مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

والأسد ، كان مجازا في الرجل الشجاع ؛ إذ لم يوضع له عموما ولا خصوصا ، وكونه لم يوضع لما ذكر مسلم بالإجماع من أهل اللغة.

وقد تقرر بهذا أن اللفظ الموضوع للمعنى الأعم إذا استعمل فيما يوجد فيه ذلك الأعم من حيث ذلك الأعم ؛ أي : ليشعر فيه ذلك الأعم ويدل عليه فيه كما وضع له فهو حقيقة ، فإذا قلت : رأيت إنسانا وأردت بالإنسان زيدا ؛ ولكن من حيث إنه إنسان ، لا من حيث إنه زيد ؛ أي : شخص مسمى بهذا الاسم مستعمل على الإنسان فإنه يكون حقيقة ، وكذا قولك : رأيت رجلا تريد زيدا من حيث وجود الرجولية فيه فإنه يكون حقيقة ، ولو استعلمت العام في الخاص من حيث خصوصه ؛ أي : للإشعار بخصوصه ، وجعلت ارتباطه بمعنى العام الموجود فيه واسطة للاستعمال ، وجعلت إطلاق اللفظ من استعمال لفظ الأعم في الأخص بسبب ملابسة الأعم للأخص في الجملة كان مجازا ، ومن ثم كان العام الذي أريد به الخصوص مجازا عند الأصوليين قطعا ، فكذا المتواطئ إذا استعمل في الفرد ليدل على خصوصه ؛ أي : من غير قصد إشعار بالأعم فيه ، ولا يضر في التجوز عدم إشعار الأعم بالأخص ، وعدم استلزامه إياه من حيث خصوصه لأنه تقدم أن الملازمة في الجملة تكفي في التجوز ؛ ولذلك يستعان على الفهم بالقرينة ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في بحث التعريف باللام.

والحاصل أن استعمال الأعم في الأخص من حيث العموم ؛ أي : ليفهم منه في ذلك الأخص معناه الأعم حقيقة ؛ إذ لم يستعمل اللفظ إلا في معناه العام الذي وضع له وصدق اللفظ عند الاستعمال على ذلك الخاص المفهوم بالقرينة لا يضر في كونه حقيقة لأن خصوصه لم يقصد نقل اللفظ له للعلاقة والالتباس بينه وبين الأعم وإنما يكون مجازا إذا قصد من حيث خصوصه ودلت القرينة على قصد النقل بخصوصه للعلاقة فتأمله ، ليندفع به ما يتوهم من أن إطلاق لفظ العام على الخاص مشكل إذ منه قولنا مثلا رأيت رجلا تريد به زيدا وقد عدوه في الحقيقة مع أنه استعمل في غير ما وضع له ووجه الدفع ظاهر ؛ لأنه استعمل في زيد ليفهم منه معناه العام الموجود في زيد ، وفهم الخاص بالقرينة من غير قصد نقل اللفظ له لا يضر في كونه حقيقة وذلك ظاهر (وقيل : إنها)

٢٨١

أي الاستعارة بمعنى أن الكلمة المسماة بالاستعارة قيل : إنها (مجاز عقلي) ولما كان في تحقق كونها مجازا عقليا غموض أشار إلى ما يعنيه القائل من سبب التسمية بالعقلي بقوله (بمعنى أن التصرف) الواقع لمن نطق بتلك الاستعارة إنما هو (في أمر عقلي) ويلزم من كون التصرف في أمر عقلي كون التصرف نفسه عقليا ، ولو عبر به كان أظهر ، والأمر العقلي المتصرف فيه هو المعاني العقلية ، والتصرف فيها هو جعل بعضها نفس الآخر ، ولو لم يكن كذلك في نفس الأمر وإدخال بعضها تحت جنس غيرها على وجه التقدير والاعتقاد الباطل وحسنه وجود المشابهة في نفس الأمر (لا) في أمر (لغوي) وهو اللفظ بمعنى أن المتكلم لم ينقل اللفظ إلى غير معناه وإنما استعمله في معناه بعد أن تصرف في تلك المعاني وصير بعضها نفس غيرها كما ذكرنا وبعد تصيير المعنى معنى آخر جيء باللفظ أو أطلق على معناه بالجعل ، ولو لم يكن معناه في الأصل.

وجعل ما ليس بواقع واقعا في التقدير والاعتقاد المبني على مناسبة المشابهة أمر عقلي وإليه أشار بقوله (لأنها) أي : لأن الكلمة المسماة بالاستعارة (لما لم تطلق على المشبه) الذي لم توضع له في الأصل (إلا بعد ادعاء دخوله) أي : دخول ذلك المشبه (في جنس المشبه به) بحيث تصير حقيقة المشبه بها الموضوع لها اللفظ شاملة للمشبه بإدخاله في جملة أفراده بالادعاء العقلي وبالاعتقاد التقديري المبني على المشابهة ؛ فالأسد مثلا لما لم يطلق على الرجل الشجاع حتى جعل فردا من أفراد الأسد بالادعاء (كان استعمالها) أي استعمال الكلمة المسماة بالاستعارة في المشبه (استعمالا فيما وضعت له) ضرورة أن العقل صيره من أفراده التي وضع لحقيقتها ؛ فتصير مستعملة فيما وضعت له كسائر أفراد الحقيقة الواحدة ، لا فيما لم يوضع له ، وقد تقدم أن المجاز اللغوي هو ما يستعمل في غير ما وضع له ، وهي على هذا التقدير مستعملة فيما وضعت له ، فهي حقيقة لغوية لاستعمالها فيما وضعت له بعد الادعاء والإدخال في جنس المشبه به ، فالتجوز في الحقيقة إنما كان في المعاني بجعل بعضها نفس غيرها ، ثم أطلق اللفظ فتسميته مجازا عقليا ظاهر نظرا لسبب إطلاقه ، وأما تسميتها استعارة فبإعطاء حكم المعنى للفظ ؛ لأن المستعار في الحقيقة على هذا هو معنى المشبه به بجعل حقيقته لما ليس حقيقة له ، وهو

٢٨٢

المشبه ، ولما تبع ذلك إطلاق اللفظ سمي استعارة ، وقد فهم مما تقرر أن ليس المراد بالمجاز العقلي هنا ما تقدم صدر الكتاب ؛ لأن ذلك تصرف في الإسناد التركيبى بنسبة المعنى لغير من هو له في ذلك التركيب ، وهذا تصرف في التصورات بإدخال بعضها في بعض ، ثم يطلق لفظ التصور على المدخل الذي تصور أيضا.

وإنما قلنا إن التشبيه الذي انبنت عليه الاستعارة إدعاء دخول المشبه في جنس المشبه به وأن اللفظ لم يطلق على المشبه حتى جعل نفس المشبه به ، فأطلق عليه اللفظ على أنه من أفراد المشبه به الذي وضع له حقيقة لأن الإطلاق حقيقة لغوية ، وهو مجاز عقلي باعتبار ما انبنى عليه من التجوز في التصرف العقلي ؛ لأنه لو لم يكن الأمر كذلك لم يكن فيه إلا مجرد نقل اللفظ من معناه لغيره ، وذلك يقتضي نفي كونه استعارة ؛ إذ مجرد نقل اللفظ من غير مبالغة في التشبيه حتى يصير المشبه نفس المشبه به لو صح أن يكون اللفظ به استعارة لصح أن يكون الأعلام المنقولة استعارة ؛ كزيد يسمى به رجل بعد تسمية آخر به ؛ لوجود مجرد النقل فيه ، ولا قائل به ويلزم أيضا لو لم تراع المبالغة المقتضية لإدخال المشبه في جنس المشبه به الذي بنينا عليه كون الاستعارة مجازا عقليا أن لا تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة ؛ إذ لا مبالغة في مجرد إطلاق الاسم عاريا عن معناه ، بمعنى : أن الاسم إذا نقل إلى معنى ولم يصحبه اعتبار معناه الأصلي في ذلك المعنى المنقول إليه لم يكن في إطلاق ذلك الاسم على ذلك المعنى المنقول إليه مبالغة في جعله كصاحب ذلك الاسم كما هو في الحقيقة الذي هو المشترك ـ مثلا ـ فإنه لما لم يصحبه معناه الأصلي ، انتفت المبالغة في إلحاق المعنى المنقول إليه بالغير.

والوجه الأول من هذين ينظر إلى أن عدم الادعاء المذكور يوجب صحة الاستعارة فيما لا تصح فيه ، ومن لازم ذلك مساواة تلك الحقيقة التي لا تصح فيها الاستعارة للاستعارة.

والثاني ينظر إلى التسوية بين الحقيقة والاستعارة في عدم المبالغة عند انتفاء ذلك الادعاء ومن لازم ذلك صحة الاستعارة في تلك الحقيقة المساوية للاستعارة في نفي المبالغة ، وإنما قلنا كذلك لأنه لا يخفى أن صحة كون المنقول حقيقة مبني على نفي

٢٨٣

المبالغة التي هي من الخواص التي تفارق به الاستعارة في الحقيقة ، وأن نفي كون الاستعارة أبلغ في التشبيه ، يقتضي التسوية بين الحقيقة والاستعارة ؛ فيصح كون أحدهما نفس الأخرى. فالوجهان متلازمان اختلفا بالاعتبار ، ويرد الأول بأن نفي الادعاء لا يستلزم أن اللفظ لم يبق فيه إلا مجرد الإطلاق حتى يصح كون الأعلام المنقولة التي هي من الحقيقة استعارة ؛ وذلك لأن النقل بواسطة علاقة التشبيه والأعلام لا علاقة فيها أصلا ، فلم يلزم من نفي ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به كون الأعلام المنقولة يصح أن تكون استعارة ؛ لعدم وجود أصل التشبيه فيها.

وأما الثاني : وهو أن نفي الادعاء المذكور يلزم منه مساواة الاستعارة للحقيقة في نفي المبالغة ؛ فيرد أيضا بأنه إن أريد بنفي المبالغة نفي المبالغة في التشبيه ، فيصير كأصل التشبيه أو كما لا تشبيه فيه أصلا ، ففاسد من وجهين : أحدهما : أنه مصادرة لأن نفي المبالغة يعود إلى معنى نفي ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به. والآخر : أن نفي تلك المبالغة لا يستلزم نفي كون الاستعارة أبلغ من الحقيقة ؛ لأن الأبلغية الموجودة في الاستعارة دون الحقيقة.

نقول : إنها هي الأبلغية الموجودة في سائر أنواع المجاز ، وهي كون المجاز كادعاء الشيء بالدليل على ما سيأتي. وتلك لم توجد في الحقيقة سواء كان تشبيها أو غيره فإن أريد بنفي المبالغة شيء آخر ، فلم يتصور حتى يحكم عليه ، ويلزم أيضا من عدم اعتبار دخول المشبه في جنس المشبه به ، أن من قال : " رأيت أسدا يرمي" أراد بالأسد زيدا. لا يقال فيه : إنه جعله أسدا ، كما لا يقال لمن سمى ولده" أسدا" إنه جعله أسدا ، وذلك لاستواء الإطلاقين في عدم ادعاء دخول ما أطلق عليه اللفظ في جنس صاحب الاسم.

وإنما يقال فيه سماه" أسدا" فثبت المدعى وهو إدخال المشبه في المشبه به ؛ فأطلق عليه لفظه ؛ فكان مجازا عقليا ويرد على هذا الوجه أيضا أن قول القائل فيما إذا قيل : " رأيت أسدا" إنه جعله أسدا بادعاء الأسدية له لو استلزم كونه مجازا عقليا لزم مثله في نحو : زيد أسد إذ يقال فيه جعله أسدا أيضا ، وهو حقيقة وليس بمجاز أصلا فضلا عن كونه عقليا.

٢٨٤

وأجيب بأنا نلتزم كونه مجازا كما تقدم ؛ فإن قدرت الأداة لم يقل فيه جعله أسدا ، بل جعله شبيها بالأسد ، فلا يكون حينئذ إلا حقيقة. فإذا تقرر بما ذكر أن زيدا جعل أسدا في قولك : رأيت أسدا يرمي لزم كما قررنا فيما تقدم أن اللفظ حقيقة لغوية لإطلاقه على معناه ، وإنما جعل التجوز في كون الشيء غيره ، وهو أمر عقلي وينبغي أن يعلم أن ما تقدم من الاستدلال على جعل المشبه غيره ، إذ بذلك يصح كون المجاز عقليا يغنى عنه إطباق البلغاء على رعاية المبالغة في التشبيه حتى يجعل المشبه نفس الآخر.

نعم ، يرد أن يقال هذه المبالغة وهذا الإدعاء لا ينكره من جعله لغويا ، وكون اللفظ أطلق على غير معناه الحقيقى لا ينكره من جعله عقليا ، وإنما النزاع في أنه هل يسمى بالأول نظرا للإطباق على غير المعنى الأصلي أو بالثاني نظرا لذلك الادعاء فعاد الخلف لفظيا اصطلاحيا تأمل.

ثم أشار إلى ما يتأكد به كون الاستعارة إنما أطلقت على معناه الأصلي بعد ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به فكانت مجازا عقليا لا لغويا كما تقدم فقال (ولهذا) أي ولأجل أن إطلاق الاسم على المسمى بالاستعارة ـ وهو اسم المشبه به ـ إنما هو بعد ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به فصح بذلك كونه مجازا عقليا كما قررنا.

(صح التعجب) الذي أصله أن يشاهد وقوع أمر غريب أو يدرك (في قوله) في غلام قام على رأسه يظلله من الشمس (قامت) (١) حال كونها في وقت تمام القيام (تظللني) أي توقع الظل علي (من الشمس) وضمن التظليل المنع من حر الشمس ، ولذلك عداه بمن أي تمنعني من حر الشمس.

(نفس) فاعل قامت ، ولذلك اتصلت به تاء التأنيث ، وإن كان القائم غلاما من وصف تلك النفس أنها (أعز علي من نفسي. قامت) تلك النفس (تظللنى ومن عجب.

شمس تظللني من الشمس) فقد أطلق الشمس على نفس هذا الغلام ، ولو اعتبر أن لفظ

__________________

(١) البيت في شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٤٠) ، والشعر لأبى الفضل بن العميد ، نهاية الإيجاز ص (٢٥٢) ، والطراز (١ / ٢٠٣) ، والمصباح ص (١٢٩).

٢٨٥

الشمس استعير في غير معناه الأصلي ، وذلك الغير هو الغلام الحسن الوجه ، ولم يدع دخول هذه النفس في جنس الشمس ، وإنما اعتبر كون اللفظ أطلق على الغلام وهو لم يوضع لم يكن معنى للعجب ؛ إذ لا غرابة في تظليل إنسان حسن الوجه كالشمس إنسانا آخر بخلاف ما إذا جعل نفس الشمس ، فيستغرب كون الشمس ـ ومن شأنها طي الظل وإذهابه ـ أوجبت ظلا لأنها على تقدير حيلولتها بين الشمس وبين الإنسان المظلل لا يرتسم ظل تحتها على ذلك الإنسان ؛ لأن الفرض أن لا مظلل سواها ، وبه يعلم أن التعجب من كون الشمس توقع عليه ظلا لأنها موجبة لنفيه لا لثبوته ، لا من كون شمس تحول بين إنسان ، وشمس أخرى ، وإن كان يمكن التعجب أيضا من ذلك من جهة أفرادها في الوجود (و) لهذا أيضا (صح النهي عنه) أي عن التعجب (في قوله لا تعجبوا من بلى غلالته) (١) أي : لا تعجبوا من تسارع الفساد والبلى إلى غلالته وهي شعار تلبس تحت الثوب ضيقة الكمين كالقميص ، والشعار ما يلي الجسد ، وتلبس أيضا تحت درع الحديد (قد زر) أي : شد (أزرار) قميص (ه) أي غلالته (على القمر) يقال زررت القميص عليه أزره إذا شددت أزراره عليه ، وبه يعلم أن تعديته إلى الأزرار فيه ضرب من التسامح ؛ لأنه إنما يتعدى إلى القميص ، ويتضمن الدلالة على الأزرار فالقمر في البيت استعارة للشخص صاحب الغلالة بعد أن صيره نفس القمر فنهى عن التعجب من سرعة بلاها لما تقرر أن ثياب الكتان يتسارع إليها البلى عند بروزها للقمر ومباشرة ضوئه لها وذلك أنه لما خشي أن يتوهم أن صاحب الغلالة إنسان تسارع البلى لغلالته فيتعجب من ذلك ؛ لأن العادة أن غلالة الإنسان لا يتسارع إليها البلى قبل الأمد المعتاد لبلاها ، نهى عن ذلك وبين سبب النهى ، وهو أنه لم يبق في الإنسانية بل دخل في جنس القمرية ، والقمر لا يتعجب من بلى ما يباشره ضوؤه ، فلو لا أنه صيره نفس القمر ثم أطلق عليه اللفظ مراعاة لكونه قمرا حقيقة لم يكن معنى للنهى عن التعجب من بلى غلالته ؛ لأن من جملة ما يتعجب منه بلى غلالة الإنسان قبل أمد بلاها المعتاد ، وإنما

__________________

(١) البيت في شرح المرشدى (٢ / ٤٠) ، وهو لأبى الحسن ابن طباطبا العلوى ، الطراز (٢ / ٢٠٣) ، ونهاية الإيجاز ص (٢٥٣) ، والمصباح (١٢٩).

٢٨٦

ينتفى التعجب عن بلى الكتان إذا لابسه القمر الحقيقي لا الإنسان ، وربما يتوهم أن القمر هنا لا يصح أن يكون استعارة لذكر طرفي التشبيه في التركيب الذي وجد فيه ؛ لأن ضمير الغيبة فيه عائد إلى الشخص الذي أطلق عليه القمر ، والجواب أن ذكر الطرفين إنما ينافي الاستعارة بناء على ما تقدم من كون نحو قولك زيد أسد من باب التشبيه ، إن جرى لفظ المشبه به على المشبه على أنه خبر كالمثال أو نعت أو حال ؛ لأن ذلك ينبئ عن التشبيه ضرورة أنه لا يصح صدقه على ما جرى عليه ، فتقدر أداة التشبيه نفيا لما يلزم من فساد الصدق كما تقدم على ما فيه ، وأما إذا ذكر المشبه لا على وجه ينبئ عن التشبيه ، كما في البيت لعدم جريان المشبه به عليه حتى يسهل تقدير الأداة نظرا للمعنى ولما جرى به الخطاب كثيرا من وجودها لفظا فهو استعارة كقولك : سيف زيد في يد أسد وكذا قولك : لقيني زيد رأيت السيف في يد أسد فإن نحو هذا التركيب لا يتأتى فيه تقدير الأداة إلا بزيادة في التركيب ، أو نقص بحيث يتحول الكلام عن ظاهره ؛ كأن يقال رأيت في يد رجل كأسد سيفا وما يكون كذلك لا تقدر الأداة فيه فيكون لفظ المشبه به مطلقا على المشبه فتصدق عليه حقيقة الاستعارة بخلاف ما ينبئ عن التشبيه فتقدر فيه الأداة على الأصل فيبقى كل لفظ على أصله ، فلا يصدق عليه حد الاستعارة ولم يستعمل فيه المشبه به في غير معناه. وقد تقدم أن هذا يقتضى كون نحو على لجين الماء استعارة وهم صرحوا بكونه تشبيها فانظره.

(ورد) هذا الاستدلال الذي حاصله ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به فيلزم استعمال لفظ المشبه به في معناه الأصلى بذلك الادعاء (بأن الادعاء) أى : ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به حاصله المبالغة في التشبيه ، حتى يفرض الأول نفس الثاني وذلك (لا يقتضى كونها مستعملة) أى : كون اللفظ المسمى بالاستعارة مستعملا (فيما وضعت له) حقيقة لأن تقدير الشيء نفس شيء آخر لا يقتضى كونه إياه حقيقة ، فتقدير الرجل الشجاع أسدا بالإصرار على ادعاء كونه أسدا لا يصيره أسدا حقيقة ، فإطلاق الأسد على الرجل الشجاع بعد الادعاء المذكور لا يقتضى أن لفظ الأسد أطلق على السبع الحقيقي ضرورة أنه إنما أطلق على الرجل الشجاع لا على ما

٢٨٧

وضع له ، وهو السبع ، ولو ادعى أن الرجل الشجاع صار أسدا وههنا شيء يحتاج إلى تحقيق يندفع به وهو أن ما ذكر من كون لفظ الاستعارة أريد به غير معناه إنما يكون بنصب القرينة ، ونصب القرينة على إرادة ما لم يوضع له اللفظ ينافي ما أشير إليه من الادعاء والإصرار على أن اللفظ أريد به ما وضع له. والتحقيق الذي يندفع به ذلك أن يقال ليس المراد أن الجنس نفسه الذي قد ادعى دخول المشبه فيه ، وأصر على ثبوته للمشبه نصبت القرينة على عدم إرادته ، وإنما المراد أن المدعى بنى ادعاءه على أن الأسد مثلا جعل له بطريق التأويل والمبالغة فردان ، متعارف وهو الذي له الجراءة المتناهية والغاية في القوة فى جثة ذى الأظفار والأنياب والشكل المخصوص ، وغير متعارف وهو فرد آخر له تلك القوة والجراءة بنفسها لكن في جثة الآدمى وكأن اللفظ على هذا موضوع للقدر المشترك بينهما ، كالمتواطئ ، وادعاء وجود حقيقة في ضمن أفراد غيرها موجود في كلامهم كقول المتنبي في عده نفسه وجماعته من جنس الجن وعد جماله من جنس الطير :

نحن جن برزن في زى ناس

فوق طير لها شخوص الجمال (١)

ولما بنى الادعاء على هذا التأويل الذي أشعر به الدخول في الجنسية لا في نفس المستعار منه ، تحقق في محل الاستعارة شيئان :

أحدهما : وهو المتعارف هو الذي وضع له الأسد مثلا في الأصل ، ولو اقتضى هذا التأويل نفى الوضع له بخصوصه.

وثانيهما : وهو غير المتعارف هو الذي لم يوضع له اللفظ بخصوصه ولا بالعموم وإن اقتضى التأويل كونه موضوعا له بالعموم ، فاندفع ما توهم من أن الإصرار على ثبوت الأسدية مثلا للمشبه ينافي نصب القرينة على أنه أريد باللفظ ما ثبتت له الأسدية ، وذلك لأن الذي نصبت القرينة على عدم إرادته هو الفرد الذي ثبتت له الأسدية بشرط أن يكون هذا المتعارف والذي ادعيت له وأصر على ثبوتها له هو الفرد الغير المتعارف ، ولم تنصب القرينة على نفس الجنس الذي ادعى الدخول تحته ، وصدق

__________________

(١) البيت للمتنبى فى ديوانه (١ / ١٦٦) ، والإيضاح ص (٢٦٠) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى.

٢٨٨

اللفظ ببقائه. ولا غرابة في أن يدعى أن ما أطلق عليه الأسد مثلا الآن ثبتت له الأسدية الجنسية ، ويعتبر بحسب ما في نفس الأمر نقل اللفظ عن غيره الذي وضع له أولا ، وتنصب القرينة على عدم إرادة ذلك الأصلى الشخصي ، ثم لما كان التأويل السابق حاصله المبالغة المقتضية لكون اللفظ كالموضوع للقدر المشترك الشامل للطرفين ، شمل التأويل الطرفين ؛ لأن المتعارف منهما اقتضى كونه غير مختص بالوضع وغيره اقتضى كونه موضوعا له بالعموم ، فعلى هذا لا يقال التأويل إنما هو في كون الغير المتعارف داخلا في الجنس تأمله.

ثم أشار إلى دفع اعتراض على هذا الرد وهو أن يقال إذا لم يقتض ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به ، كون اللفظ قد استعمل في معناه نظرا إلى أن الادعاء قد لا يطابق في الجملة فالتعجب والنهى عنه فيما تقدم يقتضيانه لإنبائهما عن الاتحاد والتساوي في الحقيقة الجامعة للطرفين فقال : (وأما التعجب والنهى عنه) أى : عن التعجب يعني الموجودين في البيتين السابقين (ف) إنما هما (للبناء على تناسي) أى : لرعاية تناسى (التشبيه) وذلك يرجع فى الحقيقة إلى ادعاء اتحاد المشبه والمشبه به (قضاء) أى : إنما تنوسي التشبيه ، لأجل القضاء أى : الأداء (لحق المبالغة) في التشبيه حيث أبدى الناطق بسبب ذلك التناسي أن ما ينبنى على أحد الطرفين ، ينبنى على الآخر ، فكما أن المشبه به لا يتعجب من ذلك الحكم باعتباره كما في البيت الثاني أو يتعجب من الحكم عليه بذلك الحكم كما في البيت الأول ؛ كذلك المشبه ؛ لأن المبالغة تنتهى إلى الاتحاد وإذا عاد التعجب والنهى عنه إلى المبالغة في التشبيه لم يلزم استعمال لفظ المشبه به في معناه الحقيقي ، كما لم يلزم في الادعاء لعودهما لغرض واحد هو المبالغة والحقيقة التى في نفس الأمر ، لا تتبدل بذلك. لا يقال إذا كان تسليم الادعاء لا يستلزم إطلاق اللفظ على معناه ؛ فالتعجب والنهى عنه لا يستلزمان فلا حاجة إلى الاعتذار عنهما بتقدير البحث فيهما ؛ لأن الادعاء كما تقدم علة فيهما. فإذا لم توجب العلة شيئا لم يوجبه المعلول ؛ لأنا نقول لا يلزم من التعليل بالشىء أن لا علة للمعلول سوى تلك العلة لجواز تعدد العلل للشىء الواحد في محال متعددة ، فالتعجب والنهى يوجبهما الادعاء ،

٢٨٩

ويوجبهما تناسي التشبيه ، ويجوز أن يوجبهما غيرهما ؛ كالتساوي الحقيقي. فبين بالجواب أن بناءهما على الادعاء كما لا يوجب المدعى لا يوجب بناءهما على غيره ، حتى يكونا أقوى من الادعاء كما يشعر به لفظ كل منهما ؛ كما أشرنا إليه لصحة بنائهما على التناسي دون ما يكونان به أقوى ، كالتساوى الحقيقي لانتفائه في نفس الأمر.

وقد علم من مضمون الكلام أولا وآخرا أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به مسلم عند القائل بأن الاستعارة مجاز لغوى ومعلوم أن كون اللفظ أطلق على غير معناه الأصلى في نفس الأمر مسلم عند القائل بأنه عقلى ، وبقى النزاع في أن الاستعارة هل تسمى مجازا لغويا نظرا لما في نفس الأمر أو عقليا نظرا للمبالغة ، والادعاء. فالخلاف على هذا عائد إلى اللفظ والتسمية الاصطلاحية ، وقد تقدم ما يفيد ذلك تأمله ولما كان ظاهر الكلام الذي فيه الاستعارة ، يوهم البطلان والفساد فإنك إذا قلت رأيت أسدا في الحمام أوهم أنك تخبر برؤية الأسد المعلوم في الحمام ، وهو فاسد أشار إلى ما يتبين به الفرق بين كلام الاستعارة والكلام الباطل ، وهو مأخوذ مما تقدم وإنما أتى به زيادة في البيان فقال :

مفارقة الاستعارة للكذب

(والاستعارة) أى : والجملة التى فيها الاستعارة (تفارق الكذب) سواء كان ذلك الكلام الذي سميناه كذبا لعدم مطابقته لما في الخارج على وجه الادعاء وقصد الصحة أو على وجه التعمد للباطل (بالبناء على التأويل ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر) أى : يفارق كلام الاستعارة الكلام الذي هو كذب بوجهين :

أحدهما : أن الاستعارة في الكلام مبنية كما تقدم على التأويل أى : تأويل دخول المشبه في جنس المشبه به ، ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه ، والكذب أبقى فيه اللفظ على أصله لعدم التأويل ، فكان فاسدا لعدم مطابقته.

وثانيهما : أن الاستعارة لا بد فيها كسائر المجازات من نصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر الذى هو الأصل والكذب لا تنصب فيه القرينة على إرادة خلاف

٢٩٠

الظاهر ، بل إن عرف المتكلم عدم مطابقته ، وقصد إظهار صحة الباطل ، فهو مجتهد في ترويج ظاهر الكلام أى : تسويغ صحته عند السامع ، وإن لم يقصد واعتقد الصحة فهو أبعد من نصب القرينة ، وهذا التفريق منظور فيه إلى ما يوهمه ظاهر اللفظ في بادئ الرأى ، ولا يحتاج إليه بعد رعاية وجود النقل الذى هو حاصل الفرق المذكور ، والاستعارة من حيث هى لا وجود لها إلا بالنقل ، فحقيقتها تنفى توهم الكذب كما أشرنا إليه فيما تقدم.

وأما كذب الاستعارة فأن لا يوجد النقل مع إظهاره أو ينتفى الحكم عن المنقول إليه فافهم.

وبقولنا والجملة التى فيها الاستعارة تفارق الكذب ، يندفع ما يقال من أن الاستعارة من قبيل التصور وليس معروضا للكذب حتى يحتاج إلى الفرق وهو ظاهر (ولا تكون علما) أى : لا يكون اللفظ المسمى بالاستعارة علما بمعنى أن حقيقة ذلك اللفظ لا يتصور فيها كونه علما في الأصل ؛ لأن الاستعارة ملزومة للوضع الكلى والعلم ملزوم للوضع الجزئي ، وهما متنافيان ، وتنافي اللوازم يؤذن بتنافي الملزومات ، وذلك لما تقدم وهو أن المشبه يعتبر دخول جنسه أى : حقيقته في جنس المشبه به أى : حقيقته ودخول الشىء تحت الشىء يقتضى عموم المدخول فيه ، فلزم اعتبار شيئين لذلك الأعم تحقيقا لمعنى العموم ولذلك جعل للمشبه به على طريق الدعوى فردان متعارف وغيره ومعلوم أن العموم المعتبر في المشبه به ينافي العلمية فيه وإلى هذا أشار بقوله (لمنافاته) أى : لمنافاة كون الشىء علما (الجنسية) المعتبرة في الاستعارة إذ العلمية تقتضى التشخص والتعين ، والجنسية تقتضى العموم وتناول عدة أفراد وهذا ظاهر في علم الشخص ، وأما علم الجنس فلا لإمكان العموم في معناه لكونه ذهنيا والإشعار بالذهن في معناه كما تقدم لا ينافي تعدد الأفراد له وتخصيص الاستعارة بالذكر في الامتناع ربما يفهم منه أن الامتناع في العلمية مخصوص بها. وأما المجاز المرسل فيجوز في العلمية ، وعبارة السكاكى (ولا يكون أى : المجاز في الأعلام) خلافا للغزالى في متلمح الصفة ، وما اقتضاه كلام المصنف من صحة كون العلم مجازا مرسلا لا مانع منه لصحة أن

٢٩١

يكون للعلم لازم يستعمل فيه العلم ، بل نقول إذا كان مبنى الاستعارة على تأويل ما ليس بالواقع واقعا ، فأى مانع من أن يعتبر في العلم لازم يقع به التشبيه فيقدر وضع العلم له ولو لم يوضع له ، ويكون في الموضوع الأول أقوى فيعتبر له فردان متعارف وغيره فإذا كان التشبيه بمعناه الجزئي ، فكما أن الموضوع كليا إنما كان التشبيه بذلك المعنى الكلى وحول في التقدير إلى ما هو أعم فإن الأسد إنما وضع للحيوان المعروف المشعر بخواصه المعلومة ثم قدر وضعه للحيوان المجترئ ، فكذا العلم كقيار مثلا الموضوع للفرس المعين ثم يشبه به إنسان معين في الجرى مثلا يمكن أن يقدر تحوله إلى ذلك اللازم للفرس فيصير له فردان هذا الإنسان وذلك الفرس ، فتصح الاستعارة فيما هو علم بطريق التأويل ، ولا يقال هذا هو قوله (إلا إذا تضمن نوع وصفية) ؛ لأنا نقول العلم المتضمن نوع وصفية ، معناه أن يكون صاحبه مشهورا بوصف حتى يصير متى أطلق فهم منه الوصف ، وما قررناه أعم من ذلك ، فبالوجه الذي صحت في متضمن الوصفية تصح بالشهرة في غيره بما يلازمه وصف يقع التشبيه به ولو لم يشتهر به ، ولا يقال العلم حينئذ على كلا الاعتبارين من الشهرة وعدمها إذا وقعت فيه الاستعارة صار نكرة ، والعلم إذا صار نكرة كقولك : ما من عمرو إلا وهو شجاع. لم يسم حينئذ علما ، وخرجت المسألة عما نحن بصدده من العلم فلا حاجة إلى استثناء المصنف ذا الشهرة ولا إلى ما ذكرت لأنا نقول التنكير في الأعلام إنما هو باعتبار تعدد الوضع فيراعى فيها مطلق المسمى ويصير نكرة والاستعارة مبنية على التشبيه ، وإذا فرض في الجزأين فتقدير الاسم تحولا بالدعوى لا يصيره نكرة ؛ إذ ليس هنا تنكير حقيقي بل معناه الأصلى معتبر فيه كما أن تقديره في اسم الجنس موضوعا لأعم لا يخرجه عن كونه مستعارا من معناه الأصلى فافهم.

ثم مثل للذى تضمن نوع وصفية بقوله (كحاتم) الموضوع لرجل معين ، ثم اشتهر بوصف الجود حتى صار لازما له بينا ، ومثله مادر في رجل معين مشهور بالبخل ، وسحبان في رجل معين مشهور بالفصاحة ، وباقل في رجل معين مشهور بضد الفصاحة وهو الفهاهة ، فحاتم لما اشتهر بالوصف صار اللفظ ولو كان القصد فيه أولا الشخص

٢٩٢

المعين مشعرا بالوصف على طريق الدلالة اللزومية ، فيجوز أن يشبه بالشخص الذي وضع له شخص آخر في ذلك الوصف لاشتهار ما وضع له لفظ حاتم بذلك الوصف وقوته فيه في اعتقاد المخاطبين ، ثم يتأول اللفظ موضوع لصاحب وصف الجود المستعظم ، لا من حيث إنه شخص معين فإن كان الوضع إنما هو أولا فيفرض له بهذا التأويل فردان كما تقدم في الموضوع الكلى أحدهما متعارف ، وهو الشخص الطائي المعلوم المشهور بذلك الوصف والآخر غير متعارف ، وهو ذلك المشبه فيطلق اللفظ على غير المتعارف وهو هذا المشبه بتأويل أنه من أفراده ، وإنما احتيج إلى هذا التأويل في الاستعارة مطلقا ليصح إطلاق اللفظ على ما لم يوضع له في الأصل ، وإذا كان لا فرق بين التشبيه والاستعارة إن بقى على معناه وكان كالغلط أو الكذب إن نقل بلا ذلك التأويل وقد تقدم أن التحقيق في مستند هذا الادعاء تراكيب البلغاء ، وإلا فيمكن أن يدعى أن مجرد التشبيه كاف فى نقل اللفظ لغير معناه الأصلى من غير إدخاله في جنس المنقول عنه ، ثم وقد تقدم أن التحقيق في مستند هذا الإدعاء تراكيب البلغاء ، وإلا فيمكن أن الذي بين في نحو حاتم يمكن كما تقدم أن يراعى في ذى الوصف الأقوى ولو لم يكن كحاتم في الشهرة ، فعلى ما تقرر إذا قلت : كان حاتم جوادا كان حقيقة حيث أريد الطائي المعروف وإذا قلت رأيت حاتما مريدا شخصا شبه بحاتم كان استعارة ، ويتحقق صحته بما ذكر ، ولما كانت الاستعارة من المجاز ، والمجاز لا بد له من قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له ، أشار إلى تفصيل قرينتها فقال (وقرينتها) أى : وقرينة الاستعارة (إما أمر واحد) أى : إما أن تكون القرينة أمرا واحدا والمراد بالأمر الواحد المعنى المتحد الذي ليس حقائق متعددة ، سواء دل عليه بلفظ التركيب أو بلفظ الإفراد ، وذلك (كما في قولك رأيت أسدا يرمى) بالسهام مثلا ، فإن حقيقة الرمى بالسهام قرينة على أن المراد بالأسد الرجل الشجاع ، إذ منه يمكن الرمى دون الحقيقي.

(أو أكثر) أى : أو تكون تلك القرينة أكثر من أمر واحد أى : معنى واحد بأن تكون أمرين أو ثلاثة أو أكثر بشرط أن يكون كل واحد مستقلا في الدلالة على الاستعارة

٢٩٣

وذلك (كقولك فإن تعافوا) (١) أى : تكرهوا (العدل) أى : الذي جاء به شرعنا المطهر وهو ضد الجور (والإيمانا) بشرعنا وجواب الشرط رددتكم وألجأتكم إلى العدل والإيمان كرها. ودل على هذا الجواب قوله : (فإن في أيماننا) أى : في أيدينا اليمنى (نيرانا) أى : سيوفا كالنيران في اللمعان والإهلاك بها نلجئكم إلى الإذعان لجريان أحكامنا العدلية فيكم مع الجزية أو الإيمان بالله تعالى وبشرعنا ، فتعلق الفعل الذي هو تعافوا بالعدل يدل على أن المراد بالنيران السيوف ، وكذا تعلقه بالإيمان وكل منهما يكفي في الدلالة ولو حذف أحدهما لم يحتج للآخر ، وإنما دل كل واحد منهما لما أشرنا إليه من أن إباية العدل إنما يترتب عليه القتال للرجوع إليه.

والقتال للرد إلى العدل إنما يكون بالسيوف ؛ لا بالنيران الحقيقية ولم تحمل على الرماح ؛ لأن القتال غالبا إنما ينسب للسيوف فيقال : قاتلناهم بأسيافنا وغلبناهم بالسيوف ؛ لأنها أعم في القتال وألزم ، فكأنه يقول كما تقدم إن استنكفتم عن العدل ألجأناكم إليه كرها وقاتلناكم عليه بالسيوف ؛ وكذا إباية الإيمان فتعلق الفعل بكل منهما على حدة يشعر بالجواب الدال على أن المراد بالنيران السيوف وذلك الجواب هو قوله : تحاربون أو تقاتلون وتلجأون إلى الطاعة والإذعان للعدل أو إلى الطاعة لله تعالى بالإيمان أو نحو ذلك كما تقدم (أو معان ملتئمة) أى : مربوط بعضها ببعض بحيث يكون المجموع قرينة لا كل واحد منهما على حدة وبوصف المعاني بالالتئام في الدلالة مع تمثيل قوله أو أكثر بقوله تعافوا العدل والإيمان المقتضى لاستقلال كل منهما بالدلالة وتمثيل المعاني في الملتئمة بما كانت فيه الدلالة بالمجموع ، يعلم أن قوله : أو أكثر. لا يدخل فيه قوله أو معان ؛ لأن المراد بالأول كما تقدم ودل عليه ما ذكر أن يكون كل واحد بحيث يستقل بالدلالة والمراد بالمعاني أن يكون المجموع ، هو الدال فعلى هذا تصح المقابلة والعطف بأو المؤذنة بالتغاير ، لتباين المعطوفين (كقوله) (٢) أى : ومثال المعاني

__________________

(١) البيت فى الإيضاح ص (٢٦٠) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى ، وتعافوا : تكرهوا. نيرانا : أى سيوفنا تلمع كأنها نيران.

(٢) البيت للبحترى فى ديوانه (١ / ١٧٩) ، والطراز (١٣ / ٢٣١) ، ورواية الديوان : " وصاعقة من كفه ينكفى بها .. على أرؤس الأعداء خمس سحائب".

٢٩٤

الملتئمة قوله : (وصاعقة) أى : ورب صاعقة ، وهى فى الأصل نار سماوية تهلك ما أصابته تحدث غالبا عند الرعد والبرق (من نصله) أى : تكون تلك الصاعقة من نصل سيف الممدوح والنصل حديدة السيف وحدوث الصاعقة منه إما على طريق التجريد كما يأتي في البديع بأن يجعل نصل السيف أصلا تحدث منه صواعق على حد قولك لقيني منه أسد ، أو على طريق الاستعارة بأن تستعير الصاعقة إلى ضرب السيف الذي يقع به الإهلاك وعلى كل حال فهو يفيد الترشيح باعتبار أصله ؛ لأنه يلائم السحائب المستعارة لأنامل الممدوح في قوله (تنكفى) أى : تنقلب (بها) أى : بتلك الصاعقة والباء في بها للتعدية (على أرؤس الأقران خمس سحائب).

ومعنى البيت أن الممدوح كثيرا ما تحدث نار من حد سيفه يقلبها على أرؤس الأقران ليهلكهم بها ، والمراد بقلب النار قلب السيف الذي هو أصل تلك النار ، وإنما يقلبها بأنامله التى هى كالسحائب في عموم العطايا وكثرة النفع ، فقد استعار السحائب لأنامل الممدوح ثم ذكر الصاعقة على وجه التجريد أو الاستعارة ترشيحا باعتبار أصلها كما تقدم وذكر أن تلك الصاعقة من نصل سيفه ، وذكر أن تلك الصاعقة يقلبها بقلب أصلها الذي هو السيف على أرؤس الأقران ليهلكهم بها ، وذكر لفظ الخمس عدد الأنامل فدل مجموع ذلك على أن المراد بالسحائب الأنامل ، وإنما لم يقل بدل الأنامل الأصابع للإشارة إلى أن قلب السيف على الأقران لقوة الممدوح يحصل بالأنامل ، والمراد العليا فقط بدليل ذكر ما يدل على أن عددها خمس فقط ، وجمع الأرؤس بصيغة القلة إما لاستعارة صيغة القلة للكثرة ، كما هو موجود في كلامهم وإما للإيماء إلى أن أقران الممدوح في الحرب غاية في القلة وإما للاستخفاف بأمرهم وتقليلهم في مقابلته.

ثم كون مجموع ما ذكر هو الدال فيه أنه لو أسقط بعضها كلفظ الخمس وأرؤس الأقران بأن يراد بالقلب تحريك السيف باليد فهم المراد اللهم إلا أن يراد الدلالة الواضحة البالغة ، ويمكن أن يراد بكونها معاني ملتئمة ، أنها ربطت لا على وجه العطف المؤذن بالاستقلال ، بل على وجه الربط المؤذن بعدم الاستقلال حتى لو حذف بعضها أفاد التركيب تقدير المحذوف.

٢٩٥

أنواع الاستعارة باعتبار الطرفين :

(وهى) أى : والاستعارة تنقسم باعتبار الطرفين وباعتبار آخر غير ما ذكر فهى (باعتبار الطرفين) أعنى المستعار منه والمستعار له (قسمان).

القسم الأول : الوفاقية ، وهى التى يمكن اجتماع طرفيها في شىء واحد.

والثاني العنادية وهى التى لا يمكن اجتماعهما. وإلى هذا أشار بقوله (لأن اجتماعهما) أى : إنما قلنا إنها تنقسم إلى قسمين باعتبار الطرفين ؛ لأن اجتماع طرفيها (في شىء) واحد (إما ممكن) بأن يكون المعنى المنقول إليه ومنه لا تنافي بينهما ، فيصح كونهما وصفين لشىء واحد وذلك (نحو) أى : المصدر المشتق منه (أحييناه فى) قوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(١) أى) كان (ضالا فهديناه) فقوله : أحييناه مأخوذ من الإحياء وهو إيجاد الحياة في الشىء وإعطاؤها له ، وقد استعير لإيجاد الدلالة على الطريق الموصلة إلى المقصود. ووجه الشبه بين إعطاء الحياة وإيجادها لموصوفها ، وبين إيجاد الدلالة على الطريق الموصلة إلى المقصود ترتب الانتفاع والمآثر على كل منهما ، كما أن وجه الشبه بين الإماتة والإضلال ترتب نفى الانتفاع ، ولا شك أن الإحياء والهداية يمكن اجتماعهما في موصوف واحد ، وقد اجتمعا في جانب الله تعالى لأنه أحيا وهدى.

وقولنا الإحياء والهداية يمكن اجتماعهما أولى من قول المصنف فى الإيضاح والحياة والهداية مما يمكن اجتماعهما ؛ وذلك لأن أحيا فعل مأخوذ من الإحياء لا من الحياة فالإحياء هو المستعار حقيقة ، وإن تضمن استعارة الإحياء استعارة الحياة أيضا ، وإنما قلنا نحو المصدر المشتق منه أحييناه ، ولم ندع اللفظ على ظاهره ؛ لأن الاستعارة في أحييناه تبعية لكونه فعلا فجعلها في المصدر أولى لأصالته ، ولم يعتبر المصنف في هذا القسم استعارة الموت للضلال ، ولذلك قال نحو أحييناه ؛ لأن الطرفين أعنى الموت والضلالة لا يمكن اجتماعهما إذ الضلال سلوك طريق تؤدى إلى العطب كالكفر والموت لا يجامع ذلك الضلال أعنى الكفر ، إذ لا يقال في الميت ضال وأما كون الكافر

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

٢٩٦

بعد موته كافرا فذلك باعتبار إعطائه حكم الكافر وتسميته بما مضى وإلا فلا جحود بعد الموت.

(ولتسم) هذه الاستعارة التى يمكن اجتماع طرفيها في شىء واحد (وفاقية) لاتفاق طرفيها أى : لموافقة كل من طرفيها صاحبه في الاجتماع معه في موصوف واحد (وإما ممتنع) معطوف على قوله إما ممكن أى : اجتماع معنى طرفي الاستعارة إما ممكن ، وإما ممتنع لكونهما متنافيين (كاستعارة اسم المعدوم للموجود) أى : كامتناع اجتماع الطرفين في الاستعارة التى هى اسم المعدوم إذا نقل وأطلق على الموجود (لعدم غنائه) بفتح الغين أى : لعدم فائدته فإن الموجود العديم الفائدة هو والمعدوم سواء ، فينقل لذلك الموجود لفظ المعدوم لهذه المشابهة ، ولا شك أن معنى الطرفين أعنى : الموجود والمعدوم.

لا يجتمعان في شىء واحد بأن يكون موجودا معدوما ما في آن واحد ؛ لأن العدم والوجود على طرفي النقيض ، وكذلك عكس ما ذكر أعني : استعارة اسم المعدوم للموجود لعدم فائدته ، وذلك العكس هو أن يستعار اسم الموجود للمعدوم لوجود فائدته وانتشار مآثره فإن ذا المآثر الباقية والأنفاع المستديمة ولو كان مفقودا هو والموجود سواء في وجود الآثار عنهما وإبقائها إذ تحيى في الناس ذكره وتديم فيهم اسمه فتكون حياة ذكره كحياته ، فإذا نقل لفظ الموجود وأطلق على المعدوم المفقود لوجود مآثره حتى كأنه حاضر تحصل عنه الآن لكونه سببا فيها ، كانت استعارة لفظ الموجود لذلك المعدوم عنادية كالعكس ، وإليه أشار بقوله (ولتسم) هذه الاستعارة التى لا يجتمع طرفاها في شىء واحد لتنافيهما (عنادية) ؛ لأن طرفيها يتعاندان ، ولا يجتمعان في شيء واحد ، وإنما نص على العناد في الاستعارة دون التشبيه ؛ لأن العناد في الاستعارة المقتضية للاتحاد أغرب ، بخلاف المتشابهين (ومنها) أى : ومن العنادية وهى التى لا يجتمع مفهوم طرفيها الاستعارة (التهكمية) وهى التى يقصد بها الهزؤ والسخرية بالمستعار له (والتمليحية) وهى التى يقصد بها الظرافة والإتيان بشىء مليح يستظرفه الحاضرون ، وقد تقدم في التشبيه ما يفهم منه صحتهما في مثال واحد ، وإنما يختلفان في القصد ، ثم فسرهما باعتبار صورتهما الاستعمالية بقوله (وهما) أى : التهكمية والتمليحية (ما

٢٩٧

استعمل في ضده) أى : هما الاستعارة التى استعملت في ضد معناها الحقيقي (أو نقيضه) أى : أو في نقيض معناها الحقيقي ، ومن تفسيرهما معا بشىء واحد يعلم أيضا كما تقدم أنهما إنما يختلفان بالقصد لا في الصورة الاستعمالية وإنما تتحقق الاستعارة التهكمية والتمليحية (ل) أجل (ما مر) أى : بسبب ما مر في التشبيه من أنه ينزل التضاد أو التناقض منزلة التناسب بواسطة تمليح أو تهكم فيقال للجبان : ما أشبهه بالأسد فى تنزيل التضاد ولمنتفى الوجود ما أشبهه بالموجود في أنفاعه ، وقد علم أن اعتبار التضاد والتناقض بحسب الوصف في هذين المثالين إذ لا تضاد ولا تناقض في الموصوف. وبيان ذلك على ما سبق في التشبيه أن إظهار الشىء في صورة ضده مما يستظرف فتحصل به الظرافة عند قصدها ومقابلة السامع بضد ما يتعلق به لا شك أن ذلك مما يفيد عدم المبالاة به وتحقير شأنه وتزداد به إهانته فيحصل بذلك تهكم به عند قصده ، وقد تقدم زيادة تحقيق لذلك هنالك فليراجع.

ثم مثل للتهكم في الاستعارة فقال (نحو) قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١) أى : أنذرهم فقد استعيرت البشارة أى : لفظ البشارة التى هى الإخبار بما يظهر عند الإخبار به سرورا في وجه الشخص المخبر بذلك الشىء الذي يظهر السرور للإنذار أى : استعير لفظ البشارة للإنذار الذي هو ضده أى : ضد ذلك الإخبار فيكون الإنذار هو الإخبار بما يظهر به خوف وعبوس في وجه المخبر ، حيث تضمن الإخبار الوعيد بالهلاك ، وأنه استعير لفظ البشارة للإنذار بواسطة تهكم واستهزاء بالذي أمر بإخباره ، وذلك بأن أدخل جنس الإنذار في جنس البشارة على سبيل عده مناسبا تهكما واستهزاء ، ونحو قولك في التمليح رأيت أسدا وأنت تريد جبانا على سبيل التمليح والظرافة وفهم أن التهكم أو الملاحة بقرائن الأحوال والذوق شاهد صدق على اعتبارهما في عرف البلغاء ، ولا يخفى أن البشارة والإنذار لا يجتمعان في شىء واحد من جهة واحدة بحيث يكون المبشر به هو المنذر به والمبشر هو المنذر ، بخلاف ما إذا اختلفت الجهة كإنذار العدو بما يسر الحبيب أن يقع في عدوه فيكون إنذارا للعدو

__________________

(١) التوبة : ٣٤.

٢٩٨

وتبشيرا للحبيب ، وكذا الشجاعة والجبن لا يجتمعان من جهة واحدة بخلاف جهتين كقوله :

أسد على وفي الحروب نعامة

فقد تبين أن التهكمية والتمليحية عنادية ومثال الاستعارة في النقيض أن يقال في انتفاء الحضور لزيد مع وقوع منافع خلفها مع حضور زيد فزنا في يومنا هذا فيستعير الحضور لانتفائه للمشابهة في الانتفاع من غير تهكم ولا ظرافة ولا يخفى مثالها باعتبار وصف المستعار له ، فمطلق العنادية أعم من التهكمية والتمليحية ؛ لأنهما مختصان بالمتنافيين اللذين توصل إلى الاستعارة فيهما ، فجعل التضاد بينهما كالتناسب. ومطلق العنادية تصدق في المتنافيين مع كون الجامع حقيقيا مقررا فيهما ، كما في المعدوم والموجود في الغناء والفائدة.

ثم أشار إلى التقسيم في الاستعارة باعتبار الجامع فقال :

أنواع الاستعارة باعتبار الجامع

(و) الاستعارة (باعتبار الجامع) أى : ما قصد اجتماع الطرفين فيه ويسمى في باب التشبيه وجه شبه ، كما يسمى في باب الاستعارة جامعا (قسمان) وذلك (لأنه) أى : لأن الجامع بين المستعار منه والمستعار إليه (إما داخل في مفهوم) ذينك (الطرفين) أعنى المستعار منه وإليه بأن يكون جنسا لهما ، أو فصل الجنس لهما وذلك (نحو) قوله عليه الصلاة والسّلام (١)." خير الناس رجل أمسك بعنان فرسه (كلما سمع هيعة طار إليها) أو رجل في شعفة في غنيمة حتى يأتيه الموت" قال الزمخشرى : الهيعة الصيحة التى يفزع منها وأصلها من هاع يهيع ، يعني إذا جبن فكأن الصيحة لما أوجبت جبنا سميت باسمه ، والشعفة رأس الجبل ، والغنيمة بدل اشتمال من الشعفة بتقدير في غنيمة له فيها ، والمعنى خير الناس رجل استعد للجهاد ، وكنى عن الاستعداد للجهاد بأخذ عنان الفرس لاستلزامه إياه بقرائن الأحوال أو رجل اعتزل الناس وسكن في رءوس بعض الجبال في غنم له فيها قليلة يرعاها ويكتفى في أمر معاشه بها ويعبد الله تعالى حتى يأتيه الموت

__________________

(١) رواه مسلم فى" الإمارة" (٤ / ٥٥٣) ، وفيه" ممسك" مكان (أمسك).

٢٩٩

فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طار إليها استعارة تبعية للطيران وهو مستعار للعدو والجامع بين العدو والطيران داخل في مفهومهما.

(فإن الجامع) أى : وإنما قلنا : إن الجامع داخل في مفهومهما لأن الجامع (بين العدو) أى : الذهاب بسرعة (والطيران) هو (قطع المسافة بسرعة) وهو داخل في مفهومهما ، إذ هو جنس لهما ، فالعدو قطع المسافة بسرعة على وجه الأرض ، والطيران قطعها بسرعة في الهواء ، والقطع في الطيران أقوى منه في العدو ولذلك شبه العدو به ، وإنما فسرنا العدو بالذهاب ليناسب الركوب الذي دل عليه الكلام وإلا فالعدو عرفا إنما يكون على الرجلين ، فلا يناسب الركوب هذا إذا أريد بالطيران مطلق القطع في الهواء بسرعة ، وكثيرا ما يطلق الطيران على ذلك بلا جناح كما يقال : طارت به الرياح ، ولكن الأظهر أن الطيران وصف للطير ، وهو مخصوص بكونه بالجناح ، وإطلاقه على غير ذلك تجوز ، فالطيران على الأظهر هو قطع المسافة بالجناح وليس من شرط إطلاق الطيران على ذى الجناح وجود السرعة ، بل هى لازمة غالبا. فعلى هذا لا يكون القطع بسرعة داخلا في مفهوم الطرفين ؛ لأنه في أحدهما لازم لا جنس وقيل : إن من شرط إطلاق الطيران على الطير كون القطع بسرعة ، وعليه يدخل الجامع في المفهوم ولكن يتوقف ذلك على تحققه لغة ، والأقرب كونها غير شرط إذ يقال : طار الطائر حيث لم ينزل على غصن وشبهه ولو كان متمهلا في طيرانه ، ولأجل إمكان الاشتراط قلنا : الأظهر والأقرب ، ولم نقطع بذلك التفسير المقتضى لعدم دخول الوجه في حقيقة الطرفين ، وعلى الأظهر فالأولى أن يمثل باستعارة التقطيع الموضوع لإزالة الاتصال بين الأجسام الملتزقة بعضها ببعض ، لتفريق الجماعة أعنى إبعاد بعضها عن بعض وذلك في قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) والجامع إزالة الاجتماع وتلك الإزالة داخلة في مفهومهما ؛ لأن مفهوم التقطيع إزالة الاجتماع بقيد كون الأشياء المجتمعة ملتزمة بعضها ببعض ، ومفهوم تفريق الجماعة وإبعاد بعضها عن بعض إزالة الاجتماع بقيد كون الأشياء المجتمعة ملتزقة ، فقد أخذ الجامع الذي هو إزالة الاجتماع في حد كل منهما على أنه جنس لهما ، وتلك الإزالة في المشبه به أقوى

٣٠٠