) كما ذكرنا من رذيلة الكفر ، وينفي أسبابه عنها من الجهل والكبر والعداوة لأهله ، فلما كان الإيمان المدلول لآمنا متضمنا أي : مستلزما للتطهير كان صبغة الدال على التطهير مؤكدا لآمنا لدلالته على لازمه البين ، ومؤكد اللازم مؤكد للملزوم ، وهو معمول حينئذ لآمنا لتضمنه باللزوم معناه ، أو معمول لفعل من لفظه ، أي : صبغنا الله صبغة ، ولا ينافى ذلك كونه مؤكدا لآمنا من جهة المعنى ، ثم إن إطلاق مادة الصبغ على التطهير من الكفر مجاز تشبيهي ، وذلك أنه شبه التطهير من الكفر بالإيمان بصبغ المغموس في الصبغ الحسي ، ووجه الشبه ظهور أثر كل منهما على ظاهر صاحبه ، فيظهر أثر التطهير على المؤمن حسا ومعنى بالعمل الصالح والأخلاق الطيبة ، كما يظهر أثر الصبغ على صاحبه ، وقد علم أن أصل التطهير

__________________

(١) الأنعام : ٥٤.

(٢) البقرة : ١٣٦ ـ ١٣٨.

٥٠٨

التنقية من الأثر المحسوس ، لكن كثر استعماله في المعاني حتى صار حقيقة عرفية ، فباعتبار الأصل يكون إطلاق الصبغ على معنى التنزيه عن رذيلة الكفر مجازا مرتبا على مجاز ، وباعتبار كثرة الاستعمال يكون مجازا محضا عن أصل ، فلفظ الصبغة إنما عبر به عن معنى التطهير على وجه التجوز ، ولا ينافي ذلك كونه مشاكلة باعتبار صحبته لما يعبر به عنه حقيقة أو مجازا كما تقدم ، والصحبة هنا تقديرية ؛ إذ لم يذكر لفظ الصبغة لمعنى آخر فيكون اللفظ المذكور للمشاكلة الذكرية.

ولما كانت الصحبة التقديرية تحتاج إلى ما يدل عليها أشار إلى ما يدل على المقدر ببيان أصل النزول المصحح لأصل هذا التعبير فقال (والأصل فيه) أي في نزول الآية المشتملة على التعبير بلفظ الصبغة ، أو الأصل في التعبير بلفظ الصبغة في الآية المنزلة ، ومآل الاحتمالين واحد (أن النصارى) أي : الأصل فيما ذكر أن النصارى (كانوا يغمسون أولادهم) أي يدخلونهم (في ماء أصفر) يوكل به القسيس منهم ، ويضع فيه الملح لئلا يتغير بطول الزمان فتغتر عامتهم بعدم التغير ، ويقولون : إن ذلك من بركة القسيس كما يغترون بإظهاره الزهد ، فجعلوا استغفاره موجبا للمغفرة ، وفوضوا إليه أمر النساء فيباشر أسرارهن إن شاء وهم راضون بذلك أخزى الله فعلهم.

(يسمونه) أي : يسمون ذلك الماء (المعمودية ، ويقولون : إنه) أي الغمس في ذلك الماء (تطهير لهم) من غير دينهم المحمود عندهم ـ لعنة الله عليهم ـ فإذا فعل ذلك أحدهم ، أي : غطس ولده في ذلك الماء بين يدي القسيس ، قال الآن صار نصرانيا حقا وتطهر من سائر الأديان ، ولما كان التغطيس إنما هو في الماء الأصفر الذي من شأنه أن يغير لون المغطس ناسب أن يسمى ذلك التغطيس بهيئة من الصبغ لكونه بماء مخصوص بصبغ لغرض مخصوص ، فكأنهم قالوا الصبغة بذلك الماء ، وإطلاق الصبغة المقدرة على التغطيس مجاز سواء أريد نفسه إذ لا يصبغ حقيقة ، أو أريد لازمه عندهم ، وهو التطهير من سائر الأديان ، وكذا التعبير بالصبغة عن التطهير بالإيمان مجاز وهو هيئة مخصوصة ؛ لكونه تطهيرا مخصوصا عن شيء مخصوص ، ولما كان هذا حالهم ونزلت الآية للرد عليهم في ذلك صار التعبير بالصبغة عن الإيمان الحقيقي للرد عليهم إيمانهم التغطيسي

٥٠٩

وتطيرهم الكفر مشاكلة ؛ لأنه يقدر هذا اللفظ كأنه صادر منهم بقرينة النزول في شأن الرد عليهم فيما يستحق أن يسمى صبغا ، فهنا مصاحبة المعنيين ومصاحبة اللفظيين إلا أن أحدهما مقدر وهو كالمذكور كما بينا ، فالآية على هذا نزلت إلى المؤمنين ، وأمروا أن يقولوا للنصارى قولوا مضمونها ، أي : إن شئتم التطهير الحقيقي والإيمان المعتبر الذي يستأهل أن يسمى تطهيرا ، فقولوا : صبغة الله ، أي : قولوا أيها النصارى آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا وطهرنا به تطهيرا مثل تطهيرنا ، أي : فإذا قلتم ذلك واعتقدتموه فقد أصبتم وإلا فأنتم في ضلال ، فيكون التعبير للمشاكلة لتقدير المراعى فيها ، ولو لم يذكر كما دل على ذلك كون النزول لأجل الرد في ذلك المعنى المناسب أن يذكر بلفظ الصبغ هذا على أن الآية نزلت ؛ ليخاطب المؤمنون الكافرين بها بمعنى أمروا أن يقولوا للكافرين : قولوا مضمونها ، وأما على إنها خطاب للمؤمنين ، فالمعنى أن المسلمين أمروا أن يقولوا : صبغنا الله تعالى صبغة بالإيمان المطهر ، لا مثل صبغتكم أيها الكفرة بالماء الأصفر التي سميتموها تقديرا من غير الدين المحمود لديكم ، فيكون النزول لأمر المؤمنين بالرد على الكفرة بالحق البين ، وعبر عن ذلك الحق بالصبغ للمشاكلة للفظ قدر وجوده لمناسبة التعبير به كما تقدم ، والحاصل أن النصارى لما اقتضى فعلهم صبغا ونزلت الآية للرد عليهم عبر عن المراد بالصبغة للمشاكلة التقديرية ، حيث صاحب المعنى المستحق للتعبير بالصبغ ولو لم يقع ، إذ هو مقدر فهو كالمذكور ، فكانت الصحبة تقديرية وهذا مثل ما لو رأيت إنسانا يغرس شجرا وقلت لآخر اغرس إلى الكرام كهذا وتريد باغرس اصنع المعروف إلى الكرام ، وعبرت عن الصنع بالغرس لمصاحبته للغرس الحاضر ، ولو لم يذكر ، فكأنك قلت : هذا يغرس الأشجار فاغرس أنت الإحسان مثله ، فإن قدرته مجازا للتشبيه في رجاء النفع كان مجازا للتشبيه ومشاكلة للصحة ، وإن لم تقدره كان مشاكلة محضة وهذا معنى قوله (فعبر عن الإيمان بالله بصبغة الله) أي : عبر في الآية بلفظ صبغة الله عن الإيمان بالله كما تقدم (للمشاكلة) أي : مناسبة المعنى المعبر عنه للمعنى الذي يستحق أن يعبر عنه بلفظ الصبغة ، وهو تغطيس النصارى أولادهم ، أي : لمشاكلة هذا المعنى لذلك المعنى في اللفظ

٥١٠

المقدر والمذكور ؛ لأن المعنى مصاحب فكأن الذي يستحقه وهو الصبغة مذكور ؛ لاقتضاء المقام تقديره ، وإنما قلنا : إن هنا صحبة الصبغة المذكورة للصبغة المقدرة (بهذه القرينة) أعني : بقرينة سبب النزول ، أعني : فعل النصارى وهو تغطيسهم أولادهم ؛ لأنه يستحق كما تقدم أن يعبر عنه بلفظ الصبغة مجازا أو حقيقة إن صحت ، فقران النزول لهذا الفعل لقصد الرد عليهم فيه يفيد مصاحبة الصبغة المذكورة للمقدرة لوجود المعنى الذي يستحق ذكر لفظها ، فكأنه ذكر ؛ إذ المقدر كالمذكور ، وقد أطنبت أيضا في تقرير المشاكلة التقديرية ؛ لأن المصنف لم يبين جهتها لمزيد البيان.

وتسمية المشاكلة سواء كانت لفظية أو تقديرية بديعا معنويا بالنظر إلى أن لها تعلقا بالمعنى المصاحب إذ هي ذكر ذلك المعنى بلفظ غيره للصحبة بين المعنيين ، فتلزم الصحبة بين اللفظيين ، فالقصد بالذات إلى تحسين المعنى المصاحب بالتعبير عنه بما يشاكل التعبير عن الآخر ، وتناسب الطباق ومراعاة النظير السابقين من جهة أن في كل مقابلة شيء شيئا في الجملة ، ومن ينظر إلى أن حاصلها إتيان بلفظ مشاكل لآخر مع اختلاف معناهما يبحث بأنها لفظية كالجناس بين اللفظيين ، والتحقيق أن للمعنى دخلا فيها ؛ إذ لو لا مصاحبة المعنى للمعنى وقصد تحسينه لم تتصور وقد تقدمت الإشارة إلى هذا.

المزاوجة

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (المزاوجة) أي : النوع المسمى بالمزاوجة (وهي) أي : المزاوجة (أن يزاوج) بفتح الواو على صيغة المبني للمفعول ، ويحتمل أن يكون بكسر الواو على صيغة المبني للفاعل ، وعليه يكون الفاعل هو ضمير المتكلم أو الناطق ، أو نحو ذلك ، وعلى أنه مبني للمجهول يكون النائب ضميرا يعود للمصدر المفهوم من الفعل ، والمعنى هي أن يزاوج الزواج ، أي : أن توقع المزاوجة ؛ لأن إنابة المصدر إنما تفيد وقوع ذلك المصدر عند تعلق الغرض به كما قالوا : حيل بين العير والنزوان ، فإن حيل فعل مبني للمجهول من الحيلولة ، وبين لا تصح إنابته لعدم تصرفه فقدر أن النائب هو ضمير المصدر ، والمعنى وقعت الحيلولة بين العير بفتح العين وهو

٥١١

الحمار ، والنزوان وهو نزو الذكر ، أي : وقوعه على الأنثى ، ويحتمل على قول : أن يكون النائب عن الفاعل هو الظرف ، وإن كان غير متصرف وهو قوله (بين معنيين) أي : المزاوجة هو أن يقارن ويجمع بين معنيين واقعين (في الشرط والجزاء) أي : وقع أحد ذينك المعنيين المزواج بينهما في مكان الشرط بأن جيء به بعد أداته ، ووقع الآخر في موضع الجزاء بأن ربط مع الشرط وسيق جوابا له ، ومعنى الزواج في المعنيين الواقع أحدهما شرطا والآخر جزاء أن يجمع بينهما في بناء معنى من المعاني على كل منهما ، فقد ازدوجا أي اجتمع ذلك الشرط وذلك الجزاء في ذلك المعنى.

ثم مثل للمزاوجة فقال (كقوله : إذا ما نهى الناهي) (١) أي : إذا نهاني الناهي عن حبها ، وزجرني الزاجر عن التوغل في ودها (فلج بي الهوى) أي إذا نهيت عن الحب ، فترتب على النهي لجاج الهوى بي أي لزومه لي ، وأصل اللجاج كثرة الكلام والخصومة والتزامها وإدمانها ، ثم عبر به عن مطلق اللزوم الصادق بلزوم الهوى مجازا مرسلا من التعبير بالملزوم عن اللازم ، بل من التعبير بالمقيد عن المطلق (أصاخت) أي : استمعت (إلى الواشي) أي : النمام الذي يشي حديثه ، أي : يزينه ويأتي به على وجه يقبل حين ينقله على وجه الإفساد بين الناس وبين الأحباء خصوصا ومعنى استماعها لحديث الواشي قبولها له ، لأنه يعبر بالاستماع عن القبول لاستلزامه إياه غالبا ، وعن عدم القبول بعدم الاستماع لاستلزامه إياه كذلك.

(فلج بها الهجر) أي : استمعت فترتب على استماعها وقبولها لحديث الواشي لجاج الهجر بها ، أي : لزوم الهجر ، وهو التباعد عن الوصال ، فنهى الناهي شرط ترتب عليه لزوم الهوى وإصاخة الواشي جوابه رتب عليه لزوم الهجر لها ، فقد صدق أن هذا الشرط الذي هو نهي الناهي ، وجوابه الذي هو إصاختها للواشي معنيان وقعا ، أي : وقع أحدهما في مكان الشرط ، أي : بعد أداة الشرط ، فصار شرطا ، ووقع أحدهما في مكان الجواب بربطه بالشرط فصار جوابا ، وقد زاوج أي : جمع بينهما في معنى مرتب عليهما

__________________

(١) البيت فى الإيضاح ص (٢٩٩) ، وهو منسوب إلى البحترى ، وانظر ديوانه ص (٨٤٤) والتبيان للطيبى (٢ / ٤٠٠).

٥١٢

معا ، وهو لزوم شيء لهما معا ؛ لأنهما اشتركا في هذا المعنى ، وهو كاف في الاجتماع والازدواج ، وإن كان اللازم للشرط هو الهوى واللازم للجواب هو الهجر.

وقد تبين أن معنى المزاوجة بين المعنيين في الشرط والجزاء أن يجمع بين الشرط والجزاء في ترتب لازم من اللوازم عليهما معا ، وليس معناها أن يزاوج أي : أن يقرن بين معنيين واقعين في الشرط ، وأن يقرن بين معنيين واقعين في الجزاء كما هو ظاهر عبارة المصنف ، بل أن يقرن بين معنيين وقع أحدهما في الشرط ، والآخر في الجزاء في لازم من اللوازم بمعنى أنه يجمع بين الشرط والجزاء في معنى واحد ؛ إذ لو كانت المزاوجة على المعنى الأول بأن يكون معنى المزاوجة في البيت أنه قرن بين معنيين في الشرط ، وهما نهي الناهي ولجاج الهوى ، وبين معنيين في الجزاء وهما إصاختها إلى الواشي ، ولجاج الهجر لزم أن قولنا : إذا جاءني زيد فسلم علي أجلسته وأنعمت عليه من المزاوجة ؛ لأنه قرن فيه بين معنيين في الشرط ، وهما مجيء زيد وسلامه ، وبين معنيين في الجزاء ، وهما إجلاسه والإنعام عليه ؛ لأنه يصدق الحد حينئذ على نحو هذا المثال ، ولا قائل بأن نحو هذا من المزاوجة فوجب الحمل على المعنى الأول ؛ إذ هو المأخوذ من كلام السلف من أهل البيان ، ولا يخفى ما في ترتب لجاج الهوى على النهي من المبالغة في الحب لاقتضائها إن ذكرها ولو على وجه العتب يزيد حبها ويثيره كما قال :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوم (١)

وما في ترتب لزوم الهجران على وشي الواشي من المبالغة في ادعاء كون حبها على شفا إذ يزيله مطلق الوشي فكيف يكون الأمر لو سمعت أو رأت عيبا؟ كما قال :

ولا خير في ود ضعيف تزيله

سوابق وهم كلما عرضت جفا

والمبالغتان مما يستحسن في باب كل منهما ، فمن شأن العاشق أن يوصف بمثل ما ذكر ، والمعشوق أن يوصف بالعكس تحقيقا لمعنى العشق ، وإلا كان مكافأة ومجازاة في الود ، فلا يكون من العشق في شيء قيل : إن فيما بين الشرط المذكور والجزاء معنى القلب ، إذ لجاج الهوى لزوم شيء للعاشق ، ولجاج الهجر لزوم عكسه للمعشوق ، ففي

__________________

(١) البيت لأبى الشيص فى الإيضاح ص (٣٤٨) ، وانظر الإشارات ص (٣١٤).

٥١٣

أحد الطرفين ما من العاشق للمعشوق ، وفي الآخر ما من المعشوق للعاشق ، ولا يخفى ما فيه من التكلف لعدم تبادره ثم إن الضمير في أصاخت وفي لج بها قيل : إن الأولى تذكيره فيهما ليطابق البيت ما قبله وهو قوله :

كأن الثريا علقت بجبينه

وفي نحره الشعرى وفي خده البدر

بتذكير الضمائر.

العكس

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (العكس) أي : النوع المسمى بالعكس والتبديل (وهو) أي : النوع المسمى بالعكس هو (أن يقدم في الكلام جزء) على جزء آخر كان في ذلك الكلام مع ذلك المقدم (ثم يؤخر ذلك) الجزء المقدم على ذلك الجزء المؤخر أولا والعبارة المؤدية لمعناه على وجه الإيضاح قول بعضهم وهو أن تقدم في الكلام جزءا ثم تعكس فتقدم ما أخرت وتؤخر ما قدمت ، فإن هذه العبارة مصرحة بأن المقدم ثانيا هو الذي كان مؤخرا على ذلك المقدم عليه ، وهذا يقتضي تكرار الجزأين الواقع فيهما العكس بالتقديم والتأخير بخلاف عبارة المصنف ، فإنه لما لم يذكر أن المقدم عليه صير ثانيا مؤخرا عليه لم يقتض تكرار الجزأين على أن المقدم منهما قد أخر والمؤخر قدم ، فصدق كلامه على نحو عادات السادات هي أشرف العادات ؛ لأن الجزء في الكلام الذي هو العادات قدم أولا على السادات ، ثم أخر ثانيا عنه من غير إعادة لفظ السادات ، وهذا الكلام ليس من العكس في شيء ، وكذا نحو قوله تعالى (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(١) فتخشى جزء قد تم ثم أخر ، وليس من العكس بل هو من رد العجز على الصدر ، وهو من البديع اللفظي ، كما يأتي بخلاف قول هذا ، ثم تعكس فتقدم ما أخرت وتؤخر ما قدمت ، فإنه يقتضي أنك استأنفت للمؤخر أولا تقديما فيقتضي تكراره ، وهذا هو المتبادر ، وإن كان يمكن أن يقال : عادات السادات أشرف العادات قدمنا فيه ما أخرنا أولا ، بمعنى : أنا لما أخرنا لفظ العادات صار المؤخر

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

٥١٤

أولا وهو لفظ السادات مقدما ، وقد كان أولا مؤخرا لكن ليس هذا هو المتبادر من العبارة بل المتبادر أنا ذكرناه ثانيا مقدما ، ولذلك قلنا : إنها أصرح.

(ويقع) هذا العكس (على وجوه) أي : على أنواع (منها) أي : من تلك الأوجه (أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أضيف إليه) ذلك الطرف بمعنى أنا نعمد إلى المبتدأ مثلا ، وهو أحد طرفي الجملة الخبرية إذا كان ذلك المبتدأ مضافا لشيء فنجعله مضافا إليه ، ونجعل المضاف إليه أولا هو المضاف على أن هذا المضاف هو الطرف الآخر الذي هو الخبر ، فيصدق أنه وقع العكس في أحد طرفي الجملة باعتبار الآخر ومن لازمه اعتباره في كل من الطرفين وذلك (نحو) قولهم (عادات السادات سادات العادات) بمعنى : أن العادة الصادرة من أفعال من هو سيد من الناس هي العادة الحسنى التي تستأهل أن تسمى سيدة العوائد ، فلفظ العادات أحد طرفي هذا الكلام ، وهو المبتدأ منه ، وقد أضيف إلى لفظ السادات ، وقد وقع العكس بينهما بأن قدم منهما ما كان أولا مؤخرا وأخر ما كان مقدما فقدم العادات على السادات أولا ، ثم قدم لفظ السادات على العادات ثانيا ، فصار الطرف الأول الذي هو المبتدأ مضافا إليه في الخبر ، وصار المضاف إليه أولا هو المضاف الذي هو الخبر ، ولا يقال إن هذا العكس ينبغي أن يعد من البديع اللفظي ؛ لأن حاصله أن يقدم لفظ على لفظ ، ثم يؤخر ذلك اللفظ المقدم ، ويقدم ذلك المؤخر ؛ لأنا نقول : استتبع ذلك حدوث معنى آخر ، وبذلك صح الإخبار به عن الأول ، وحدوث معنى في عكس اللفظين يصح الإخبار به أو عنه ، أو التعلق به بما يستظرف وذلك ظاهر ، وقد تقدمت الإشارة لهذا.

(ومنها) أي : ومن الأوجه التي يقع عليها هذا العكس الذي هو نوع واحد من البديع المعنوي (أن يقع بين متعلقي فعلين) كائنين (في جملتين) فالفعل الواقع في جملتين لم يقع فيه نفسه تقديم ولا تأخير ، ولكن وقع فيما بين متعلقيه في الجملتين (نحو) قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) (١) فالفعل الذي هو يخرج هو هو في الجملتين ، وقد تعلق في الأولى بالحي الخارج من الميت ، مثل الدجاج

__________________

(١) الروم : ١٩.

٥١٥

الخارج من البيضة ، أو الإنسان الخارج من المني ، وتعلق في الثانية بالميت الخارج من الحي مثل البيضة الخارجة من الدجاجة ، وقد تقدم في أحد المتعلقين ما تأخر في الآخر ، والعكس إذ قدم الحي على الميت في المتعلق الأول ، وقدم ثانيا الميت على الحي في المتعلق الثاني ، وقوله : متعلقي فعلين الصواب أن يقول : متعلقي عاملين ؛ ليدخل في ذلك نحو قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) إذ مخرج عامل غير فعل.

(ومنها) أي : ومن الوجوه التي يقع عليها العكس الذي هو من البديع المعنوي (أن يقع) ذلك العكس (بين لفظين) موجودين (في طرفي جملتين) أي أحد اللفظين موجود في الطرف الأول من الجملة الأولى والثاني منهما موجود في الطرف الآخر منها ، ثم يقع عكس ذلك في الجملة الثانية فيوجد فيها أحد اللفظين في الطرف الذي لم يوجد فيه في الأول ، ويوجد اللفظ الآخر في غير ذلك الطرف وذلك (نحو) قوله تعالى (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) (١) فهاتان جملتان في كل منهما لفظان هما الضميران أحدهما ضمير جمع الذكور وهو هم ، والآخر ضمير الإناث وهو هن ، وقد وجد ما للإناث منهما في الطرف الأول الذي هو المسند إليه من الجملة الأولى ، ووجد ما للذكور في الطرف الثاني الذي هو المسند من تلك الجملة وعكس ذلك في الجملة الثانية ، فوجد ما للذكور في الطرف الأول منها وما للإناث في الطرف الثاني منها كما رأيت ، فصدق أن العكس وقع بين لفظين كائنين في طرفي جملتين وذلك ظاهر. فإن قيل : مفهوم العبارة أن العكس يقع على أوجه وتلك الأوجه فسرها بوقوع العكس لقوله منها : أن يقع وهل هو إلا من باب وقوع الشيء في نفسه وهو فاسد قلت لا بل وقوع العكس أعم ، فوقوع مطلق العكس في وقوع مخصوص صحيح من باب وقوع الأعم في الأخص ، وقد تقدم غير مرة فافهم.

__________________

(١) الممتحنة : ١٠.

٥١٦

الرجوع

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الرجوع) أي النوع المسمى بالرجوع (و) يؤخذ وجه تسميته من معناه إذ (هو العود) أي : الرجوع (إلى الكلام السابق) من المتكلم (بالنقض) أي : هو أن يرجع المتكلم إلى نقض الكلام السابق وإبطاله ، فالباء في بالنقض للمصاحبة ، أي : يرجع إلى الكلام السابق مستصحبا في رجوعه إليه نقضه وإبطاله ، ويحتمل أن تكون الباء للتعليل ، أي : يرجع إليه ؛ لأجل قصد نقضه بإتيانه بكلام آخر فيبطله ويشترط في كون الرجوع إلى نقض الكلام من البديع أن يكون ذلك النقض (لنكتة) كأن يفهم من السياق أن المتكلم لم يعد لإبطال الكلام الأول لمجرد كونه غلطا ، وإنما ذلك لإظهار التحسر والتحزن ، وكون العود دالا على التحسر والتحزن حتى يجعل لإفادته وتكون تلك الإفادة هي النكتة ، فتحقق بما تقرر مثلا أن الإنسان إذا كان متولها في الحب مغلوبا على عقله ربما يظن الشيء واقعا وليس بواقع ، ثم إنه قد يستفيق بعد الإخبار بغير الواقع المرغوب المظنون ، فيعود إلى إبطاله بالإخبار بالحقيقة ، فيظهر من ذلك أنه عائد إلى الصدق كرها ، وفي ضمن ذلك أنه متأسف على فوات ما رغب فيه ، وغيبه الحب عن إدراك خلافه ، فإذا دل الدليل على أنه لم يغب عن عقله حقيقة ، فهم من عوده أنه في منزلة المغيب بالحب المتأسف على ما فات ، فيفهم منه أنه أراد أن يظهر التحسر والتحزن على فوات ما أخبر به أولا وذلك (كقوله : قف بالديار التي لم يعفها) (١) أي : لم يستر آثارها (القدم) أي : قدم عهد أربابها ؛ لقرب وقت انتقالهم عن تلك الديار ، وهذا مرغوبه ؛ لأن قرب الأثر مما تستنشق منه رائحة المحبوب ، ويقرب به وقت الوصال ، ثم أضرب عن هذا مظهرا أنه توله في الحب حتى أخبر بغير الواقع للرغبة فيه ، وفي ضمن ذلك التحسر والتحزن على فواته ، وأنه ما عاد إلا كارها بدليل أن المتصور هو ذلك الأول المرغوب فهو المتأسف عليه ، فعاد إلى إبطاله متأسفا على فواته وفوات قرب الأحباب فقال (بلى) أي : عفاها لأن نفي النفي إثبات (وغيرها الأرواح) أي : غيرت آثارها الرياح ، فالأرواح جمع ريح ، ولما فتحت العين ردت إلى

__________________

(١) البيت لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص (١٤٥) ، وتهذيب اللغة (١٥ / ٦٧٢).

٥١٧

أصلها وهو الواو ؛ إذ يقال منه : روحته بالمروحة (و) غير آثارها (الديم) جمع : ديمة وهي السحابة ذات المطر الكثير ، سميت بذلك لدوامها غالبا ، فقد ظهر وجود النكتة في هذا العود ، وأنه إنما أراد أن يظهر به التحسر والتحزن والتوله كما قررنا ، وأن ذلك من جهة أنه كالمخبر بغير الواقع حقيقة وقصدا ، ثم أفاق بعض الإفاقة فنقض كلامه السابق رجوعا للصدق كرها ، فقال : بلى عفاها القدم وغيرها الأرواح والديم ، وعطف تغيير الأرواح والديم على عفو القدم من عطف المفصل ؛ إذ تغيير القدم إنما يكون غالبا بتغيير الأرواح والديم ، بخلاف ما لو أخبر بالفساد غلطا ثم عاد لإبطاله لمجرد كونه غلطا من غير أن يشتمل على نكتة ، فإنه لا يكون من الرجوع في شيء ، كما لو قيل : جاء زيد غلطا ، ثم قيل : لا بل جاء عمرو ، وقد يقال : النكتة فيما تقدم هي إظهار التوله في الحب حتى يخبر بما لا حقيقة له ، ولذلك عاد إلى إبطاله وهو الأقرب والأول لا يخلو من تكلف.

التورية

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (التورية) أي : النوع المسمى بالتورية أخذا من ورى بلفظه إذا أخفى مراده (ويسمى) هذا النوع (الإيهام أيضا) لأن فيه كما يظهر من معناه خفاء المراد وإيهام خلافه (وهو) أي : هذا النوع المسمى بالتورية والإيهام هو (أن يطلق لفظ له معنيان) في نفس الأمر أحدهما (قريب و) الآخر (بعيد ويراد) به حال الإطلاق (البعيد) من معنييه ، ولا بد أن تكون إرادة البعيد معتمدا فيها على قرينة خفية ، وأما إن كانت ثم قرينة ظاهرة صار المعنى قريبا بها ، وإن كان بعيدا في أصله فيخرج عن معنى التورية ، فإن لم تكن ثم قرينة أصلا لم يفهم إلا القريب ، فيبطل حكم الإرادة ، ويخرج اللفظ عن التورية أيضا ؛ إذ لو جوزناها بلا قرينة أصلا خرج لفظها عن قانون الاستعمال ، وهو إفهام المراد ، فإن قيل : المعنى البعيد في التورية مرجوح الاستعمال فلا يكون اللفظ فيه إلا مجازا ، وهذا المعنى موجود في كل مجاز فحينئذ كل مجاز يكون تورية ، وظاهر كلامهم التورية حقيقة مباينة للمجاز ، وإلا كان كل مجاز من البديع ، قلت : بعد تسليم أن المعنى البعيد لا يكون اللفظ فيه إلا مجازا لا يلزم منه اتحاد المجاز

٥١٨

والتورية ، فيكون اللفظ مجازا باعتبار إطلاقه على غير معناه مع وجود القرينة الصارفة له على الأصل ، ويكون تورية باعتبار كون المراد بعيدا مع خفاء القرينة لما تقدم أنا نشترط في كونه تورية خفاء القرينة ، فتلاقي التورية المجاز في مادة واحدة مع كونها غيره ، فإن ظهرت القرينة لم تلاقه أصلا على أن لنا أن نقول : أي مانع من أن يكون أحد معنيي المشترك بعيدا باعتبار الاستعمال ، ولو صح النقل بأن اللفظ فيهما مشترك فيظهر كون التورية لا ترتهن بالمجاز.

(وهي) أي : التورية التي هي نوع من أنواع البديع (ضربان) أي : قسمان التورية (الأولى) من القسمين (مجردة) أي : القسم الأول منها يسمى تورية مجردة (وهي) أي : المجردة هي التورية (التي لا تجامع) أي : لم تجامع (شيئا مما يلائم) المعنى (القريب) الذي هو غير مراد ، وذلك (نحو) قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) فإن الاستواء له معنيان قريب وهو الاستقرار حسا على سطح من السطوح ، وبعيد وهو الاستيلاء والارتفاع على الشيء بالقهر والغلبة ، وهو مجاز فيه للزوم مطلق الارتفاع للاستقرار ، ومطلق الارتفاع صادق بالارتفاع القهري الذي قد يراد من هذين المعنيين المعنى البعيد منهما وهو الاستيلاء والقرينة خفية ؛ لأنها استحالة الاستقرار حسا عليه تعالى المتوقفة على أدلة نفي الجرمية ، وليست مما يفهمها كل أحد بلا تأمل ، فلفظ" استوى" مجاز باعتبار استعماله في غير معناه بالقرينة ، وتورية باعتبار إرادة المعنى البعيد بقرينة خفية ، ولم يقرن بشيء مما يلائم المعنى القريب ، فتكون مجردة لتجردها عما يرشح خفاءها ، وهو ذكر ما يلائم القريب كما يأتي ، وقد يقال : العرش الذي هو السرير يلائم القريب الذي هو الاستقرار الحسي.

(و) التورية الثانية من قسميها (مرشحة) أي : تسمى مرشحة ، وقد تقدم معنى الترشيح في باب الاستعارة ، ووجه التسمية ظاهر من معناه ؛ فالمرشحة عكس المجردة فهي التي تجامع شيئا مما يلائم المعنى القريب الذي هو غير مراد ، وذلك (نحو) قوله تعالى

__________________

(١) طه : ٥.

٥١٩

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)(١) والأيدي جمع يد ، واليد لها معنيان قريب وهو الجارحة المعلومة ، وبعيد وهو القدرة التي إطلاق اليد عليها مجاز كما تقدم في بابه ، والمراد بها هنا المعنى البعيد الذي هو القوة والقدرة ، والقرينة استحالة الجارحة عليه تعالى ، وقد تقدم ما يفهم منه وجه خفائها ؛ فتكون تورية ، وإن كانت مجازا ، وقد قرنت بما يلائم المعنى القريب الذي هو الجارحة وهو البناء ؛ لأنه إنما يعهد بالجارحة ، والمعهود بالقوة الإيجاد والخلق ، فقد رشح فيها معنى التورية ، وأصلها الذي هو الخفاء بوجود ما يبعد عن المراد مع خفاء القرينة ، وهذا ـ أعني كون اليد أطلقت على معناها المجازي البعيد بقرينة خفية فكانت تورية ـ مبني على ما اشتهر بين أهل الظاهر من المفسرين الذين يقتصرون على ما يبدو ، ولم يظهر لهم هنا للأيدي وللاستواء إلا المعنى البعيد ، وأما عند من يوسم بالتحقيق ممن يمارس مقتضى تراكيب البيان ، فالكلام تمثيل على سبيل الكناية أو الاستعارة ، وهو أن مجموع" بنيناها بأيد" نقل عن أصله على طريق التشبيه ، وأصله وضع لبنة وما يشبهها على أخرى بقوة الأيدي إلى الإيجاد بالقوة ؛ لأن النفس بالمحسوس أعرف ، أو على طريق الكناية بناء على أن التمثيل يجري فيها ، فعبر بمجموع اللفظ التركيبى عن معنى الإيجاد بغاية القوة ، وفي كليهما دلالة وتوقيف على عظمة قدرته وكنه جلاله الذي يمكن أن يدرك ، وهو الكنه الإجمالي المشتمل على أنه في النهاية في نفس الأمر ، فلا يتمحل لمفرد من مفردات هذا التركيب حقيقة ولا مجاز ، لما تقدم أن لفظ التمثيل ينقل إلى المعنى كما هو في المنقول عنه ، إن كان حقيقة في أصله يبقى كذلك ، وإن كان مجازا فكذلك ، فكأن البناء بالأيدي جعل هنا مرادفا لنهاية القوة في البناء ، ونهاية العظمة في تركيب الشيء ، وكذا" على العرش استوى" يجعل تمثيلا بالتشبيه أو بالكناية للدلالة على ملكه كل شيء ، كأنه جعل مرادفا للملك من غير أن يتمحل حقيقة أو مجاز لمفرد من المفردات ، بل التجوز باعتبار التركيب ، فإن قلت : فعلى هذا الذي جعل من التحقيق ، هل يصح أن يكون التركيب تورية أو لا؟ قلت : لا مانع من ذلك مع خفاء القرينة ؛ لأنهم لم يشترطوا في التورية إفراد اللفظ فافهم.

__________________

(١) الذاريات : ٤٧.

٥٢٠