مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

أريد من المشبه به ؛ لأن المشبه به هو الحلقة المفرغة لا مطلق الحلقة ، والانتقال من الإفراغ إلى التناسب الذى هو الوجه فيه خفاء ، فلم يعتبر فى الوصف المشعر بالوجه ، ولو اعتبر مثل هذا في هذا القسم كان ذكر المشبه به بمثابة الوصف المشعر دائما ، إذ لا يخلو المشبه به عن مطلق الإشعار ، ولم يذكر أحد أنه بمثابته ، وقد تقدم أن المفرغة لا طرفين لها ، وإنما يتصور الطرفان الملتقيان فى المصنوعة بلا إفراغ ، فذكر الطرفين لإشعار مطلق الحلقة بهما ، وقد نبهنا على أن نفى درايتهما لا يستلزم وجودهما ؛ لأن القضية السالبة لا تقتضى وجود الموضوع.

(ومنه) أى : ومن هذا القسم من المجمل (ما ذكر فيه وصفهما) أى : وصف المشبه به والمشبه معا (كقوله) أى : كقول أبى تمام يمدح الحسن بن سهل : ستصبح العيس (١) ، أى : الإبل بى ، والليل يعنى وسير الليل عند فتى. كثير ذكر الرضا فى حالة الغضب (صدفت عنه) أى : أعرضت عنه ، تجريبا لشأنه ، أو خطأ منى وقلة وفاء بحقه (فلم تصدف) أى : لم تعرض عنى بمعنى لم تنقطع (مواهبه) أى : عطاياه (عنى وعاوده ظنى) أى : عاودته بمواصلته طلبا لإحسانه ؛ ظنا منى أنى أجد فيه المراد ، فنسبه المعاودة إلى الظن تجوز (فلم يخب) ظنى فيه بل وجدته عند معاودته طلبا للإحسان كما أظن ، وكيف يخيب فيه الظن وهو يهب عند الإعراض فيهب عند الإقبال من باب أحرى ، فهو فى إفاضته فى الإقبال والإدبار (كالغيث) أى : كالمطر الواسع المقبل الذى يغيث أهل الأرض ، (أن جئته) أى : إن جئت الغيث حالة إقباله (وافاك) أى جاءك ولاقاك (ريقه) أى : أوله وأحسنه ، يقال : فعل فلان هذا الأمر فى روق أو ريق شبابه أى : أوله وأحسنه ، ويقال : أصابه ريق المطر أى : أوله وأحسنه ، وريق كل شيء أفضله ، وجعل أول المطر أحسنه للأمن معه من الفساد ، وإنما يخشى الفساد بدوامه ، (وإن ترحلت عنه) أى : فررت من الغيث (لج) بالجيم المعجمة أى : بالغ (فى الطلب) وأدركك مع فرارك منه ، وأصل اللجاج المبالغة فى الكلام ، والاشتغال به بقوة ، فاستعمل فى إسراع المطر وإدراكه من فر منه بقوة ، فالمشبه وهو الممدوح وصفه بأنه يعطى المعرض والمقبل ،

__________________

(١) الأبيات لأبى تمام فى ديوانه (١ / ١١٣) من قصيدة يمدح فيها الحسن بن سهل ، وعقود الجمان (٢ / ٢٨).

٢٠١

ويفيض على الحالتين ـ أعنى حالتى الإعراض والإقبال ـ ولكن لعمرى إن هذا الوصف لا يصلح إلا لله تعالى الذى يعطى بلا عوض ، ويجود بلا غرض ، وهو أكرم الأكرمين ، والمشبه به أيضا وصفه بأنه يصيبك جئته ، أو ترحلت عنه ، وإعطاء المعرض والمقبل الذى هو وصف المشبه يتضمن الوجه الذى هو الإفاضة فى الحالتين أيضا ، وبقى مثال ما ذكر فيه وصف المشبه دون المشبه به ، وكأن المصنف لم يجده فى كلامهم ، ومثاله ما لو قيل فى عكس قوله :

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب (١)

فإن الشمس التى إذا طلعت لم يبد كوكب مثلك ويعنى بالنسبة إلى الملوك.

التشبيه المفصل

(وإما مفصل) هذا هو المقابل لقوله : إما مجمل فهو معطوف عليه ، يعنى أن التشبيه المجمل هو ما لم يذكر فيه الوجه ، سواء ذكر فيه ما يشعر به أو لا كما تقدم ، (و) المفصل (هو ما ذكر) فيه (وجهه) أى : وجه الشبه ، وقد علم من هذا ـ كما بيناه فيما تقدم ـ أن المراد بالإجمال هنا عدم الصراحة بالوجه والتفصيل أن يذكر الوجه صراحة ، وذلك المفصل (كقوله : وثغره) (٢) أى : أسنان ثغره أى : فمه (فى صفاء وأدمعى) فى صفاء أيضا (كاللآلى) أى : كالجواهر الصافية ، وقد مثلنا بهذا لتشبيه التسوية لتعدد طرفه الأول ، ومثل به هنا للتصريح فيه بالوجه فناسب المحلين بالاعتبارين ، وهكذا كل ما فيه اعتباران أو أكثر يصح التمثيل به ، لذلك وهو ظاهر ووصف الدموع بالصفاء ؛ إشعارا بكثرتها لاقتضاء الكثرة تغسيل المنبع ، وتنقيته من الأوساخ ، ومن لازم ذلك صفاء الدمع ، بخلاف القليل فيصح معه بقاء تكدر المنبع بالأوساخ ، فلا يصفو (وقد يتسامح) أى : يتساهل فى ذكر نفس الوجه فيستغنى عنه (ب) سبب (ذكر ما يستتبعه) أى : يستلزمه (مكانه) متعلق بذكر أى : يتسامح بأن يذكر فى مكانه ما يستتبعه ويستلزمه ، والمراد بالاستلزام هنا الحصول مع الحصول فى الجملة ، وإن كان

__________________

(١) البيت للنابغة الذبيانى فى الإيضاح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ص (٢٣١) ، وعقود الجمان (٢ / ٢٨).

(٢) البيت فى الإيضاح ص (٢٢٩) ، وعقود الجمان (٢ / ٢٨).

٢٠٢

عاديا لا عقليا ، ومعنى ذكره فى مكانه أن يؤتى به على طريقة التركيب ، وأخرج بذلك ذكر الوصف المشعر بالوجه لأحد الطرفين أو لكليهما ـ كما تقدم ، فإنه لا يذكر على طريق ذكر وجه الشبه ، بأن يقال : كذا مثل كذا مثلا فى كذا ، بخلاف المستتبع هنا فيذكر على هذا الطريق ، (كقولهم فى الكلام الفصيح : هو كالعسل فى الحلاوة) وفى الحجة الواضحة هى كالشمس فى الإشراق ، (فإن الجامع فيه) أى : فى قولهم هو كالعسل فى الحلاوة (لازمها) أى : لازم الحلاوة ، بمعنى أن الوجه المشترك فيه فى هذا التشبيه لازم الحلاوة ، (وهو) أى : لازم الحلاوة (ميل الطبع) واستحسانه للكلام لا نفس الحلاوة ، كما أن الوجه المشترك فى قولهم : الحجة كالشمس فى الإشراق لازم الإشراق ، وهو إزالة الحجاب ، فإن أريد بميل الطبع عدم المنافرة كان اعتباريا كما قيل ، وإن أريد به محبته واشتهاره والفرح به كان حقيقيا ، ثم ما ذكر من أن المذكور هنا ما يستتبع الوجه هو المتبادر بحسب الظاهر ، ويحتمل أن يكون مما ذكر فيه الوجه بنفسه ، ويكون وجود الحلاوة فى الكلام على وجه التخيل ، ووجود الإشراق فى الحجة كذلك وهو الأقرب ، فإن الوجه الأول يرد عليه أن يقال : إن كان ذكر الحلاوة مثلا من التعبير عن الملزوم باللازم ـ كما هو ظاهر كلامهم ـ كان من المجاز ، ولا تسامح فيه ؛ لأنه قد ذكر الوجه ، إلا أنه عبر عنه بلفظ ملزومه ، وإن كان غير ذلك فهو خطأ ، إذ لا واسطة بين المجاز والحقيقة إلا الخطأ ، ولا ينبغى حمل الكلام الفصيح على الخطأ ـ فافهم.

تقسيم آخر للتشبيه باعتبار وجهه :

(و) نعود (أيضا) إلى تقسيم آخر فى التشبيه باعتبار الوجه ، وقد تقدم أن فيه ثلاثة تقسيمات ، وهذا هو الثالث منها ، فنقول التشبيه باعتبار الوجه أيضا :

التشبيه القريب المبتذل

(إما قريب مبتذل) ، والابتذال هو الامتهان ، وذلك يقتضى كثرة الاستعمال ، ويتصور هنا ـ باعتبار التصرف العقلى ـ أن يكون الوجه قريب التناول بحيث يمكن لكل أحد التشبيه به ، ولكن اتفق أنه لم يكثر استعماله فلا يكون مبتذلا ، وأن يكون قريب التناول ، وكثر استعماله فيكون مبتذلا ، وأن يكون بعيدا عن كثير من الإدراكات بحيث

٢٠٣

لا يفوز بالتشبيه به إلا القليل من الأذكياء والبلغاء ، وهذا يتصور فيه هذا المعنى ابتداء ودواما بمعنى أنه كذلك هو فى جميع الأوقات ، ويتصور فيه أن يكون فى أصله كذلك ، ولكن جرى استعماله كثيرا حتى صار ظاهرا عند المستعملين ، مبتذلا عند من له مخالطة لكلام الناس ، وهذا يستلزم كون ابتذاله مخصوصا ببعض الناس دون بعض ؛ لأن ابتذاله ليس من ظهوره حتى يستوى الناس فيه ، بل من ممارسة كلام البلغاء ، وهذا لا يخرج عن الغرابة المقابلة للابتذال على ما نحرره بعد ، ودخل فى البعيد الغريب الذى أصله أن لا يدركه إلا الخواص ، الوجه الذى إذا حضر الطرفان ظهر الوجه بينهما ، وإذا غاب أحدهما وأريد التشبيه لم يدركه إلا الخواص ، كتشبيه إبرة روق الغزال بالقلم الذى أصاب من الدواة مدادا ، فإنه لا يدركه ـ عند غيبة أحد الطرفين ـ إلا الأذكياء ، وعند حضورهما يكون مدركا بسهولة ، فإذا تمهد هذا فنقول : ينبغى أن يدخل فى الابتذال القسمين الأولين ، وهما ما سهل فيهما الانتقال ؛ لأن الغالب فى الذى يتوهم فيه عدم الابتذال ـ وهو الذى يسهل الانتقال فيه ولم يتفق استعماله كثيرا ـ عدم وجوده ؛ إذ كل ما صح التشبيه فيه لا يخلو من أن يقع فيه بالفعل فيكثر إن ظهر ، وعلى تقدير صحة عدم الاستعمال فمن شأنه ذلك الاستعمال فهو فى حكم المبتذل ، فعلى هذا يكون الوصف بالابتذال ليس للإخراج ، ويكون المقابل له وهو البعيد مدخلا لما سوى القسمين ، فتكون القسمة حاصرة ، ويدل على هذا قوله فى تفسير المبتذل : (وهو) أى : التشبيه القريب المبتذل (ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به) ، والمنتقل هو مريد التشبيه ، ويلزم من قرب انتقاله إلى المشبه به عند روم التشبيه به (من غير تدقيق نظر لظهور وجهه فى بادى الرأى) فهم السامع الوجه أيضا عند سماع الكلام ، وقوله : فى بادى الرأى يحتمل أن يكون من البدو وهو الظهور ، فيكون المعنى لظهوره فى جملة الأمور التى تبدو للرأى ، ويحتمل أن يكون من البدء ، فيكون المعنى لظهوره فى أول ما يبدأ الرأى ، أى : يأتيه أولا ، ومعنى تدقيق النظر إمعانه ومعاودة التأمل فى استخراج ما يكمل به القصد ، وهو يشمل معنيين ، أحدهما أن يكون بعد إحضار الطرفين يحتاج إلى التأمل فى الوجه ما مقداره ، وما هو ، وهل تم وحسن فيهما أو لا ، وهذا يستلزم غالبا الحاجة عند

٢٠٤

إحضار أحدهما إلى التأمل والتصفح لما يشبه به الحاضر منهما ؛ إذ لو كان كثير الحضور مخالط المعنى ظهر ما فيه ، والآخر أن يحتاج إلى استعمال الفكر فى استخراج ما يصلح للتشبيه من المعانى المخزونة فى الخيال ، وبعد استحضار ما يشبه به يكون الوجه ظاهرا كما تقدم فى تشبيه إبر الروق بالقلم الذى أصاب المداد ، وقد علم أن الأول أخص من الثانى على حسب الغالب ، فإن مشبه بنى المهلب بالحلقة يحتاج إلى التأمل فى إحضار الحلقة المفرغة ، ثم إلى التأمل فى استخراج وجه الشبه بينهما بعد حضورهما كما لا يخفى ، فإن قلت الشاعر البليغ أو الكاتب الفصيح تتدفق على لسانه التشبيهات الغريبة ، بل الاستعارة بلا تأمل قلت على تقدير تسليم أن ذلك التدفق لم يسبق بتأمل ، فالمعانى التى أبداها من شأنها الحاجة إلى التأمل ، وذلك يكفى فى نفى الابتذال ، ويدل على كونها تحتاج إلى التأمل عدم تسامح الناس فيها ، وأيضا قد يسمع تشبيه فيطلب السامع استخراج الوجه التام فلا يجده إن لم يصرح به إلا بعد إمعان النظر وذلك مشاهد ، فالتأمل موجود فى بعض المعانى دون بعض ، فليفهم.

فإن قيل فما الفرق حينئذ بين الظاهر والمبتذل ، وبين مقابله الآتى وهو الغريب البعيد وبين الخفى الذى هو المقابل للظاهر ؛ لأنك أدخلت فى المبتذل ما يقدر كل أحد على استعماله بسهولة ولو لم يقع كثرة استعماله بالفعل ، فإن كان الظاهر هو المبتذل والبعيد هو الخفى وجب إسقاط أحد البابين ، قلت : لا شك أنه يمكن إدخال أحد البابين فى الآخر ـ كما قلت ـ لكن حيث ذكر كل منهما على حدة وجب التفريق بينهما ، وذلك بأن يعتبر أن الظاهر أعم من المبتذل ؛ لأن الظاهر هو ما قرب إدراكه لكل أحد عند قصد التشبيه ، أو قرب بعد إحضار الطرفين ـ ولو كان إحضار أحدهما يحتاج إلى تأمل ـ وإذا علم الفرق بين الظاهر والمبتذل علم بين مقابليهما تأمله ، ثم علل ظهور الوجه الموجب للابتذال بعلتين فقال : وظهور الوجه (إما لكونه أمرا جمليا) نسبة إلى جملة بسكون الميم ، ومعنى كونه جمليا أنه لا تفصيل فيه ، والتفصيل هنا إدراك الخصوصيات ، وإدراك كثرة الاعتبارات ، وإدراك الجملة إدراك العمومات ، وقلة الاعتبارات ، (فإن الجملة) أى : إنما قلنا : إن الأمر الجملى أظهر من التفصيلى ؛ لأن

٢٠٥

الجملة (أسبق إلى النفس) عند توجهها للإدراك من التفصيل ؛ وذلك لأن إدراك الجملة كما تقدم إدراك للعمومات مع قلة الاعتبارات ، والأمر العام يكثر وجوده فى الأفراد فيكثر التلبس به فيسهل إدراكه ، ولذا يقال الأعم أظهر من الأخص ، ومن ثم يقال تقديمه فى التعريف أوجب ، ويقال التعريف بالأخص تعريف بالأخفى ، ويقرر لك خفاء التفصيل وظهور الجملة أنك لو توجهت إلى إدراك الإنسان وجدت أسبق ما يدرك منه وأسهله إدراكه من حيث إنه شيء ، ثم من حيث إنه جسم ، ثم من حيث إنه حيوان ؛ لأن هذه عمومات يكثر وجود أفرادها ، فتبدو معانيها فى الإنسان وغيره ، فالأعم منها أسبق من الأخص ، وهو الذى يليه ، بخلاف إدراكه من حيث إنه جسم حساس متحرك بالإرادة ناطق فإنه خفى ؛ لأنه أقل وجودا مما قبله ، فإذا تحقق أن الجملة أسهل على النفس من التفصيل ، فالوجه إن كان أمرا جمليا كان ظاهرا سهل التناول فيلزم كون التشبيه به مبتذلا على ما تقدم ، فإذا فرضت إنسانا شبه زيدا بعمرو فى الإنسانية ، وآخر شبهه به فى الإنسانية الموصوفة بشرف الحسب وكرم الطبع وحسن العشرة ودقة النظر فى الأمور ونجاح المسعى فيها ، كان نظر الثانى أخفى من نظر الأول وأدق ، وبهذا يعلم أن التشبيه الواحد يجوز أن يكون مبتذلا بما اعتبر فيه من جملة الوجه ، وغير مبتذل بما اعتبر فيه من تفصيله ، وكون الجملة أسبق من التفصيل متقرر حتى بالنسبة للحواس ، فإن من نظر فى شيء أدرك منه جملة ربما يتوهم منها ذلك المنظر على خلاف ما هو ، فإذا أمعن النظر أدرك فيه تفصيلا يظهر به ما فيه ، ولهذا يقال النظرة الأولى حمقاء ، وكذا فى السمع فإن أول ما يقرع السمع قبل تمكن الحاسة من المسموع الجملة التى تصبح معها الغلط ، ولذلك يقال اختطف سمع فلان كذا فظنه كذا ، وإنما كثر الغلط مع الجملة لإدخالها ما لا يوجد فى المدرك لعمومها ، ولكن إنما تكون الجملة أظهر من التفصيل إن اعتبرا فى محل واحد فتسبق الجملة فيه ، ثم إذا أمعن النظر ظهر ما خفى من التفصيل فيه ، وأما إن اختلف المحل جاز أن يكون التفصيل أظهر لتكرره عند المدرك فى ذلك المحل دون الجملة فى محل آخر لعدم تكرره ؛ لكن هذا لا يرد فيما نحن بصدده ؛ لأن المراد الإلحاق بشيء وجد بجملة أو تفصيل كائنين فيه ، (أو لكونه قليل التفصيل) هذا

٢٠٦

معطوف على قوله إما لكونه أمرا جمليا وهو العلة الثانية لظهور الوجه ، يعنى أن ظهور الوجه إما لكونه أمرا جمليا ، وإما لكونه ليس جمليا بل فيه تفصيل ولكنه قليل التفصيل ، ثم قلة التفصيل لا تكفى فى ظهور الوجه ، بل لا بد أن تكون (مع غلبة حضور المشبه به فى الذهن) ثم غلبة حضور المشبه به أى : كثرة حضوره إما (عند حضور المشبه) وذلك (لقرب المناسبة) بين المشبه والمشبه به ، فإن من المعلوم أن الأشياء المتناسبة التى هى من واحد تحضر كثيرا مجتمعة ، كالأوانى والأزهار فتقترن فى الخيال ، فإذا حضر بعضها فى الخيال حضر غيره ، فيسهل الانتقال فى التشبيه لظهور الوجه غالبا مما يحضر كثيرا مع غيره ؛ لأن ما يدرك من أحدهما يدرك غالبا من الآخر لتقارنهما ، وإنما قلنا غالبا لأنه يمكن أن يكثر حضور الشيء ويخفى الوجه المعتبر فيه لتحصيله بدقة النظر ، كما أشرنا إليه فى تشبيه زيد بعمرو فى الإنسانية ، وهذا التقارن الذى أوجبه كثرة الاجتماع فى الوجود هو الجامع الخيالى ـ كما تقدم ـ والمراد بغلبة الحضور الموجبة لظهور الوجه غلبته قبل روم التشبيه ، وليس المراد أنا إذا رمنا التشبيه غلب حضور المشبه به فيغلب حضور الوجه ، فإنه يؤول المعنى لو أريد هذا إلى أن الوجه ظاهر ، لأنا إذا أردنا التشبيه غلب ظهوره ، وإنما المعنى أن الغلبة السابقة على التشبيه أوجبت ممارسة الوجه ، فإذا أريد التشبيه ظهر الوجه حينئذ بسبب ما كان فى الأصل فليس من تعليل الشيء بنفسه كما قيل ، ثم مثل لهذا القسم ، وهو ما يغلب حضوره فيما مضى لكن مع حضور الطرف الآخر فيما مضى أيضا كما قررنا ، ذلك يوجب ظهور الوجه فى التشبيه بقوله : (كتشبيه الجرة الصغيرة) وهى إناء من خزف أى : طين مخصوص على شكل مخصوص (بالكوز) هو إناء يشرب منه (فى المقدار والشكل) ، ومثل ذلك تشبيه الإجاصة بالسفرجلة فى اللون والشكل والطعم فى بعض الأحيان ، والعنبة الكبيرة بالبرقوقة فى الشكل واللون والطعم ، فإن الوجه فى هذه الأشياء فيه تفصيل أى : اعتبار أشياء ، لكن تلك الأشياء ظاهرة لكثرة تكرر موصوفاتها على الحس عند إحضار ما أريد تشبيهه بها ، فيلزم ظهور أوصافها ، ولكن قيل إن الجرة لا مناسبة بينها وبين الكوز فى الشكل ، وقد يجاب بأن المراد مطلق الشكل مع مطلق التجويف والانفتاح لجهة مخصوصة ، وورد

٢٠٧

أيضا أن الكوز غالب الحضور مطلقا لا بقيد حضور الجرة ، وأجيب بأن الذى يغلب مطلقا حضوره هو كوز العرب ؛ لأنهم يشربون من الخشب والأدم ، والمراد بهذا الكوز الخزف ، وهو نادر الحضور عند العرب إلا مع حضور الجرة ، وهذا تكلف ، وأجيب أيضا بأن فيه غلبة الحضور مع الجرة وعلى الإطلاق فمثل به باعتبار الأول وفيه ضعف ؛ لأن علة الحضور المطلق كما سيذكره تغنى عن المعنى ، فيجب أن يؤتى بمثل يختص به الأول ، وقد فهم من أمثلة التفصيل أنه لا يشترط فى التفصيل مع الغرابة أو بدونها كون الوجه هيئة مركبة ، بل إذا اعتبر أشياء ، ولو صح أن يستقل كل واحد بالتشبيه كان من التفصيل ، فافهم.

(أو مطلقا) هذا معطوف على قوله عند حضور المشبه ، يعنى أن غلبة حضور المشبه به الموجب لظهور الوجه إما أن تكون عند حضور المشبه ، وإما أن تكون مطلقا أى : لا بقيد حضور المشبه ، وإنما تحصل غلبة حضور المشبه به فى الذهن مطلقا (ل) أجل (تكرره) أى : المشبه به (على الحس) الذى هو البصر أو السمع أو الذوق أو الشم فيستغنى بتكرره على الحس فى غلبة حضوره عن غيره ، فلا تتوقف تلك الغلبة على حضور المشبه ، وإذا غلب حضوره مطلقا تحققت سرعة الانتقال إليه عند روم التشبيه ؛ وذلك لأن المتكرر على الحس كثرت مباشرته وكثر إدراكه فيعلم ما فيه من الأوصاف غالبا ، فإذا أريد تشبيه شيء فى وجه فيه انتقلت النفس بسرعة إلى ما ألفت ذلك الوجه فيه فيكون مبتذلا بسرعة الانتقال ، ومما يدل على أن النفس تنتقل بسرعة إلى المألوف المعتاد قبل غيره أنا لو فرضنا اسما لمسمى واحد له حالتان كثر إحساس إحداهما ، وقل الإحساس بالأخرى ، وسمع ذلك الاسم فإن أول ما تنتقل إليه النفس ويتسارع إليها من ذلك الاسم الحالة الكثيرة ، ألا ترى إلى القمر فإنه اسم لمسمى واحد كثر الإحساس به بصورة كونه تاما غير منخسف وقل الإحساس به بصورة الانخساف ، فإذا سمع لفظ القمر فأول ما يتسارع إلى الفهم الصورة الكثيرة ، فكذلك المشبه به الكثير الدوران على الحس إذا استحضر المشبه بوصف أريد الإلحاق بسبب ذلك الوصف تسارعت النفس إلى المألوف فيه ذلك الوصف ، وإنما قلنا غالبا لما تقدم أن

٢٠٨

الكثير الإحساس إذا استخرج منه وجه دقيق لم يكن مبتذلا لتوقفه على التأمل ؛ ولكن قد يقال لا يحتاج إلى التقييد بالغالب ؛ لأن المراد التكرر على الحس من حيثية مخصوصة ـ كما يدل عليه المثال بعد ـ فإنه إذا دقق النظر فى شيء واستخرج منه وجه مفتقر لتأمل فلم يتكرر المشبه على الحس من ذلك الوجه ثم مثل لما كثر فيه التكرر على الحس مطلقا فكان المبتذل ، فقال : وذلك (كتشبيه الشمس بالمرآة المجلوة) أى : المصقولة (فى الاستدارة والاستنارة) فإن وجه الشبه بين الشمس والمرآة فيه تفصيل ما لاعتبار شيئين فيه وهما الشكل والاستنارة ، ولكن لما كثر شهود المرآة وتكررت على الحس ، واستنارتها واستدارتها حسيان لزم ابتذالهما بسرعة الانتقال إلى التشبيه بهما فيها لظهورهما كما قررنا ، وبهذا يستشعر أن التكرار على الحس لا يكفى فى الابتذال حتى يكون الوصف مدركا به بلا تأمل ، وأنه متى كان الوصف فى المشبه به المتكرر على الحس يحتاج إلى تدقيق النظر كان غريبا كالمركب العقلى والوهمى والخيالى كما يأتى ، وادعاء أن المتكرر على الحس يمتنع وجود أوصاف فيه يصح التشبيه بها ، ومع ذلك فلا يحتاج فيها إلى التأمل مما يفتقر إلى الدليل ولم يقم بعد ، اللهم إلا أن يدعى أن المرآة الحسية أى المتكرر من حيث إنه مشبه به ؛ لأن ذلك يستلزم تكرر الوجه وظهوره كما أشرنا إليه قبل ، فحينئذ يتقوى بذلك عدم الحاجة إلى ما زدناه وهو قولنا غالبا إلا أن يكون لتأكيد البيان ، فافهم.

ثم أشار إلى علة الابتذال فى القسمين وهى ما بيناه من أن قرب الشيء مناسبة تقتضى سرعة الانتقال وتكرر الشيء على الحس كذلك فيقع الابتذال ، وأنه لا يمنع الابتذال معهما وجود مطلق التفصيل ؛ لأن الابتذال من لازمهما البين فيسقط حكم التفصيل الذى هو الغرابة عند تعارضهما ؛ لأنه لا يستلزم الغرابة إلا عند انتفائهما فقال : (لمعارضة كل من القرب) يعنى قرب المناسبة كما فى الجرة والكوز (والتكرار) أى : تكرار ذكر المشبه به على الحس مطلقا كما فى الشمس والمرآة المجلوة (التفصيل) معمول قوله معارضة يعنى أن قرب المسافة والتكرر على الحس يعارضان مقتضى التفصيل بمقتضاهما ، وذلك أنهما يقتضيان كما بيناه آنفا سرعة الانتقال من المشبه إلى

٢٠٩

المشبه به عند روم التشبيه دائما ، فالتفصيل ، وإن كان يقتضى الغرابة فى أصله للاحتياج فيه إلى التأمل يسقط مقتضاه عند قلته بوجودهما فتقرر بهذا أنهما ـ أى : قرب المسافة والتكرر إذا تعارضا مع التفصيل القليل بأن يوجدا معه فى محل واحد سقط مقتضاه ، وأن كون التفصيل من أسباب الغرابة إنما هو عند عدم وجود قرب المناسبة أو التكرر على الحس مع قلته ، وفهم من هذا الكلام أن التفصيل القليل عند انتفاء قرب المناسبة والتكرر العارضين له يكون من أسباب الغرابة وهو ظاهر.

التشبيه البعيد الغريب

(وإما بعيد غريب) تقدم أن القريب المبتذل يقابله البعيد الغريب تقابلا حقيقيا وعليه يكون العطف بالغريب لا للإحراج كما تقدم فى وصف القريب بالمبتذل ، فقوله : وإما بعيد معطوف على قوله : إما قريب مبتذل (وهو) أى : البعيد الغريب (بخلافه) أى : جار على خلاف المبتذل ، فإذا كان المبتذل ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير نظر فالغريب هو ما لا ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر ونظر دقيق ، ونعنى بالانتقال إلى المشبه به الانتقال إليه من حيث إنه مشبه به فلا ينافى ذلك أن تحصل الغرابة فى تشبيه الملزوم باللازم البين ، حيث يحتاج فى استخراج الوجه بينهما إلى دقة نظر وإن كان الانتقال إلى اللازم بسرعة ؛ وذلك لأنه لم ينتقل إليه بتلك السرعة من حيث التشبيه بل من حيث اللزوم ، وذلك كتشبيه الرجل الأعمى عماه بالبصر فى كون كل منهما معاقبا للآخر فى محل مخصوص هو الحادث القابل لهما عند قصده دفع النقص بما أمكن ، فإن العمى ينتقل منه إلى فهم البصر سريعا ، إذ هو نفى البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا ، لكن لا من حيث التشبيه بل من حيث المعنى فقط ، ثم بين علة الحاجة فى الغريب إلى التأمل ـ وإن كانت ظاهرة ـ ليقع التفصيل فيها بقوله (لعدم الظهور) أى : وإنما افتقر إلى التأمل عند إرادة التشبيه فيما يخالف المبتذل لعدم ظهور الوجه فيه بين الطرفين أى : لخفائه ، ومعلوم أن الظاهر فى بادئ الرأى لا يفتقر إلى التأمل ، ويكون عدم الظهور للوجه (إما لكثرة التفصيل فيه) أى : لكثرة الاعتبارات فيه فإن كثرة الاعتبارات فى الشيء تزيد خصوصا ، وكلما كثر التخصيص للشئ قلت أفراده فتقل

٢١٠

ملابسة وجوده فيكون غريبا لبعده عن الجملة التى تسبق إلى النفس لعمومها وكثرة أفرادها ، والتكرار على الحس إنما ينفى الحاجة إلى التأمل إن كان الوجه فيه باديا قليلا ، ليكون كلما لوحظ أدرك فيه الوجه أو قد تقدم ، ما يفهم منه أن بذلك يكون الابتذال فى المحسوس ، وأن النظر بالعين يكون فيه إدراك الجملة ، أو إنما يكون فيه ما هو كتصور الجملة بالقلة والظهور ، وأما عند وجود الكثرة فلا ، ولذلك لو رأيت المرآة فى كف المرتعش دائمة الاضطراب وتكرر عليك إحساسها لم يوجب النظر المتكرر ابتذالا فيها ، لما يبدو من الاستدارة والاستنارة ما هو مثلها ، وأما ما سوى ذلك من الحركة وتموج الإشراق فيهم للفيضان على أطراف الدائرة ثم يبدو له فيرجع ، وإنما يدرك بمزيد تكرر اللفظ وإحداده مرة بعد أخرى مع مصاحبة التأمل فى هيئة اجتماعهما ، وهل كانت كذلك فى الطرفين معا أم لا ، فلهذا مثل لهذا بقوله : وذلك (كقوله والشمس كالمرآة فى كف الأشل) ولا يخفى ما فيه من التفصيل فى وجه الشبه الذى لا يدرك إلا بعد إمعان النظر والتأمل فى تحقق مجموع الكيفية فى الطرفين ، وقد تقدم بيانها كما أشرنا إليها آنفا فيكون بالحاجة إلى الإمعان والتأمل غريبا ؛ لأن الإمعان والتأمل ليس إلا للخواص دون العامة أهل المجازفة ، فإن قيل الحاجة إلى إمعان النظر فى مثل هذا ظاهرة ؛ لأن النظر الأول أو ما يجرى مجراه مما لا إمعان فيه ، ولو تكرر إنما يدرك الجملة أو ما هو كالجملة فى الوضوح كما تقدم ، وأما الحاجة إلى التأمل فإنما هو فى العقليات لا فى الحسيات (قلت) يكفى فى نفى الابتذال الحاجة إلى تدقيق النظر وزيادة ذكر التأمل فى مثل ما ذكر ؛ لأن تحقيق تلك الهيئة الاجتماعية فى الطرفين ونفي احتمال أن تكون فى أحدهما أنقص أمر عقلى وإن أسند إلى الحاسة ، فيسمى الحكم به تاما لتوقفه على الإمعان بالحاسة كتوقف غيره على نظر فليتأمل.

(أو ندور) عطف على قوله : لكثرة أى : خفاء الوجه الموجب للغرابة إما لما فيه من كثرة التفصيل ، وإما لندور أى : قلة (حضور المشبه به) فى ذهن المتكلم ، فإن ندورة الحضور تستلزم عدم إدراك تقرر الوجه فى المشبه به على وجه الكثرة ، بمعنى أن اتصاف المشبه به لا يتصور حيث ندر حضوره إلا نادرا إن أدرك فيه ، وإذا لم يتصور اتصافه

٢١١

بالوجه إلا نادرا أو لم يتصور أصلا امتنع الانتقال بسرعة عند روم التشبيه بذلك الوجه إلى المشبه به ، وإذا امتنع الانتقال بسرعة لم يكن التشبيه مبتذلا ، وذلك لما هو ظاهر من أن ما يحصل الانتقال فيه بسرعة لظهوره لذاته تشارك فيه العامة والخاصة ، وما لا سرعة فيه لعدم ظهوره لذاته تختص به الخاصة فلا يكون مبتذلا ، وقد تقدم نحو هذا غير ما مرة ، ثم ندرة حضور المشبه به (إما) أن تحصل (عند حضور المشبه) وذلك (لبعد المناسبة) بين المشبه والمشبه به لكونهما من جنسين بعيدى الالتقاء فى مكان واحد ، فإنه أخص فى الذهن من معنى تسارعت النفس إلى استحضار ما يعتاد تلاقيه معه فى المعانى وما تألف اجتماعه معه فى المتخيلة لتقارنهما فيها كما تقارنا خارجه ، أو يزاحم ذلك الحاضر المعتاد غيره فلا ينتقل الذهن إلى ذلك الغير إلا بعد الاتساع فى الأفكار فتنتفى سرعة الانتقال الموجبة للابتذال فيكون التشبيه غريبا ، وذلك (كما مر) أى : كالتشبيه الذى مر فى قوله (١) :

ولا زوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار فى أطراف كبريت

فإن لا زوردية وهى البنفسجة شبهت بالنار فى أطراف الكبريت ، ومعلوم أن الذى ينتقل إليه بسرعة عند حضورها هى الأزهار والرياحين التى هى من جنسها لا النار فى أطراف الكبريت وإن كانت بنفسها كثيرة الوقوع ، وقد تقدم تحقيق ما فى هذا التشبيه ، ولما كان الانتقال من البنفسج إلى النار المذكورة بعد التأمل والاتساع فى المدارك كان التشبيه غريبا ، فإن قيل لعل الشاعر حضرا عنده حال التشبيه فلا يكون الانتقال غير سريع ، فيكون التشبيه غير غريب بالنسبة إليه ، (قلت) المراد ببعد الانتقال الموجب للغرابة أن يكون الشأن كذلك فى الشيء ولو اتفق الانتقال بسرعة لعارض ،

__________________

(١) البيتان لابن المعتز ، أوردهما في التبيان (١ / ٢٧٣) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ، والعلوى فى الطراز (١ / ٢٦٧) ، واللازوردية : البنفسجة نسبة إلى اللازورد ، وهو حجر نفيس ، وعقود الجمان (٢ / ٢١).

٢١٢

فيمدح التشبيه لذلك لأنه لا يصح الانتقال فيه ممن لم يعرض له ذلك العارض إلا بروية وبصيرة ، وقد تقدم ما يشبه هذا ، فافهم.

(وإما) أن تحصل تلك الندرة أعنى ندرة المشبه به حصولا (مطلقا) أى : من غير تقييد بوقت حضور المشبه ، وتحصل الندرة على وجه الإطلاق (لكونه) أى : المشبه به أمرا (وهميا) كما تقدم فى تشبيه السهام المسنونة الزرق بأنياب الأغوال ، فإن أنياب الأغوال كما تقدم وهمية أى : يفرضها الوهم ، إذ لا وجود لها خارجا ، ومعلوم أن ما لا وجود له خارجا لا يستحضره إلا المتسع فى المدارك فى بعض الأحيان ، فيكون إدراك تعلق وجه الشبه نادرا غير مألوف فلا ينتقل عند روم التشبيه إليه بسرعة ، وإن كان تعلقه بالمشبه ظاهرا ؛ لأن العبرة فى الغرابة وعدمها إنما هو بسرعة الانتقال إلى المشبه به وعدمها لا العلم بالوجه فى المشبه ، فإذا كان تعلقه بالمشبه به نادر الإدراك لندرة إدراكه بنفسه جاء التشبيه غريبا لعدم سرعة الانتقال من كل أحد أو لعدمها أصلا ، (أو) لكون المشبه به (مركبا خياليا) كما مر أيضا فى تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، فإن التركيب الخيالى لا وجود لصورته خارجا فلا يعهد ، فيكون الشأن فى إدراكه الندور ، ويلزم منه ندرة إدراك تعلق الوجه به أو عدمها قبل التشبيه ، فيكون الانتقال بعد الاتساع واستعمال الفكرة ، فيكون غريبا على ما قررناه فى الوهم ، (أو) لكون المشبه به (مركبا عقليا) كما مر فى تشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا فإن المراد بالمثل القصة كما تقدم ، والقصة اعتبر فيها ـ كما تقدم ـ كون الحمار حاملا لشيء وكون المحمول أبلغ ما ينتفع به ، وكونه مع ذلك محروم الانتفاع به ، وكون الحمل بمشقة وتعب ، وهذه الاعتبارات المدلولات للقصة عقلية وإن كان متعلقها حسيا ، ويحتمل أن يكون سماه مركبا عقليا باعتبار الوجه ـ كما تقدم ـ وإنما ندر حضور المركب مطلقا ؛ لأن الاعتبارات المشار إليها فيه لا يكاد يستحضرها مجموعة إلا الخواص ، فيجرى فى تعلق الوجه ما ذكر مما يوجب عدم سرعة الانتقال فيكون غريبا وقوله : (كما مر) عائد إلى الوهمى والخيالى والعقلى ـ كما قررنا ـ وأشار بذلك إلى الأمثلة التى ذكرناها ، وقد جعل المصنف ندرة حضور المشبه به موجبا للغرابة على

٢١٣

الإطلاق ظاهره ولو كان الوجه جمليا لا تفصيل فيه وهو كذلك ، وإلا لم يكن علة مستقلة للغرابة ، وبهذا يعلم أن قوله فيما تقدم فى الابتذال لكونه أمرا جمليا أكثرى لا كلى ، ولكن ينبغى تقييد غرابته بأن يكون الوجه مخصوصا بنادر الحضور مع المشبه ، وأما إن كان يوجد فى غيره لم تفد ندرة حضوره غرابة كما لا يخفى ، (أو لقلة) عطف على قوله : لكونه وهميا ، يعنى أن ندرة الحضور إما لكونه وهميا إلى آخر ما تقدم ، وإما لقلة (تكرره) أى : تكرر المشبه به (على الحس) المتعلق به من بصر أو غيره ، ولم يقل لعدم تكرره على الحس ؛ لأن المشبه به فيما مثل به لا دليل على عدم تكرره على الحس ، وهو المشار إليه بقوله : (كقوله والشمس كالمرآة) فى كف الأشل ، فإن المشبه به وهو المرآة فى كف المرتعش يجوز أن لا ترى أصلا ، وعلى تقدير رؤيتها فى كفه فلا تتكرر ، وعلى تقدير تكررها فالمحقق هو قلة التكرار لا عدمه ، ويحتمل أن يريد بقلة التكرار على الحس عدمه ، بمعنى أنه على تقدير وجودها لا يوجد لها تكرر أصلا ، ولكن المحقق نفى الكثرة لا نفى مطلق التكرر ، وإنما قلنا إن ذلك المحقق لأنا نجزم بأن الكثير من الناس تمضى أعمارهم ولا يتفق لهم شهودها فى كفه أصلا ، فضلا عن كثرة التكرار ، فلو كثر التكرار كثر المدركون ، إذ من لازم كثرة التكرار عادة كثرة المدركين للمتكرر ، وهذا بخلاف الوهمى والخيالى والعقلى فإنها لا تحس أصلا ، وبهذا يعلم أن عطفه على ما قبله ليس من عطف الخاص على العام ، وإنما قدم ما قبله عليه لأنها فى الندرة أقوى لعدم إحساسها أصلا ، ف (إذا كان التشبيه المتعلق بالمرآة فى كف الأشل غريبا لوجود التفصيل فى الوجه فيه ـ كما تقدم ـ غريبا لندرة حضور المشبه به فيما ذكر كانت (الغرابة فيه من وجهين) وهما كثرة التفصيل وندرة الحضور ، وذلك ظاهر ، وقد قررنا وجه اقتضاء كثرة التفصيل لغرابة التشبيه ، ووجه اقتضاء ندرة الحضور لها بما أغنى عن إعادته ، وربما يتخيل عند الغفلة عما تقدم أن ندرة الحضور للمشبه به لا تستلزم ندرة حضور الوجه ، لجواز كونه أعم ، ولا يلزم من ندرة الأخص ندرة الأعم حتى يلزم عدم سرعة الانتقال فى التشبيه عند تصور الوجه فى المشبه ، وإذا لم يلزم عدم السرعة لم تلزم الغرابة ندرة الحضور ، والجواب ما قدمناه من أن ندرة حضور المشبه به

٢١٤

إنما تستلزم الغرابة إن اختص بالوجه دون ما يطلب أن يشبه به أو لم يختص به ، ولكن إنما يوجد فى مثله فى الغرابة فلا يقع التشبيه حتى يحصل التأمل ، وأما إن وجد فيما لا يندر حضوره كان العدول إلى نادر الحضور مع ابتذال الوجه ووجوده فى غيره عديم الفائدة ، فلا يكون مما يستحسن ولا يدخل فى جملة الغريب ، فإنك لو قلت : والشمس كالمرآة فى كف الأشل فى كونها جرما وكالجبل فى كونه جرما لم يكن فرق بين التشبيهين فى الابتذال والقبح كما لا يخفى ، وأما الجواب بأن الوجه مؤخر عن الطرفين ؛ لأنه هو الجامع لهما ، ولا يقال ما الجامع بين هذين حتى يتصورا ، فلا يطلب هو حتى يوجدا ويحضرا ، فإذا حضرا وكان المشبه به غريبا منهما كان الإلحاق به بذلك الوجه غريبا أيضا ، لتبعيته للمشبه به فى طلبه ؛ لأن التابع لإدراك الغريب غريب الإدراك ، فلا يتم إلا إذا رد لمثل ما ذكرنا بأن يكون المعنى أنا لما احتجنا إلى المشبه به فلاختصاصه بالوجه دون ما يطلب التشبيه به كانت ندرته ندرة لما يختص به ، أو يختص به مع ما هو مثله فى الغرابة ، وإلا فيرد عليه أن يقال أول ما يخطر بالبال المشبه ويحضر معه الوجه الذى أريد التشبيه بوجوده ، فإذا أحضرنا مشبها به غريبا وطلبنا وجود الوجه فيه بعد وجوده وكان ذلك الوجه موجودا فى غيره مما يبتذل ، لزم قطعا كون التشبيه مبتذلا ، فالحكم بثبوته للطرفين ولو تأخر عنهما لا يوجب الغرابة ، ولو كان أحدهما غريبا وهو المشبه به الذى اشترط فيه ذلك ، إلا إن كان الوجه مختصا به كما مثلنا ، وإلا كان أعم فلا يلزم من غرابته غرابة تابعة ، فلا يكون مما لا فائدة لغرابته ، بل يزيد التشبيه نفرة وبرودة كما بيناه فى المثال السابق ، وليتأمل ولا يقال إدراكه فى المشبه يزيل غرابته ؛ لأنا نقول لا يزيلها من حيث تعلقه بالمشبه به الذى هو مناط الانتقال ، فهو غريب من تلك الحيثية ، (والمراد بالتفصيل) المحكوم عليه هنا بإيجابه حسن التشبيه ونفى الابتذال أن بوجود متعدد انفصلت حقيقة بعضه عن بعض فى نفس الأمر وإن اعتبر المجموع شيئا واحدا ، وذلك يتحقق ب (أن ينظر فى أكثر من وصف) واحد فيجعل وجه شبه ، وذلك الأكثر المجعول وجه شبه يكون وصفا لشيء واحد شبه بغيره كالوجه فى الثريا المشبهة بالعنقود ، فإنه أشياء ـ كما تقدم ـ اعتبر تضامها من شكل أجزائها ولونها ومقدار

٢١٥

مجموعها وهو شيء واحد ، ويكون وصفا متعلقا بأكثر إما اثنان كالوجه فى مثار النقع مع الأسياف ، فقد اعتبرت فيه أوصاف تضامت والتأمت من لون الغبار ، والسيوف ، وحركات السيوف المختلفة ، وشكلها من استقامة ، واعوجاج على ما تقدم ، وإما أكثر من اثنين ثلاثة فما فوق كالوجه فى قوله تعالى : (" كَماءٍ أَنْزَلْناهُ"*) الآية فإنه متعلق بأكثر على ما بينه قريبا ، ثم ذلك التفصيل يقع على أوجه كثيرة ، بمعنى أن لك أن تعتبر فى الأوصاف وجودها كلها كما ذكر فى المثالين ، ولك أن تعتبر عدمها كلها كتشبيه وجود عديم النفع بالعدم فى نفى كل وصف نافع ، ولك أن تعتبر وجود البعض ونفى البعض كما يشبه به فى تشبيه سنان الرماح بسنا لهب ، ثم اعتبار الوجود إما على ما تقدم من اعتبار أوصاف مختلفة من غير رعاية شيء آخر ، وإما على معنى اعتبار جنس فأكثر مع اعتبار خصوصية فى جنس منها كما فى تشبيه عين الديك بشرر النار فى المقدار ، والشكل ، والحمرة ، فإنك لا تريد جنس الحمرة فقط بل تعتبر فيها خصوصية بها حسن التشبيه ، أو جنسين مع خصوصيتين كما فى تشبيه الشمس بالمرآة فى الاستدارة والاستنارة ، فإنك لا تريد مطلق الاستنارة والاستدارة بل مع خصوصية كل منها فى المرآة ، ثم اعتبار العدم إما عدم كل وصف ـ كما تقدم ـ وإما عدم وصفين مخصوصين كتشبيه زيد بعمرو فى عدم الإعطاء ، وعدم النصح ، أو عدم وصف واحد كتشبيهه به فى عدم النصح فقط ، وكذا اعتبار البعض عدما والبعض وجودا إما أن يكون العدم عدم وصف واحد ، أو عدم وصفين إما مع مطلق وجود الوصف أو مع وجوده ووجود خصوصية ما إلى غير هذا مما يقدر فى التفصيل ، وإلى هذا أشار بقوله : (ويقع) ذلك التفصيل (على وجوه كثيرة) ، ثم بين أحسنها بقوله : (أعرفها) أى : أعرف تلك الوجوه ، بمعنى أشدها قبولا عند أولى المعرفة الحسنة (أن تأخذ) فيما تعتبر (بعضا) من الأوصاف (وتدع بعضا) منها ، بمعنى أنك تجعل وجه الشبه وجود بعض الأوصاف مع عدم البعض ، فتدخل العدم فى الوجه ، وذلك (كما) أى : كالوجه (فى قوله : حملت ردينيا) (١) أى : رمحا منسوبا لردينة امرأة كانت تصنع الرماح وتجيد صنعها ، (كأن

__________________

(١) البيت لامرئ القيس ، وليس فى ديوانه وهو فى الإشارات ص (١٩٦) ، ويروى (مختلط) بدلا من (يتصل) الردينى : ـ الرمح المنسوب لامرأة تسمى ردينة اشتهرت بصناعة الرماح ، وعقود الجمان (٢ / ٢٩).

٢١٦

سنانه) أى : حديدته (سنا) أى : ضوء (لهب) وهى النار ، وإضافة السنا إلى النار من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أى : كأنه اللهب المشرق بسنا أى : المضيء ، فأطلق السنا وأراد به معنى المتصف بالإشراق ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن المشبه به هو اللهب باعتبار شكله ، ولونه ، واتصاله بالعود وعدم اتصاله بلون سواه ، ولو قصد التشبيه بالسنا فات اعتبار هذه الأوصاف ، إلا أن تكون تبعا ومع ذلك يحتاج إلى تقدير المضاف فى السنان أى : كأن إشراق سنانه ، والأصل عدم التقدير ، ثم لما تنبه الشاعر لكون الأصل المشبه به لا يتم التشبيه به إلا بإسقاط وصف كان فيه وبه يتحقق التشبيه بينه وبين سنان الرمح ، وهو اتصاله بالدخان شرط عدم اتصاله بالدخان فقال : (لم يتصل) ذلك اللهب (بدخان) وبالحاجة إلى هذا التنبيه كان هذا الاعتبار من أعرف وجوه التفصيل ، فقد اعتبر وجود الشكل ، واللون ، وعدم الاتصال بذى لون الإظلام ، ويزاد هنا لزيادة الطافة ما ذكرناه من اتصاله بالعود ، فإن فيه إشارة إلى أنه فى الطرفين لا يعتد بوجودهما إلا به ، ولو زيد أيضا قوة تأثير كل منهما فى تفريق الأجزاء وإهلاك ما يتصلان به كان زيادة فى الدقة ، وظاهر كلام المصنف أنه إن اعتبر فى الوجه عدم بعض الأوصاف كان أعرف ، حتى إذا قيل مثلا : " زيد كعمرو" فى مجموع الجبن وعدم الكرم كان دقيقا أعرف وليس كذلك ، بل إنما يكون أعرف إن كان فيما قصده الشاعر دقة تحتاج إلى مزيد تنبيه كما قررناه ، وحينئذ يكون معنى الكلام أن التفصيل المعتبر يزداد حسنا واعتبارا عند تدقيق النظر فى إسقاط بعض الأوصاف ، وذلك لأن الأقرب مناسبة اجتماع وجودات لا اجتماع وجود وعدم ، فليتأمل.

(و) من أعرفها أيضا (أن يعتبر الجميع) أى : أن يعتبر الوجود فى جميع الأوصاف ، وذلك (كما) أى : الوجه (فى تشبيه الثريا) بعنقود الملاحية المنور ، فإن المعتبر فيه وجود اللون الكائن فى الأجزاء ، والشكل الكائن فيها ، والوضع لأجزائها ، وكون المجموع على مقدار مخصوص كما تقدم ، وهذا أيضا إنما يكون أعرف إن اعتبر هيئة تحتاج إلى تنبه وتدقيق نظر كما فى المثال ، وإلا فلا أعرفية كما لو قيل زيد كعمرو فى

٢١٧

هيئة اجتماع الحيوانية والوجود والإنسانية ، ولكن هذا القصد يحرزه الباب بالمثال المشعر بأن الكثرة الموجبة للدقة فى التفصيل لا بد أن تكون كما مثل مما يحتاج إلى تأمل ، وزاد غير المصنف فى الأعرفية أن تعتبر الخصوصية فى الجنس إذا كانت دقيقة كما فى تشبيه عين الديك بالشرر باعتبار الحمرة المخصوصة ، وظاهره أن غير ما ذكر لا أعرفية فيه ، والصواب هو أن ينظر فى الدقة فهى المرجع فى الحسن والأعرفية حيث كانت (وكلما كان التركيب) ، سواء كان حسيا نادرا كما فى المرآة فى كف الأشل ، أو كان خياليا كما فى أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، أو عقليا كما فى مثل الحمار يحمل أسفارا ، (من أمور أكثر) أى : وكلما ازداد تركيب وجه شبه فى تشبيه (كان) ذلك (التشبيه أبعد) عن الابتذال لبعد تناوله حينئذ عن مطلق الناس ، وإنما يتفطن الأذكياء ، وذلك بشرط كون التفصيل فيه دقة وغرابة كما تقدم ، فإذا كان بهذا القيد فكلما كثر ازداد غرابة ، كما فى قوله تعالى : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(١) فإن الوجه يؤخذ من هذه الجمل كلها فيحتاج إلى مزيد نظر فى تتبعها وفى كيفية أخذ الوجه منها ، فتكون هيئة تركيبية غاية فى اللطافة والغرابة ، حيث يراعى فيها أن مثل الحياة الدنيا شبهت بحال نبات كان له سبب هو المطر ، وأن ذلك النبات تم إلى حيث اختلط واشتبك من كل نوع مما ينفع الناس والأنعام ، فصار بحيث ينال منه المقصود ويعجب ، وذلك بسبب تمام سببه العادى وهو المطر ، وبلوغ النهاية فى نعيمه وكماله ، وأنه حينئذ تزينت به الأرض وظن أهل الأرض أنهم يبلغون به المرام ، وأعجبهم ، وأنهم بعد تمامه وإعجابه فاجأ أهله أمر الله فيه من ضر أو غيره ، فصار يابسا مضمحلا ذاهبا كأن لم يعجب بالأمس ، فيأخذ الهيئة من مجموع ما ذكر على هذا الترتيب ، وهو كون الشيء يبتدى ضعيفا بسبب عادى ثم لا يزال يزداد حتى يكون معجبا ، بحيث يغتر به من رآه ، ويرى تمكن الانتفاع ثم يطمئن إليه ، وأنه بعد الاطمئنان إليه يصيبه عاجلا ما

__________________

(١) الكهف : ٤٥.

٢١٨

يقطعه ويجتثه عن أصله ، بحيث يكون كالعدم ، فيفهم أن العاقل لا يغتر بما كان مثل ذلك ، (و) التشبيه (البليغ) والمراد به هنا الذى يتخاطب به أذكياء البلغاء ويستحسنونه فيما بينهم ، وليس المراد بالبليغ ما كان مطابقا لمقتضى الحال ، فإن المبتذل قد يطابق مقتضى الحال لسوء فهم السامع (ما كان من هذا الضرب) الذى هو البعيد الغريب وتتفاوت مراتبه فى ذلك البعد لا ما كان من الضرب الذى هو القريب المبتذل ؛ وإنما كان ما هو من هذا الضرب الغريب بليغا (لغرابته) فلا يطلع عليه إلا الأذكياء ، فلا يتخاطب به غيرهم إلا أخذا عنهم تقليدا ، والأمر المختص بالخواص يعد بليغا حسنا لعدم مشاركة العامة فيه ، وكان أيضا ما هو من هذا الضرب بليغا لكمال لذاذته ؛ لأنه لا ينال إلا بعد التأمل والطلب ، بخلاف المبتذل فهو يتمكن كل أحد منه بلا طلب وتأمل فلا يحصل الشوق إليه ، وما لا يطلب بالشوق لا كمال لذة فيه ، (و) إنما قلنا كذلك (ل) ما علم (أن نيل الشيء بعد الطلب ألذ) من نيله بلا طلب ، ووقوعه فى النفس ألطف من وقوع غير المطلوب ، ولذلك يمثل بالماء البارد على الظمأ الذى هو ألذ المحسوسات بجامع الاتصال بعد الشوق ؛ وذلك لأن حصول ما تقوى الشوق إليه فيه لذة حصوله لحسنه لذاته ولذة دفع ألم الشوق إليه ، بخلاف ما يحصل بلا طلب وإن كان شريفا فى نفسه ليس فيه إلا لذته ، وقولهم يستحسن كذا لكونه كحصول نعمة غير مرتقبة لا يتقضى كونه أحسن من الحاصل بعد الشوق ، نعم ، إن كان حصوله بعد الإياس والطلب فهو أعظم لاشتماله على دفع ألم الإياس والطلب ، وهو أعظم من الشوق ، فإن أريد هذا كان أشد فى مقامه من المطلوب ، والتعليلان متلازمان عرفا ؛ لأن الغريب لا ينال عرفا إلا بعد الطلب ، والمنول بعد الطلب لا يكون عرفا إلا غريبا ولو كان مفهومهما مختلفا ، ومتى حضر أحدهما دون الآخر صح تعليل البلاغة المرادة هنا به ، فإن قيل قد قررتم بهذا أن التشبيه كلما كان فيه مزيد حاجة إلى التأمل عند قصد إيجاده من المتكلم ، وإلى التأمل من السامع فى إدراك وجود الوجه فيه حيث ذكر ، أو فى فهمه إن لم يذكر ، ازداد حسنه وترقى فى مراتب القبول ، وقد تقرر أن صعوبة الفهم من التعقيد اللفظى والمعنوى وكلاهما مخل بالفصاحة ، فكيف تعد صعوبة الفهم من باب

٢١٩

الحسن والقبول؟ فالجواب أن الحاجة إلى التأمل التى سميتها صعوبة الفهم إن كان سببها دقة المعنى المراد كالوجه فى تشبيه منقار البازى بالجيم التى وضعها الأعسر ، على شرط أن تكون بحيث لو زيد عليها العين والفاء والراء صار جعفرا ـ كما وقع فى شعر أبى نواس ـ فإنه غاية فى اللطافة ، إذ يفهم من هذا الشرط أن المراد الجيم التى لم تعرق ، مع أن التفطن لوجود الهيئة بما بين منقار البازى وتلك الجيم ، تفطن لأمر دقيق ، فهذا لا يخل بالفصاحة ؛ لأن سلوك العقل سبل الدقائق لفهمها ليس عنده أحلى منه ، فكيف يستقبح ولو كان فيه مشقة ما ودقة المعانى تتصور فى الحقيقة كالتشبيه ، وتتصور فى المجاز على ما يأتى ، وكذا إذا كان سبيلها رعاية الترتيب وفى المرتب بعد ، فيحتاج العقل إلى التمهل فى إدراك المرتب على ما هو ، فيجعل الأول أولا والثانى ثانيا إلى آخرها ، فإذا اجتمعت تلك المعانى على ترتيبها رد اللاحق فيها إلى السابق والثانى إلى الأول إن احتاج إليه لحكمة إما لأخذ الغرض منه كالوجه المركب كما تقدم فى ترتيب جمل الآية الكريمة فى قوله تعالى : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ*) إلى آخر الآية ، فإن الترتيب كذلك ينبغى أن يكون ، فلما رد العقل لاحقها لسابقها أى : اعتبره معه على ترتيبها ، أخذت الهيئة التى هى الوجه على ذلك الترتيب كما تقدم ، ولو لا اعتبار رد معنى بعضها إلى بعض بضرب من المناسبة لاختلت الهيئة ، إذ لو أخذت من البعض لم تكمل الهيئة ، ولو رد بعضها إلى بعض لا على طريق المناسبة كأن تجعل الهيئة مبنية أولا على حالة الماء لا النبات ـ لم تحسن كما لا يخفى ، وترتيب الآية لموافقة الواقع فى غاية الحسن فأحوج ذلك إلى تأمل فى ابتداء الهيئة من جهة النبات لتكمل وذلك ظاهر ، وإما لأن المناسبة بنفسها بين تلك المعانى مطلوبة لذاتها لا لأخذ شيء منها فيرد فيها السابق للاحق ، فإن المعانى الشريفة إذا اجتمعت لا تخلو من حكمة المناسبة ، وانظر إلى قوله (١) :

دان على أيدى العفاة وشاسع

على كل ند فى الندى وضريب

__________________

(١) البيتان للبحترى فى شرح عقود الجمان (٢ / ٦) ، وأوردهما محمد بن على الجرجانى فى كتابه الإشارات والتنبيهات ص (١٧٢) منسوبين للبحترى ، وفى الإيضاح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ص (١٨٩) والعفاة : جمع عاف وهو طالب الفضل أو سائل الرزق.

٢٢٠