مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

باعتبار أثرها المترتب عليها ، وهو صعوبة الالتئام بعده وباعتبار السبب الموجب له عادة ؛ لأن التقطيع يفتقر إلى المعاناة والمحاولة في الملتزقات عادة ، بخلاف مجرد التفريق للجماعة وإن كان في الإبعاد صعوبة متعلقة بالأفراد ؛ لأنها لا تتعلق بالمفرق عرفا لصحته عن كلمة أو تخويف ووجه الشبه في الاستعارة يجب أن يكون أقوى في المشبه به ، وإن كانت القوة اعتبارية لا حقيقية لتتحقق الحاجة إلى معنى المبالغة في إدخال المشبه في جنس المشبه به حتى يصح إطلاق لفظه عليه لأن البلغاء استقرئت موارد كلامهم فوجدت جارية على إدخال الأضعف في الجامع في الأقوى فيه بخلاف التشبيه فقد يكون لبيان الحال وشبهه ، ولا يشترط فيه كون أحد الطرفين أقوى ، وقد ورد هنا بحث وهو أن مقتضى ما تقرر أن الجزء الداخل في الماهية يصح أن يكون في بعض أفرادها أقوى منه في بعض آخر لكونه جامعا يجب أن يكون في المستعار منه أقوى وأجزاء الماهية تقرر في علم الحكمة أنها لا تتفاوت ، وأجيب بأن عدم التفاوت إنما تقرر في الماهيات الحقيقية المركبة من الأجناس والفصول التى ظفر بها خارجا ، لا الحقائق النوعية الراجعة إلى حقائق الجواهر فقط أو الأعراض فقط التى أجزاؤها في الذهن مختلفة ، وفي وجودها خارجا متحدة كحقيقة الإنسان والفرس والماهيات التى تفهم من اللفظ لا يجب أن تكون كذلك ، لصحة أن يوضع اللفظ لمفهوم مركب من حقيقتين كالجوهر والعرض مثل الأسود فإنه موضوع لمفهوم مركب من الذات وصفة السواد ، فحيث صح تركيب الماهية المفهومة من اللفظ من حقيقتين جاز أن تكون إحدى الحقيقتين من قبيل المشكك ، وإنما يمتنع كون الجزء الذي لا يستقل في الحقيقة أقوى كجزء الناطقية أو الحيوانية في الإنسان بخلاف الجزء المستقل بكونه حقيقة متقررة خارجا بنفسها ، فيصح أن يكون أقوى في أفراده إذ لا يمتنع تفاوت الحقيقة التامة وإنما يمتنع تفاوت جزئها الذي لا يستقل ، وهذا الجواب قيل إنه على خلاف ما اختاره المحققون من المتأخرين ؛ لأن عدم تفاوت أجزاء الماهية لم يتم دليله ، ولكن هذا القيل لا عبرة به ؛ لأن التحقيق أن تفاوت المشكك لا يصح فكيف بتفاوت الأجزاء ، وذلك لأن ما به التفاوت إن اعتبر في الوضع فاللفظ مشترك وإن لم يعتبر فلا تفاوت فالذي ينبغى أن

٣٠١

يجاب به عن البحث كما أشرنا إليه أن التفاوت في الماهية أو في الجزء يكفى فيه حصوله بأمر يتعلق بالجزء أو بالماهية ، وإن كان خارجيا. والخروج عن هذا دخول في مضيق لا ينفصل عنه إذ مآل الجواب الأول أن التفاوت إنما يقع في الحقائق المشككة إذا دل عليها اللفظ مع غيرها ، وليست حقيقة التقطيع من ذلك ، وإنما فيه التفاوت باعتبار المتعلق كما تقدم فافهم.

ثم ما مثل به من التقطيع إنما يتم إن سلم أن إزالة الاجتماع جنس له وللتفريق كما قررنا ، وأما إن روعى كما يتبادر عرفا أن إزالة الاجتماع لا تقال في الالتزاق ، فلا يتم بل لو قيل في الجامع بين التقطيع وتفريق الجماعة في الأرض إنه هو عدم إمكان الرجوع إلى الحالة الأولى في الالتئام ما بعد ، ويكون الجامع حينئذ خارجا ، وعليه فيكون الأقرب في التمثيل استعارة الخياطة الموضوعة لضم الخرق إلى السرد الموضوع لضم الحلق بجامع ضم أشياء بعضها إلى بعض كما في قوله :

ما كان خاط عليهم كل زراد (١)

فتأمل. ثم إن حاصل ما ذكر نقل اللفظ من نوع إلى نوع آخر يشاركه في الجنس لأجل ذلك الجنس فإن الطيران مثلا نقل على ما تقدم من قطع المسافة بسرعة بالجناح إلى قطعها بسرعة بغيره ، وإن كان الأمر كذلك فلم لا يقال هو مثل نقل المرسن إلى الأنف ؛ لأن المرسن فيه خصوص كونه أنفا غليظا لبهيمة يجعل فيه الرسن ، فنقل إلى أنف الإنسان من حيث وجود مطلق الأنف فيه وإن كان المرسن كالطيران في أن كلا منهما لفظ نقل من أحد المشتركين في الجنس المختلفين في خصوص الوصف فيكون كل منهما مجازا مرسلا لا استعارة ، وإلا فما الفرق؟ وأجيب بأن خصوص وصف كون القطع بالجناح المصحح لقوة الوجه روعى في النقل بمعنى أنا شبهنا العدو به فيما أوجبه من الوصف القوى فنقلنا اللفظ الدال عليه وهو الطيران فكان استعارة والمرسن لم ينقل بعد تشبيه أنف الإنسان به في كونه أنفا واسعا يجعل فيه الرسن (٢) لعدم

__________________

(١) عجز بيت للقطامى فى الإيضاح ص (٢٤٩) ، وصدر البيت : نقريهم لهزميّات نقدّ بها.

(٢) الرسن : الحبل.

٣٠٢

وجدان مثل هذا الشبه فيه وهو في أنف الدابة أقوى كان استعارة والحاصل أن خصوص كون القطع بالجناح الموجب للسرعة الشديدة روعى في التشبيه فألحق به العدو لتلك السرعة فكان الطيران استعارة والغلظ والانبطاح مع استعمال المرسن ، لم يراع في نقل لفظ المرسن ، إذ لم يشبه أنف الإنسان به بل نقل لفظ ذلك الخاص إلى ما هو أعم من غير تشبيه فكان مجازا مرسلا وبالجملة فالطيران والتقطيع مثلا فيما نقل إليه من باب تشبيه نوع مخصوص بنوع مخصوص في وجه ، وهو في أحد الحاصلين أقوى ، والمرسن فيما نقل إليه من باب نقل الخاص إلى الأعم بحيث لا يشعر فيه بالخصوص الذي كان في المنقول عنه المقتضى لاعتبار وجه هو فيه أقوى فليتأمل.

وليس من هذا القبيل نقل الأسد للرجل ؛ لأن الشجاعة التى هى الوجه لم تعتبر في حقيقة المنقول إليه إذ هو الرجل المقيد بالشجاعة لا الرجل والشجاعة ولا في المنقول عنه ؛ لأنها فيه قيد أيضا وقد تقدم ما يفيد هذا.

(وإما غير داخل) هو معطوف على قوله إما داخل أى : الجامع بين الطرفين في الاستعارة إما أن يكون داخلا في مفهومهما وإما أن يكون غير داخل ، وغير الداخل يشمل ثلاثة أقسام :

القسم الأول : ما يكون خارجا عنهما (كما مر) في استعارة الأسد للرجل الشجاع في الجراءة فإنها لازمة للطرفين معا ؛ لأن المستعار منه الأسد المقيد بالجراءة والمستعار إليه هو الرجل المقيد بها ، والقيد خارج عن المقيد كما تقدم ومثل ذلك استعارة الشمس للوجه المتهلل في الاستدارة والإشراق لظهور خروج الاستدارة والإشراق عن حقيقة كل منهما ، كما ظهر خروج الجراءة عن الرجل والأسد وذلك لتحقيق كون المستعار منه في الاستدارة والإشراق ليس هو الشمس مع تلك الاستدارة والإشراق. كما أن المستعار إليه فيهما ليس هو الوجه معهما بل المستعار له هو الوجه المقيد بهما والمستعار منه هو الشمس المقيدة بهما ، وذلك ظاهر بيناه زيادة في الإيضاح.

والقسم الثاني : ما يكون خارجا عن المشبه به فقط ، كقطع المسافة بسرعة في استعارة الطيران بناء على دخوله في مسمى العدو ولزومه لمسمى الطيران.

٣٠٣

والقسم الثالث : يكون خارجا عن المشبه فقط ، كما لو استعير العدو للطيران في جوف الهواء مباشرة بناء على لزومه العدو ودخوله في الطيران ولا يخلو المثالان عن بحث ولا ضرر فيه ؛ لأن المقصود الإيضاح.

تقسيم آخر للاستعارة باعتبار الجامع

(و) نعود (أيضا) لتقسيم الاستعارة باعتبار الجامع تقسيما آخر وهو أنها (إما عامية) يدركها عامة الناس ويصح منهم استعمالها (وهى المبتذلة) لابتذالها أى : امتهانها بتناول كل أحد لها في كل ما أريدت وذلك (لظهور الجامع) بين الطرفين (فيها نحو رأيت أسدا يرمى) بالسهام فإن الأسد استعارة للرجل الشجاع ، والجامع بينهما وهو الجراءة أمر واضح يدركه كل أحد لاشتهار الأسد به ، فكل ما أدرك في الشجاع انتقل منه إلى وجوده في الأسد فيلزم صحة الاستعارة بسببه لكل أحد فكانت مبتذلة (أو خاصية) عطف على عامية أى : إما أن تكون الاستعارة عامية لوضوح وجهها ، وإما أن تكون خاصية (وهي الغريبة) لغرابة الجامعة فيها فلا يطلع عليه إلا الخواص ، وهم الذين أعطوا أذهانا متسعة في المدارك والدقائق ، وفي التفطن للأمور التى من شأنها الخفاء وبتلك الأذهان ارتقوا عن مرتبة العوام في اعتباراتهم ومداركهم (والغرابة) التي تنسب بها الاستعارة إلى الخواص على قسمين : لأنها (قد تكون) حاصلة (في نفس الشبه) بين الطرفين ، وذلك بأن يكون أصل تلك الاستعارة تشبيها في وجهه غرابة من ذاته لكون الانتقال من المشبه به بعد استحضار المشبه ليس ممكنا من كل أحد لخفاء الجامع بينهما بحيث لا يدركه إلا المتسع في الدقائق والمدارك المحيط علما بما لا يمكن لكل أحد وهذا مراد من قال بأن يكون تشبيها فيه غرابة ، وإلا فلا يخفي أن الوجه إن كان واضحا لم يكن التشبيه غريبا (كما في قوله) أى : التشبيه الغريب كالتشبيه الكائن في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف الفرس بأنه مؤدب أدبا ، كأنه يعلم به ما يراد منه حتى إنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه كالمنتظر لربه لا يبرح عن ذلك المكان كما يريد راكبه حتى يعود إليه.

٣٠٤

(وإذا احتبى قربوسه بعنانه) (١) بفتح الراء وربما سكنت للتخفيف وهو مقدم السرج.

علك الشكيم إلى انصراف الزائر

وأراد الشاعر بالزائر نفسه كما دل عليه ما قبله والشكيم بمعنى الشكيمة ، وهى الحديدة المعترضة في فم الفرس المدخلة فيه مجعولا في ثقبتها الحلقة الجامعة لذقن الفرس إلى تلك الحديدة. وقوله قربوسه يحتمل أن يكون هو الفاعل ، باحتبى بتنزيله منزلة الرجل المحتبى فكأن القربوس ضم إليه فم الفرس كما يضم الرجل ركبتيه إلى ظهره بثوب مثلا ، ويحتمل أن يكون مفعولا باحتبى مضمنا معنى جمع. والفاعل على هذا هو الفرس ، فكأنه يقول وإذا جمع الفرس قربوسه بعنانه إليه ، كما يضم المحتبي ركبتيه فعلى الأول ينزل وراء القربوس في هيئة التشبيه منزلة الظهر من المحتبي ، وفم الفرس بمنزلة الركبتين وهذا الوجه ولو كان فيه مناسبة ما من جهة أن الركبتين فيهما شيئان كفكى فم الفرس مع التقارب في المقدار. والقربوس متحدب كوسط الإنسان وخلفه كظهره لكن فيه بعد وبرودة وغموض ، وفيه مخالفة لمقتضى الوجه الثاني الذي يتحقق به قوة المشابهة في الهيئة وظرافة في الاعتبار ؛ وذلك أن الوجه الثاني اقتضى كما أشرنا إليه أن القربوس في الهيئة بمنزلة الركبتين والفم بمنزلة الظهر ومعلوم أن القربوس في الهيئة أعلى ، وكذا الركبتان والفم فيهما أسفل وكذا الظهر. والوجه الثاني لهذا الاعتبار أولى وأسد في تحقق التشابه ، وأوكد في الإلحاق ثم الاحتباء هو المشبه به ، وهو أن يضم الرجل ظهره وساقيه بثوب وشبهه ، والذي نقل إليه لفظ الاحتباء هو إلقاء العنان على القربوس ليضم رأس الفرس إلى جهته. وقد اشتمل كل منهما على هيئة تركيبية ، لاقتضائه محيطا مربعا ومضموما إليه مع كون أحد المضمومين أرفع من الآخر ، ومعلوم أن التركب في الهيئة لا يستلزم تركب الطرفين ، كما تقدم في العنقود والثريا ، ومثل ذلك الاحتباء هنا فلا يرد أن يقال الكلام في الاستعارة الإفرادية والهيئة تقتضي تركيبا في الاستعارة وهذه الهيئة نشأت في التعقل عن إيقاع العنان أو الثوب مثلا في موقعه

__________________

(١) لمحمد بن يزيد بن مسلمة فى الإشارات ص (٢١٦). القربوس : مقدم السرج ، علك : مضغ ، والشكيم : الحديدة المعترضة فى فم الفرس.

٣٠٥

الذي هو القربوس ، وفم الفرس فى الأول والساقان والظهر في الثاني فحيث قلنا في بيان الطرفين شبه هيئة وقوع الثوب موقعه من الظهر والساقين ، بهيئة وقوع اللجام موقعه من القربوس ، وفم الفرس فباعتبار التضمن الذي هو الهيئة ؛ لأن بها يظهر التشبيه وأما نفس الإيقاع العام من غير اعتبارها فلا يتضح فيه التشبيه ، وإنما يظهر باعتبار ما تضمنه واقتضاه وحيث قلنا شبه ضم فم الفرس إلى القربوس ، بضم الساقين إلى الظهر فباعتبار أصل الهيئة المتقررة والمعنى المصدرى الناشئة هى عنه ووجه الشبه هو هيئة إحاطة شىء كالمربع لشيئين ضاما أحدهما إلى الآخر ، على أن أحدهما أعلى والآخر أسفل وهو إيقاع شىء محيط إلى آخر ما ذكر ، ووجه الغرابة في هذا التشبيه أن الانتقال إلى الاحتباء الذي هو المشبه به عند استحضار إلقاء العنان على القربوس للفرس في غاية الندور ؛ لأن أحدهما من وادى القعود والآخر من وادى الركوب ، مع ما في الوجه من دقة التركيب وكثرة الاعتبارات الموجبة للغرابة ، ولذلك جاءت الاستعارة غريبة لغرابة إدراك الشبه (وقد تحصل) هو معطوف على قوله قد تكون أى : (الغرابة) قد تكون في نفس الشبه لبعد إدراك ذلك الشبه بين الطرفين ، وقد تحصل تلك الغرابة لا ببعد إدراك الشبه بين الطرفين لذاته بل (بتصرف في) الاستعارة (العامية) بما أوجب أنها على ذلك الوجه لا يدركها إلا الخواص ، وذلك التصرف هو أن يضم إلى تلك الاستعارة تجوز آخر لطيف اقتضاه الحال وصححته المناسبة وذلك (كما في قوله)

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على دهم المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادى الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

(وسالت بأعناق المطى الأباطح) (١)

والدهم جمع دهماء ، وهى الناقة السوداء والمهارى جمع مهرية ، وهى الناقة المنسوبة إلى مهرة بن حيدان بطن من قضاعة هذا معناه في الأصل ، ثم صار يطلق على كل نجيبة من الإبل والأباطح جمع أبطح وهو مسيل الماء ، فيه دقاق الحصى والدقاق بضم الدال هو الدقيق ، ويحتمل أن يكون بالكسر جمع دقيق يقول : لما فرغنا من أداء

__________________

(١) لكثير عزة فى الإشارات ص (٢١٧) ، وفى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٤٤).

٣٠٦

المناسك في الحج ، ومسحنا أركان البيت لطواف الوداع وغيره وشددنا الرحال وهى ما يحمل على المطايا من الأخبية وغيرها وارتحلنا ارتحال الاستعجال بحيث لا ينتظر السائرون في الغداة السائرين في الرواح للاشتياق إلى البلاد ، أخذنا حينئذ بأطراف الأحاديث بيننا أى : بكرائم الأحاديث أخذا من قولهم فلان من أطراف العرب أى : من كرائمها ويحتمل أن يراد بأطراف الأحاديث فنونها وأنواعها على عادة المتسعين في التحديث ، وفي حال أخذنا بأطراف الأحاديث أخذت المطايا في السرعة في سيرها المعلوم السلسل المتتابع الشبيه بسيل الماء في تتابعه وتداركه وسرعته مع خفاء صوته في الحصباء. وقد استعار لهذا السير السيل الذي هو في الماء أصالة وهذه الاستعارة أعنى استعارة سيل الماء لسير الإبل في الحصباء مبتذلة مطروقة ، كثر استعمالها لكن أضاف إليها في البيت ما أوجب غرابتها ، وهو تجوز آخر وذلك بأن أسند ذلك السيلان الذي هو وصف للإبل في الأصل إلى محله من باب إسناد ما للحال إلى المحل ، إعلاما بكثرته فإن الواقع في المحل إن كثر أسند إلى ذلك المحل لكثرة تلبسه به حتى صار كأنه موصوفه حيث قال : وسالت بأعناق المطى الأباطح. أى : وسالت الأباطح بأعناق المطى وضمن ذلك كون الأعناق في الحقيقة هى السائلة ؛ لأن مقدم تلك الأعناق وهو المسمى بالهوادى فيه تظهر سرعة السير وتثبطه ، وبقية الأعضاء تابعة له وإسناد السير إلى تلك الهوادى الذي تضمنه كلامه تجوز آخر إذ هو من إسناد الشىء إلى ما هو كالسبب فيه إذ الهوادى سبب فهم سرعة السير وعدمها فكأنها سبب لوجوده ، وإنما قلنا ضمن نسبة السير إلى الأعناق ؛ لأن أصل الكلام وسالت الأباطح أعناقا على حد (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) والتمييز في نحو هذا الكلام هو الفاعل. ولكن ربما جر بباء الملابسة ؛ لأن المسند إليه إنما وصف بذلك والوصف بسبب ملابسته لذلك التمييز فإنك تقول : سال الوادي ماء ، وسال بالماء فلما أن أضاف إلى استعارة السيلان هذين التجوزين ، وهما إسناده إلى مكانه لفظا وإسناده إلى سببه ضمنا ، وكل ذلك مناسب تقتضيه حال قصد

__________________

(١) مريم : ٤.

٣٠٧

الكثرة ؛ لأن ذلك هو الواقع وقصد الإشعار بما يظهر به ذلك الوصف كانت الاستعارة غريبة إذ لا يأتي بها مع هذين التصرفين إلا من له ذهن ارتقى به عن العامة.

وإلى هذا أشار بقوله (إذ أسند الفعل إلى الأباطح) أى : وإنما قلنا إنه تصرف في العامية بما صارت به غريبة لأجل أنه أسند في البيت إلى الأباطح الفعل الذى هو سالت ، وفيه وقعت الاستعارة العامية حيث تضمن نقل السيلان إلى السير وإسناده إلى الأباطح ، من إسناد ما للحال إلى المحل لكثرة الملابسة كما قررنا (وأدخل) معطوف على أسند أى : لأجل أنه أسند وأدخل (الأعناق في السير) ؛ لأن التركيب يقتضى كونها هى المسند إليها في الحقيقة ، كما قررنا ولو كانت مجرورة لفظا ويحتمل أن يريد من إدخالها في السير جرها بالباء المقتضية لملابسة الفعل لها. وقد تقدم أن تلك الملابسة مرجعها إلى الإسناد وقد تقدم أيضا أن سبب إدخالها في السير كون هواديها أى مقدمها فيه تظهر السرعة وضدها وسائر الأعضاء تابعة لها ، فيكون إدخالها في السير باعتبار كون التركيب اقتضى أصالة الإسناد لها لأجل كونها كالسيف لدلالتها على حال الحركة والدال سبب لفهم المدلول ، فنزل ذلك منزلة السبب في الوجود فبهذه الاعتبارات والمحل اكتسبت الاستعارة الملابسة له دقة وبهذا يعلم أن المراد بالتصرف أن يضم إليها شىء آخر دقيق فيكون استعمالها في صحبة ما دق غريبا.

أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع :

ثم أشار إلى تقسيم الاستعارة باعتبار الثلاثة فقال : (و) الاستعارة تنقسم أيضا (باعتبار الثلاثة) أعنى المستعار منه والمستعار إليه والجامع بينهما انقساما آخر ، وذلك أن المستعار منه والمستعار له إما أن يكون حسيين معا أو يكونا عقليين معا أو يكون المستعار منه حسيا والمستعار له عقليا ، أو العكس أعنى : أن يكون المستعار له حسيا والمستعار منه عقليا. وقد علم مما تقدم في التشبيه وهو أنه متى كان الطرفان أو أحدهما عقليا ، لم يكن الجامع إلا عقليا لاستحالة قيام الحسى بالعقلى ؛ لأن وجه الشبه المسمى هنا جامعا لا بد أن يقوم بالطرفين ، فإذا كانا أو أحدهما عقليا امتنع قيام الحسى بذلك العقلى منهما أو من أحدهما. والثلاثة الأخيرة من هذه الأقسام الأربعة فيها طرف

٣٠٨

عقلى ، فتعين كون الجامع فيها عقليا ، وأما القسم الأول وهو ما يكون طرفاه حسيين معا فيمكن أن يكون الجامع فيه عقليا كله ، أو حسيا كله ، أو يكون بعضه حسيا ويكون بعضه الآخر عقليا ، فتتصور فيه ثلاثة أقسام أخر. وقد تقدمت أمثلتها في التشبيه فإذا كان في القسم الأول باعتبار الجامع ثلاثة أقسام والأقسام بعده ثلاثة ، فالمجموع ستة أقسام وإلى وجه وجود تلك الأقسام كما بينا وإلى أمثلتها أشار بقوله (لأن الطرفين) أى : إنما قلنا إن هنا ستة أقسام ؛ لأن الطرفين (إن كانا حسيين فالجامع إما حسى) أى : إما أن يكون حسيا لما علم أن الحسى يقوم بالحسيين (نحو) قوله تعالى (فَأَخْرَجَ لَهُمْ) (١) أى لبنى إسرائيل (عجلا) جسدا له خوار (فإن المستعار منه) لفظ العجل (ولد البقرة) المعلومة (والمستعار له) وهو الذي أطلق عليه لفظ العجل في الآية هو (الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حلى القبط) وهم قبيلة فرعون والحلى بضم الحاء جمع حلى بفتحها ، وسكون اللام وذلك أن السامرى ، وهو حداد منسوب لسامرة ، وهو اسم قبيلة كشف له عن أثر فرس جبريل عليه‌السلام فسولت له نفسه أن تراب ذلك الأثر يكون روحا فيما ألقى فيه ، وقد كان بنو إسرائيل استعاروا حليا من القبط لعرس لديهم ، فقال لهم ائتوني بالحلى أجعل لكم الإله الذي تطلبون من موسى يعني حيث قالوا له (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ)(٢) ، فأتوه بذلك الحلى وصنع منه صورة العجل وألقى في فيه ذلك التراب فصار حيوانا بلحم ودم له خوار كالعجل ، فقال هو وأتباعه لبنى إسرائيل هذا إلهكم وإله موسى الذي تطلبون من موسى ، فنسيه هنا وذهب يطلبه وكان ذلك وقت ذهاب موسى ببنى إسرائيل للمناجاة وسبقهم موسى طلبا لرضوان الله تعالى فوقعت هذه الفتنة بأثره كما نص الله تعالى في كتابه العزيز قيل : إن سبب اختصاص السامرى بمعرفة ذلك أن أمه كانت ألقته عام ولد في كهف لينجو من ذبح فرعون إذ كانت ولادته في سنة تذبيح أبناء بنى إسرائيل ، فبعث الله عليه في ذلك الكهف جبريل ليعرفه أثر فرسه وذلك لما قضى الله تعالى عليه من الفتنة ، فالمستعار منه

__________________

(١) طه : ٨٨.

(٢) الأعراف : ١٣٨.

٣٠٩

هنا هو ولد البقرة المعلومة ، والمستعار له هو الحيوان المخلوق من الحلى (والجامع) بينهما هو (الشكل) أى الصورة في الحيوان وولد البقرة إذ شكلهما أى : صورتهما المشاهدة واحدة (والجميع) أى : المستعار منه وإليه والجامع بينهما (إما حسى) أى : مدرك بالبصر كما لا يخفى (وإما عقلى) هو معطوف على قوله إما حسى أى : إذا كان الطرفان حسيين فالجامع إما حسى كما تقدم وإما عقلى ، وإنما صح أن يكون عقليا في الحسيين لما علم من جواز اتصاف المحسوس بالمعقول وذلك (نحو) قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ)(١) (فإن) لفظ نسلخ مشتق من السلخ وهو مستعار من محسوس لمحسوس ؛ لأن (المستعار منه) لفظ السلخ هو معناه المعلوم وهو (كشط الجلد عن لحم الشاة والمستعار له) أى : والذي استعير له لفظ السلخ المأخوذ منه نسلخ هو (كشف الضوء) أى : إزالته (عن مكان) ظلمة (الليل) والمراد بمكان الظلمة الهواء ، أو المقدار الذي تكون فيه الظلمة من الزمان وإنما قدرنا الظلمة قبل الليل ؛ لأن الليل عبارة عن الزمان المخصوص وهو الذي يتوهم كونه مكانا للظلمة ولا يتوهم له من حيث إنه زمان مكان آخر إلا بتكلف ، ويحتمل أن يكون أطلق الليل على الظلمة نفسها (وهما) أى : المستعار منه وله وهما كشط الجلد وكشف الضوء (حسيان) باعتبار متعلقهما وذلك كاف في حسيتهما وإلا فهما مصدران ، كل منهما عبارة عن تعلق القدرة بالمقدور ، وهو أمر عقلى ثم حسية الضوء والظلمة بناء على أن الأول أجرام لطيفة تتصل بجرم الهواء ، أو بجميع الأجرام الحسية بحيث توجب إبصارها عادة والثاني أجرام كذلك توجب عدم الإبصار لما اتصلت به وعليه يكون المراد بالمكان الهواء كما تقدم أو الأجرام الموجودة في زمن الليل والنهار على وجه التوسع. وأما إن قلنا إن الضوء كون الأجرام بحيث ترى لاتصال الأجرام اللطيفة الإشراقية بها والظلمة رفع ذلك فالظلمة عقلية وإنما حسيتهما باعتبار أن مقابلها المحسوس تدرك عند انتفاء إبصاره فكأنها لما نشأ إدراكها عند انتفاء الإحساس محسوسة ، وما قيل في الظلمة يقال في الظل على أن كون الضوء مبصرا بنفسه لا يخلو من توسع ضرورة. وإنك لا تستطيع أن

__________________

(١) يس : ٣٧.

٣١٠

تزعم أنك أبصرت الأجرام اللطيفة بنفسها ، بل أبصرت بها كما يبصر بأشعة العين في زعم المعتزلة من غير رؤيتها بنفسها (والجامع) بين الطرفين المذكورين الحسيين عقلى ، إذ هو (ما يعقل من ترتب أمر على آخر) فإن في كل منهما ترتب أمر على آخر إذ في الأول ترتب ظهور اللحم على كشط الجلد أى : إزالته عن اللحم ، وفي الثاني ترتب ظهور الليل أى : ظلمته على كشف ضوء النهار عنه. وإنما نسب الكشط إلى الضوء ؛ لأن الظلمة أصل الحادث إذ عدم ظهوره أصل ، وإنما يطرأ الضوء عليه فالضوء ظاهرى طارئ على الظلمة كالجلد طارئ على أصل عظام الشاة ظاهرى ثم الترتب المذكور إذا كان معناه حصول أمر عقب حصول آخر دائما ، وغالبا فلا ينافي أن يكون حسيا ؛ لأن الحاصل إن كان موجودا حسيا كالجرم قبل هذا الحصول ، فحصوله بعد آخر يكون معناه حصول سكونه أو حركته بعد سكون أو حركة آخر ، والسكون والحركة حسيان. وإن كان معدوما فحصوله وجوده والوجود باعتبار متعلقه حسى ، وذلك كاف في الحسية. وكونه عقليا باعتبار كونه كليا لا يوجب الخروج عن الحسية ؛ لأن الجامع بهذا الاعتبار حسى كله وجعله عقليا باعتبار أن الحاصل ظهور اللحم عن الكشط وظهور الظلمة عن كشف الضوء والظهور يرجع إلى الإبصار ، وهو عقلى يرد عليه أن الظهور حسى باعتبار الظاهر فتأمل.

ثم قوله ترتب أمر على آخر إن روعى في الترتب مطلقه من غير رعاية نسبة إلى الجامع بين الكشط والكشف كان قولنا دائما أو غالبا إشارة إلى المذهبين ، في ترتب النتيجة على الدليل إذ قيل إن الترتب فيها عقلى لا يتخلف فيكون ترتبها دائما وقيل ليس ترتبها عقليا فيكون غالبيا ولكن هذا خروج عما يناسب الحالة الراهنة ، مع أن المذهب الثاني لا ينافي الدوام كما لا يخفي وإن روعى فيه الحالة الراهنة كان الدوام والغلبة إشارة إلى أن الكشط لا يستلزم ترتب ظهور اللحم كما إذا أزيل التزاق الجلد بعود مثلا مع بقائه ساترا بناء على أن الكشط إزالة الالتزاق أو كشط ليلا ، ثم إن مقتضى ما ذكر المصنف بل صريحه كما تقدم أن المشبه الذي استعير له السلخ هو كشف الضوء عن الليل والمستعار منه هو كشط الجلد عن الشاة ومقتضاه أن الساتر

٣١١

هو الضوء ، والمستور ـ الظاهر بعد إزالة الضوء هو ـ الظلمة كما أن الساتر في جانب المشبه به هو الجلد ، والمستور هو اللحم وبيان ذلك التشبيه المقتضى لما ذكر أن الظلمة كما تقدم هى الأصل ؛ لأن مرجعها إلى عدم الظهور وعدم ظهور الحادث سابق على ظهوره والنور طارئ عليها فهو يسترها أى : يزيلها بضوئه أى : بإشراقه ، وهو كونه بحيث يظهر به ما اتصل به والنور سببه العادى هو الشمس فإذا وجدت وجد وطرأ على الظلمة وإذا غربت ذهب النور عن الظلمة ووضحت الظلمة ، فصار ذهابه لاستعقابه ظهور مستور بمنزلة كشط الجلد عن الشاة إذ الجلد ساتر ولحمها مستور يستعقب ظهوره بعد الإخفاء كشط الجلد عنه ، كذهاب الضوء ، وإذا كانت الظلمة هى الآتية عقب ذهاب نور النهار المستعار له كشط الجلد عن الشاة لأنه كهو في استعقاب مستور هو لحم الشاة في الثاني والظلمة في الأول صح بعده فإذا هم مظلمون ، ولا يقال ذهاب الضوء لا يتأخر عنه ظهور الظلمة حتى يكون عقبه ؛ لأنا نقول ذهاب الضوء وظهور الظلمة مفهومان مختلفان. وهب أنهما حصلا في وقت واحد وتحققا معا كتحقق نفى العدم مع وجود الحادث ، لكن لما تعقل أحدهما تعقل الثاني مرتبا عليه في الإدراك نزل ذلك منزلة الترتب الزماني ، ولما لم تكن هناك مهلة صلحت الفاء في المترتب ولا يقال ذهاب الضوء مشعر بوجود الظلمة ، فهب أن بينهما ترتبا عقليا يصح به وجود الفاء ولو اتحد زمانهما في الخارج لكن إشعار الذهاب بالظلمة ينافي المفاجأة ، لاقتضائها عدم خطور المفاجأة كما تقتضى أنه مما له خطر ؛ لأنا نقول فن البلاغة مبنى على تحقق أو نزل منزلة المتحقق فعظمة أمر الليل وعمومه أوجبت تنزيله منزلة ما لا يخطر بالبال ، فإن الشىء إذا عظم خطره يقال بدا لي منه أمر لا يخطر بالبال على وجه المبالغة ، ولو خطر ذلك الأمر بالبال فالمفاجأة نقول على هذا استعملت فيما من شأنه أن يخطر تنزيلا له منزلة ما لا يخطر لعظمته وعزة شأنه. فعبارة المصنف فيما اقتضته على هذا لا يرد عليها شىء ؛ لأن الواقع بعد المستعار له هذا الإظلام وهو صحيح عليها إذ المستعار له عنده هو ذهاب الضوء عن مكان الليل والواقع بعده هو الإظلام على ما قررنا.

٣١٢

وأما عبارة السكاكي حيث قال : إن المستعار له هو ظهور النهار من ظلمة الليل ففيها إشكال ؛ لأن السلخ على هذا وهو المستعار قد أطلق على ظهور النهار من ظلمة الليل ، والواقع بعد ظهور النهار بعد خفائه من ظلمة الليل هو الإبصار لا الإظلام ، وقد يؤول التوفيق بين كلام السكاكي والمصنف بأوجه (أحدها) أن ظهور النهار إنما يحصل بظهور جميع أجزائه ولا يكون ذلك إلا بظهور آخر جزء منه وبوجود لحظته يقع الغروب فيكون الواقع بعد ظهوره جميعا هو الإظلام فيعود كلامه لكلام المصنف وفيه أن النهار هو انتشار جميع أجزاء الضوء المخصوص ، وقد وجد ذلك عند الطلوع ولم يوجد إظلام والمقدر الذي استمر فيه ذلك الضوء كأزمان كل حادث فإن الحادث يوجد بجميع أجزائه ، فإذا انعدم بعد استمراره لا تجعل لحظة عدمه من أجزائه ، فكما تعقل هذا في حادث غير النهار فكذلك النهار وهذا ظاهر على أن المراد بالنهار الضوء وهو الأقرب (وثانيها) أن الكلام على وجه القلب والتقدير ظهور ظلمة الليل من النهار والواقع بعد ظهور الظلمة بعد خفائها من النهار ، وهو الإظلام وفيه أن القلب لم يتضمن اعتبارا لطيفا فهو كالغلط ، ولم يظهر هنا اعتبار لطيف وذلك كاف في قبحه (وثالثها) أن المراد بالظهور التمييز ومن بمعنى عن ، والمعنى أن المستعار له تمييز النهار عن ظلمة الليل والواقع بعد تمييز النهار عن ظلمة الليل هو الإظلام ويرد عليه أنه إن أريد بالتمييز إزالة النهار عن مكان الليل بإعدامه في مرأى العين فهو الوجه الرابع على ما سنذكره ، وإن أريد تمييزه عنه مع بقاء وجوده في مكان الليل فهو فاسد ، إذ لا يجتمعان وتمييزه عن حال كونه موجودا في مكان آخر هو الذي نعنى بعدمه في مكان الليل فلم يبق لهذا الثالث معنى مستقل صحيح تأمله. والوجه الرابع أن المراد بالظهور الزوال كما في قول أبي ذؤيب.

وعيرها الواشون أنى أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (١)

__________________

(١) البيت لأبى ذؤيب الهذلي فى شرح أشعار الهذليين ص (٧٠) ، والتنبيه والإيضاح (٢ / ١٥٩) ولسان العرب (٤ / ٥٢٧) (ظهر).

٣١٣

أى : زائل عنك عارها ، والشكاة الشكية يقال شكى شكية وشكاة إذا توجع بعضو من أعضائه فكأنه يقول وتأذيك بما ذكروا مجرد أذى لا عار عليك فيه ، وكذلك قوله :

وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر.

أى : زائل ، وريطة اسم امرأة وإذا كان الظهور بمعنى الزوال فالواقع بعد زوال النهار عن الليل هو الإظلام.

وهذه الوجوه كلها إذا تمت ردت كلام السكاكي إلى كلام المصنف كما لا يخفى ، والشارح العلامة وجه كلام السكاكي بما لا يحتاج به إلى رده لكلام المصنف ، وبما يقتضى أن عدم رده لكلام المصنف أرجح فذكر أن السلخ قد يكون بمعنى النزع مثل قول القائل سلخت الإهاب عن الشاة أى : نزعته عنها وهو الذي اعتبر المصنف النقل عنه ؛ لأنه قال استعير من كشط الجلد أى نزعه ، ومعلوم أن الذي يناسب أن ينقل إليه حينئذ هو إزالة الضوء ولذلك قال استعير لكشف الضوء ، وإنما قلنا هو المناسب ؛ لأن متعلق كل منهما سائر لما يخرج بعد زواله ، ولا يناسب نقله للظهور بعد الخفاء كما لا يخفى. ثم قال وقد يكون بمعنى الإخراج كما يقال سلخت الشاة عن الإهاب والذي يناسب أن ينقل إليه إظهار ما ستر بغيره وهو الذي اعتبره السكاكي في هذه الاستعارة ولا يخفى أنه لا يناسب أن ينقل لإزالة الساتر وإذهابه بل لإخراج المستور وما ذكره العلامة يتم إن صح لغة في كل منهما على الأصل وإلا فيدعى أنه في أحدهما من باب القلب وأنه مثلا للنزع دائما فقول القائل : سلخت الشاة عن الإهاب قلب فعلى الأول يعقبه ظهور الإظلام فناسب الفاء في (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) حقيقة ، وعلى الثاني يحتاج إلى إبداء لطيفة في صحة الفاء ؛ لأن الذي يكون عقب إظهار النهار من الليل وإخراجه منه الذي شبه بإخراج الشاة من الإهاب هو الإبصار ووجه ذلك أن الليل لما كان عمومه جميع الأقطار أمرا مستعظما كان المتبادر أن لا يحصل إلا بعد مضى مقدار النهار بأضعاف ، ولما جاء عقب ظهور النهار ومضى زمانه فقط ولم يحصل بعد ما ينبغي له فيما يتبادر نزل منزلة ما لم يحل بينه وبين ظهور النهار

٣١٤

شىء ؛ لأن وجود ما لا يكون شأنه أن يحول كعدمه بالنسبة لتلك الحياة ، فعبر بالفاء ولا شك أن اعتبار التعاقب كما لم يحصل فيه للإشعار بعظمة أمره وأنه مما ينبغي أن لا يكون إلا بعد أضعاف أوقات ذلك الشىء كما في الليل مع النهار ، مما يستبدع فحسنت الفاء المشعرة بالمعاقبة المشار بها لهذه اللطيفة وقد علم أن هذا الوجه يقتضى أن الإظلام بعد الفعل الذي هو إظهار النهار ، ولا شك أن إظهار النهار لا يشعر بالليل ولا يترتب عليه بلا مهلة لوجود المهلة حسا وإنما انتفت بالاعتبار السابق.

ومعلوم أن المفاجئ هو الآتي من غير ترقب ويستعظم أمره غالبا والإظلام هو الذي أتى بلا ترقب وهذا مستعظم وإنما لم يترقب الليل ؛ لأن إظهار النهار لا يشعر به فحسنت إذا الفجائية هنا على هذا الوجه لاقتضائها أن الإظلام جاء من غير ترقب وحسنت الفاء مع ذلك كما تقدم. وأما الوجه الأول فالفاء فيه ظاهر أمرها باعتبار الترتب العقلى كما تقدم والمفاجأة تحتاج أيضا إلى تأويل وقد بيناه فيما تقدم ، وإنما احتاجت ؛ لأن إزالة الضوء يعلم منه وجود الإظلام فلا يؤتى فيه بما يقتضى المفاجأة ألا ترى إلى قولك كسرت اللبنة لا يصح أو لا يحسن فيه أن يقال فإذا هى منكسرة ؛ لأن الانكسار يشعر بالكسر ؛ لأنه مطاوعة وهو حاصل بحصوله فكذا إذهاب الضوء يشعر بالإظلام ، حتى كأنه مطاوعة ويحصل معه فلا تحسن فيه المفاجأة وإنما لم نقل لا تصح لإمكانها بالتأويل السابق الذي قد يدعى فيه أنه تكلف. فقد ظهرت بهذا صحة كلام السكاكي من غير حاجة للرد إلى كلام المصنف وترجحه بصحة المفاجأة فيه بلا تكلف والفاء فيه للاعتبار اللطيف.

ولقائل أن يقول المفاجأة في الوجه الأول اعتبرت للطيفة السابقة كما قررناها في تفسير كلام المصنف ولا نسلم وجود التكليف فيه أصلا والفاء فيه كذلك والمفاجأة في الثاني تصح بلا تأويل والفاء فيه تحتاج لما تقدم ، فاعتدل الوجهان في وجود الاعتبار اللطيف في الفاء فيهما بأن اعتبر في الأول الترتب العقلى كالحسى وفي الثاني المهلة كعدمها وزاد الأول بالاعتبار اللطيف في المفاجأة ، وعليه فالوجه الأول أرجح تأمله.

٣١٥

(وإما مختلف) عطف على قوله إما حسى أى : إن كان الطرفان حسيين فالجامع إما حسي كله أو عقلى كله ، أو مختلف بعضه حسى وبعضه عقلى ، وإنما يتأتى الاختلاف عند التعدد وذلك (كقولك رأيت شمسا وأنت) أى : والحال أنك (تريد) بلفظ الشمس (إنسانا كالشمس) وتعتبر أنك إنما استعرت الشمس لذلك الإنسان بعد تشبيهه به (في) وصفين (حسن الطلعة) أى : حسن الوجه وسمى الوجه طلعة ؛ لأنه هو المطلع عليه عند الشهود والمواجهة ، وقد تقدم أن الحسن يرجع إلى الشكل واللون وهما حسيان فيكون حسن الطلعة المعتبر في التشبيه حسيا (ونباهة الشأن) أى : ارتفاع الشأن عند النفوس ، وعلو الحال في القلوب وهذه النباهة يحتمل أن يراد بها العزازة التى تحدث في النفوس بسبب حسن الطلعة وجمال المنظر فتكون لازمة للوصف قبلها ، ويحتمل أن يراد بها العزازة الحاصلة بأوصاف أخرى توجب ارتفاع الصيت وشهرة الذكر والوضوح عند العام والخاص ، والارتفاع على الأقران وتلك الأوصاف مثل الكرم والعلم والنسب وشرف القدر فتكون مستقلة عن حسن الطلعة وبكل تقدير فهى عقلية إذ لا يخفى أنها بمعنى استعظام النفوس لصاحبها ، وكونه بحيث يبالى به لرفعته وذلك أمر غير محسوس فمجموع هذا الجامع بعضه الأول حسى وبعضه الثاني عقلى ومن اعتبر أن نقل اللفظ يصح بكل منهما على الانفراد جعل هذا القسم استعارتين أحدهما : بجامع حسى والأخرى بجامع عقلى فأسقط عده في هذه الأقسام لعوده إلى الجامع العقلى أو الحسى. ومن اعتبر صحة النقل باعتبارهما عده كالمصنف وهو الحق كما عد التشبيه (وإلا) يكن الطرفان حسيين فهو وجوابه معطوفان على قوله فإن كانا حسيين عطف الجمل وجوابه قوله (فهما) أى : إذا لم يكن الطرفان حسيين فذانك الطرفان حينئذ (إما عقليان) معا ويلزم أن يكون الجامع بينهما عقليا لعدم صحة قيام المحسوس بالمعقول كما تقدم ثم مثل للمعقولين فقال (نحو) قوله تعالى حكاية عن قول الكافرين يوم القيامة (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (١) والمرقد يحتمل أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الرقاد ، ويحتمل أن يكون اسم مكان أى مكان الرقاد فإن أريد الأول فلا شك أن

__________________

(١) يس : ٥٢.

٣١٦

المستعار منه الرقاد وتكون الاستعارة أصلية ، وإن أريد الثاني فالاستعارة في المشتقات لمصادرها ، وإن كانت أسماء الأماكن ؛ لأن تلك المعاني المشتق من ألفاظها هى القيود المهتم بها في المشتقات ، وأما الذوات الملابسة لها فقد أخذت فيها على وجه العموم وسيأتي زيادة بيان لهذا في المشتقات ، وإذا كانت المصادر هى المقصودة بالذات في المشتقات فالتشبيه فيها ينبغى أن يكون هو المعتبر فعليه أيضا تكون الاستعارة من المصدر أصلا وإن كانت في المرقد الذي هو اسم المكان على وجه التبعية ويشملها قوله (فإن المستعار منه الرقاد) أى : النوم فإن أريد المرقد المصدر فأصلية كما تقدم ، وإن أريد المكان فقد اعتبر أصلها لما تقدم ، ولهذا عبر بالرقاد وإن كانت في المرقد تبعا (والمستعار له الموت) على الأول أصالة وعلى الثاني باعتبار الأصل وباعتبار التبعية القبر الذي هو المكان لتقرر دوام معنى الموت (والجامع) بين الموت والنوم (عدم ظهور الفعل) مع كل منهما (والجميع) من الموت والنوم وعدم ظهور الفعل (عقلى) أما الموت وعدم الظهور فأمرهما واضح ، وأما النوم فالمراد انتفاء الإحساس الذي يكون في اليقظة لا آثار ذلك من الغطيط وانسداد العين مثلا ، ولا شك أن انتفاء الإحساس المذكور عقلى وورد على كون الجامع عدم ظهور الفعل أنه في الموت الذي هو المستعار له أشد ، ومعنى أشدية العدم لزومه للموت وعمومه في الأفعال بحيث لا يظهر فعل معه أصلا ومن لزومه أنكر ضعفاء العقول صحة أصل الأفعال بعد الموت ، وهو الحياة بخلاف النوم فإن الفعل معه موجود في الجملة ، وإنما تسلط العدم فيه على الأفعال التى يعتد بها وهى الاختيارية التى تقصد لأغراضها ، ولم يعتد بغيرها لعدم الفائدة مع قلتها ولذلك صح نفى الأفعال عن النوم ولم يعتبر الفعل الملازم للنوم كالتنفس فإذا علم أن عدم الأفعال في النوم ولو صح باعتبار الاختيارية المذكورة هو في النوم الذي هو المستعار منه أضعف لم يصح أن يكون جامعا لما تقرر ، وتقدم من أن الجامع يجب أن يكون في المستعار منه أقوى وشرط كون الجامع في المستعار منه أقوى هو المشهور نظرا إلى أن الاسم المنقول إنما ينقل بتأويل أن المشبه داخل في جنس المشبه به فيكون هنا فردان متعارف وغيره ، والمعنى المعتبر للإدخال هو الذي يجعل كالجنس لهما وكأن الاسم وضع له والأعرفية في أحد

٣١٧

الفردين تقتضى أن يكون له أقوى ولو في تلك الأعرفية به وعلى هذا يتضح ورود ما ذكر إلا أن يجاب بشهرة عدم الفعل في النوم لكثرة شهوده كذا قيل وفيه ضعف ؛ لأن عدم الفعل في الموت كالضرورى بخلاف النوم ، وقيل : يشترط كونه أقوى نظرا إلى أنه يكفى في أعرفية أحد الفردين كونه بالاسم أشهر ، وإن كان الجامع الذي جعل كالجنس لها متساويا أو أضعف في المشهور بالاسم كما لا يشترط كون الوجه في التشبيه أقوى ، وعليه فينتفى ورود البحث لكن هذا ينافي ما اشتهر أن الاستعارة مبنية على المبالغة في التشبيه حتى كأن الأول نفس الثاني في المعنى فإن هذا يقتضى أن المعنى الملحق به هو في أحد الطرفين أقوى ليحتاج إلى المبالغة في الإلحاق والتسوية في المعنى ؛ لأنه إنما يقال بالغ في كذا إذا أنهاه إلى ما هو أكمل ، فالمبالغة في التشبيه توجب إبلاغ المشبه لما هو أكمل ولا مبالغة لغير هذا المعنى الذي ذكرنا إذ لا مبالغة تحصل بغير اعتبار المعنى الملحق به وبغير اعتبار كماله في المشبه به ، وأيضا لا يقع نقل الاسم حتى يعتبر الجامع كالعلة في التسمية والعلة في المنقول عنه أقوى وأشهر فتأمله وعلى وروده يجعل الجامع بين الرقاد والموت هو البعث بناء على أنه موضوع للقدر المشترك بين الإيقاظ والنشر بعد الموت ، وذلك القدر هو رد الإحساس المعهود في الحياة وأما إذا قيل إنه مشترك أو هو في الإحياء بعد الموت حقيقة شرعية ، فلا يصح كونه جامعا لعدم وجود معناه في الطرفين معا وعلى أنه هو الجامع بناء على ما ذكر لا يرد فيه البحث السابق ؛ لأنه في النوم أقوى في الشهرة وأظهر إدراكا ولذلك لا ينكره أحد وإن كان معناه في الموت أقوى في المتعلق ؛ لأنه رد الحياة وإحساسها وفي النوم رد الإحساس فقط ، وإذا كان الجامع هو البعث لوجوده في الطرفين ، لم يجعل قرينة على الاستعارة كما قيل بناء على أن الجامع عدم الفعل ؛ لأن الجامع لا يكون قرينة لاشتراكه وإنما القرينة كون هذا كلام الموتى بعد البعث مع قولهم هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ؛ لأن الذي وعد الرحمن وصدق فيه المرسلون وأنكره القائلون أولا هو البعث من الموت لا الرقاد الحقيقي (وإما مختلفان) عطف على قوله إما عقليان أى : إذا لم يكن الطرفان حسيين فهما إما أن يكونا عقليين معا كما تقدم ، وإما أن يكونا مختلفين بأن يكون أحدهما

٣١٨

عقليا والآخر حسيا ، وهما حينئذ قسمان ؛ لأنهما إذا اختلفا فإما أن يختلفا (والحسى) أى : والحال أن الحسى (هو المستعار منه) والعقلى هو المستعار له (نحو) أى : كالطرفين في الاستعارة في نحو قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(١) ف) إن الصدع استعارة طرفاها مختلفان ، والمستعار منه حسى ل (أن المستعار منه) لفظ الصدع الذي اشتق منه اصدع هو (كسر الزجاجة) ونحوها مما لا يلتئم بعد الكسر (وهو) أى : وذلك الكسر (حسى) باعتبار متعلقه ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن الكسر عبارة عن تعلق القدرة بالفعل الذي هو تفرق الأجزاء على الوجه المذكور والتفرق حسى في موصوفه بخلاف تعلق القدرة به فهو عقلى ، ولكن يعدون الوصف حسيا باعتبار متعلقه (والمستعار له هو التبليغ) أى : تبليغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أمر بإبلاغه بإسماعه المبعوث إليهم وبيانه لهم (والجامع) بين الكسر والتبليغ (التأثير) في متعلقهما ، وذلك أن التبليغ في الحقيقة بيان المبلغ والكسر تفريق أجزاء المكسور وهو في الزجاجة مصحوب بمعنى هو عدم صحة الالتئام. وقد اشتركا في التأثير أما في التبليغ فلأن المبلغ أثر في العلوم المبلغة ببيانها ، وأما في الكسر فظاهر والمراد بالتأثير تأثير خاص وهو الموجب لكون المؤثر فيه لا يعود إلى الحالة الأولى ، وهو أمر مشترك بين الطرفين أعنى تأثيرا لا يعود معه المؤثر فيه إلى الحالة الأولى وهو في كسر الزجاجة أقوى وأبين ، وبيانه فيهما أن التبليغ فيه تأثير هو بيان لا يعود المبين معه إلى الخفاء بوجه والكسر فيه تأثير هو كسر لا يعود المكسور معه إلى الالتئام ، ولذلك يقال في تفسير اصدع أبن الأمور إبانة لا تنمحى أى : لا تعود إلى الخفاء كما أن كسر الزجاجة لا يكون معه التئام والأقرب أن هذا الجامع داخل في الماهية لدخول التأثير في مفهوم كل منهما ؛ لأنه في التبليغ تأثير هو البيان المذكور ، وفي الكسر تأثير هو التفريق المذكور فتأمل فإن الموضع سهل دقيق.

(وهما) أى : الطرف الذي هو التبليغ والجامع الذي هو التأثير (عقليان) فإن قيل : التبليغ إسماع فهو حسى باعتبار المتعلق قلت المراد تبليغ المعاني ببيانها والبيان هو الإتيان بما يتبين من غير تقييد بكونه حسيا ، ومعلوم أن ذلك الإتيان عقلى ؛ لأنه عبارة

__________________

(١) الحجر : ٩٤.

٣١٩

عن إيجاد شىء يبين من عبارة أو إشارة أو فعل فهو في أصله عقلى وإن كانت مصادقه حسية ؛ لأن المصادق إذا تعددت وقصد القدر المشترك بينها لا يكون ذلك المقصود بها حسيا إذا لم يقصد القدر المشترك ليتأتى الجمع به من حيث إنه كلى ، كما في سائر الجوامع وإنما قصد لذاته فصار عقليا تأمله ، ثم الصدع بمعنى الشق لا يتعدى بالباء فالباء في اصدع بما تؤمر لا تخلو من تجوز ، بأن يضمن الصدع معنى يتعدى بالباء كالجهر بالشىء والبوح ببيانه والتصريح به وما أشبه ذلك.

(وإما عكس ذلك) أى : إذا اختلفا فإما أن يختلفا ، والحسى هو المستعار منه كما تقدم أو يكون العكس وهو أن يختلفا والحسى المستعار له (نحو) أى : وذلك كالطرفين في الاستعارة في نحو قوله تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) ف) (١) إن طغى مشتق من الطغيان ، وهو استعارة أحد طرفيها عقلى وهو المستعار منه والآخر حسى ، وهو المستعار له وذلك ل (أن المستعار له) أى : لأن الذي استعير له لفظ الطغيان وأخذ منه طغى هو (كثرة الماء و) كثرة الماء مرجعها إلى وجود أجزاء كثيرة ، وهى مشاهدة ف (هو) أى : فهذا الطرف الذي هو كثرة الماء (حسى) فإذا كانت الكثرة وجود أجزاء كثيرة للماء فالوجود للأجرام حسى باعتبار ذاتها (والمستعار منه) أى : والذي استعير منه لفظ الطغيان هو (التكبر) والتكبر عبارة عن عد المتكبر نفسه كبيرا ذا رفعة إما مع الإتيان بما يدل عليها أو باعتقادها ولو لم تكن (وهو) بهذا الاعتبار (عقلى) بخلاف ما إذا اعتبرت آثاره (والجامع) بين التكبر وكثرة الماء (الاستعلاء المفرط) أى : الزائد على الحد (وهما) أى : وهذا الطرف الذي هو التكبر والجامع (عقليان) أما عقلية التكبر فظاهرة من تفسيره وأما عقلية الاستعلاء فقيل لأن المراد به طلب العلو وهو عقلى ، وأما لو أريد به العلو فهو حسى في الماء فلا يشترك فيه وفيه نظر ؛ لأن الطلب الحقيقي في الماء فاسد يتعين أن يراد به الذهاب في الارتفاع في الجو وهو حسى بل كونه عقليا من جهة أن المراد به العلو المفرط في الجملة أى : كون الشىء بحيث يعظم في النفوس إما بسبب كثرة كما في الماء وإما بسبب وجود الرفعة

__________________

(١) الحاقة : ١١.

٣٢٠