مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

بالباء (١) ، وقد علق به فيما وضعت له وهو مجرور بالباء لزم تعلق حرفين لمعنى واحد بمتعلق واحد ؛ وهو ممنوع وأجيب عن هذا بأنه إنما يمتنع إن لم يعتبر تخصيصه بالمتعلق الأول بأن يعتبر عمومه بالنسبة للمتعلقين ، وأما إن اعتبر خصوصه بالأول فيكون الأول متعلقا به وهو عام فخصصه ، ويتعلق به الثاني بعد خصوصه فتختلف جهة التعلق جاز ؛ كما قيل في قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً)(٢) فإن من ثمرة تعلق به بعد تخصيصه بكونه من الجنة ، ومن الجنة متعلق به وهو عام ؛ وعلى هذا يكون التقدير هنا : الحقيقة : هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له ؛ وهذا المقيد باستعماله فيما وضع له استعمل في اصطلاح التخاطب ، فيرد إلى الصحة بأن يراد بالاصطلاح عليه عند المخاطب بكلامه ، أو تجعل في للسببية ؛ أي : استعملت في موضوع لها ؛ وذلك الاستعمال بسبب رعاية اصطلاح لهذا المخاطب ؛ بمعنى أن الاستعمال في ذلك الموضوع له لو لا الاصطلاح الذي للمخاطب بهذا الكلام لم يصح أنها استعملت فيما وضعت له ؛ ولكن هذا التصحيح تكلف كما تقدم ؛ يغني عنه تعلقها بوضعت فتعين العدول إليه ، وقد أطنبت هنا لما في المحل من الحاجة إلى مزيد تدقيق وبسط ؛ فليتأمل.

ولما اشتمل تعريف الحقيقة على الوضع الذي إذا أطلق انصرف إلى الوضع بالتحقيق عرف الوضع بالتحقيق بقوله :

تعريف الوضع

(والوضع) أي : مطلق وضع اللفظ ، وإنما قلنا : مطلق الوضع ؛ ليكون ما بعد مخرجا للوضع بالتأويل ، وقيدنا باللفظ ليعلم كما دل عليه كلامه بعد أن المراد تعريف وضع اللفظ ، لا تعريف الوضع الشامل لوضع الإشارة ، والأمارة ؛ ونحو ذلك.

وهو (تعين اللفظ للدلالة على معنى) خرج بقوله : تعيين اللفظ تعيين نحو الإشارة باليد أو الرأس للدلالة ؛ فلا يراد هنا كما ذكرنا ، ومعنى تعيين اللفظ : أن يخصص من بين سائر الألفاظ بأنه لهذا المعنى الخاص ليفهمه منه عند ذكره العالم

__________________

(١) كذا فى المطبوع والصواب أن يقول : " بفى".

(٢) البقرة : ٢٥.

٢٤١

بالوضع (بنفسه) خرج به التعيين للدلالة بواسطة القرينة ؛ وهو وضع المجاز ؛ كما سيخرجه المصنف وكون الدلالة على المعنى بالنفس لا بالقرينة يفيد أن العلم بوضع ذلك اللفظ كاف في فهم معناه عند إطلاقه عليه ، فيشمل وضع الحرف كالاسم والفعل ؛ لأن وضع الحرف إنما هو على أنه سمع حرف فهم معناه من غير توقف على قرينه ؛ إذ وضعه واحد ولم تصحبه قرينة ، فلا يحتاج في فهم معناه إلى قرينة ، وإنما يحتاج إلى القرينة فيما أريد به غير ما وضع له أولا ؛ كالمجاز لكن يرد أن يقال : فما معنى قولهم إذا : إن دلالة الحرف باعتبار مدخوله ؛ فإن هذا أمر مشهور في الحرف ، فحينئذ يتحقق بذلك توقفه على غيره فلا ينفهم معناه بمجرد العلم بوضعه ، فكيف يصدق عليه الحد ؛ والجواب عن ذلك ـ كما أشرنا إليه أن سماع الحرف كاف بعد العلم بوضعه في فهم المعنى بالنظر إلى نفسه ؛ بمعنى أنه لم تصحب وضعه القرينة ، ولا جعلت شرطا عند الوضع في فهم معناه ؛ وهذا هو المراد بالدلالة بالنفس ، وإنما جاء التوقف بالنظر إلى المعنى لكونه نسبيا لا ينفهم إلا باعتبار ما تعلق به ، ويتمم ذلك بأن يدعي أن معنى كونه نسبيا كونه ملحوظا لغيره ، لا كونه ذا نسبة تتعلق بين شيئين فقط ، وإلا لزم كون نحو البنوة والأبوة حرفا ؛ وبيان ذلك أن يقال : الحرف وضعه الواضع للمعنى الملحوظ ليتوصل به إلى غيره ، فإنه كما يفتقر إلى وضع اللفظ للمعنى الملحوظ لذاته نسبيا كان بأن توقف فهمه على فهم غيره ، أو غير نسبي بأن لم يتوقف ، كذلك يفتقر إلى وضع اللفظ للمعنى النسبي الملحوظ لغيره ؛ فحينئذ يكون الحرف بالنظر إلى نفس وضعه كافيا في الدلالة ؛ لأن الواضع لم يعتبر لذلك المعنى إلا نفس الحرف دون قرينة ، ولا يضر كون نفس المعنى نسبيا لا يفهم إلا باعتبار معنى آخر يدل عليه لفظ سوى الحرف ؛ لأن ذلك أمر عارض انجر إليه الأمر عند الاستعمال ، فعدم كفايته عند الاستعمال لا بالنظر إلى الوضع الأصلي ؛ لأن الحرف لم يوضع مقرونا بالمجرور ، كما لم يضر في وضع الاسم للمعنى النسبي المفتقر إلى ملازمة الإضافة لأنها عارضة تابعة ـ كون الاسم احتاج في الفهم عند الاستعمال إلى المضاف إليه وإنما قلنا : عند الاستعمال لأن لزوم الإضافة لا يقتضي وضع الاسم معها ، إذ غاية ما يقتضيه لزومها أن الاستعمال لا ينفك عنها ، لا

٢٤٢

أنه وضع كذلك ، ويكون الفرق بينه وبين الاسم الموضوع للمعنى النسبي الملازم للإضافة حتى صح أن يخبر عن الاسم دون ما ذكر من كون معناه روعي ولو حظ لغيره لا لذاته ، فإن الملاحظ لغيره لا يقدر أن يحكم عليه ، ولا يصلح لذلك ، ويتضح ذلك بما قالوه وهو : أن البصر في إدراك المبصرات كالبصيرة في المعاني المدركات ؛ فكما أن الناظر إلى صورة في المرآة متوجها لتلك الصورة بخصوصها لا يقدر أن يحكم على المرآة حال توجهه إلى الصورة ولو كانت المرآة مدركة في تلك الحالة ، لتوغله في الصورة وإقباله عليها ، وجعله المرآة لتلك الصورة وسيلة إليها ، فلا يستطيع أن يراعي جوانبها وأحوالها ليحكم عليها ، كذلك الناظر في حال الاسم والفعل مقبلا على شأنهما يجعل معنى الحرف الذي هو الابتداء في من مثلا فيما إذا قيل : سرت من الدار وسيلة إليهما وإلى حالهما ليفهم السامع أن مضمون الأول ابتدئ من مضمون الثاني ، ولا يقال : الابتداء هو الوسيلة ، وهو المتوسل إليه ، لأنه وسيلة من حيث إنه ابتداء من شيء ما ، ومتوسل إليه من حيث إنه ابتداء السير من مكان مخصوص ؛ ولهذا لا يستطاع أن يحكم على معنى الحرف حينئذ ، لأنه لوحظ لغيره ، ولو لوحظ لذاته لعبر عنه بالاسم ، ولوجب صحة الحكم عليه ؛ كما يصح الحكم على المرآة إذا لم تجعل وسيلة بل جعلت مقصودة ؛ للإحاطة حينئذ بأحوال كل منهما حيث قصدا بالذات فنقول المرآة مجلوة مثلا وابتداء السير من البصرة أحسن من ابتدائه من الكوفة ؛ ولمثل هذا لا يصح الحكم على الفعل فإذا قلت : قام فهو من حيث دلالته على القيام ملحوظ لذاته ، وبذلك فارق الحرف.

ومن حيث إن فيه نسبه مقصود للفاعل لا لذاتها لا يصح الحكم عليه ، إذ لا يستطاع الحكم على غير ملحوظ لذاته كما فهمته في المرآة. ولما كانت دلالة الحرف الحقيقية هي دلالته على المعنى المتوسل إليه وهو الخاص ، لكون معناه الأصلي نسبيا مقصودا لغيره ، ولا تحصل تلك الدلالة إلا عند ذكر الدال على المعنى المقصودة أحواله وهو الاسم والفعل ـ قيل : إن معنى الحرف مخصوص ، وهو في من مثلا ابتداء سير من البصرة مثلا أفاد الحرف هذا المعنى رد بنوع من الاستلزام ؛ وهو استلزام الأخص للأعم ـ إلى المستقل الذي هو مطلق الابتداء ؛ وفيه يقع التشبيه والاستعارة على ما سيأتي وإنما اعتبر

٢٤٣

هذا الخاص الذي لا يستفاد إلا في وقت الاستعمال ، وإن كان الحرف موضوع للكلي ؛ لأنه لما لاحظه الواضع ليكون وسيلة لغيره صار كأنه لغو في البين ؛ لتوغل النفس في طلب المتوسل إليه فسمي معنى الحرف وعاء المعنى الأصلي الموضوع له كاللازم فقولهم : ليس الابتداء في" من" مثلا معنى الحرف وإلا كان اسما وإنما هو لازم ، يعنون بذلك أنه لم يوضع له استقلالا بل مع ملاحظة التوسل به إلى غيره ؛ وهذا أعني : كون الحرف وضع بمعنى نسبي كلي ملحوظ لغيره الذي يقصد لخصوصه ، فعاد المتوسل إليه مسمى معنى الحرف ، وصار هو كاللازم ـ أعدل ما يتكلف في بيان معنى الحرف ، وفي بيان كيفية وضعه ، إذ هو أوفق لقاعدة الوضع ؛ وهي أن الموضوع يدل على الموضوع له كليا أو جزئيا ، وإلا فيقال : الحرف إن جعل لكلي فلا معنى لما يقال من أن الكلي المستقل لازم لمعناه ، وإن وضع لما سمى معناه ، وهو الجزئي لزم كونه في غير ذلك الجزئي مجازا ، أو منقولا ؛ وهو أيضا أبقى للإشكال بأنه إن وضع كليا صح الحكم عليه كالمرادف له من الأسماء ، وكذا إن وضع جزئيا وقيل : إن الحرف يشترط في دلالته على معناه الإفرادى ذكر متعلقه ، بخلاف الاسم فإنه إنما يحتاج إلى غيره في معناه التركيبى ، فإن كون زيد في قولك : قام زيد فاعلا معنى تركيبى لا يستفاد منه إلا بالتركيب مع قام على أن هذا لا يحتاج إلى الاحتراز عنه ؛ لأن كونه فاعلا لم يستفد إلا من نفس التركيب ، فلا دخل لنفس الاسم فيه موقوفا على التركيب حتى يحترز عنه ، إلا أن يقال : له دخل في ذلك ؛ لأنه متعلق التركيب ؛ ويلزم على هذا القول خروج الحرف عن الحد الوضع الحقيقي ؛ لعدم كفايته في الدلالة بالنظر لأصل وضعه ، ويلزم عليه صحة الإخبار عنه عند ضم متعلقه إليه ؛ لأنه دال دلالة كدلالة ملازم الإضافة شرط فيه المضاف إليه لصحة الاستعمال ، لا في أصل الوضع ـ قلنا : فكذا الحرف إذا لم يرد عن الواضع نص في كون الحرف شرط اتصاله بمدخوله في أصل دلالته وملازم الإضافة شرط اتصاله بالمضاف إليه في صحة الاستعمال ، فهذه دعوى بلا موجب ، وبلا دليل عليها ، بخلاف اعتبار مدلوله معنى كليا ليتوصل به لغيره فإنه يدل عليه عدم صحة الحكم عليه ، وقد بينا وجهه المناسب حسا ومعنى ، وبه يفهم ما ذكروا فيما يأتي من عدم صحة الاستعارة

٢٤٤

والتشبيه في معنى الحرف ، لأن ذلك من الحكم عليه وهو لا يقبل الحكم لما ذكر وقيل إن معنى قولهم : يدل الحرف على معنى في غيره ـ أنه يدل على معنى كائن في غيره فاللام ـ مثلا ـ تدل على معنى التعريف الكائن في لفظ رجل من قولنا : جاءني الرجل ، وهذا أيضا بظاهره فاسد ، لأنه يلزم عليه أن الاستفهام من قولنا : هل زيد قائم دلت عليه هل في اللفظ الذي هو زيد قائم ، ومعلوم أن الاستفهام قائم بالمتكلم لا باللفظ وإن أريد أنه متعلق به دخل فيه دلالة الفعل ، لأنا إذا قلنا : ضربت دل ضربت على معنى متعلق بزيد مثلا وإن أريد أنه دل على معنى موجود في معنى لفظ آخر لزم كون نحو البياض والسواد من الحروف لأنه دل على صفة موجودة في معنى لفظ آخر وهي ذات زيد ، فلا يتم إلا أن يرد لما ذكر من أنه يدل على معنى ملحوظ لغيره ؛ فتأمل هنا ، فإن البحث في شأن دلالة الحرف من دقائق أبحاث الوضع ، وفيما ذكرنا عند الإنصاف ما فيه كفاية ، والله الموفق بمنه وكرمه.

(فخرج) عن الحد المذكور للوضع (المجاز) بمعنى أنه إذا كان الوضع هو تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه ، فيخرج وضع المجاز ، لأنه موضوع نوعه على الصحيح وإنما خرج (لأنه) تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بواسطة القرينة فحيث جعل الوضع (دلالته) أي : دلالة المجاز على المعنى الموضوع هو له إنما هي (ب) شرط (قرينة) معتبرة في وضعه ، لا بنفسه ـ خرج عن حد وضع الحقيقة وضع المجاز ، وإنما يحتاج إلى إخراجه بناء على أن الدال هو اللفظ ، والقرينة شرط الدلالة كما قررنا ، وأما إن بنينا على أن الدال في المجاز هو اللفظ والقرينة معا فلا يحتاج إلى إخراجه بزيادة قوله : بنفسه لأن اللفظ في المجاز لا يصدق عليه حينئذ أنه دال بل هو جزء الدال وعلى أن المخرج هو وضع المجاز ـ كما قررنا ـ يكون إسناد الخروج إلى المجاز مجازا ، ويحتمل أن يكون معنى : فخرج المجاز عن حد الحقيقة ، لاشتماله على ذكر الوضع الذي لا يشتمل عليه مفهوم المجاز ؛ وعليه يكون إسناد الخروج إلى المجاز حقيقة ، وكذا تخرج الكناية ؛ لأن تعيينها للدلالة على المعنى الذى صار به اللفظ كناية إنما هو بالقرينة.

٢٤٥

نعم ، يبقى ما استعمل منها في المعنى الأصلي مع الفرعي بالقرينة يصدق عليها أنها كلمة استعلمت فيما وضعت له ، لأنه لم يشترط الخصوص بأن يقول : فيما وضعت له فقط ، حتى تخرج ، ولعله لكون اللفظ لا يسميه كناية بذلك الاعتبار.

وعلى إخراج الكناية ـ كما ذكرنا ـ يكون المراد بالقرينة المخرجة عن الدلالة بنفس اللفظ القرينة المعينة لإرادة غير الأصل ، لا المانعة من إرادته ؛ وإلا لم يخرج إلا المجاز ؛ لأنه هو المصحوب بالقرينة المانعة عن إرادة الأصل دون الكناية ، فإن قرينتها يبقى معها جواز إرادة المعنى الأصلي مع الفرعي على ما يأتي إن شاء الله تعالى ـ فقد علم بما ذكر : أن المجاز والكناية يخرجان عن الحد (دون المشترك) فلا يخرج ، لأنه وضع وضعين فأكثر على وجه الاستقلال ، بمعنى أنه عين أولا ليدل على المعنى بنفسه ؛ أي : بلا قرينة ، ثم عينه غير الواضع الأول لمعنى آخر ليدل عليه بنفسه أيضا ، أو عينه واضعه أولا نسيانا للأول ، أو بلا نسيان.

فالقرء ـ مثلا ـ موضوع تارة ليدل بالاستقلال على معنى الحيض ، وتارة ليدل كذلك على الطهر ، فإذا استعمل في أحدهما واحتيج إلى القرينة المعينة للمراد لم يضر ذلك في كونه حقيقة ؛ لأن الحاجة إلى القرينة فيه لتعيين المراد ، لا لأجل وجود أصل الدلالة على المراد ، فقرينة المشترك تفارق قرينة المجاز في أن قرينة المشترك لبيان دلالة عين لها اللفظ أولا بدونها فعرضت الحاجة لتعيينها بمزاحمة وضع آخر مستقل ، وقرينة المجاز لبيان دلالة لم يكن اللفظ عين لها أو لا بدون القرينة بل عين لها مع القرينة ؛ هذا في المشترك المستعمل في أحد معنييه ، وأما المستعمل في معنييه معا ، أو أكثر ـ بناء على جوازه ـ فإن قلنا إنه حقيقة فيهما كما قيل فالقرينة أيضا لبيان دلالة كان اعتبر لها أولا بدونها ، وإن قلنا إنه مجاز فيهما فالقرينة لبيان دلالة اعتبر الوضع لها مع القرينة ، وعليه فلا يبقى في الحد جميع أفراد المشترك بل بعضها ، فليفهم.

فتقرر بما ذكر أن الخارج عن الحد هو المجاز والكناية دون المشترك كلا أو بعضا ، وأما ما يوجد في بعض النسخ وهو قوله : فخرج المجاز دون الكناية ـ فهو سهو من التاريخ ، أو من الأصل ؛ لأنه إن أراد أن الكناية يتناول الحد المذكور للوضع وضعها

٢٤٦

فيصدق عليها أنها موضوعة وضعا حقيقيا فيتناولها حد الحقيقة المشتمل على الوضع فهي كلمة استعملت فيما وضعت له ، ولكن كونها موضوعة كذلك إنما هو باعتبار معناها الأصلي ؛ فهو فاسد ؛ لأن هذا الاعتبار يصح في المجاز إذ له وضع حقيقي باعتبار معناه الأصلي ، فإن قولك رأيت أسدا يرمي استعملت فيه الأسد مجازا ، ولا شك أن له في الأصل معنى حقيقيا وضع له وهو الحيوان المفترس ، وإن لم يستعمل فيه الآن ؛ فعليه لا يخرج المجاز أيضا ، ومعلوم أنه بذلك الاعتبار لا يسمى مجازا ، فالكناية بذلك الاعتبار أيضا لا تسمى كناية فإذا لم يصح دخوله باعتبار ما هو به مجاز ؛ فالكناية كذلك باعتبار ما هي به كناية ، وإن أريد أن الكناية موضوعة وضعا حقيقيا بالنسبة للمعنى الذي باعتباره كانت كناية وهو لازم معناها الأصلي ـ فهو فاسد ، لأن وضعها باعتباره لا يتناوله الوضع المحدود حتى يدخل ضرورة أن الوضع الحقيقي المحدود وهو تعيين للدلالة بالقرينة وأما التمحل في تصحيح ما ذكر بتفسير قوله : بنفسه بأن يقال : أي : من غير قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له ، أو بأن يقال : من غير قرينة لفظية ، فكأنه قال في حد الوضع : هو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى من غير قرينة مانعة عن إرادة ما وضع له ، أو من غير قرينة لفظية فيخرج وضع المجاز عن هذا الحد ، لأنه هو الذي يكون بقرينة مانعة على ما يأتي ، أو بقرينة لفظية ولا يخرج وضع الكناية ، لأن قرينتها غير مانعة من إرادة المعنى الحقيقي ، بل يجوز معها إرادة المعنى الحقيقي ، وعلى هذا يكون حد الحقيقة شاملا لما له وضع يدل به اللفظ بلا قرينة أصلا ، وما له وضع يدل به اللفظ بقرينة غير مانعة من المعنى الأصلي ، أو بقرينة غير لفظية ، لأنا إنما أخرجنا بالنفس ما يكون بقرينة مانعة أو بقرينة لفظية ، فذلك التمحل لا عبرة به لأوجه :

أحدها : أن فيه الدور في التعريف ؛ لأنا أخذنا الموضوع وهو مشتق من الوضع في تعريفه ؛ لأنه آل الأمر إلى أن صار التعريف بذلك التمحل هكذا ، والوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى من غير قرينة مانعة من إرادة الموضوع له ، والموضوع المذكور في التعريف لا يفهم إلا بالوضع وقد ذكر ليفهم به الواضع فجاء الدور وهذا الوجه يجاب عنه بأن المراد مصدوقه ، والغرض بيان المعنى في الجملة ، ولا يتعين التعبير بلفظ

٢٤٧

الموضوع ، وإنما عبر به لأنه لم يقصد التعريف ، وإذا أريد التعريف عبر عن مصدوقه بعبارة أخرى فيقال مثلا : الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى من غير قرينة مانعة عن إرادة المعنى الأصلي ، كما قيل : إن الأصلي هو ما وضع له اللفظ أولا ، ولا معنى له غير ذلك ؛ فعاد الدور.

وثانيها : أن المفهوم من قولنا دل اللفظ بنفسه أنه دل بلا شيء آخر وراءه ، وليس فيه ما يشعر بأن المراد بلا شيء هو القرينة المانعة ، وباعتبار ذلك في الحد يحتاج إلى بيان فيه ، ولم يوجد.

وثالثها : أن قوله : من غير قرينة لفظية يقتضي حصر قرينة المجاز في اللفظية ؛ وهو فاسد ؛ فإنك لو قلت : رأيت أسدا ، عند قول القائل لك : ما أرهبك؟ في مكان لا يتحرك فيه الأسد الحقيقي فهم المعنى المجازي بلا قرينة لفظية.

ورابعها : أن غاية تصحيح هذا التمحل أن تكون الكناية حقيقة ، وهو فاسد على مذهب المصنف ، فلا معنى لتمحل ما يبطل مذهبه فحمله على السهو أوجب وبهذا يعلم أن ما يقال : لأنها منها دون المجاز لا يصح ؛ لأنه لا يتم إلا بنحو التمحل المذكور ، وقد تبين فساده وإنما قلنا كذلك ، لأنه إن لم يتمحل بنحو ما ذكر خرجت الكناية ؛ لأنها من حيث معناها الذي صارت به كناية لا تدل بنفسها بل بقرينة ، كما تقدم وعلى تقدير تسليم صحة ذلك التمحل لا يرتكب إلا بثبوت كونها حقيقة ، والمصنف لا يقول بذلك وإن صرح به السكاكي ـ فلا يحمل كلامه على ما يخالف مذهبه ، بل يحمل على السهو منه ، أو من الناسخ ؛ وذلك أن المصنف إنما يقول بأن لفظ الكناية استعمل فيما لم يوضع له وهو لازم معناه مع جواز إرادة الملزوم ، فليس عنده من الحقيقة وسنحقق مذهبه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولما عرف الوضع ـ ومعلوم أن الحاجة إلى تعريفه إنما هي بناء على الحق وهو أن دلالة الألفاظ وضعية يصح تبدلها وتختلف اللغات بحسب أوضاع تلك الدلالة ـ أشار إلى ما يخالف ذلك ، وأن ظاهر ما قيل مما فيه مخالفة لكون الدلالة وضعية فاسد ، فقال :

٢٤٨

إنكار الوضع

(والقول بدلالة اللفظ) أي : وقول القائل : ـ وهو عباد الصيمري من المعتزلة ـ إن دلالة اللفظ (لذاته) لا بوضع الواضع ، بل اللفظ بينه وبين معناه ارتباط اقتضته مناسبة ذاتية له بها دل على ذلك المعنى (ظاهره) أي : ظاهر هذا القول (فاسد) بمعنى أن هذا القول مما يتفق على فساده ما دام محمولا على ظاهره ، لأن ظاهره أن اللفظ يفهم منه المعنى بالنظر لذاته ، ويلزم بحصول ذاته عند السامع حصول المعنى لديه ؛ لأن الأمر الذاتي لا يتخلف عن الذات فإذا تصور العقل ذات اللفظ تصور معه مدلوله ؛ فتكون دلالته عقلية كدلالته على وجود اللافظ به ؛ وإذا كانت عقلية استوت فيها العقلاء ؛ فيلزم أن يفهم كل واحد كل لفظ في كل لغة ، فيترتب على ذلك أنه لا يختص بلغة قوم على قوم وإذا فرض نقل لفظ إلى معنى مجازي بقرينة ليفهم منه ذلك المعنى المنقول إليه بالقرينة لم يصح ، وكذا إذا نقل ليدل بالقرينة ؛ لأن النقل عرضي فإذا أطلق ليفهم منه المعنى المنقول إليه دون معناه الأصلي لم يصح ؛ لأنه يقتضي المعنى بذاته وما بالذات لا يتخلف بالعارض من نقل مجرد أو بقرينة ، ويلزم منه أن لا يصح وضعه للضدين ؛ لأنه وإن أمكن أن يناسب الشيء الضدين معا بجهتين مختلفتين يلزم عليه اجتماعهما عند الإخبار باللفظ الموضوع لهما عن شيء واحد ؛ فالجون ـ مثلا ـ الموضوع للأبيض والأسود إذا قيل : هو جون فهم أنه أبيض وأسود معا ، واللوازم كلها فاسدة ؛ هذا إذا كان معنى قوله ؛ يدل بذاته ـ أنه يدل بذاته الظاهرية ؛ أي : من حيث إنه لفظ يدرك عند سماعه بخصوصه.

وأما إن أريد أنه يدل بأمر يرجع إلى حال في ذات اللفظ الخاص فيكون ظاهرا مدركا عند السماع أو خفيا ـ فلا تترتب هذه اللوازم ، ولكن يلزم عليه أن من أدرك ما صارت به ذات اللفظ دالة فهم المعنى فلا يتأتى النقل باعتبار هذه المدارك ؛ وإلى هذا الاعتبار يشير من يقول : إن إدراك الدلالة الذاتية يخص الله به من يشاء ويدركه غيره منه بالتعلم ؛ ويناسب هذا ما يحكى أن بعضهم كان يزعم أنه يفهم معنى اللفظ بطبعه ، فقيل له : ما معنى آدغاغ ؛ فقال : أجد فيه يبسا أظنه الحجر. وهو كذلك في لغة البربر.

٢٤٩

قيل : إن هذا المعنى هو الذي صح عن عبادة ، فإن أراد حينئذ أن اللغة على هذا النمط وأن الأصل في الإدراك الطبع بالمناسبة ثم تدرك تلك المناسبة من تعليم المدرك من غير صحة النقل ـ فالمشاهدة تكذبه ، ضرورة صحة نقل الألفاظ ووضعها بحيث لا يفهم منها غير ما وضعت له كما قلنا فى الإلزام الأول ، وإن أراد ذلك مع صحة النقل والوضع باعتبار غير المدرك لها بالطبع لزم ـ صحته أيضا باعتبار ؛ إذا لا فرق بين أفراد الإنسان في أن ما يصح باعتبار فرد منها يصح باعتبار الآخر لصحة جهل الكل لتلك المناسبة ؛ فيلزم بطلان كون الدلالة طبيعية لصحة تخلفها فتخلفها الوضعية ، وغاية ما فيه : تجويز منع النقل لبعض الأفراد لعارض ، ولا حكم للنادر العارض.

وإن أراد أن اللفظ لا بد أن تكون فيه مناسبة ولا تكفي في الدلالة ، ولكن تحمل الواضع على الوضع ، وإلا لم اختص هذا اللفظ بأن يوضع لهذا المعنى دون هذا؟ فحينئذ إن كان مراده مناسبة غير موجبة للوضع بل مرجحة للوضع عند الواضع ولو شاء لأهملها ـ رجع إلى نحو ما تأوله به السكاكي ، كما يأتي ؛ وهو خلاف الظاهر.

وإن أراد مناسبة موجبة للوضع فهو فاسد مما تقرر في الحكمة أن المختار لا يجب عليه شيء وإلا انتفى الاختيار إن كان الواضع هو الله تعالى ؛ وهو الراجح ، وإن كان المخلوق ؛ فمن المعلوم أنه إنما يضع باختيار الله تعالى ؛ على أن المشاهدة تكذبه ؛ فإن المخلوق يضع ألفاظا وينقلها بالاختيار بلا رعاية مناسبة أصلا وإن أراد أن الاختيار من المخلوق محال بلا مناسبة فهو فاسد ؛ فإن اختياره لا يتوقف جزما كأخذ أحد الرغيفين ليكسر سورة الجوع بلا مرجح لأحدهما على الآخر فقد تبين أن هذا القول على ظاهره لا يصح.

(وقد تأوله) أي : القول بأن دلالة اللفظ إنما هي لذاته (السكاكي) أي : حمله السكاكي على غير ظاهره ، وذلك أنه قال : معنى قوله : يدل لذاته : أن فيه وضعا ذاتيا يناسب أن يوضع به لمعنى دون آخر مناسبة لا تؤدي إلى حد الإلجاء وقد تقدمت الإشارة لهذا التأويل آنفا فقول هذا القائل على هذا تنبيه على ما عليه أئمة التصريف المشتمل على الاشتقاق ؛ وهو ما ذكروه من أن للحروف في أنفسها خواص وأوصافا

٢٥٠

بها تختلف أجناس الحروف كما اختلفت في مخارجها ؛ وذلك مثل كون الحرف مجهورا المقابل لكونه مهموسا ؛ أي : معه خفاء طبيعي ، ومثل كونه شديدا المقابل لكونه رخوا ، ومثل كونه متوسطا بين الشدة والرخاوة ، وغير ذلك كالتصحيح والإعلال ، والاستعلاء والانخفاض ، وأجناس ذوات هذه الأوصاف معلومة في محلها. وإذا كانت الحروف كذلك فمن مقتضى حكمة الواضع أن لا يهمل المناسبة عند الوضع ولو جاز عقلا تركها ـ فيضع ـ مثلا ـ ما يشتمل على ما فيه رخاوة لمعنى فيه رخاوة ومقاربة وسهولة ؛ كالفصم (بالفاء) الذي هو حرف رخو ؛ وقد وضع لكسر الشيء بلا بينونة ؛ لأنه أسهل مما فيه بينونة ولذلك وضع له القصم (بالقاف) الذي هو حرف شديد ؛ لأن الكسر مع البينونة أشد وكذا يضع ما فيه مستعل لما فيه علو وضده ، وعلى هذا القياس وما ذكروه أيضا من أن لتركيب الحروف في الكلمة هيئة خاصة تناسب معنى فتوضع له تلك الكلمة ؛ كما في النزوان فإنه على هيئة حركات متوالية فيناسب ما هو من جنس الحركة ؛ ولذلك وضع لضراب الذكر ونزوه على الأنثى وهو من جنس الحركة ؛ وكما في الحيدى فإنه على هيئة حركات متوالية فوضع للحمار الذي له نشاط في حركاته وخفته حتى إنه يحيد ويفر من ظله ؛ وكذا هيئة فعل بضم العين للزوم ؛ بمعنى : عدم التعدي للمفعول لأن الانضمام يناسب عدم الانبساط فجعلت دالة على الأفعال الطبيعية اللازمة لذواتها ككرم ، وجبن ، وشرف. ويناسب ما ذكر من رعاية خواص الحروف ما يقوله أرباب علم الحروف من أن لها حرارة وبرودة ، ورطوبة ويبوسة تناسب بها ما وضعت له الألفاظ المركبة منها ، وما يقوله المنجمون من أن حروف الاسم تشتمل على مناسبة تدل بها على أحوال مسماه وما يقع له من الحوادث طول عمره. وعند أهل الحق أن كل ذلك لله تعالى ؛ فعلى تقدير وجود دلالة عادية في شيء من ذلك فهي بالجعل من الله تعالى يمكن تخلفها وكون الحرف ـ مثلا ـ حارا أو باردا حرارة وبرودة تقتضي برودة أو حرارة في طبع مسماه ليس بالذات ، بل بالجعل ، ويمكن أن يجعل ذلك الربط في حرف مضاد له.

٢٥١

أنواع المجاز :

ولما عرف الحقيقة المقابلة للمجاز أشار إلى تقسيم المجاز ، ثم إلى تعريفه فقال : (والمجاز) في الاصطلاح قسمان : (مفرد ، ومركب) وهو في الأصل من جاز المكان يجوزه إذا تعداه ، فهو مصدر ميمي على وزن مفعل قلبت فيه الواو ألفا بعد نقل حركتها للساكن قبلها ؛ كمقام ، ثم نقل لكلمة اتصفت بمعناه وهي الكلمة المستعملة في غير معناها الأصلي ؛ لأنها متصفة بالجواز ؛ إما على أنها جائزة مكانها الأصلي وهو ما تستعمل فيه بالأصالة إلى غيرها ؛ فتكون متصفة بمعناه على أنه وصف الفاعل ؛ فهو مصدر أطلق على الفاعل. أو على معنى أنها مجوز بها ؛ أي جازوا بها مكانها الأصلي ، وعدوها إياه ، فتكون متصفة بمعناه على أنه وصف المفعول ، فهو مصدر أطلق على المفعول ؛ ونحو هذا ذكره الشيخ عبد القاهر في أسرار البلاغة في وجه تسمية الكلمة بالمجاز. واستظهر المصنف أنه نقل من اسم المكان إلى الكلمة من قولهم : جعلت كذا مجازا لحاجتي ؛ أى : طريقا لحاجتى لأن الكلمة جعلت طريقا لفهم معناها الذي نقلت إليه فلم يعتبر فيها كونه جائزة ولا مجوزا بها ، بل كونها محلا للجواز وإنما استظهره لأن استعمال المجاز في المكان أكثر ، ونقله لما يشبه بالمكان ويتخيل فيه المحلية أنسب ، وعليه فيكون في الأصل من قولهم : جزت المكان ، لا بمعنى : تجاوزته ، بل بمعنى : سلكته ، ووقع جوازي فيه ؛ ولو كان ملزوما للتجاوز أيضا وما ذكره الشيخ عبد القاهر لا ينافي أن ينقل من المكان للفاعل أو المفعول لوجود التلبس بالفعل في كليهما ، لكن نقل المكان إلى ما يؤول بالمكان تأويلا غير بعيد أنسب. ولا يقال : إذا كان المرعي في الكلمة على ما استظهره المصنف أنها جعلت طريقا لفهم المعنى فالحقيقة جعلت طريقا لمعناها أيضا ؛ فلتسم مجازا بهذا الاعتبار ، بخلاف اعتبار أسرار البلاغة إذ لم يتجاوز بالحقيقة عن أصلها ؛ فيلوح من هذا رجحان الاعتبار الأول وإن كان هذا الأخير قريب المناسبة ؛ لأنا نقول : ما ذكر لبيان وجه التسمية ووجه ترجيح هذا الاسم في المعنى على غيره ، ولا يقتضي ذلك اطراد التسمية في كل ما وجد فيه المعنى المعتبر ؛ لأنه إنما اعتبر لإنشاء التسمية على وجه الخصوص بالمسمى كما لا يلزم انتفاؤها عند انتفاء المعنى فإنك إذا

٢٥٢

سميت رجلا بخصوصه بأحمر لوجود الحمرة فيه ـ لم يلزم تسمية غيره بالأحمر ؛ لأن التسمية الخاصة لا تتعدى ولو كانت لسبب ، كما لا تنتفي بانتفاء السبب فيسمى أحمر ولو انتفت الحمرة. وإنما يلزم الاطراد والانتفاء بالانتفاء في الأوصاف التي إنما يقصد بها الإشعار بالمعانى دون الذوات بخصوصها ، فتشتق من المعنى وتوضع وضعا كليا ؛ فالقائم والأحمر ـ مثلا ـ إذا كانا وصفين فيما وضعا لمن وصف بالقيام والحمرة من غير رعاية خصوص الموصوف ـ فيتبع وجود المعنى في الشيء صحة الإطلاق عليه ، ويتبع عدمه عدم صحة الإطلاق. فالحقيقة ولو وجد فيها المعنى المذكور لا تسمى مجازا إذ لم يطلق المجاز على معناه ليشعر بالمعنى الذي اشتق منه فيتبعه ثبوتا ونفيا كما في الأوصاف وأسماء الأماكن بل اعتبر المعنى لترجيح الاسم للتسمية من غير قصد وضعه للمعنى الوصفي ، وكذا الحقيقة تختص بمعناها ولا يسمى المجاز باسمها لوجود معنى الحق والثبوت فيه باعتبار المعنى المنقول إليه.

ثم لما كان المجاز قسمين ـ كما ذكر : مفرد ، ومركب ، وهما متباينان ، وجمع المتباينين في حد واحد غير ممكن إلا بما يشعر بواحد منهما بخصوصه ، والمقصود الخصوص ـ عرف كلا منهم على حدة ، وقدم المفرد منهما لبساطته ، فقال : (أما المفرد) أي : المجاز المفرد (فهو الكلمة المستعملة) فالكلمة جنس خرج عنه الكلام بناء على أصل إطلاقها ، والمستعملة فصل خرج به الكلمة الموضوعة قبل الاستعمال فلا تسمى مجازا كما لا تسمى حقيقة (في غير ما وضعت له) فصل خرج به الكلمة المستعملة فيما وضعت له على الإطلاق وهي الحقيقة ؛ سواء كان لفظها مرتجلا بأن لا يتقدم له وضع كسعاد وأدد ، أو منقولا بأن تقدم له وضع كزيد علم على شخص ، وسواء كان الارتجال والنقل في العلمية كما مثل ، أو في الجنسية كالعين في المعنى الثاني ؛ إذ لا بد أن يتقدم أحد الوضعين ، وكالأسد في الأول. ودخل في المنقول المشترك مطلقا إذ ليس من شرط النقل وجود المناسبة. نعم ، المشترك إذا تعدد فيه الوضع مع عدم الشعور بالوضع الأول فلا يسمى منقولا ، وهو من الحقيقة كما تقدم ، اللهم إلا أن يعني بالنقل تقدم الوضع ووجود آخر بعده بلا قرينة فلا يخرج ما ذكر عن المنقول ، ولكن

٢٥٣

المعروف في النقل هو أن يكثر استعمال الاسم في بعض ما يصلح له حتى يتناسى الأصل ويهجر ويصير لا يفهم منه إلا ذلك الحاصل ، أو ينقل لمناسبة مع هجران الأول وعليه يكون المنقول مباينا للمشترك وإدخال مرتجل الأعلام بناء على أن العلم يسمى حقيقة ، وأما على أنه لا يكون حقيقة كما لا يكون مجازا فيرد دخوله في الحقيقة مع كونه لا يسمى بها ؛ تأمله.

وكذا يدخل ما ليس مرتجلا ولا منقولا ؛ كالمشتقات ؛ فليست مرتجلة محضة لتقدم وضع موادها ، ولا منقولة لعدم وضعها بنفسه قبل ما اشتقت له وقوله : (في اصطلاح التخاطب) متعلق بقوله : وضعت له يعني : أن المعنى الذي وضع له اللفظ في اصطلاح التخاطب بذلك اللفظ إذا استعمل المخاطب ذلك اللفظ في غيره فهو مجاز ، ويحتمل أن يتعلق بالمستعملة بعد تقييده بقوله : في غير ما وضعت له فيكون المعنى أن الكلمة المقيدة بكونها استعملها في غير ما وضعت له إذا استعملت في اصطلاح ؛ أي : بسبب اصطلاح التخاطب ؛ بمعنى أن مصحح استعمالها في ذلك الغير وسبب كونه غبرا هو اصطلاح التخاطب ـ تكون مجازا على ما تقدم في تعريف الحقيقة ـ وقد بينا أن هذا الوجه الثاني لا يخلو من تمحل ، وبكل تقدير إنما زاد هذا القيد لئلا يخرج المجاز المستعمل فيما وضع له في غير اصطلاح المستعمل ، وقد استعمل في اصطلاحه في غير ما وضع له ؛ كلفظ الصلاة إذا استعملها المخاطب بعرف الشرع في الدعاء ؛ فإنه مجاز ، ولو لا هذا القيد لصدق عليه أنه استعمل فيما وضع له ، ولم يصدق عليه أنه استعمل في غير ما وضع له على الإطلاق ؛ لأن الدعاء الذي استعمل فيه كان موضوعا في الجملة ؛ أعني : في اللغة ، ولما قيد باصطلاح التخاطب دخل ؛ لأن الدعاء غير موضوع له في اصطلاح الشرع فهو كلمة استعملت في غير ما وضعت له في اصطلاح المستعمل ؛ وهو ظاهر. ومثله ما إذا استعمله اللغوي في الأركان المخصوصة لعلاقة فإنه مجاز ؛ لأن الأركان غير موضوع لها في عرف اللغة ؛ وزاد هذا القيد أيضا ـ أعني قوله : في اصطلاح التخاطب ـ ليخرج عن التعريف ما هو من أفراد الحقيقة ؛ وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، لكن ليس غيرا في اصطلاح التخاطب وإنما هو غير

٢٥٤

باصطلاح آخر ؛ كلفظ الصلاة إذا استعمل بعرف الشرع في الأركان المخصوصة فإنه حقيقة ، ولو لا هذا القيد لدخل في المجاز ؛ لأنه يصدق عليه أنه كلمة استعملت في غير ما وضع له ؛ إذ الأركان غير الموضوع له باعتبار اللغة ، ولما زاد في اصطلاح التخاطب خرج ؛ إذ لا يصدق عليه أنه مستعمل في غير المعنى الذي وضع له في اصطلاح المستعمل ؛ ضرورة أن الأركان وضع لها في اصطلاح المستعمل ، فلا يكون مجازا باعتبار اصطلاحه فيخرج عن التعريف ثم المراد بالوضع ما يصدق عليه مطلق الوضع فى الجملة ؛ الشامل للوضع النوعي ، والشخصي ؛ لأنه لو أريد به الوضع الشخصي لم يصدق الحد على التجوز في المشتقات ، إذ لا يصدق عليه أنه استعمل في غير الموضوع الشخصي لها ؛ وذلك أن المجاز يقتضي تقدم الوضع ، فإذا قيد بالشخصي لم يصدق أن لها وضعا شخصيا استعملت في غيره ؛ ضرورة أن اسم الفاعل ـ مثلا ـ إنما وضع نوعه ؛ لا كل شخص من ألفاظه التي يصح أخذها من الفعل. وكذا إذا أريد به الوضع النوعي لم يدخل نحو الأسد مجازا ، إذ لا يصدق عليه ، أنه استعمل في غير موضوعه النوعي ، لأن تقدم الوضع شرط ؛ فإذا خصص بالنوعي لم يصدق عليه أنه له وضع نوعي استعمل في غيره ، وإذا أطلق الوضع المنفي عمهما فإن قلت : يصدق على كل منهما أنه استعمل في غير ما وضع له ولا يلزم منه تقدم الوضع ، لأن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع فيصدق على كل منهما الحد ، ولو خصص الوضع قلنا : هذا اعتبار عقلي محض ليس كثيرا في العربية ، بل المدلول عرفا في قولنا : استعمل في غير الموضوع هو له ـ أن له موضوعا نوعيا أو شخصيا فيلزم ما ذكر.

ثم لو اعتبر ذلك لم يصح حد المجاز لأنه ذكر فيه ما يقتضي شرط العلاقة بين الموضوع له أولا وثانيا ؛ وذلك يفيد سبق الوضع لو حمل على ما يقتضي وجود وضع سابق كان في الكلام تناقض وتخاذل ؛ إذ يصير التقدير ؛ المجاز كلمة استعملت فيما لم توضع له من غير شرط تقدم الوضع لعلاقة بين الموضوع له أولا وثانيا ، ولا يخفى تخاذله ، فليتأمل.

٢٥٥

وقد ورد على هذا الحد أيضا دخول المشترك الذي استعمل في معناه الثاني إذا كان وضعه في اصطلاح واحد ، لأنه كلمة استعملت في غير ما وضعت له أولا في اصطلاح التخاطب. وأجيب بأن المراد استعملت في غير كل ما وضعت له وضعا حقيقيا ، والمشترك بهذا الاعتبار لم يستعمل في غير كل ما وضع له وضع حقيقيا ، بل استعمل في بعض ما وضع له وضعا حقيقيا. ولا يخفى ما في هذا الجواب من اعتبار الغاية الخالي الكلام عن دليلها. وأجيب أيضا برعاية الحيثية ؛ أي : المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضع له من حيث إنه غير ما وضع له ، والمشترك في المعنى الثاني إنما استعمل من حيثية الوضعية لا من حيثية غير الوضعية ، ولكن هذا الاعتبار إن تم أغنى عن قوله : في اصطلاح التخاطب لأن ما أريد إخراجه وإدخاله به يخرج ويدخل بالحيثية ؛ كما لا يخفى ؛ فافهم.

(على وجه يصح) هذا فصل خرج به الغلط كما يأتي (مع قرينة عدم إرادته) أي : المجاز هو الكلمة المستعملة على الوجه المذكور مع مصاحبة قرينة دالة على عدم إرادة المتكلم للموضوع له وضعا حقيقيا فقرينة المجاز مانعة من إرادة الأصل ، وهو فصل خرج به الكناية كما يأتي.

ولما أعان ذكر قيود الحقيقة على فهم ما يراد إخراجه بغير هذين القيدين الآخرين لم يتعرض لما يخرج بغيرهما وهو أنواع الحقيقة التي تقدم تعريفها ، ولما لم يتقدم ما يدل على ما يخرج بهذين القيدين تعرض لذلك مع بيان ما أفاده قوله : على وجه يصح لإبهامه ، فقال : وحيث شرطنا في المجاز أن يكون على وجه يصح (فلا بد) له أعنى : المجاز. (من العلاقة) وهي ما أوجب المناسبة والمقاربة المقتضية لصحة نقل اللفظ عن المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي ؛ كالمشابهة في مجاز الاستعارة ، وكالسببية والمسببية في المجاز المرسل ، ليتحقق بتلك العلاقة أن الاستعمال على وجه يصح عند العقلاء ، لجريان اعتبار ذلك الاستعمال لديهم ، وبه يعلم أن العلاقة لا يكفي في المجاز وجودها ؛ بل لا بد مع وجودها من أن يعتبرها المستعمل ويلاحظها ، وتكون هي السبب في الاستعمال ؛ لأن ذلك هو المرعى عند العقلاء في كلامهم ، والمعتبر من العلاقة النوعية ؛ ولذلك صح

٢٥٦

إنشاء المجاز في كلام العرب والمولدين ؛ بمعنى : أنا إذا عرفنا أنهم استعملوا لفظا في سبب معناه أو في المسبب عن معناه جاز لنا أن نستعمل لفظا آخر لمثل تلك العلاقة ، أو لعكسها ؛ لوجود الربط في كليهما ، ولا نقتصر على ما استعملوه فقط. فإن لم تكن العلاقة واستعمل اللفظ في غير معناه لانتفاء هذا المعنى خارجا : فإن كان عمدا فهو كذب ، وهو مما لا يلتفت لإخراجه من الحد وإن كان حقيقة ؛ لأن المفهوم منه معناه الأصلي ولو كان غير مطابق. وإن كان غلطا : فإن كان الغلط في الاعتقاد كأن يقول : انظر هذا الأسد مشيرا للفرس معتقدا أنه الرجل الشجاع صدق عليه حد المجاز ؛ لأنه في اعتقاده الذي هو المعتبر استعمله في غير معناه لعلاقة ، وإن لم يصب في ثبوت العلاقة في المشار إليه ؛ ولهذا إذا استعمله في معناه في اعتقاده فقال : انظر إلى الأسد ؛ معتقدا أنه هو الحيوان المعلوم فإذا هو فرس فهو حقيقة ؛ لاستعماله في معناه الأصلي في اعتقاده ؛ وإن لم يصب.

وإن كان الغلط في اللفظ فهو خارج عن الحد ؛ وهذا هو المراد بقوله : واشتراط العلاقة التي اقتضاها كون الاستعمال على وجه يصح بأن يكون لا ينكر عند العقلاء إنما هو ليخرج الغلط عن تعريف المجاز. وأراد بالغلط : اللفظي كما بينا. فإذا قال : خذ هذا الفرس مشيرا لكتاب ومريدا له صدق عليه أنه استعمل في غير معناه لكن لا على وجه يصح ، لأنه بلا علاقة ؛ فيخرج عن حد المجاز. ثم أشار إلى ما يخرج بقوله : مع قرينة عدم إرادته بقوله : (و) اشتراط وجود قرينة مانعة عن إرادة المعنى الأصلي لتخرج (الكناية) حيث يصدق عليها أنها لفظ استعمل في غير معناه بقرينة لكن ليست مانعة من إرادة المعنى الأصلي ؛ لأنها كما سيأتي لا بد أن يكون استعمالها في غير ما وضعت له مقارنا لتحقق جواز إرادة المعنى الأصلي ؛ والمراد بجواز إرادة المعنى الأصلي أن لا ينصب القرينة على انتفائه ؛ فعلى هذا إذا انتفى المعنى الأصلي عن الكناية ولم ينصب علم المخاطب بانتفائه قرينة لم ينتف عنها اسم الكناية ، وليس المراد أن يوجد المعنى الأصلي معها دائما ، فإنك إذا قلت فلان طويل النجاد ـ كناية عن طول القامة ـ صح على أن اللفظ كناية ولو لم يكن له نجاد ، وذلك حيث لا تقصد جعل علم

٢٥٧

المخاطب بأن لا نجاد له قرينة على عدم إرادة المعنى الأصلي لكن إنما تخرج الكناية فقط بالقيد المذكور ويبقى الحد سالما للمجاز إن بنينا على أن لفظ المجاز لا يستعمل في معناه الأصلي والمجازي معا ، وإن جوزنا ذلك لم يشمله الحد ، لأن القرينة فيه لا تمنع من إرادة المعنى الحقيقي. ثم إذا أسقط القيد المذكور لإدخاله دخلت الكناية أيضا ؛ وهو ظاهر.

ثم أشار إلى أقسام الحقيقة والمجاز فقال :

أقسام الحقيقة والمجاز

(وكل منهما) أي : من الحقيقة والمجاز أقسام أربعة : (لغوي ، وشرعي ، وعرفي) ثم العرفي إما (خاص ، أو عام) ففي الحقيقة أربعة : اللغوية ، والشرعية ، والعرفية الخاصة ، والعرفية العامة. وفي المجاز مثل ذلك. فالحقيقة اللغوية ما وضعها واضع اللغة ، والشرعية ما وضعها الشارع ، والعرفية الخاصة ما وضعها أهل عرف خاص كالنحويين في لفظ مخصوص ، والعرفية العامة ما وضعها أهل العرف العام ؛ أي : الذي لم يختص بطائفة مخصوصة من الناس. وستأتي أمثلتها. ويقال في الخاص : ما تعين ناقله ، وفي العام : ما لم يتعين والمراد بالتعين : أن يكون غير خارج عن طائفة خاصة ، وليس شرطه أن يعلم الشخص الناقل ، وبه يعلم أن ليس المراد اتفاق جميع أهل العرف أولا لا في العام ، ولا في الخاص. وظاهر هذا أن النقل لا بد منه ، وأن كثرة الاستعمال دليل عليه ، لا أنه نفسه. وقيل : النقل كثرة الاستعمال للفظ في بعض أفراد معناه ، أو في معنى مناسب للمعنى الأصلي.

واشتراط النقل منظور فيه إلى أصل دلالة الألفاظ ، وعدم اشتراطه بأن يجعل هو اتفاق كثرة الاستعمال حتى يصير الأصل مهجورا منظورا فيه إلى أن ذلك هو المحقق في مسمى المنقول ، ولا دليل على وجود نقل مقصود أولا. ثم النقل : قيل : لا بد فيه من المناسبة ، وقيل : لا وقد تبين بهذا أن نسبة الحقيقة إلى اللغة والشرع والعرف عاما وخاصا إنما هي باعتبار الواضع ؛ فإن كان الواضع واضع اللغة فلغوية ، أو الشارع فشرعية ، أو أهل العرف فعرفية خاصة أو عامة. والأقرب أن اختصاص أهل البلد بنقل لفظ دون سائر البلدان لا يسمى اللفظ به خاصة ، وإنما يسماه إن كانوا طائفة منسوبين

٢٥٨

لحرفة كأهل الكلام ، وأهل النحو ، لأن الدخول في جملة أهل البلد لا يتوقف على أمر متكلف يضبط أهلها ، ولأن الغالب انتشار عرفهم في الكثير المتقارب لعموم أهل البلدان. وأما نسبة المجاز إلى ما ذكر من الشرع واللغة والعرف عاما وخاصة فتكون باعتبار الاصطلاح المنسوب إليه الشخص المستعمل في غيره ؛ بمعنى أن مستعمل اللفظ إن استعمله في غير ما اصطلح هو أو مقلده على وضعه له : فإن كان ذلك المستعمل في غير اصطلاحه لغويا فالمجاز لغوي ، أو كان شرعيا فالمجاز شرعي ، أو كان من أهل العرف العام فالمجاز عرفي عام ، أو كان من أهل العرف الخاص فالمجاز عرفي خاص. وإن شئت قلت : النسبة فيه باعتبار العلاقة ؛ فإن كان اللفظ باعتبار المعنى الذي نقل عنه إلى هذا لعلاقة ولولاها حينئذ لم يصح إطلاقه لغويا فالمجاز لغوي ، وإن كان شرعيا فشرعي ، أو عرفيا فعرفي خاص ، أو عام.

ثم أشار إلى مثال الحقيقة والمجاز لكل نوع ، وبدأ بمثالهما لغويين ، ثم الشرعيين ، ثم العرفيين خاصين وعامين بقوله : (كأسد) فإنه وضع (للسبع) وهو الحيوان المعروف لغة فهو حقيقة لغوية (و) هو بالنسبة (للرجل الشجاع) مجاز لغوي للعلاقة بينه وبين المعنى الأول ، (و) ك (صلاة) فإنه لفظ وضع (للعبادة) المخصوصة شرعا فهو حقيقة شرعية فيها (و) هو بالنسبة إلى (الدعاء) حيث يستعمل فيه للعلاقة بينه وبين العبادة مجاز شرعي ، (و) ك (فعل) فإنه وضع في عرف النحويين (للفظ) مخصوص وهو ما دل على أحد الأزمنة الثلاثة وحدث وقع أو يقع أو مطلوب الوقوع فيه ، فهو حقيقة عرفية خاصة في ذلك (و) هو بالنسبة (للحدث) الذي هو وصف قائم بالموصوف صادر منه كالضرب أو غير صادر كالحمرة مجاز عرفي خاص حيث يستعمل فيه لعلاقة بينه وبين المعنى الذي وضع له في النحو (و) ك (دابة) فإنه في العرف العام (لذي الأربع) كالحمار فهو حقيقة عرفية عامة فيه (و) هو بالنسبة (للإنسان) مجاز عرفي عام حيث يستعمل فيه لعلاقة بينه وبين ما وضع له في العرف العام. والعلاقة بين السبع والشجاع المشابهة ، وبين العبادة المخصوصة والدعاء اشتمالها عليه ، وبين اللفظ المخصوص والحدث دلالته عليه مع الزمان ، وبين الإنسان وذوات الأربع مشابهته لها في قلة التمييز

٢٥٩

حيث تعتبر تلك المشابهة ولفظ الدابة في الأصل لكل ما يدب على الأرض فإن استعمل في ذات الأربع من حيث كونها مما يدب فهو حقيقة ، وإن استعمل فيها لخصوصها وروعي الدبيب لتحقق المناسبة الموجبة لتسميتها بخصوصها وكان ذلك من أهل العرف العام صار حقيقة عرفية عامة ، فنقله بعد ذلك إلى الإنسان للمشابهة مجاز عرفي عام. وإن استعمل فيها لخصوصها باعتبار اشتمالها على الدبيب كإطلاق لفظ الجزء على الكل من غير قصد التسمية لها بخصوصها ، وإنما اعتبر الدبيب للتجوز بحيث يصح أن يطلق على مخصوص آخر باعتباره كان مجازا فاستعمال الدابة في ذات الأربع تصح فيه الاعتبارات الثلاثة وذلك واضح.

نوعا المجاز

ولما فرغ من تعريف الحقيقة والمجاز وذكر أقسام كل منهما باعتبار النسبة إلى منشئه من اللغة ، والشرع ، والعرف العام والخاص شرع في بيان نوعي المجاز الذي هو المقصود بالذات في هذا الباب وهما المرسل والاستعارة ، وفي بيان أقسام كل منهما ، وقدم أقسام المرسل لقلة الكلام عليها فقال : (والمجاز) قسمان :

المرسل

(مرسل) أي : أحد القسمين ما يسمى مرسلا (إن كانت العلاقة) المصححة للتجوز (غير المشابهة) كما إذا كانت سببية ، أو مسببية على ما يأتي ، وذلك بأن يكون معنى اللفظ الأصلي سببا لشيء ، أو مسببا عنه ، فينقل اسمه لذلك الشيء وسمى مرسلا لإرساله ، أي : إطلاقه عن التقييد بعلاقة المشابهة فصح جريانه في عدة من العلاقات كما يتضح ذلك فيما يأتي من أمثلته إن شاء الله تعالى.

(وإلا) بأن لم تكن العلاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي غير المشابهة ، بل كانت نفس المشابهة كما في إطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع (ف) ذلك اللفظ الذي كانت العلاقة بين معناه الأصلي والمجازي المشابهة (استعارة) فالمسمى بالاستعارة على هذا هو نفس اللفظ الذي استعمل في غير معناه الأصلي للمشابهة ، ولذلك تعرف الاستعارة بأنها هي اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي للعلاقة التي هي المشابهة

٢٦٠