مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

الفن الثالث

علم البديع

٤٨١
٤٨٢

الفن الثالث : علم البديع

أي العلم المعلوم إضافته إلى البديع ، فالإضافة فيه عهدية ، والبديع في اللغة الغريب من بدع الشيء بضم الدال : إذا كان غاية فيما هو فيه من علم أو غيره حتى صار غريبا فيه لطيفا ، ومنه أبدع : أتى بشيء لم يتقدم له مثال ، ومنه اسمه تعالى البديع : بمعنى المبدع أي : الموجد للأشياء بلا مثال تقدم ، ولا تختص مادته بالله تعالى ، كما قيل عرفه اصطلاحا ، كما يؤخذ مما تقدم بقوله (وهو علم) أي : ملكة تحصل من ممارسة مسائله أو قواعده المقررة ؛ لأن كلا منهما يتوصل به إلى معرفة أي : جزئي من جزئياته أي : يعرف بواسطة تقرر الملكة أو القواعد في النفس ، أن هذه الجزئية الخاصة مثلا من علم البديع ، وإلى هذا أشار بقوله (يعرف به) أي : يعرف بتلك الملكة أو تلك القواعد ، وقد تقدم في صدر الكتاب تحقيق الملكة بما أغنى عن إعادته ، وعبر بالمعرفة التي تتعلق بالجزئيات ؛ للإشعار بأن متعلق الإدراك بهذا العلم هو الجزئيات بمعنى أن أي وجه من الأوجه التي هي من علم البديع يرد يعرف بهذا العلم الذي هو الملكة أنه من هذا العلم أي من جزئيات قواعده ، وإلى الجزئيات أشار بقوله (وجوه تحسين الكلام) أي يعرف به الأمور التي بها يحسن الكلام ، بمعنى أنا نتصور بتلك الملكة أو بتلك القواعد أن هذه الجزئية مما يحسن به الكلام ، وندرك ذلك عند عروضه ، ويحتمل أن يكون المعنى أن ما قرر من قواعد هذا الفن يعلم في الكتب عند الاطلاع عليها ما في ضمنها من الأوجه التي يحسن بها الكلام ، فيكون المعلوم به والمعلوم متحدين خارجا مختلفين بالاعتبار ، فهو من حيث إنه شيء قرره أهل الفن في الدفاتر أو في غيرها يعلم به ، ومن حيث الاطلاع عليه مباشرة هو المعلوم ، وهذا هو المناسب لقولهم : يتصور به أعداد أوجه التحسين ، وقوله : وجوه تحسين الكلام يحتمل أن يريد بها الوجوه السابقة في قوله وتتبعها وجوه أخر تورث الكلام حسنا ، فتكون إضافة الوجوه إلى تحسين الكلام إضافة عهدية فكأنه يقول : علم يعرف به الأوجه المشار إليها فيما تقدم ، وهي الوجوه التي تحسن الكلام ، وتورثه قبولا بعد رعاية البلاغة مع الفصاحة ، ويكون قوله على هذا (بعد رعاية المطابقة) لمقتضى الحال (و) بعد رعاية (وضوح الدلالة) تأكيدا وبيانا لما تقدم ، ومعنى

٤٨٣

وضوح الدلالة الخلو عن التعقيد المعنوي ، وقد تقدم بيانه ، وحاصل ذلك أن تلك الأوجه إنما تعد محسنة للكلام إذا أتى بها بعد رعاية الأمرين أعني بالأمر الأول المطابقة لمقتضى الحال ، وتتضمن ما يتبين في علم النحو واللغة والتصريف ويدرك بالطبع ؛ لأن المطابقة لا عبرة بها إلا بعد الفصاحة ـ كما تقدم ـ تتوقف على وجود ما بين في تلك العلوم ، وما يتبين بالطبع كالتنافر ، وبعض التعقيد اللفظي كما تقدم ، وأعني بالأمر الثاني وضوح الدلالة المبين في علم البيان ، وإنما فصله عن المطابقة مع أن المطابقة لا تعتبر إلا به إذ هو من الفصاحة للإشارة إلى العلمين السابقين ، أعني : المعاني الكفيل ببيان المطابقة ، والبيان الكفيل بتقرير وضوح الدلالة.

ولما كان المبين في الفن الثاني هو ما يسقط به التعقيد المعنوي فسرنا الوضوح بالخلو عن التعقيد المعنوي ، ولم نقل فيه : الخلو عن التعقيد اللفظي وأدخلناه فيما توقفت عليه المطابقة من أمر الفصاحة غير التعقيد المعنوي ؛ لعدم بيانه في الفن الثاني ، ويحتمل أن يريد بوجوه تحسين الكلام ما يحسن به الكلام مطلقا سواء كان داخلا في البلاغة أو خارجا عنها ، وأخرج ما لا يدخل في الفنين السابقين بقوله بعد رعاية المطابقة ، ووضوح الدلالة وهذا الاحتمال يوهم أن ما يذكر في النحو واللغة والتصريف وما يدرك بالذوق داخل في أوجه التحسين ؛ لأن المذكور في الفنين هو نفس أوجه المطابقة وما يسقط به التعقيد المعنوي ، وإنما قلنا : يوهم ولم نقل يدخل تلك الأمور في المحسنات جزما ؛ لأنه يمكن إدخال تلك الأمور في مقتضى الفن الأول بطريق اللزوم ؛ لأنه لا يعتبر ولا يراعى إلا برعايتها ، ولكن المتبادر الأول ، فلهذا قدمنا الاحتمال الأول وبكل تقدير ، فقوله : بعد رعاية المطابقة إلخ يتعلق بقوله : تحسين ؛ إذ لا معنى لتعلقه بغيره بمعنى أنها تورث التحسين الذي إنما يحصل ويعتبر بعد الرعاية المذكورة ، وإلا كانت تلك الوجوه كتعليق الدر في أعناق الخنازير.

وجوه تحسين الكلام

ثم أشار إلى تفصيل الوجوه البديعية المحسنة فقال (وهي) أي : وجوه تحسين الكلام الحاصل بعد الرعاية السابقة (ضربان) أي : تلك الأوجه فيها نوعان :

٤٨٤

أحدهما (معنوي) أي : ينسب إلى المعنى ؛ لأنه تحسين للمعنى أولا ، وبالذات بمعنى أن ذلك التحسين قصد أن يكون تحسينا للمعنى ، وذلك القصد متعلق بتحسين المعنى أولا ، ومتعلق به لذاته ، وأما تعلق القصد بكونه تحسينا للفظ فيكون ثانيا ، وبالعرض أي : لأجل عروض كون الغرض فيه أيضا ، وإنما قلنا هكذا ؛ لأن هذه الأوجه قد يكون بعضها محسنا للفظ ، لكن القصد الأصلي منها إنما هو إلى كونها محسنة للمعنى كما في المشاكلة ، إذ هي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير كقوله :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لى جبة وقميصا (١)

فقد عبر عن الخياطة بالطبخ ؛ لوقوعها في صحبته ، فاللفظ حسن لما فيه من إيهام المجانسة اللفظية ؛ لأن المعنى مختلف واللفظ متفق ، لكن الغرض الأصلي جعل الخياطة كطبخ المطبوخ في اقتراحها لوقوعها في صحبته ، فإن تعلق الغرض بتحسينه اللفظي المشار إليه ، فهو بالعرض وعلى وجه المرجوحية ، وقيل : إن الحسن فيها لفظي ؛ لأن منشأه اللفظ وفيه نظر ؛ لوجوب عدها حينئذ من البديع اللفظي فتأمل ، وكما في العكس كما يأتي في قوله : عادات السادات سادات العادات فإن في اللفظ شبه الجناس اللفظي لاختلاف المعنى ، ففيه التحسين اللفظي والغرض الأصلي الإخبار بعكس الإضافة مع وجود الصحة (و) ثانيهما (لفظي) أي : منسوب إلى اللفظ ؛ لأنه تحسين للفظ بالذات ، وإن تبع ذلك تحسين المعنى ؛ لأنه كلما عبر عن معنى بلفظ حسن استحسن معناه تبعا ، وإن شئت قلت في التحسين المعنوي أيضا إن كونه بالذات معناه أن ذلك هو المقصود ، ويتبعه تحسين اللفظ دائما ؛ لأنه كلما أفيد باللفظ معنى حسن تبعه حسن اللفظ الدال عليه ، قد قدم المعنوي ؛ لأن المقصود الأصلي هو المعاني والألفاظ توابع وقوالب لها ، وإنما كانت المعاني هي المقاصد ؛ لأنها مواقع الحقوق إذ بها تقع المؤاخذة ، ويحصل الغرض أخذا ودفعا وامتثالا وانتهاء وانتفاعا وإضرارا ، ولذلك يقال : لو لا المعاني ما كانت الألفاظ محتاجة ، ولا يقال : لو لا الألفاظ ما كانت المعاني محتاجة ؛ لأنه كلما توصل إلى المعنى ألغي اللفظ دون العكس فقال :

__________________

(١) البيت لأبى الرقعمق الأنطاكى ، في المصباح ص (١٩٦) ، والإيضاح ص (٢٩٧).

٤٨٥

المحسنات المعنوية :

المطابقة

(أما المعنوي) من تلك المحسنات والمذكور في الكتاب منها تسعة وعشرون (فمنه المطابقة وتسمى الطباق والتضاد أيضا) أخذا من طابق الفرس إذا كان تقع رجله في موضع يديه في مشيه ؛ لأنه وقعت رجله ويده المتقابلتان في موطئ واحد كوقوع المختلفين المسمى بالمطابقة هنا في تركيب متحد أو كالمتحد في الاتصال ، وفسر المعنوي المسمى بالمطابقة بقوله (وهو) أي : المعنوي الذي هو المطابقة ، وذكر الضمير لرعاية أنها معنوي (الجمع) أي : هو أن تجمع (بين متضادين) في كلام واحد ، أو ما هو كالكلام الواحد في الاتصال ، ولما كان المراد بالتضاد هنا وجود مطلق التقابل والتنافي لا التضاد الذي هو أن يكون بين شيئين وجوديين غاية الاختلاف فسر المتضادين بقوله (أي معنيين متقابلين في الجملة) أي من غير تفصيل في ذلك التقابل والتنافي بأن يعين مقداره من كونه فيما بين معنيين كالنقيضين أو الضدين أو غير ذلك ، فالمراد بالتضاد والتقابل هنا أن يكون بين الشيئين تناف وتقابل ، ولو في بعض الصور ، ومن المعلوم أن المتقابلين في بعض الصور إنما يكون التنافي بينهما باعتبار ذلك البعض من الصور ، فلهذا نقول : لبيان عموم التقابل سواء كان التقابل حقيقيا كتقابل القدم والحدوث ، أو اعتباريا كتقابل الإحياء والإماتة فإنهما لا يتقابلان إلا باعتبار بعض الصور ، وهو أن يتعلق الإحياء بحياة جرم في وقت ، والإماتة بإماتته في ذلك الوقت ، وإلا فلا تقابل بينهما باعتبار أنفسهما ولا باعتبار المتعلق عند تعدد الوقت ، وسواء كان التقابل الحقيقي تقابل التضاد كتقابل الحركة والسكون على الجرم الموجود بناء على أنهما وجوديان ، أو تقابل الإيجاب والسلب كتقابل مطلق الوجود وسلبه ، أو العدم والملكة كتقابل العمى والبصر والقدرة والعجز بناء على أن العجز نفي القدرة عمن من شأنه الاتصاف بالقدرة ، أو تقابل التضايف كتقابل الأبوة والبنوة وقيل : إن الأبوة والبنوة من باب مراعاة النظير ، ورد بأن مراعاة النظير فيما لا تنافي فيه كالشمس والقمر بخلاف ما فيه التنافي كالأبوة والبنوة ، أو تقابل ما يشبه شيئا مما ذكر مما يشعر بالتنافي لاشتماله بوجه ما على ما يوجب التنافي كهاتا وتلك في قوله :

٤٨٦

مها الوحش إلا أن هاتا أو أنس

قنا الخط إلا أن تلك ذوابل (١)

لما في هاتا من القرب وتلك من البعد ، وكما في قوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً)(٢) لما يشعر به الإغراق من الماء المشتمل على البرودة غالبا ، ويشعر به إدخال النار من حرارة النار ، وفرضنا هذه الأقسام في التقابل الحقيقي ؛ لأن وجودها في الاعتبار إنما هو باعتبار المتعلق ، والمتعلق يعرف حاله من هذه الأقسام ، وقد علم مما قررنا أن التقابل في بعض الصور يعود معناه إلى الاعتباري ، ومن ذكرنا للاعتباري من غير تخصيص له بصورة دون أخرى يعلم أن الملحق بهذا التقابل داخل في هذا الكلام ، وسيأتي ذلك الملحق.

ثم أشار إلى تفصيل في هذا التقابل وهذا الجمع باعتبار اللفظين الدالين على المتقابلين فقال (ويكون) ذلك الجمع بين المتقابلين المسمى بالطباق (بلفظين) أي : يعبر عنهما بلفظين كائنين (من نوع) واحد من أنواع الكلمة التي هي الاسم والفعل والحرف ، واللفظان اللذان هما من نوع واحد ما أن يكونا (اسمين) معا (نحو) قوله تعالى (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)(٣) أي : نيام فإن اليقظة تشتمل على الإدراك بالحواس ، والنوم يشتمل على عدمه ، فبينهما شبه العدم ، والملكة باعتبار لازمهما ، وبينهما باعتبار أنفسهما تضاد ؛ لأن النوم عرض يمنع إدراك الحواس ، واليقظة عرض يقتضي الإدراك بها ، وإن قلنا : إن اليقظة نفي ذلك العرض كان بينهما عدم وملكة حقيقة ، وقد دل على كل منهما بالاسمية.

(أو) يكونا (فعلين) معا (نحو) قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٤) فإن الإحياء والإماتة ولو صح اجتماعهما في ذات المحيي والمميت بين متعلقهما العدم والملكة ، أو التضاد بناء على أن الموت عرض

__________________

(١) البيت لأبى تمام ، فى الإيضاح ص (٢٢٥).

(٢) نوح : ٢٥.

(٣) الكهف : ١٨.

(٤) المؤمنون : ٨٠.

٤٨٧

وجودي ، فالتنافي بينهما اعتباري ، وكأنه لم يجعلهما من الملحق الآتي لإشعارهما من جهة اللفظ بالحياة والموت بخلاف الملحق ، كما يأتي فى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(١) و (اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في الآية الكريمة مما يشبه تقابلهما تقابل التضاد للإشعار بالظلمة والنور اللذين هما كالبياض والسواد.

(أو) يكونا (حرفين) معا (نحو) قوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٢) لأن اللام تشعر بالملكية المؤذنة بالانتفاع وعلى تشعر بالعلو المشعر بالتحمل والثقل المؤذن بالتضرر ، فصار تقابلهما كتقابل النفع والضر وهما ضدان ، وعبر بالاكتساب في جانب الشر ، لأن الافتعال يؤذن بالتعمل ، والتكلف بالتطلب ، والنفس في طلب المعصية المقتضية للشر لا تخلو عن شهوة ، فلعلها في المعصية تعمل وتطلب ، والمعنى أن النفس لا ينتفع بطاعتها غيرها ، ولا يتضرر بمعصيتها غيرها ، وبه يعلم أن التقدير لها نفع : أي ثواب ما كسبت من الطاعة ، وعليها ضرر أي : عذاب ما اكتسبت من المعصية.

(أو) يكون بلفظين (من نوعين) من أنواع الكلمة الثلاثة والمتصور عقلا في كونه من نوعين ثلاثة أقسام : أن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا ، أو يكون أحدهما اسما والآخر حرفا ، أو يكون أحدهما فعلا والآخر حرفا ، لكن الموجود من هذه الثلاثة واحد ، وهو ما يكون فيه أحدهما اسما والآخر فعلا (نحو) قوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(٣) فقد عبر عن الموت بالاسم ، وعن الإحياء المتعلق بالحياة بالفعل ، ولا يخفى أن التقابل هنا اعتباري وأن المعنى مجازي أي : ضالا فهديناه فتقابل الإحياء للموت باعتبار تعلقه بالحياة التي هي ضد ، أو ملكة للموت على ما تقدمت الإشارة إليه.

ثم أشار إلى تنويع آخر في الطباق فقال أنواع الطباق (وهو) أي : الطباق باعتبار الإيجاب والسلب (ضربان) أحدهما (طباق الإيجاب) بأن يكون اللفظان

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) الأنعام : ١٢٢.

٤٨٨

المتقابلان معناهما ذكرا موجبين (كما مر) في نحو (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) فقد ذكرت اليقظة والرقاد بطريق الإثبات.

(و) ثانيهما (طباق السلب) وهو داخل في التعميم السابق في التقابل وذلك بأن يجمع بين فعلي مصدر واحد أحدهما مثبت والآخر منفي ، فيكون التقابل بين الإيجاب والسلب ، لا بين مدلولي الفعلين ، أو يجمع بين فعلين أحدهما نهي والآخر أمر فإن النهي دال على طلب الكف عن الفعل والأمر دال على طلب الفعل ، والفعل والكف متضادان ، فيكون التقابل باعتبار الفعل والترك لا باعتبار مصدر الفعلين لاستوائه ، وإنما جعل هذا من السلب والإثبات ؛ لأن المطلوب في أحدهما من جهة المعنى سلب ، وفي الآخر إثبات ؛ فالأول وهو أن يجمع بين فعلي مصدر واحد أثبت أحدهما وسلب الآخر (نحو) قوله تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(١) فإن العلم الأول منفي والثاني مثبت ، وبين الإثبات والنفي فيهما تقابل في الجملة أي : باعتبار أصلهما لا باعتبار الحالة الراهنة ؛ لأن المنفي علم ينفع في الآخرة ، والمثبت علم لا ينفع فيها فلا تنافي بين الإثبات والنفي فيهما (و) الثاني : وهو أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا (نحو) قوله تعالى (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(٢) ومن المعلوم أن الخشية لا يؤمر بها وينهى عنها من جهة واحدة ، بل من جهتين كما في الآية ، فقد أمر بها باعتبار كونها لله تعالى ، ونهى عنها باعتبار كونها للناس فالتنافي بين الأمر والنهي أيضا باعتبار أصلهما لا باعتبار مادة استعمالهما ، فإنه لا يوجد إلا فرضا وتقديرا. (ومن الطباق) نوع سماه بعضهم تدبيجا ، والتدبيج من دبج المطر الأرض زينها ، وأصله الديباج وهو الحرير شبه به ما وجد بالمطر من ألوان النبات ، وفسره ذلك البعض بأن يذكر في معنى من المدح أو غيره ألوانا لقصد إيجاد الكناية في تلك الألوان أو في بعضها أو لقصد التورية كذلك وأراد بالألوان ما فوق الواحد ؛ لأن الأمثلة اشتملت على التدبيج باثنين ، ولا شك أن هذا المسمى بالتدبيج داخل في الطباق ؛ لأن

__________________

(١) الروم : ٦ ، ٧.

(٢) المائدة : ٤٤.

٤٨٩

الألوان أمور متقابلة فهي جزئية من جزئيات الطباق ، وخصت باسم التدبيج لتخيل وجود الألوان فيها كوجود الألوان بالمطر ، فالتدبيج الذي فيه الكناية (نحو قوله) أي قول أبي تمام يرثي رجلا مات في الجهاد (تردى) (١) أي : لبس من ترديت الثوب أخذته رداء ولبسته (ثياب الموت) أي لبس ثياب الموت (حمرا) أي : في حال كونها محمرة بالدم ، وهذا هو الذي يدل على أن المراد بالثياب الثياب الملطخة بالدم لا الثياب التي تلبس للحال ؛ لأن ذلك يحوج إلى جعل الحال الذي هو قوله حمرا حالا مقدرة (فما أتى لها) أي : فلم يأت لتلك الثياب ولم يدخل (الليل إلا وهي) أي : وتلك (الثياب من سندس) أي : من حرير تلك الثياب (خضر) فخضر خبر بعد خبر ؛ لأن القصيدة مضمومة الروي مثلها قوله :

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر وهي الآن من بعده بتر

ومعنى البيت أن المرثي لبس الثياب الملطخة بالدم حين قتل ، ولم يدخل عليه الليل حتى صارت تلك الثياب من السندس وصارت خضرا ، فقد جمع بين لونين فقط ، والأول وهو حمرة الثياب كناية عن القتل لاستلزامه إياه عرفا مع قرينة السياق ، والثاني وهو خضرة الثياب كنى به عن دخول الجنة لما علم أن أهل الجنة يلبسون الحرير الأخضر ، وصيرورة هذه الثياب تلك عبارة عن انقلاب حال القتل إلى حالة النعمة بالجنة ، وأما التدبيج المشتمل على التورية ، وهي أن يكون للفظ معنيان قريب وبعيد ويراد به البعيد كقول الحريرى : فمذ اغبر العيش الأخضر ، وصف العيش بالاخضرار كناية عن طيبه ونعومته وكماله ؛ لأن اخضرار العود والنبات يدل على طيبه ونعومته وكونه على أكمل حال ، فيكنى به عن لازمه في الجملة الذي هو الطيب والحسن والكمال ، والاغبرار كناية عن ضيق العيش ونقصانه ، وكونه في حال التلف ؛ لأن اغبرار النبات والمكان يدل على الذبول والتغير والرثاثة ، فيكنى به عن معنى هذا اللازم ، وازور المحبوب الأصفر أي : مال عنى المحبوب الأصفر ، وفي هذا اللون وقعت التورية ، فالمعنى القريب للمحبوب الأصفر هو الإنسان الموصوف بالصفرة المحبوبة ، وازوراره بعده عن

__________________

(١) البيت فى رثاء محمد بن حميد الطوسى ، فى ديوان أبى تمام ص (٣٥٦) ، والإيضاح ص (٢٩١).

٤٩٠

القريب للمحبوب الأصفر هو الإنسان الموصوف بالصفرة المحبوبة ، وازوراره بعده عن ساحة الاتصال ، والمعنى البعيد هو الذهب الأصفر ؛ لأنه محبوب وهو المراد به فكان تورية" اسود يومي الأبيض" ، وبقوله" اسود" يتعلق المجرور بمذ أى : اسود يومي الأبيض مذ اغبر العيش إلخ واسوداد اليوم كناية عن ضيق الحال وكثرة الهموم ؛ لأن اسوداد الزمان كالليل يناسب الهموم ووصفه بالبياض كناية عن سعة الحال والفرح ؛ لأن بياض النهار يلابس ذلك ، وأبيض فودي الأسود ، فقوله : ابيض عطف على اسود ، والفود هو شعر جانب الرأس مما يلي الأذن ، وابيضاض الشعر كناية عن كثرة الحزن والهم ، أو أريد به الحقيقة وأنه اتصف شعره بذلك بسبب الهم حتى رثى لي العدو الأزرق أي انتهى بي الحال من أجل ما حل من الهموم إلى أن رثى لي أي : رحمني العدو الأزرق ، ووصف العدو بالزرقة كناية عن شدة العداوة ؛ لأن أشهر الناس في العداوة وأشدهم فيها للمسلمين الروم ، وأكثرهم زرق الأعين فاشتهر وصفهم بالعداوة مع زرقة أعينهم حتى صار كناية عن كل عدو شديد العداوة ، ويحتمل أن يكون كناية عن شدة العداوة وصفائها من شوب خلافها ؛ لأن الزرقة في الماء تدل على صفائه فكنى لزرقة عن مطلق الصفاء الصادق بصفاء العداوة الذي هو شدتها ، " فيا حبذا الموت الأحمر" أي : حبذا فيا زائدة للتنبيه أي : أحبب بالموت الأحمر ، ووصف الموت بالحمرة كناية عن شدتها ؛ لأن الحمرة تدل على شدتها ، فقد جمع الحريري ألوانا من الاغبرار والاخضرار والاصفرار والاسوداد والابيضاض والزرقة والحمرة ، وقد تبين لك مما قررنا أن الألوان كلها في كلامه كناية إلا الاصفرار فإن فيه التورية ، وبذلك تبين أن جمع الألوان لا يجب أن يكون على أنها كلها توريات أو كنايات ، بل يجوز أن تجمع على أن بعضها تورية ، وبعضها كناية ، وقد توهم بعضهم وجوب ذلك وهو فاسد كما تقرر.

(ويلحق به) أي : بالطباق السابق شيئان ، أحدهما أن يجمع بين معنيين ليس أحدهما مقابلا للآخر ، ولكن يتعلق ذلك الأحد منهما بمعنى يقابل المعنى الآخر ، وتعلقه به إما لكونه بينه وبينه لزوم السببية ، أو بينه وبينه لزوم آخر غير لزوم السببية وذلك (نحو) قوله تعالى في وصف المؤمنين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أشداء على الكفار

٤٩١

(فإن الرحمة) إنما تقابلها الفظاظة ، والشدة إنما يقابلها اللين ، لكن الرحمة (مسببة عن اللين) إذ اللين في الإنسان كيفية قلبية تقتضي الانعطاف لمستحقه ، وذلك الانعطاف هو الرحمة ، فهي مسببة عن الكيفية التي هي اللين ، وأصل الشدة واللين في المحسوسات ، فالشدة فيها الصلابة ، واللين ضدها وهي صفة تقتضي صحة الانغماز إلى الباطن ، فقد قوبل في الآية بين معنيين هما الشدة والرحمة أحدهما وهو الرحمة له تعلق بمقابل الشدة وهو اللين ، والتعلق بينهما كون الرحمة مسببة عن اللين ، ولو قيل : إن الشدة لها تعلق بمقابل الرحمة وهي الفظاظة وعدم الانعطاف لصح أيضا ؛ لأن عدم الانعطاف لازم للشدة التى هي كيفية قلبية توجب عدم الانعطاف لمستحقه ، ومن هذا القسم قوله تعالى (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١) لأن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المقابلة للسكون وكذا قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا لأن إدخال النار يستلزم الإحراق المقابل للإغراق لاستلزام أحدهما توقد النار والآخر إطفاءها ، وقد تقدم فيه وجه آخر من المقابلة وهذا الملحق يدخل في التفسير السابق للطباق ضرورة وجود مطلق التنافي في طرفيه ، وعلى تقدير دفع ذلك عن كلام المصنف ، فحمله على أن المراد بالمقابلة في الجملة أن تكون بأحد الأوجه الأربعة فقط يفيد دلالة كل على معنى يقابل الآخر بنفسه من غير تعيين واحد منهما ، فلا يندفع عن كلام الشارح لإدخاله في الجملة ما يكون بأي اعتبار فيدخل هذا القسم قطعا كما أشرنا إليه فيما تقدم فافهم.

(و) الثاني : أن يجمع بين معنيين غير متقابلين ولا يستلزم ما أريد بأحدهما ما يقابل الآخر ، ولكن عبر عنهما بلفظين يتقابل معناهما الحقيقيان (نحو قوله :

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى (٢)

أي : فبكى ذلك الرجل من مفارقة ألوان لذات الشبيبة ، وتذكر عوارض الشيب وسلم منادى مرخم وبعد هذا البيت :

__________________

(١) القصص : ٧٣.

(٢) البيت لدعبل الخزاعى الرافضى.

٤٩٢

أي : فبكى ذلك الرجل من مفارقة ألوان لذات الشبيبة ، وتذكر عوارض الشيب وسلم منادى مرخم وبعد هذا البيت

قد كان يضحك في شبيبته

والآن يحسد كل من ضحكا

لا تأخذا بظلامتي أحدا

قلبي وطرفي في دمي اشتركا

فقد جمع بين الضحك والبكاء والمراد بالضحك ظهور المشيب من باب التعبير باللازم عن الملزوم ؛ لأن الضحك الذي هو هيئة للفم معتبرة من ابتداء حركة وانتهاء إلى شكل مخصوص يستلزم عادة ظهور البياض ، أعني بياض الأسنان ، فعبر به عن مطلق ظهور البياض في ضمن الفعل ، فكان فيه تبعية المجاز المرسل ، ويحتمل أن يكون شبه حدوث الشيب بالرأس بالضحك بجامع أن كلا منهما معه وجود لون بعد خفائه في آخر ، ثم قدر استعارة لفظ الضحك لذلك الحدوث ، وعبر عنه بالفعل ، فعليه يكون ضحك استعارة تبعية ، ويكون المراد بالمشيب موضع الشعر من الرأس ، ويحتمل على بعد أن يريد بالمشيب الجلدة من الرأس ، ويريد بالرأس مجموع العظم والجلدة ، ويكون قد شبه انفتاح موضع الشعر عن بياض الشيب بالضحك في وجود انفتاح عن لون خفي ، كما يقال : ضحك الورد أي : انفتح ، فتكون الاستعارة تبعية أيضا ، وعلى كل تقدير فالمراد بالضحك معنى لا يقابل البكاء ؛ لأن حاصل المقصود ظهور المشيب ، وإنما التقابل بين الضحك والبكاء باعتبار معنييهما الأصليين.

(ويسمى) هذا (الثاني) وهو ما يكون التقابل فيه بين المعنيين الأصليين دون المعنيين المرادين في الحالة الراهنة (إيهام التضاد) لأن المعنيين المرادين كما بينا في المثال لا تضاد بينهما ، ولكن يتوهم التضاد من ظاهر اللفظيين باعتبار معنييهما الأصليين ، والفرق بين التدبيج الذي فيه الكناية ، وبين إيهام التضاد ـ مع أن المراد في كل منهما لا يقابل به الآخر في الحالة الراهنة ـ أن الكناية الكائنة في التدبيج يصح أن يراد بها معناها الأصلي فينافي مقابله بخلاف إيهام التضاد فلا يصح فيه معناه الأصلي ، تأمله.

٤٩٣

ثم نبه على جزئي من جزئيات الطباق يسمى باسم مخصوص ، وإنما نبه عليه لما فيه من خصوص وتفصيل في أمثلته ، وللتنبيه على أن من جعله قسما مستقلا من البديعيات المعنوية فقد غفل فقال :

المقابلة

(ودخل) أي : دخل في الطباق لشموله التفسير السابق له (ما) أي قسم منه (يختص باسم المقابلة) من دون سائر أقسام الطباق ، والسكاكي وغيره جعلاه قسما مستقلا من المحسنات المعنوية ، وليس ذلك بصحيح كما يشهد به تفسير الطباق بالنظر إلى تفسير المقابلة وأمثلتها ، وإلى ذلك أشار بقوله (وهو) أي ما يختص باسم المقابلة (أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو) يؤتى (بأكثر) من المعنيين (ثم) يؤتى بعد المعنيين أو المعاني (بما يقابل ذلك) المأتي به من المعنيين المتوافقين أو المعاني المتوافقة (على الترتيب) أي يكون ما يؤتى به ثانيا مسوقا على ترتيب ما أتى به أولا ، بحيث يكون الأول للأول والثاني للثاني إلى آخره ، وإنما دخل ما يسمى بالمقابلة في الطباق ؛ لأن فيه الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة أي : من غير تفصيل وتعيين لكون التقابل على وجه مخصوص دون آخر ؛ لأن ذلك لا يشترط في الطباق حتى يمكن إخراج المقابلة عن الطباق فصدق حده عليها.

(والمراد بالتوافق) في قولنا : في تفسير ما يختص باسم المقابلة وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين (خلاف التقابل) أي : المراد بالتوافق في ذلك عدم التقابل وعدم التنافي ، فيشمل المناسبين كما يأتي في مراعاة النظير ، ولذلك توجد المقابلة معه ، وشمل المتماثلين في أصل الحقيقة مع عدم التناسب في المفهوم كمصدوق القائم والإنسان ، وشمل الخلافيين كالإنسان والطائر ، فلما لم يشترط فيها تناسب ولا تماثل ولا غيرهما شمل الكل ، وقد عرفت أن المقابلة يكفي في وجودها مطلق التعدد من الطرفين الشامل للاثنينية ولما فوقها ، فدخل في ذلك مقابلة الاثنين بالاثنين (نحو) قوله تعالى (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (١) ففي أحد الطرفين الضحك والقلة وهما أيضا

__________________

(١) التوبة : ٨٢.

٤٩٤

متوافقان كذلك ، وقد قابل الأول من الطرف الثاني وهو البكاء بالأول من الطرف الأول وهو الضحك ، والثاني وهو الكثرة من ذلك الطرف الثاني يقابل الثاني من الأول وهو القلة.

(و) دخل في ذلك أيضا مقابلة الثلاثة بالثلاثة (نحو قوله :

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

فالحسن والدين والغنا وهو المعبر عنه بالدنيا متوافقة لعدم التنافي بينها ، وقد قوبلت بثلاثة وهي القبح والكفر والإفلاس الأول للأول والثاني للثاني والثالث للثالث ، وهي متوافقة أيضا لعدم التنافي بينها وإن كانت خلافية.

(و) دخل في ذلك أيضا مقابلة الأربعة بالأربعة (نحو) قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (١) فهذا طرف من المقابلة اجتمع فيه متوافقات خلافية أربعة ، وهي الإعطاء والتقى والتصديق بالحسنى وهي كلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله ، والتيسير لليسرى وهي الجنة ، والطرف الآخر هو قوله تعالى (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (٢) فهذه أربعة أخرى تقابل الأولى على الترتيب البخل المقابل للإعطاء والاستغناء المقابل للتقوى والتكذيب المقابل للتصديق ، والتيسير للعسرى المقابل للتيسير لليسرى ، ومجموع مدلول التيسير للعسرى هو المقابل لا المجرور فقط ، فلا يرد أن المجرور لا يستقل فلا تقع به المقابلة ، وقد ظهرت المقابلة بين كل فرد وما يقابله إلا الاستغناء مع التقوى فإن التقوى إما أن تفسر برعاية أوامر الله تعالى ونواهيه والاعتناء بها خوفا منه تعالى أو محبة فيه ، أو تفسر بنفس خوف الله أو محبته الموجب كل منهما لتلك الرعاية والاستغناء إن كان معناه عدم طلب المال لكثرته فلا يقابل التقوى بذلك المعنى ، وإن كان معناه عدم طلب الدنيا للقناعة فكذلك وإن كان شيئا آخر فمعه خفاء ، فأراد بيان معناه لتتضح مقابلته للتقوى فقال (والمراد باستغنى : أنه زهد فيما عند الله تعالى) من الثواب الأخروي فصار

__________________

(١) الليل : ٥ ، ٦ ، ٧.

(٢) الليل : ٨ ، ٩ ، ١٠.

٤٩٥

بتركه طلبه كأنه مستغن عنه) أي : لا يحتاج إليه مع شدة احتياجه إليه لو كان له ميز ، وذلك أن العاقل لا يترك طلب شيء إلا إن كان مستغنيا عنه ، فعبر بالاستغناء عن ترك طلب ما عند الله تعالى على وجه الترفع عنه إنكارا له ، وترك طلبه كذلك كفر ، وإذا كان كافرا (فلم يتق) الكفر (أو) المراد باستغنى أنه (استغنى بشهوات الدنيا) المحرمة (عن) طلب (نعيم الجنة) إما أن يكون ذلك على وجه يؤديه إلى إنكار النعيم فيكون كافرا ويعود إلى الوجه الأول ، وإما أن يكون ذلك سفها وشغلا باللذة المحرمة العاجلة عن ذلك النعيم ، وأيا ما كان (فلم يتق) أيضا ، وإنما قيدناه باللذة المحرمة ؛ لأن كل من لم يرتكب المحرمة أصلا لا يخلو شرعا وعادة من طلب النعيم الأخروي ، وإنما المستلزم لعدم التقوى هو الاستغناء بالشهوات المحرمة ، فعدم الاتقاء ليس هو نفس الاستغناء بالشهوات بل الاستغناء ملزومة ؛ لأنه فسر الاستغناء بالشغل بمحرم والشغل بالمحرم يستلزم نفي التقوى التي هي الطاعة ، بخلاف تفسيره بالزهد فيما عند الله تعالى بمعنى الكفر بما عنده تعالى ، فهو أظهر في الدلالة ، وإن كان الكفر ملزوما لنفي التقوى التي هي الطاعة على هذا النمط أيضا ، وقد تحقق أن الاستغناء ملزوم لنفي النفي كأن التقابل بينهما من الملحق الذي هو أن لا يتقابلا بأنفسهما ، ولكن يستلزم أحدهما ما يقابل به الآخر كما في قوله تعالى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) هكذا قيل ، ولك أن تقول : متى فسر الاستغناء بالشغل بالشهوات المحرمة ، أو بالكفر كان مضادا للتقوى ، فلا تضمن ، اللهم إلا أن يراد الشغل بمطلق الشهوات لجريان العادة أن الشغل بمطلق الشهوة يستلزم غالبا ارتكاب محرم ، وذلك الارتكاب ضد التقوى ولكن المناسب لقوله تعالى (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) تفسيره بالمعصية التي معها الكفر ، أو يراد بالاستغناء مجرد عدم الطلب ، ولما كان سببه الشغل بالشهوة المحرمة أو الكفر كان ملزوما لعدم الطاعة التي هي التقوى ، تأمله.

ثم أشار إلى ما زاده السكاكي في تحقيق المقابلة بقوله (وزاد السكاكي) في تعريف المقابلة قيدا آخر لا تتقرر حقيقتها عنده إلا به ، وذلك أنه قال : هي ، أي : المقابلة أن يجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وضديهما (وإذا شرط هنا) يعني في المتوافقين أو

٤٩٦

المتوافقات المأتي بهما أو بها أو لا (أمر) يشترك فيه المتقابلان أو المتقابلات (شرط ثمة) أي : شرط في ضدي المتوافقين أو أضداد المتوافقات المأتي بهما أو بها ثانيا (ضده) أي : شرط ضد ذلك الأمر المشروط أولا وذلك (ك) ما في (هاتين الآيتين) الكريمتين ، وهما (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (فإنه لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده) أي : ضد التيسير ، وهو التعسير المفاد بقوله تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) لأن التيسير المتعلق باليسرى والعسرى أريد به جعله ملحقا باليسرى أو العسرى ، واليسرى تضمنت التيسير الذي هو جعله ميسرا له كل ما يريد ، ولذلك فسرت بالجنة ، والعسرى تضمنت التعسير الذي هو جعله يتعسر عليه كل راحة ولطف ، ولذلك فسرت بالنار ، فالتعسير على هذا قد جعل (مشتركا بين أضدادها) أي : أضداد الأمور المذكورة أولا وأضدادها المشتركة في التعسير هي البخل والاستغناء والتكذيب ، والمراد بالشرط هنا ما يجتمع فيه المتوافقان أو المتوافقات لا الشرط المعروف ؛ لأن التيسير والتعسير الممثل بهما لذلك ليسا شرطين كما لا يخفى ، وحاصله أن شرط المقابلة أن يذكر في طرف منه معنى يشترك المتوافقان فيه أو المتوافقات إن ذكر مقابله كذلك في الطرف الآخر ، وعلى هذا لا يكون قوله :

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

من المقابلة ضرورة أنه ذكر للمتوافقين الأولين ما اشتركا فيه وهو الاجتماع ، ولم يذكر ضده في مقابليهما الذي هو الافتراق ، وفي التعبير عما يشترك فيه المتوافقات بوجه من الوجوه بالشرط نوع خفاء كما لا يخفى ، وإنما أخر المقابلة الداخلة في التطابق عن الملحق بالتطابق مع أن المتبادر أن الذي ينبغي هو ذكر الداخل قبل الملحق للخلاف في هذا الداخل هل هو من التطابق أو لا؟ فناسب ذكر المتفق وما ألحق به.

ثم ذكر المختلف فيه :

٤٩٧

مراعاة النظير

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (مراعاة النظير) أي ما يسمى بمراعاة النظير (ويسمي التناسب والتوفيق) والائتلاف والتلفيق (أيضا) ويؤخذ من معناه وجه التسمية كما سيذكر الآن (وهو) أي المسمى بمراعاة النظير (جمع أمر وما يناسبه) أي أن يجمع بين أمرين متناسبين أو أمور متناسبة (لا بالتضاد) بل بالتوافق في كون ما جمع من واد واحد لصحبته في إدراك ، أو لمناسبة في شكل ، أو لتوقف بعض على بعض ، أو ما أشبه شيئا من ذلك ، وبهذا القيد خرج الطباق ؛ لأنه جمع بين أمرين متفقين فأكثر بالتضاد ، وقد تقدم أن المراد بالتضاد مطلق التقابل ، ومطلق التنافي في الجملة ، ولما كان في هذا الجمع رعاية الشيء مع نظيره ، أي : شبهه أو مناسبه سمي مراعاة النظير ، والجمع في هذا الباب أيضا قد يكون بين أمرين (نحو) قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (١) أي : يجريان بحساب معلوم المقدار في قطعتهما للأبراج والأدراج الفلكية لا يزيدان عليه ولا ينقصان ذلك تقدير العزيز العليم ، فقد جمع بين أمرين ، وهما الشمس والقمر ولا يخفى تناسبهما.

(و) قد يكون ذلك الجمع بين أمور ثلاثة (نحو قوله) في صفة الإبل المهازيل (كالقسي) (٢) جمع قوس وهي معلومة (المعطفات) أي المنحنيات ، وهو وصف القوس بالتعطيف من باب الوصف الكاشف أو المؤكد ؛ إذ لا يكون إلا كذلك (بل) هي ك (الأسهم) جمع سهم (مبرية) أي : منحوتة ، ووصفها بالنحت أي النجارة كوصف القوس بالتعطيف (بل) هي ك (الأوتار) جمع وتر وهو الخيط الجامع بين طرفي القوس فقد جمع بين أمور ثلاثة متناسبة لتقارنها غالبا في الخيال ، وهي القسي والسهام والأوتار ، قيل : القصد من تشبيه مهازيل الإبل بهذه الأشياء بيان انتهائها في الهزال ، فشبهها أولا في ضعفها بالقسي ، ثم أضرب إلى تشبيهها بما هو أدق من القسي وهي السهام ، ثم أضرب إلى ما هو أدق من السهام وهو الوتر ، وهذا ظاهر غير أن جل

__________________

(١) الرحمن : ٥.

(٢) البيت للبحترى فى شرح عقود الجمان (٢ / ٧٥) ، والتلخيص ص (٨٨) ، المصباح ص (٢٥٠).

٤٩٨

السهام أدق عادة من الوتر فلا يتم هذا الترتيب ، وقيل : إنه شبهها عند الانعطاف بالقسي ، وعند عدمه بالسهام وعند اجتماعهما بالوتر لجمعه الطرفين المنعطفين من القوس ، وهذا الوجه الأخير لا يكاد يتحقق ؛ فإن الإبل ليس لها في ذاتها امتداد كالسهام ، ولا الجمع بين الامتداد والتعطف كما في هيئة الوتر مع القوس ، على أن هذا الأخير لو تم لكان الواجب تشبيهها بمجموع الوتر والقوس كما لا يخفى.

(ومنها) أي : ومن مراعاة النظير التي هي نوع من البديع المعنوي (ما) أي قسم (يسميه بعضهم تشابه الأطراف ، وهو) أي : القسم الذي يسمى من المراعاة تشابها هو (أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه في المعنى) إما لكون ما ختم به كالعلة لما بدأ به ، أو العكس ، أو كالدليل عليه ، أو نحو ذلك ، وإنما كان هذا نوعا خاصا ؛ لأن المراعاة هي مطلق الجمع بين المتناسبين سواء كان أحدهما في الختم والآخر في الابتداء ، كما في تشابه الأطراف أو كانا معا في الابتداء كما تقدم في المثال ، أو في الاختتام ، أو في التوسط ، والمراد بالكلام هنا ما يقصد من التراكيب المفيدة سواء كانت جملة واحدة أو أكثر ، وذلك (نحو) قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١) فإن عدم إدراك الأبصار له وهو مدلول الجملة الأولى يناسبه قوله : اللطيف ، وكونه مدرك الأبصار ، وهو مدلول الجملة الثانية يناسبه قوله الخبير ، أما مناسبة الخبير لإدراكه الأبصار فظاهرة ؛ لأن الخبير من له العلم بالخفيات ، ومن جملة الخفيات بل الظواهر الأبصار فيدركها ، وأما مناسبة اللطيف لكونه لا تدركه الأبصار فلا تظهر إلا لو أريد باللطيف اللطيف العرفي ، وهو أن يدق الشيء بحيث لا يظهر فإنه يناسبه أنه لا يرى ، لكن لا يراد ذلك هنا لاستحالته ، وإنما المراد باللطيف : الرفيق الموصل الأنفاع بلطف ولطف ، اللهم إلا أن يراد باللطيف لازمه تجوزا ، وهو كونه خفيا في ذاته أو يكون معنى المناسبة ما يكون باعتبار الأصل على وجه الإيهام فافهم.

__________________

(١) الأنعام : ١٠٣.

٤٩٩

عصاة يستحقون العقوبة ، والغفران لمن يستحق العقوبة إنما يكون من العزيز أي القاهر الغالب الذي لا يعترض على أمره ، إذ العزيز مأخوذ من عز إذا غلب ، ثم لما ذكر أن المغفرة للمذنب إنما تكون من العزيز الغالب الذي لا اعتراض على أمره ناسب زيادة الحكيم دفعا لما يتوهم من أن العفو عن المستحق خال عن الحكمة ، فذكر الحكيم إشارة إلى أن فعله ذلك لحكمة وسر يراعى قهرا وعدلا ، فكأنه يقال : إن تغفر لهؤلاء المذنبين فأنت أهل لذلك ؛ إذ لا اعتراض عليك لعزتك ، ومع ذلك ففعلك لا يخلو عن حكمة ولو أخفيت عن الخلق.

(ويلحق بها) أي ويلحق بمراعاة النظير أمر نسبته للمراعاة كنسبة إيهام التضاد للطباق ، وذلك الأمر هو أن يجمع بين معنيين غير متناسبين في أنفسهما لعدم وجود شيء من أوجه التناسب من تقارن أو علية أو دلالة أو نحو ذلك ، ولكن عبر عنهما بلفظين بينهما تناسب باعتبار أصل استعمالهما في معنيهما ، ولو لم يقصد المعنيان المتناسبان في الحالة الراهنة وذلك (نحو) قوله تعالى (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ* وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (١) أما تناسب الشمس والقمر فظاهر ، وقد تقدم ولم يقصد التمثيل باعتبارهما فقط ، ولكن قصد التمثيل باعتبارهما مع النجم ، إذ النجم في أصل معناه المتبادر يناسب الشمس والقمر ؛ لأنه يقترن معهما في الخيال لكونه جسما نورانيا سماويا ففيه باعتبار معناه الأصلي المتبادر مناسبة ، وأما باعتبار المراد منه في هذا الاستعمال فلا يناسبهما ، إذ هو النبات الذي لا ساق له ، والشجر ما له ساق مما ينبت في الأرض والمراد بسجودهما انقيادهما لما يراد منهما ، فكأنهما خاضعان مستسلمان بالقول والفعل لما يراد منهما.

(و) لأجل أن معنى هذا القسم في الحالة الراهنة لا يناسب ، وإنما يناسب باعتبار أصل المعنى الغير المناسب (يسمى إيهام التناسب) لتخيل الوهم فيه المناسبة باعتبار ما يتبادر كما مر في إيهام التضاد ، ولذلك قلنا : إن نسبته من المراعاة كنسبة إيهام التضاد من المطابقة.

__________________

(١) الرحمن : ٥ ، ٦.

٥٠٠