مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

بذلك المقتضى من التجريد والإطلاق لعدم تأكد مناسبتهما لحال الاستعارة وكذا يكون أبلغ من الجمع بين الترشيح والتجريد لأنه في رتبة الإطلاق كما تقدم.

(ومبناه) أي وبناء الترشيح بمعنى إيجاده وتفريعه إنما يكون (على تناسي) أي : إظهار نسيان (التشبيه) ولو كان موجودا في نفس الأمر ويحصل ذلك التناسي بادعاء أن المستعار له هو نفس المستعار منه لا شيء شبيه به ، فإن هذا الادعاء يقتضي أن الموجود في الخاطر هو المستعار منه فيتفرع على ذلك لوازمه لا لوازم المستعار له المقتضية لبقائه في الخاطر ، وما ذكر المصنف من بناء الترشيح على التناسي لا يقتضي أنه لا يبنى على التناسي غيره بل يبنى عليه أيضا غيره كما تقدم في التعجب والنهي عنه بل نفس الاستعارة مبنية على التناسي ، وإنما خص الترشيح بالذكر في هذا البناء لما فيه من شدة ظهور الدلالة على التناسي كما بينا ، وإن كان التعجب والنهي عنه قريبين منه ثم أشار إلى جزئية من جزئيات ما فيه الترشيح لظهور البناء فيه على تناسي التشبيه بقوله : (حتى إنه) أي : فإن الشأن لأجل ذلك التناسي هو هذا وهو أنه (يبنى على علو القدر) الذي يستعار له لفظ علو المكان (ما يبنى على علو المكان) المستعار منه فحتى هنا ابتدائية وذلك (كقوله : ويصعد) (١) ذلك الممدوح ومعلوم أن ليس المراد بالصعود معناه الأصلي وهو الارتقاء في المدارج الحسية والطلوع في الجو إذ لا معنى له هنا وإنما المراد به العلو في مدارج الكمال والارتقاء في الأوصاف الشريفة فهو استعارة من الطلوع الحسي إلى الطلوع المعنوي والجامع مجرد الارتفاع المستعظم في النفوس ، أي : كون الشيء رفيعا أي بعيد التوصل إليه ثم رتب على هذا العلو المستعار له ما يبنى على الارتفاع الحسي تناسيا لتشبيهه بذلك الحسي وأنه ليس ثم إلا الارتفاع الحسي الذي وجه الشبه به أظهر فقال (حتى يظن الجهول) أي يصعد في تلك المدارج إلى أن يبلغ إلى حيث يظن الجهول (بأن له حاجة في السماء) لبعده عن الأرض وقربه من السماء ولا شك أن القريب من السماء وظن أن له حاجة فيها مما يختص بالصعود الحسى فقد بنى على علو القدر المراد

__________________

(١) البيت لأبى تمام في شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٤٩) ، وهو فى ديوانه ص ٣٣٥ ط. دار الكتب العلمية ، وفى المصباح ص ١٣٨ والإشارات ص ٢٢٥.

٣٤١

ما يبنى على علو المكان الحسى المستعار منه لفظ الصعود ، وذلك المبنى هو قربه من السماء وظن الجهول أن سفره نحو السماء ؛ لحاجة ؛ لأن السفر أصله قضاء الأوطار ، ومعلوم أن ظن الجهول أن له حاجة في السماء لم ينقل لمعنى فى المستعار له ، وإنما هو ذكر لازم من لوازم المشبه به ؛ لإظهار أنه الموجود في التركيب لا شيء شبه به وبه علم أن الترشيح قد يكون لا لمعنى حاصل في الحالة الراهنة يكون غير معناه الأصلي وليس ذلك من الكذب ؛ لأن الغرض إفادة المبالغة بذكر اللازم وذلك كاف في نفي الكذب.

وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد بيان بعد هذا الصعود في الجو لا شيء آخر ويكون للرد على من عسى أن يزعم أن الصعود قريب فكأنه يقول له صعود عظيم ولعلوه هو بحيث يظن فيه الجهول القرب من السماء ويرد عليه أيضا أن صيغة الجهول التي هي للمبالغة لا تناسب ؛ لأنه إذا كان بعده يظن فيه الجهول القرب من السماء أفاد أنه قاصر ؛ لأن الصعود حينئذ باعتبار ذي النظر الصحيح ليس بحيث يظن أن له حاجة في السماء لعدم قربه منه فذلك النظر الصحيح ، ويلزم على هذا أن يكون الجهل وعدمه باعتبار الانتهاء في الصعود وعدمه ، فبالجهل يرى الانتهاء في ذلك الصعود والقرب من السماء ، فيظن ما ذكر وذو النظر الصحيح لا يرى ذلك فلا يظن فعليه يكون الصعود قاصرا في نفسه ؛ لأن العبرة بالنظر الصحيح ، وقصره لا يناسب المدعى وهذا هو الذي اعتبره بعضهم فأورد البحث المذكور.

والآخر : أن يكون المراد الإشارة إلى كمال الممدوح واتصاله بجميع ما يحتاج إليه ، ويكون الانتهاء في الصعود مسلما من كل أحد ، وإنما النزاع في أنه هل بقيت له حاجة في السماء أم لا؟ فذكر أن كثير الجهل هو الذي يتوهم بذلك الارتقاء المفرط أن ذلك لحاجة ، وأما ذو النظر الصحيح فهو يعلم أن ذلك الإفراط في العلو لمجرد التعالي على الأقران لا لحاجة له في السماء لكماله فيتضمن جميع الحوائج وهذا هو المراد ، وبه تعلم مناسبة ذكر الجهول بصيغة المبالغة وأن فيه زيادة مدح فلا يرد كون العلو قاصرا لأنه مسلم ، وإنما النزاع في الحاجة وعدمها فبين أنه إنما يتوهم بقاءها له في السماء كثير الجهل ، والمراد بالحاجة هنا المعتادة للطلب في الأرض ، فلا يرد أن نفي حاجة

٣٤٢

السماء سوء أدب لما فيه من نفي الحاجة إلى الرحمة السماوية ، والتوجه له بالدعاء على أن المراد المبالغة المجوزة في المستحيلات لا الإخبار بالحقائق حتى يكون هنا سوء أدب أو غيره تأمله.

(ونحوه) أي : ونحو ما ذكر وهو أنه يبني على علو القدر المستعار له ما يبني على علو المكان المستعار منه لأجل تناسي التشبيه حتى كأنه لا يخطر غير المشبه به (ما مر) في صدر هذا الباب (من التعجب في قوله :

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس

وإنما كان هذا التعجب نحو ما ذكر من البناء في وجه وهو أن إيجاد هذا التعجب لو لا تناسي التشبيه لم يوجد له مساغ ، كما أن إيجاد ذلك البناء لو لا التناسي لم يكن له معنى كما تقدم بيانه وتحقيقه في التعجب كما تقدم ما علم من أنه لا عجب في تظليل إنسان كالشمس من نفس الشمس الحقيقية وإنما يتحقق التعجب في تظليل الشمس الحقيقية من الشمس المعلومة ؛ لأن الإشراق مانع من الظل فكيف يكون صاحبه موجبا للظل ومعلوم أنه لو لا التناسي ما جعل ذلك الإنسان نفس الشمس ليتعجب من تظلليله بل شبيه بها (و) نحو ما ذكر من البناء أيضا ما مر من (النهي عنه) أي عن التعجب في نحو قوله :

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زر أزراره على القمر

فإن القمر الحقيقي هو المعتاد لبلى الغلالة فلا يتعجب من بلاها معه لا الإنسان المشبه بالقمر وكونه جعل المستعار له قمرا حقيقيا إنما هو لتناسي التشبيه حتى كأن الموجود في الخارج والخاطر في القلب هو القمر الحقيقي وإلا فالتشبيه يبقى الأصل المنافي للنهي عن التعجب ؛ لأن من جملة ما يتعجب منه بلى غلالة إنسان كالقمر إن كان ذلك سريعا فلا معنى للنهي عن التعجب ما دام التشبيه متذكرا لانبائه عن الأصل الذي تقرر فيه التعجب ، ثم إن التعجب هنا سببه إثبات ما لا يناسب الفرع الذي هو المستعار منه والنهي عنه سببه كون المثبت مناسبا له فاختلفا في ثبوت المناسبة ونفيها وهو ظاهر ولما كان هذا مظنة أن يقال حاصل ما ذكر بناء ما للفرع على الأصل ، وبناء ما للفرع على الأصل من باب جعل ما ليس بالواقع واقعا وهو كالكذب فما

٣٤٣

وجه صحته؟ احتاج إلى مزيد تقرير لما تقرر بهذا الكلام فأشار إلى أن البلغاء اعتبروه لقصد المبالغة وأنه أحروي بالنسبة إلى ما وقع لهم من تفريع ما هو للفرع على الأصل وهو المشبه مع ذكرهما معا على طريق التشبيه رعاية لكون التشبيه روعي فيه الاتحاد بين الطرفين ، فقرر ذلك بذكر بعض ما وقع لهم بقوله : (وإذا جاز البناء على الفرع) أي المشبه به (مع الاعتراف بالأصل) أي : المشبه وأراد بالبناء على الفرع ذكر ما يلائمه ، وإنما سمي المشبه به فرعا مع أنه أقوى من المشبه غالبا في وجه الشبه وأعرف به ، ومع أنه هو الأصل المقيس عليه وسمى المشبه أصلا ؛ لأن المشبه هو المقصود في التركيب وهو المتحدث عنه إذ هو المخبر عنه في المعنى فإن النفي والإثبات في الكلام يعود إليه ، أي : إلى شبهه فإنك إذا قلت زيد كالأسد فقد أثبت للمشبه شبهه بالأسد وهو المقصود بالذات ، وإذ قلت : ليس كالأسد فقد نفيت شبهه به أيضا بالقصد الأول ، وإن كان ثبوت الشبه أو نفيه للمشبه به حاصلا أيضا لكن تبعا وحيث كان هو المقصود لإفادة أحواله في التراكيب عاد الغرض من التشبيه إليه وهو بيان حاله أو مقداره أو إمكانه أو تزيينه أو تشيينه كما تقدم ، وذلك لأنه هو المجهول أمره ولما كان المشبه بهذه المنزلة سماه أصلا وسمي المشبه به فرعا ؛ لأن ما يستفاد له في التركيب تابع لما يستفاد للمشبه كتبعية الفرع للأصل (كما في قوله) أي : ومثال ما بني فيه على الفرع الذي هو المشبه به مع الاعتراف بالأصل الذي هو المشبه قوله : (هي الشمس) (١) أي : هذه المحبوبة نفس الشمس ، فقد اعترف بالأصل وهو الضمير وبنى على الفرع وهو الشمس قوله : (مسكنها في السماء) وإذا كان مسكنها في السماء (فعز الفؤاد) أي فاحمل فؤادك على العزاء وهو الصبر فقوله : عز فعل أمر من عزاه حمله على الصبر (عزاء جميلا) وهو العزاء الذي لا قلق معه ولا تطلب ، وذلك بالتنبه لعدم إمكان الوصول فإن طلب ما لا يمكن ليس من العقل في شيء ثم أكد بيان عدم إمكان الوصول بسبب كونها في السماء بقوله : (فلن تستطيع إليها الصعود) أي : فإنك لا تستطيع أنت الصعود إلى تلك

__________________

(١) البيت فى شرح عقود الجمان (٢ / ٤٩) ، وهو لعباس بن الأحنف ، وفى ديوانه ص (٢٢١) ، وفي المصباح ص (١٣٩) ، وأسرار البلاغة (٢ / ١٦٨).

٣٤٤

الشمس إذ هي في السماء الممتنع الوصول إليها عادة فقوله : إليها مجرور متعلق بالمصدر (وهو الصعود) بناء على جواز تقديم المجرور على المصدر وإن بنيا على امتناعه فيتعلق بمقدر والتقدير لن تستطيع أن تصعد إليها الصعود ويكون المذكور مفسرا للمحذوف (ولن تستطيع) تلك الشمس (إليك النزولا) والمجرور في تعلقه بالمصدر الذي هو النزول كما قبله وإذا جعل الضمير كما تقدم عائدا على محبوبته ، فقد اعترف بالأصل بأن ذكر وبنى على الفرع ما تقدم ، فإذا جاز البناء على الفرع مع ذكر الأصل المنافي ذكره لتناسي التشبيه الذي يبنى عليه البناء (فمع جحده) أي جحد الأصل الذي هو المشبه بأن يذكر المشبه به فقط وذلك في الاستعارة (أولى) بالجواز لأنه عند الاعتراف بالأصل يبعد التناسي المقتضي لعدم خطوره ، وأن الموجود الفرع فيبنى عليه ما يناسبه ومع جحده يكون قد نقل الكلام للفرع ، وهو المشبه به حيث طوى ذكر المشبه فناسبه التناسي المقتضى أن لا خطور ولا وجود للمشبه في الخارج والعقل ، وذلك مناسب لذكر ما يلائم ذلك الفرع ، فإذا جاز البناء في الأول مع وجود ما يناسب بحسب الظاهر فلأن يجوز في التناسي لعدم المنافي أحرى وأولى فقوله : فمع جحده أولى جواب إذا كما قدرناه بقربه لبعد ما بينه وبين الأول ، فإن قلت إذا كان البناء أعني ذكر ما هو للفرع موقوفا كما تقدم على تناسي التشبيه والتناسي كما قررت ينافيه الاعتراف بالأصل امتنع البناء على الفرع عند ذكر الأصل فكيف يدعي جوازه؟ قلت : تناسي التشبيه عند جحد الأصل ظاهر وأما عند ذكره فنقول المنافي للبناء على الفرع هو ذكر التشبيه مع الإشعار بأنه باق على أصله وهو أنه لا يقوي المشبه قوة المشبه به ومجرد ذكر الطرفين لا إشعار فيه بما ذكر فيتناسى معه تناسي هذا التشبيه الأصلي بأن يجعل الطرفان ولو ذكرا متحدين ويدعى أنهما شيء واحد في الحقيقة وإنما اختلفا بالعوارض التي لا تنافي البناء فههنا تناس لأصل التشبيه أيضا.

أو نقول المشبه به ذكر عند ذكر الطرفين معا مع لازمه ولكن هذا فيه مغمز ؛ لأن ذلك لا يقتضي العراء عن المشبه في المثال إذ يمكن الوصول إليه حينئذ ، وإنما امتنع الوصول إلى المشبه به ، وإن كان يمكن تصحيحه بتكلف لا يقال تقدم ما يقتضى أن

٣٤٥

مثل ما ذكر إنما فيه بناء ما للمشبه به على المشبه في قوله : حتى إنه يبنى على علو القدر ما يبنى على علو المكان وهذا الكلام يقتضي أن الواقع بناء ما للفرع وهو المشبه به على نفس ذلك الفرع ؛ لأنا نقول ما تقدم باعتبار ما في نفس الأمر ؛ لأن المراد في الحقيقة هو المشبه وما هنا على الادعاء ؛ لأن المشبه به هو المراد ادعاء فتأمل وهذا الذي تقرر قد ظهر أنه مبني على أن المراد بالضمير هو المحبوبة ، وأما لو أريد به القصة والجملة بعده خبر لم يكن هذا البيت شاهدا على المدعي ، وإنما لم يحمل على إرادة القصة فينتفى الاستشهاد بالبيت بل حمل على إرادة المحبوبة لوجهين.

أحدهما أن قوله : فعز الفؤاد يعين إرادة المحبوبة ؛ لأنها هي المأمور بالعزاء عنها والآخر ما ذكروا من أن ضمير القصة تكون الجملة بعدها مما يشك فيه ليفيد الإخبار تأكيد الإثبات ، والجملة هنا متعينة المعنى لا يجري فيها شك لأحد وهو أن مسكن الشمس السماء ، ثم هذا حيث حذفت أداة التشبيه كما في المثال ؛ لأن الاتحاد الذي ذكرنا أنه منشأ تناسي أصل التشبيه ظاهر فيه ، وأما عند ذكر الأداة ففيه بعد ؛ لأن الأداة تشعر بضعف المشبه عن مرتبة المشبه به ولكن يمكن الاعتبار المذكور فيه أيضا وهو ادعاء الاتحاد ؛ إذ لا مانع من تشبيه أحد المتحدين في الحقيقة بالآخر بآلة التشبيه وقد وقع في كلام العجم النهي عن التعجب بناء على الاتحاد مع التصريح بالأداة وحاصل معناه النهي عن التعجب من قصر ذوائب أي شعر شخص شعره كالليل ووجهه كالربيع والليل في الربيع مائل إلى القصر ومعلوم أن المائل إلى القصر في الربيع هو الليل الحقيقي ، والذي لا يتعجب من قصر ليله هو الربيع الحقيقي وقد غاص هذا الأعجمي على معنى لطيف قل من يتنبه له لغرابته فهو من الحسن والملاحة بمكان كما لا يخفى.

ثم لما كانت المسائل المتقدمة في المجاز وأمثلها جارية على الأفراد أشار إلى مجاز التركيب فقال هذا المجاز المفرد.

٣٤٦

المجاز المركب

(وأما) المجاز (المركب فهو اللفظ) خرج العقلي عنه (المستعمل) خرج به اللفظ قبل الاستعمال (فيما شبه بمعناه الأصلي) أي من حيث إنه مشبه بمعناه الأصلي فيخرج المرسل الذي ليس معناه مشبها بمعناه الأصلي قبل الاستعمال ؛ لعدم وجود الشبه بين المعنيين وكذا المرسل الذي استعمل فيما شبه بمعناه قبل ذلك لوجود الشبه لكن إنما استعمل لعلاقة غير الشبه ؛ لأنه لم يستعمل من حيث الشبه وأراد بالمعنى الأصلي المعنى الذي دل ذلك اللفظ عليه بالمطابقة ، ونريد بدلالة المطابقة هنا الدلالة التي لم يتوصل في حصولها باللزوم أصلا لأنها أنسب بالمطابقة فتخرج دلالة المجاز مطلقا ؛ لأن أصلها كما تقدم الانتقال من الملزوم إلى اللازم على الوجه الذي قررناه في أول هذا الفن ولم نرد بالمطابقة ما يستفاد من اللفظ حال الاستعمال ولو بالوضع الثاني المتوصل إليه باللزوم ورعاية القرينة إذ لو أريد ذلك لم يصح اختصاص المطابقة بالمعنى الأصلي ، فإن الدلالة بعد رعاية ذلك يصح أن تكون مطابقة أيضا ؛ لأن المذهب الصحيح أن اللفظ المجاز يدل بالمطابقة أيضا وإنما تنفي عنه باعتبار رعاية سبب دلالته وأصلها ؛ إذ بذلك تكون لزومية بالوضع الثاني فليفهم.

(تشبيه التمثيل) خرج به مجاز الأفراد ؛ لأن تشبيه التمثيل ما يكون وجهه منتزعا من متعدد ومجاز الأفراد كالأسد للرجل الشجاع ليس وجهه وهو الشجاعة منتزعا من متعدد كما تقدم وفي ذلك نظر ؛ لأنه يقتضي أن عنقود الملاحية لو فرض استعارته للثريا لم يكن مجازا مفردا ؛ لأن وجهه منتزع من متعدد فلو كان أصل مجاز التركيب كون الوجه منتزعا من متعدد كان نحو العنقود في الثريا مجاز التركيب ولا قائل به.

فتعريف مجاز التركيب بما ذكر لا يخلو من تسامح ؛ لأنه إن جعل قوله : تشبيه التمثيل ملغي في الإخراج به دخل مجاز الأفراد كله ، وإن اعتبر دخل قسم العنقود وهو مفرد وقد يجاب بأنه معتبر ولكن تشبيه التمثيل لا يسمى ذو اللفظ المفرد به وإن كان الوجه فيه منتزعا من متعدد وفيه نظر لتقديم خلافه.

٣٤٧

أو يقال يخرج نحو العنقود بالمثال فكأنه يقال ما وقع فيه تشبيه التمثيل بشرط أن يكون كهذا المثال بأن لا يكون مفردا وفيه تمحل.

وقوله : (للمبالغة) متعلق بقوله : المستعمل أي هو اللفظ المستعمل فيما ذكر لأجل المبالغة في التشبيه بأن يدعى دخول المشبه في جنس المشبه به كما تقدم وهو يؤكد إخراج ما أخرجناه بقوله : شبه بمعناه وهو المجاز المرسل ثم أشار إلى المثال الذي قلنا إنه أخرج به ما فيه تشبيه التمثيل مع إفراد اللفظ بقوله : كما يقال للمتردد (في أمر) فيتوجه إليه ويقدم عليه بالعزم تارة ويحجم بالعزم على غيره أخرى (إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى) وأصل هذا الكلام أن بعض ملوك بني مروان بلغه أن بعض من رآه ليس أهلا للبيعة توقف في بيعته وامتنع منها فكتب إليه أما بعد فإني أراك في بيعتنا تقدم رجلا وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت.

فقول القائل أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى مجاز مركب لابتنائه على تشبيه التمثيل ؛ لأنه شبه الصورة التي هي كون الإنسان مترددا في أمر فيقدم بالعزم عليه تارة ويحجم عنه بالاستخارة مرة أخرى بالصورة التي هي كون الإنسان القائم للذهاب حسا فيقدم رجلا تارة ؛ لإرادة الذهاب ويؤخر أخرى لعدم إرادته ولا شك أن الصورة الأولى عقلية والثانية حسية والجامع بينهما ما يعقل من الصورة التركيبية التي هي كون كل منهما له مطلق الإقدام بالانبعاث لأمر في الجملة تارة والإحجام الحاصل بترك الانبعاث أخرى وهو أمر عقلي قائم في الصورتين مركب كما ترى باعتبار تعلقه بمتعدد ؛ لأنه هيئة اعتبر فيها إقدام متقدم وإحجام مستعقب.

ولما اعتبر التشبيه بين الصورتين في الوجه المذكور نقل اللفظ الذي أصله أن يستعمل في الصورة الحسية واستعمله في الصورة العقلية للمبالغة في التشبيه بأن ادعي المستعمل دخول العقلية في جنس الحسية ، وذلك اللفظ هو قوله : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى وهو الدال على الحسية بالمطابقة وقد تقدم ما يؤخذ منه أن تخصيص الحسية التي وضع لها بالأصالة بالمطابقة إنما هو بالنظر إلى أن وضعها لا يتوصل إليه بواسطة اللزوم بخلاف العقلية التي كان اللفظ فيها مجازا فلم تسم الدلالة فيها مطابقة

٣٤٨

نظرا إلى أن أصلها اللزوم الذي به الانتقال من المعنى الأصلي إلى الثاني ، وإن كان مجموع المعنى المدلول عليه بالوضع الثاني مطابقيا عند المحققين أيضا.

وقوله : تقدم رجلا يعني تارة وقوله : وتؤخر مفعول تؤخر محذوف أي تؤخرها يعني تلك الرجل المقدمة وقوله : أخرى نعت لمرة والتقدير أراك تقدم رجلا مرة وتؤخر مرة أخرى إنما لم نجعل أخرى نعتا للرجل ؛ لئلا يفيد الكلام أن الرجل المؤخرة غير المقدمة ، وليس ذلك صورة التردد لأن الواقع أنه إذا أراد الذهاب رمى رجله أماما وإذا أحجم عنه رد تلك الرجل إلى موضعها ، وسمى ردها إلى موضعها تأخيرا باعتبار منتهاها أولا فافهم.

فإن قلت قوله : أراك هل له دخل في التجوز والنقل أم هو حقيقة والتجوز فيما بعده؟ قلت : الظاهر أن لا دخل له ؛ لأنا لو قلنا فلان يقدم رجلا ويؤخر أخرى حصل التمثيل أيضا ويحتمل أن له دخلا في خصوص المثال ؛ لأن أصله الرؤية الحسية ولم توجد في المنقول إليه تأمل.

(ويسمى) المجاز المركب المذكور (التمثيل على سبيل الاستعارة) أما تسميته تمثيلا ؛ فلأن وجهه منتزع من متعدد كما تقدم في أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، وأما التقييد بكونه على سبيل الاستعارة فللاحتراز من الالتباس بتشبيه التمثيل إذ من الجائز التساهل بإسقاط لفظ التشبيه ويبقى لفظ التمثيل. وقد يقال زيادة قيد قولنا : على سبيل الاستعارة ليطابق الاسم المسمى ؛ لأن الواقع في هذا المجاز كما قدمنا أن تشبه حالة بأخرى على وجه المبالغة بإدخال جنس الأولى في الثانية ثم يستعمل لفظ الثانية في الأولى وذلك شأن الاستعارة ، فزيد لتبيين مطابقة الاسم للمسمى ، ولكن هذا التوجيه في التسمية إنما يتبين إن ظهر وجه تسمية التشبيه الذي انتزع وجهه من متعدد بتشبيه التمثيل ، ووجهه أن التمثيل في أصله هو التشبيه يقال مثله تمثيلا جعل له مثيلا أي : شبيها ، ثم خص بالتشبيه المنتزع وجهه من متعدد ؛ لأنه أجدر أن يكون صاحبه مثيلا وشبيها لكثرة ما اعتبر فيه إذ كثرة ما اعتبر في الشبه مما يقرب للمماثلة ويصعب تحقيق ما اعتبر لكثرته وتزداد بذلك غرابته فهو أحق بالمماثلة ؛ لأن المماثلة الحقيقية لا تكون

٣٤٩

إلا بعد وجود أشياء ووجود أشياء أصعب من وجود الجملة ، وخص المجاز المذكور باسم المثل والتمثيل لتلك الأجدرية ولغرابته بنقل اسم المثل المشعر مصدوقه بالغرابة والإعجاب إلى الصفة الرفيعة كما قال تعالى ولله المثل الأعلى أي : الصفة الرفيعة العجيبة وإلى القصة العجيبة كقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)(١) أي : قصتها العجيبة مما يتلى عليكم وهو قوله تعالى : (" فِيها أَنْهارٌ") الآية وإلى الحالة العجيبة كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) إلى آخر الآية أي حالتهم الغريبة ، ثم أشار إلى أن هذه التسمية قد تختص بقوله : (وقد يسمى) المجاز المركب المذكور (التمثيل) أي يسمى بهذا اللفظ حال كونه (مطلقا) من التقييد بقولنا على سبيل الاستعارة أما التسمية الأولى فلا التباس فيها كما تقدم ، وأما هذه فقد يقال تلتبس بالتشبيه المسمى بالتمثيل ، وأجيب بأن الاصطلاح على أنه إذا أطلق انصرف للاستعارة وإذا أريد التشبيه قيل تشبيه التمثيل ، وبه يعلم أن ما تقدم في التشبيه في قوله : خص باسم التمثيل ينبغي أن يكون على تقدير مضاف أي : خص باسم تشبيه التمثيل ولكن يقال فحينئذ لا يقال إن زيادة قيد قولنا على سبيل الاستعارة للاحتراز لأنه لا يذكر التمثيل في التشبيه إلا مقيدا ويجاب بما أشرنا إليه من أن الاحتراز عن أمر مجوز لا واقع ، والخطب في مثل هذا سهل وإنما تنازلنا للبسط هنا حيث ظهر منهم الاهتمام بهذه التسمية.

وقوله : في تعريف مجاز التركيب هو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي يقتضي أن المجاز المركب لا يوجد في غير ما شبه بمعناه ؛ لامتناع صدق المعرف على غير التعريف وفيه بحث ؛ لأن ما تحقق في المفرد باعتبار الوضع الشخصي يتحقق في المركب باعتبار الوضع النوعي فإن مجازية المفرد إنما تتحقق بنقله عما وضع له بالشخص ، فالأسد مثلا وضع للحيوان المعلوم فنقله إلى ما يشبهه يصيره استعارة ، والعين مثلا وضع بالشخص للعين الباصرة فنقلها إلى الربيئة لكون وصفه بها قوامه وكونه كلا والعين جزء يصيره مرسلا ، فإذا تحقق هذا بالوضع الشخصي في المفرد فليتحقق مثله في الوضع

__________________

(١) محمد : ١٥.

٣٥٠

النوعي في المركب فقولنا : إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى نقله لما يشبه الحالة التي وضع لها نوعه ، وأعني بنوعه هيئة إن واسمها مع كون خبرها فعلا متعديا لمثل ما ذكر يصيره استعارة وقوله :

هواى مع الركب اليمانين مصعد (١)

نقله عما وضع له نوعه وهو هيئة المبتدأ المخبر عنه باسم يتعلق به الظرف المضاف لمثل ما ذكر إلى التحزن والتحسر اللازم المضمون القول المذكور وهو كون المحبوب مصعدا مع الركب أي مبعدا فإنه يستلزم تحزن المحب وتحسره يصيره مجازا مرسلا مركبا فتخصيص المجاز المركب بما استعمل فيما شبه بمعناه مع ورود ما يصح أن يكون من المرسل في المركب ومع صحة جريان قاعدتي المجازين فيه باعتبار الوضع النوعي كجريانهما في المفرد بالوضع الإفرادي لا يظهر له وجه فيقال ما المانع من أن يقال حيث صح فيه الوضع النوعي الذي يتضمنه الاستعمال الشخصي إن نقل لغير ما وضع له لعلاقة المشابهة فاستعارة تمثيلية ، وإن نقل لغيره لعلاقة أخرى كاللزوم كان مجازا مرسلا تركيبيا وهذا مما أهملوا تسميته والتعرض له مع أن الوجه الذي صح به التمثيل يصح به غيره من المجاز ، فلم يظهر وجه للإهمال نعم لو كان التجوز المذكور لا باعتبار النقل عن المعنى الموضوع هو له نوعا بل باعتبار التركيب العقلي كما في الإسناد العقلي أمكن أن يقال لا يتصور فيه النقل الذي في المرسل بخلاف المفرد لوضعه لكن هذا التجوز باعتبار النقل المستلزم للوضع ، فكما صح بواسطة التشبيه يصح بواسطة غيره كما في المفرد ، فالتخصيص تحكم.

لا يقال المركب المنقول لأجل اللزوم يدخل في باب الكناية ؛ لأنا نقول لا مانع من نصب القرينة المانعة فيما يصح أن يكون كناية فيكون مجازا ، وقد ذكروا أن الكناية قد يتفرع عنها المجاز كما في قوله تعالى (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٢) فإنه عند

__________________

(١) البيت في الإيضاح ص (٥١) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى ، وهو لجعفر بن علبة الحارثي من مخضرمى الدولتين الأموية والعباسية ، وهو في معاهد التنصيص (١ / ١٢٠).

(٢) آل عمران : ٧٧.

٣٥١

الزمخشري مجاز متفرع عن الكناية فإن نفى النظر المتضمن لنحو هذا التركيب كناية باعتبار من يصح منه النظر الحسي عن الغضب على الذي لا ينظر إليه ، ومجاز متفرع عنها باعتبار من لا يصح منه النظر الحسي كما في الآية ، وحاصل ذلك أن اللفظ الذي يراد به اللازم مع صحة إرادة الملزوم كناية وإذا عرضت لذلك اللفظ قرينة مانعة عن إرادة الأصل كان مجازا متفرعا عن الكناية فلا يتم ما ذكر حجة في ترك التعرض لما ذكر وقد أجيب عنه بأن كل تركيب نقل إلى غير أصله كنقل الإخبار إلى الإنشاء لا يخلو بالاستقراء من التجوز في مفرده ومنه نشأ التجوز فيه فاكتفى بما في ذلك المفرد من استعارة أو إرسال عن أن يعتبر في المركب بخلاف التمثيل لا يعتبر فيه التجوز في مفرداته بل هي على أصلها وإنما التجوز في المجموع.

ويرد بأن الاستقراء لا يتم وكيف يتم مع صحة نقل ما نسبته خبرية لإنشائية كما سلمه المجيب من غير رعاية شيء من مفرداتها ، لا يقال النسبة من حيث هي متحدة وإنما الاختلاف في المفردات ؛ لأنا نقول معلوم بالضرورة الخلف بين الإنشائية والخبرية وكلاهما لا يستفاد إلا من التركيب لا من المفرد ونعني بالنسبتين ما يحسن السكوت عليه منهما ، ولا نعنيهما من حيث تصورهما حتى يمكن التجوز في المفرد الدال عليهما. نعم النسبة الخبرية التي هي الوقوع وأن لا وقوع متحدة في المفهوم فنقل لفظة معنية منها إلى أخرى ليس إلا باعتبار بعض المفردات لاتحادها تأمل.

(ومتى فشا استعماله) أي : استعمال المجاز المركب حال كونه (كذلك) أي كائنا على حسب الاستعارة (سمي مثلا) فالمثل هو المجاز المركب الفاشي الاستعمال فهو أخص من التمثيل على سبيل الاستعارة وقوله : كذلك إن احترز به عن تشبيه التمثيل لم يكن له معنى ؛ لأن الكلام في المجاز فلا معنى للاحتراز عن التشبيه ويلزم فيه تشبيه الشيء بنفسه ؛ لأن المجاز المذكور هو ما كان على حسب الاستعارة وإن احترز به عن مجاز التركيب الذي ليس على حسب الاستعارة فلم يذكروه ولم يعتبروه كما تقدم ، وأيضا الضمير في فشا عائد على المجاز المركب على سبيل الاستعارة فلا معنى لتشبيهه بالمجاز على سبيل الاستعارة ليخرج مجاز آخر إذ هو تشبيه الشيء بنفسه وإخراج ما لم يعتبر

٣٥٢

لديهم أو لا وجود له أصلا ، ولو وجد واعتبر أمكن تصحيح الكلام فجعل الضمير في فشا عائدا على مطلق المجاز المركب من باب الاستخدام لكنه لم يعتبر.

فعلى كل حال قوله : كذلك لم يظهر لذكره وجه مستقيم ومثل هذا في عبارة الإيضاح (ولهذا) أي ولأجل أن أصل المثل تمثيل على سبيل الاستعارة يقال (لا تغير الأمثال) وذلك ؛ لأن أصل المثل الذي هو الاستعارة إنما حقيقتها أن ينقل نفس لفظ المشبه به إلى المشبه من غير تغيير إذ الاستعارة مأخوذة من استعارة الثوب من صاحبه ، ولا شك أن الثوب المستعار هو الذي كان عند صاحبه لا غيره ، ومتى غير اللفظ صار غير المستعار ، ولأن الألفاظ تختلف بالتغيير ولو في الهيئة وتعد ألفاظا أخرى فإذا كان هذا طريق الاستعارة ـ والمثل فرد من الاستعارة إلا أنه مخصوص بالفشو ـ وجب أن يكون على سبيلها فلو غير خرج عن كونه لفظ المشبه به فيخرج عن كونه استعارة فيلزم خروجه عن كونه مثلا ؛ لأن رفع الأعم يستلزم رفع الأخص فتغيير اللفظ يستلزم رفع كونه لفظ المشبه به ورفع لفظ المشبه به ، يستلزم رفع الاستعارة ؛ لأنها أخص منه إذ كل استعارة لفظ المشبه به وليس كل لفظ للمشبه به استعارة فيلزم من رفعه رفعها ثم يلزم من رفعها رفع ما هو أخص وهو المثل وذلك ظاهر.

ولما وجب أن لا يغير المثل وجب أن لا يلتفت إلى ما استعمل فيه وهو ما يقتضيه الحال من تذكير وتأنيث وتثنية وإفراد وجمع فيؤنث إن كان كذلك في أصله ، وإن استعمل في مقام التذكير وكذا العكس ، ويفرد إن كان أصله كذلك وإن استعمل في مقام التثنية والجمع وكذا العكس وأصل لفظ المثل هو المسمى بمورد المثل وما استعمل فيه بعد ذلك هو المسمى بمضربه فلا يلتفت إلى مقام المضرب ، وإنما المعتبر المورد للوجه الذي ذكرنا وهو التحافظ على كونه استعارة لا للتحافظ على غرابته ؛ لأن الغرابة فيه قد لا ينافيها بعض التغيير ، ونعني بفشو الاستعمال أن يستعمل كثيرا في مثل ما استعمله فيه القائل الأول مثلا قوله : الصيف ضيعت اللبن كان أصله ومورده أن امرأة تزوجت شيخا كبيرا ذا مال فكرهته فطلبت منه الطلاق فطلقها فتزوجت شابا فقيرا ثم أصابتها سنة (١) فأرسلت إلى الشيخ الأول تطلب منه اللبن فقال للرسول قل لها

__________________

(١) السنة : قحط وفقر.

٣٥٣

الصيف ضيعت اللبن أي لما طلبت الطلاق في الصيف أوجب لها ذلك أن لا تعطي لبنا فلما قال لها الرسول ذلك وضعت يدها على زوجها الشاب فقالت : مذق هذا خير أي : لبنه المخلوط بالماء على جماله وشبابه مع فقره خير من الشيخ ولبنه ثم نقله الناقل الأول لمضرب هو قضية تضمنت طلب الشيء بعد تضييعه والتفريط فيه ثم فشا استعماله في مثل تلك القضية مما طلب فيه الشيء بعد التسبب في ضياعه في وقت آخر فصار مثلا لا يغير بل يقال ضيعت بكسر التاء والإفراد ولو خوطب به المذكر أو المثنى أو المجموع.

ثم لما كان قولنا أنشبت المنية أظفارها بفلان قد اتفق على أن فيه الاستعارة المكنى عنها والاستعارة التخييلية.

واختلف في تقرير الاستعارتين وفي تحقيق معناهما فيه على أوجه ثلاثة أحدها ما يفهم من كلام الأقدمين وثانيها ما اعتبره السكاكي وسيأتيان وثالثها ما ذهب إليه المصنف وكان مقتضى مذهب المصنف أنهما ليستا من الاستعارة السابقة إذ هما عنده فعلان من أفعال النفس لا لفظ كما في الاستعارة المتقدمة جعل لهما فصلا على حدة لمخالفتهما ما تقدم عنده فقال.

فصل فى بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية

(فصل) : في بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية وقد تقدم أنهما عند المصنف فعلان من أفعال النفس أحدهما إضمار التشبيه والآخر إثبات اللوازم على ما سيذكره المصنف ، ومعلوم أنهما بهذا الاعتبار غير داخلين في تعريف المجاز ، إذ هو لفظ فالاستعارة الداخلة في تعريف المجاز السابقة إنما أطلقت عليهما على سبيل الاشتراك اللفظي ، ولما أراد المصنف استيفاء ما يطلق عليه لفظ الاستعارة ولو كان الإطلاق على سبيل الاشتراك اللفظي أتى بهذا الفصل لبيانهما كما بينا آنفا فأشار إلى بيانهما بقوله : (قد يضمر التشبيه) أي : قد يستحضر المتكلم تشبيه شيء بشيء على وجه المبالغة وادعائه في نفسه أن المشبه داخل في جنس المشبه به ويحتمل أن يراد بالإضمار استحضار أن لفظ المشبه تضمن ما شبه بغيره على وجه المبالغة فيكون الإضمار متعلقا

٣٥٤

باللفظ وهو في التحقيق عائد للاحتمال الأول كما لا يخفى ؛ إذ لا معنى للإضمار في اللفظ إلا استحضار أن معناه مشبه بغيره والاستحضار نفسي وإذا أضمر التشبيه في النفس على الوجه المذكور أبقى الكلام على أصله.

(فلا يصرح بشيء من أركانه) أي من أركان التشبيه المضمر في النفس (سوى المشبه) أي لا يصرح من الأركان إلا بالمشبه ؛ لأن الكلام يجري على أصله والمشبه هو الأصل إذ لو صرح مع ذلك بالمشبه به أو بالأداة لم يكن التشبيه مضمرا كما لا يخفى وما تقدم من أنه يجب في التشبيه أن يذكر المشبه به إنما هو في التشبيه المصطلح عليه وهو ما يدل عليه بالأداة ظاهرة أو مقدرة ، وهذا التشبيه المضمر المسمى بالاستعارة بالكناية ليس من قبيل التشبيه المصطلح عليه ؛ لأن الإضمار والدلالة بالأداة الملفوظة أو المقدرة في المشبه به متنافيان مع زيادة أن التشبيه المضمر يعتبر فيه المبالغة ، وادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به بخلاف التشبيه الاصطلاحي.

ولما كان التشبيه المضمر خفيا والكلام يحتاج فيه إلى بيان المقاصد احتيج إلى ما يدل إليه ويسمى إثبات ذلك الدال تخييلية كما يأتي وإلى ذلك أشار بقوله : (ويدل عليه) أي وتقع الدلالة من المتكلم على ذلك التشبيه المضمر (ب) أمر وهو (أن يثبت ل) ذلك ل (لمشبه) الذي لا يذكر من الأطراف غيره (أمر مختص بالمشبه به) بأن يكون من لوازمه المساوية له ، فإذا أضمر تشبيه المنية بالسبع مثلا أثبت للمنية التي هي المشبه ما هو من خواص الأسد الذي هو المشبه به ويجب أن يكون ذلك اللازم مما يكون به كمال وجه الشبه في المشبه به أو قوامه على ما يذكره المصنف ، ومثال ما به الكمال الأظفار في الأسد فإن الشجاعة والجراءة فيه التي هي الوجه لم يكمل مقتضاها الذي هو الافتراس ألا بتلك الأظفار كما قيل :

وما الأسد لو لا البطش إلا بهائم

ولا بطش بدون الأظفار ومعلوم أن الذي أثبت للمشبه على هذا نفس خاصة المشبه به ولم توجد في المشبه فيكون إثباتها لتدل على التشبيه ؛ لأن إثبات خواص الشيء لغيره يدل على أنه ألحق به ونزل منزلته فيفهم التشبيه وإلا كان الكلام تهافتا ، وإذا

٣٥٥

كان المثبت نفس الخاصة للدلالة على التشبيه فليس ثم شيء أطلق عليه لفظ الخاصة متحقق حسا أو عقلا ، وإنما وجد ، ثم مجرد إثبات اللازم للدلالة فهنا على ما ذكره المصنف فعلان كما تقدم إضمار التشبيه في النفس على الوجه المذكور والآخر إثبات لازم المشبه به للمشبه وكلاهما يحتاج إلى أن يسمى باسم يخالف الآخر (فيسمى) الأمر الأول وهو (التشبيه) المذكور المضمر في النفس (استعارة بالكناية أو) يسمى استعارة (مكنيا عنها) أما تسميته بالكناية بأن تقيد التسمية بلفظ الكناية أو يقال مكنيا عنها ؛ فلأن التشبيه المذكور لم يصرح به بل دل عليه بذكر خواص المشبه به المفيدة بنسبتها للمشبه أنا ألحقناه بالمشبه به وجعلناه في مرتبته ، وأما تسميتها بالاستعارة فمجرد تسمية اصطلاحية عارية عن المناسبة وقيل في بيان المناسبة ؛ إنه لما ذكرت اللوازم وأثبتت للمشبه دل ذلك على أن المشبه ادعي دخوله في جنس المشبه به حتى استحق خواصه وادعاء الدخول شأن الاستعارة ، فسمى ذلك التشبيه لأجل ذلك استعارة (و) يسمى الأمر الثاني وهو (إثبات ذلك الأمر) المختص بالمشبه به كالأظفار في المثال السابق (للمشبه استعارة تخييلية) أي : يسمي إثبات ذلك للمشبه استعارة تخييلية أما تسميته استعارة فلأجل أن متعلقه استعير أي : نقل عما يناسبه ويلائمه واستعمل مع ما شبه بأصله وأما تسميته تخييلية ؛ فلأن متعلقه وهو ذلك المنقول مختص بالمشبه به بحيث لا يوجد في غيره وله معه خصوصية إذ به كمال وجه الشبه فيه أو قوامه على ما أشرنا إليه فيما مر ، وسنحققه في كلام المصنف فكان استعماله مع المشبه مع ذلك الاختصاص وتلك الخصوصية تشعر أنه نفس المشبه به حيث نسب له ما يختص به ، ويخيل للسامع أنه من جنسه حيث لابسه ما يلابسه.

ثم لما كان الأمر المختص بالمشبه الذي يكون إثباته تخييلا لا بد أن يكون به كمال وجه الشبه في المشبه أو قوامه كما ذكرنا احتاج إلى مثالين للاستعارة المكنى عنها باعتبارهما فأشار إلى مثال الأول بقوله : وذلك (كما) أي كإضمار التشبيه وإثبات ما يختص بالمشبه به الكائنين (في قول الهذلي وإذا المنية) (١) وهي الموت (أنشبت أظفارها)

__________________

(١) البيت فى الإشارات ص (٢٢٨) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٥٢) وهو لأبى ذؤيب الهذلى.

٣٥٦

أي علقت أظفارها بهالك ومكنتها منه (ألفيت) أي وجدت عند ذلك الإنشاب (كل تميمة) أي : كل معاذة وهي الخرزة بفتح الراء تعلق على الصبي لتكون له حجابا من العين والهلاك والجنون في زعمهم (لا تنفع) أي : إذا علق الموت مخالبه بشيء ليذهب به ويهلكه بطلت الوقايات والحيل وأسباب النجاة ، ثم أشار إلى بيان التشبيه في ذلك وإلى بيان الوجه وتحقيق أن إثبات ما يختص بالمشبه به في المثال به كمال الوجه فقال (شبه) الهذلي في نفسه (المنية بالسبع في اغتيال النفوس) وإتلافها وأخذها (بالقهر والغلبة) بحيث لا يتصور عند نزوله مقاومته ودفاعه بل تأخذها بسطوة القهر (من غير تفرقة) في الناس (بين نفاع) أي : كثير النفع منهم (وضرار) أي كثير الضرر أي : لا تبالي بأحد ولا ترحمه بل تأخذ من نزلت به أيا كان بلا رقة منها على من يستحق الرحمة ولا بقيا أي رحمة منها على ذي فضيلة يستحق أن يراعى وذلك شأن السبع عند غضبه أو شرهه على الافتراس (ف) لما شبه المنية بالسبع فيما ذكر (أثبت لها) أي لتلك المنية (الأظفار التي لا يكمل ذلك) الاغتيال والأخذ (فيه) أي في السبع (بدونها) أي : لا يكمل بدون تلك الأظفار وإنما قال لا يكمل ؛ لأنه يمكن الاغتيال في السبع بالأنياب ويوجد بها ولكن تمامه بالأظفار التي يقع البطش بها ويضم بها للأنياب وذلك ؛ لأن غيره يشارك السبع في الاغتيال والأخذ بالأنياب لكن مع الضعف عن أفعال الأسد المختص بالأظفار ولهذا قيل كما قدمناه :

وما الأسد لو لا البطش إلا بهائم

والمراد بالأظفار أظفار مخصوصة يقع بها الاغتيال لا مطلق الأظفار كما لا يخفى ، ولما أثبت للمنية الأظفار المخصوصة بالأسد كان في ذلك إشعار بالمبالغة في التشبيه وتحقيق أنه جعلها من جنس الأسد حيث أثبت لها ما هو من خواصه التي لا يثبت إلا له فاقتضى ذلك تشبيه المنية بالسبع في نفسه على وجه المبالغة ، وهو المسمى عند المصنف استعارة بالكناية وصار إثبات الأظفار لها استعارة تخييلية أي يسمى بذلك لما تقدم ثم أشار إلى مثال الثاني ، وهو ما تكون فيه القرينة بها قوام الوجه بقوله : (وكما)

٣٥٧

أي وكالتشبيه والتخييل الكائنين (في قول الآخر (١) ولئن نطقت بشكر برك) أي : بشكر إحسانك وعطفك حال كوني (مفصحا) بذلك الشكر ولما صح أن يكون النطق على وجه الإجمال كان قوله : مفصحا حال مؤسسة وجواب الشرط مقدر أي فلا يكون لسان مقالي أقوى في النطق من لسان حالي ، فحذف هذا الجواب وأقام مقامه لازمه وهو قوله : (فلسان حالي بالشكاية أنطق) هذه القضية اتفاقية لدفع ما يتوهم من كون النطق الحسي لا يجامعه كون النطق الحالي أقوى منه فقوله : فلسان حالي أنطق بالشكاية (شبه) فيه (الحال بإنسان متكلم) فأضمر التشبيه في النفس ومعلوم أن التشبيه بين الحال وذلك الإنسان إنما هو (في الدلالة) أي وجه الشبه فيهما هو دلالة الحاضر (على المقصود ف) أضمر التشبيه في النفس استعارة بالكناية كما تقدم ثم (أثبت لها) أي أثبت للحال (اللسان الذي به قوامها) أي به حصل قوام تلك الدلالة وأصل قوام الشيء ما يقوم به ويوجد منه كأجزاء الشيء ولذلك يقال في الخيوط التي يضفر منها الحبل إنها قوامه والمراد به هنا نفس قوام الشيء أي : وجوده وتحققه ، وذلك أن الدلالة في الإنسان المتكلم وهو المشبه به لا تقرر لها من حيث إنه متكلم حقيقة إلا باللسان وأما وجودها من الإنسان بالإشارة فلا يرد ؛ لأن المشبه به على ما ذكر المصنف هو الإنسان من حيث إنه متكلم لا من حيث إنه مشير ، ولما أثبت لها اللسان الذي به القوام كان ذلك الإثبات استعارة تخييلية ، وقد تقدم وجه تسميتها تخييلية فتحصل مما تقرر عند المصنف أن لفظى الأظفار والمنية كل منهما حقيقة لاستعمالهما في معناهما الحقيقي ، وهو ما وضع له في الأصل ، وكذا لفظ الحال واللسان وليس في كلا البيتين ، وكذا كل ما يشبههما مجاز لغوي أصلا ؛ لأنه لفظ والموجود فيهما على ما ذهب إليه المصنف كما تقدم فعلان من أفعال النفس وأحد الفعلين في الأول إضمار تشبيه المنية بالأسد في النفس ، وذلك الإضمار كما تقدم فعل من الأفعال وثانيهما فيه إثبات الأظفار للمنية وأحد الفعلين في الثاني إضمار تشبيه الحال بالإنسان المتكلم وثالثهما فيه إثبات اللسان لها ويسمى الأول وهو الإضمار فيهما استعارة بالكناية ، ويسمى الثاني وهو إثبات ما به كمال الوجه أو قوامه فيهما استعارة تخييلية كما تقدم ، وهذان

__________________

(١) البيت في شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٥٢) وهو للعتبى ، وفى الإشارات ص (٢٢٨).

٣٥٨

كمال الوجه أو قوامه فيهما استعارة تخييلية كما تقدم ، وهذان الفعلان متلازمان أعني إضمار التشبيه المسمى بالاستعارة بالكناية وإثبات ما يختص بالمشبه به المسمى بالاستعارة التخييلية ؛ لأن التخييلية قرينة المكنى عنها فلا تخلو المكنى عنها عن قرينتها والتخييلية يجب أن تكون مع المكنى عنها إذ لو صحت في التصريحية أو في مجاز آخر كانت ترشيحا إذ الفرق بين الترشيح والتخييل مع أن كلا منهما لازم المشبه مخصوص به أن الترشيح في غير المكنى عنها ، والتخييل في المكنى عنها فإن قلت فهل يتصور بينهما فرق آخر سوى كون الترشيح للتصريحية أو المجاز المرسل ، وكون التخييل قرينة للمكنى عنها؟ قلت : قد قيل إن التخييل لا بد أن يكون به كمال الوجه أو قوامه كما يؤخذ من كلام المصنف وتمثيله والترشيح يكون بمطلق اللازم المختص وورد على ما ذكر من تلازم التخييل والمكنى عنها أن نحو قولنا أظفار المنية الشبيهة بالسبع نشبت بفلان ليس فيه مكنى عنها للتصريح فيه بالتشبيه والمكنى عنها يجب إضمار التشبيه فيها والأظفار تخييل ؛ لأنها استعملت مع المنية على نحو استعمالها معها عند كون الكلام فيه الاستعارة بالكناية.

وأجيب بأن هذا الكلام على تقدير صحته في كلام البلغاء ووروده تكون الأظفار فيه ترشيحا للتشبيه لا تخييلا ؛ لأن الترشيح لا يختص بالاستعارة التصريحية بل يكون في التشبيه ويكون في المجاز المرسل بل ويكون في المكنى عنها بعد وجود قرينتها التي هي التخييلية ، فضابط الترشيح أن يذكر ما يلائم المشبه به أو المتجوز فيه من غير اشتراط المبالغة في التشبيه ، وإن كانت هي أنسب من غيرها ؛ لأن ذكر ما يلائم الأصل يقوي الاهتمام بمناسبته للفرع ففي الاستعارة يعتبر بعد قرينتها وكذا المجاز المرسل ، وفي التشبيه يعتبر مطلقا أما مثاله في التشبيه فالتركيب المذكور إن صح وأما مثاله في المكنى عنها على هذا فكأن يقال أنشبت المنية أظفارها بفلان ولها لبد وزئير مثلا وأما مثاله في التصريحية فكما تقدم في قوله :

٣٥٩

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

وأما مثاله في المجاز المرسل فكقوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأزواجه الطاهرات" أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا" (١) فإن اليد مجاز مرسل عن النعمة ؛ لحصولها عن اليد والطول الذي هو الإنعام والتفضل الذي أخذ منه أطول يناسب اليد الأصلية ؛ لأن الإنعام باليد ، ولكن يرد على هذا أن الإنعام يلائم النعمة أيضا لتعلقه بها فيكون مشتركا بين الأصل والفرع فلا يكون ترشيحا ومعنى" أطولكن" أكثركن طولا بفتح الطاء أي : تفضلا وعطاء وحمله على الطول الذي هو ضد القصر ليناسب اليد الأصلية فيكون ترشيحا يؤدي إلى خلو الكلام عن الإخبار بكثرة الجود المقصود ، اللهم إلا أن يقال استعير الطول للاتساع في العطاء فيكون ترشيحا باعتبار أصله على ما تقدم وسنقرره ، ثم ما فسر به المصنف الاستعارة بالكناية وهو إضمار التشبيه في النفس شيء لا مستند له في كلام السلف ولا هو مبني على المناسبة اللغوية ، أما عدم بنائه على المناسبة اللغوية ؛ فلأن إضمار التشبيه ليس فيه نقل لفظ إلى غير معناه فيكون مناسبا ؛ لأن يسمى بالاستعارة كما يناسب نقل اللفظ الذي هو المجاز اللغوي ، وأما كونه لا مستند له في كلام السلف فلأنه لم ينقل عن أحد منهم ما ذكر المصنف.

نعم الشيخ عبد القاهر ذكر فيما سماه المصنف تخييلا ما يناسب ما ذكره المصنف فقال في يد الشمال : إن اليد ثبتت للشمال مع أنها ليست من لوازمه لا لمعنى أطلقت عليه ونقلت له بل لتدل على تشبيه الشمال بمالك له تصرف ويد ولكن لم يسم التشبيه الذي جعلت اليد دليلا عليه استعارة لا بالكناية ولا بغيرها وإنما قال اليد استعارة ولكن لا لشيء يشار إليه إشارة حسية أو عقلية بل استعير ليدل على التشبيه وأما السكاكي فجعل المنية في المثال السابق استعارة بالكناية ؛ لأنها استعيرت للسبع ادعاء وجعل التخييلية هي الأظفار على أنها نقلت لصورة وهمية وسيأتي البحث معه في ذلك للمصنف فهذان مذهبان في تفسير الاستعارة بالكناية في نحو :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

__________________

(١) رواه مسلم.

٣٦٠