مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

في وجه الشبه ، ولأن قوله : " تهاوى كواكبه" تابع لليل فهو غير مستقل في التشبيه باعتبار الصناعة قطعا فكان مقابله الذي يتوهم كونه مستقلا بالتشبيه تبعا لغيره أيضا كمقابلة ثم بين التركيب في وجه الشبه المقتضي للدقة فيه التي تناسب بلاغة الشاعر قصدها كما اقتضاها صنيعه ، وأن المقصود إما تشبيه هيئة السيوف بأوصافها المخصوصة مع الغبار فوق الرءوس بهيئة الكواكب المتهاوية مع الليل بناء على أن الطرفين في التركيب هيئة المجموع ، كما قيل ، وإما تشبيه مجموع السيوف بحالتها ، والغبار بمجموع النجوم بحالتها ، والليل كما قيل أيضا ، وهو يرجع في التحقيق إلى الهيئة ؛ لأن المجموع مرعى من حيث الاجتماع ، وحالة الاجتماع هي الهيئة ، وإنما يفترقان في أن المقصود بالذات الأجزاء المجتمعة أو هيئتها ، ولو كان كل منهما لا ينفك عن الآخر ، وأنه ليس المقصود تشبيه كل مفرد من طرف بما يناسبه من الطرف الآخر لما بينا فقال : (من الهيئة الحاصلة) بيان لما في قوله كما في قول الشاعر ، يعني أن الوجه فيما ذكر هو الهيئة الحاصلة (من هوى) ، وقد تقدم معنى حصول الهيئة من الشيء ، والهوى بفتح الهاء بمعنى السقوط ، وأما بضمها فهو بمعنى الصعود وليس مرادا هنا ، وقيل : هو بضمها ؛ إذ هو الذي يكون بمعنى السقوط خاصة ، وأما الهوى بفتح الهاء فقد يكون بمعنى الصعود ، أي : الوجه هو الهيئة الحاصلة من سقوط (أجرام مشرقة) ، أي : مضيئة لامعة ، هي السيوف في جانب المشبه والنجوم في جانب المشبه به (مستطيلة) ، أي : لتلك الأجرام الساقطة طول ، أما الطول في السيوف فموجود حقيقة في ذواتها وتخيلا في لمعانها عند حركتها فإنه يتخيل عند ذهابها على استقامة أو بدونها ، ثم جرما لامعا طويلا كما يتخيل ذلك في الشهاب عند تحركه في الهواء بسرعة ، وأما في النجوم فيوجد تخيلا عند تركها في مكان ذهابها في الهواء أشعة متصلة ، وبدون تركها كما في الشهاب فيتخيل هناك جرما واحدا مستطيلا وليس كذلك ، وأما قبل الهوى في النجوم فهي على الاستدارة حسا (متناسبة المقدار) ، أما التناسب في مقدار أجرام كل طرف باعتبار ذلك الطرف فواضح ؛ لأن السيوف متناسبة فيما بينها ، وكذا النجوم فيما

١٤١

بينها فيما يتخيل في الغلاب ، وأما تناسب طول النجوم مع طول السيوف أو العرض مع العرض فمبني على التساهل ؛ لأن الطول في النجوم أكثر منه في السيوف فيما يظهر ويكفي في التشبيه التناسب في الجملة (مفترقة) ضرورة أن لكل نجم مكانا ، ولكل سيف مكانا على حدة ، فعلى تقدير ورود الغير في ذلك المكان فبعد ذهاب الأول (في جنب) متعلق بهوى ، يعني أن هوى تلك الأجرام الكائنة على تلك الصفات إنما هو في جنب (شيء مظلم) ، هو الغبار في المشبه ، والليل في المشبه به ، فقد ظهر كون وجه الشبه مركبا ؛ لأن الهيئة المذكورة تعلقت بأشياء عديدة باعتبار الموصوفين والصفات كما ترى ، وكذا الطرفان مركبان أيضا لظهور أن ليس المراد تشبيه فرد في هذا الطرف بفرد مقابل في ذلك الطرف وإلا فاتت الدقة على ما نبينه ، ولم يلائم صنيع الشاعر ولا بلاغته كما تقدم ، وإنما المراد تشبيه مجموع هذا الطرف بمجموع ذلك الطرف أو تشبيه هيئة المجموع بهيئة المجموع ، وهما متقاربان كما تقدم ، فليس المراد تشبيه النقع بالليل والسيوف بالنجوم ، بل المراد كما أشرنا إليه تشبيه هيئة السيوف مع الغبار ، والحال أن السيوف في ذلك الجانب لها أحوال كثيرة راعاها الشاعر ، وبرعايتها مع كثرتها دق التشبيه وتقرر الوجه ، وتلك الأحوال هي أنها تعلو وترسب ، أي : تنخفض وتجيء عند ردها عن المضروب رفعا أو نزعا ، وتذهب عند إرسالها أو صبها عليه ، وتضطرب اضطرابا شديدا بمعنى أنها تتحرك بسرعة في ذلك العلو والرسوب والذهاب والمجيء إلى جهات مختلفة من العلو عند رفعها والسفل عند صبها واليمين والشمال والأمام والوراء عند قصد قطع أو وخز ما في تلك الجهات أو وقايته ، وعند تحركها في تلك الجهات تكون على أحوال تنقسم تلك الأحوال بين الاعوجاج ، أي : ترجع إلى الاعوجاج في ذهابها أو ردها لقصد إجرائها في مكان يوصل إلى الغرض فيكون في سلوكها له اعوجاج ، وإلى الاستقامة كذلك ، وإلى الارتفاع والانخفاض ذكر العلو والرسوب ، وإلى التلاقي مع مقابلها من الجهة الأخرى في استقامة أو اعوجاج في الذهاب للتلاقي ، وإلى التداخل عند تعاكس الحركتين بذهاب كل منهما إلى جهة ابتداء الأخرى ، وقد يكون التداخل نفس التلاقي ، وإلى التصادم والتلاحق ، والتصادم هو التلاقي ، وكذا التلاحق ،

١٤٢

وقد يكون التلاحق بمعنى التتابع كتتابع سيفين في ذهابهما لمضروب واحد ، ونحو هذا الكلام الذي فسرناه عند الشيخ عبد القاهر ، ولا يخفى ما فيه من التداخل باعتبار العلو والانخفاض والذهاب والمجيء وغير ذلك كما في الحركة إلى جهات مختلفة مع ما قبله ، وكما في التداخل والتلاقي والتصادم والتلاحق ، وقد علم أن الاعوجاج والاستقامة يجريان مع جميع الحركات ، والغرض منه المبالغة في بيان ما يراعى في الطرفين فتكون هيئة الوجه المتعلقة بذلك غاية في الدقة ، فإن كل ما ذكر في الطرفين يجب أن يراعى مثله في الوجه ، وبه يعلم أنه ينبغي أن يزيد في الوجه بعد قوله متناسبة المقدار مضطربة إلى جهات مختلفة في أحوال متباينة من الاعوجاج والاستقامة إلى آخر ما ذكر في تركيب الطرفين ، ومثل ما ذكر يتقرر في الكواكب عند تهاويها في الليل فإن للكواكب عند تهاويها تداخلا وتواقعا بأن يذهب اثنان مثلا إلى جهة واحدة كما قد يكون ذلك في السيوف أيضا واستطالة متخيلة في أشكالها المتخيلة على ما حررنا ، وغير ذلك مما ذكر في السيوف ، إلا أن الارتفاع في النجوم لا ينتهي إليه كما قد يكون في السيوف ، بل يبتدأ منه فذكره في السيوف تساهل إلا أن يكون المعنى بتعلو تكون عالية ، ثم ترسب لا أنها تعلو بعد الرسوب فيوجد في النجوم أيضا والمجيء والذهاب في النجوم باعتبار تعاكسها في الجهة على وجه الترتيب من غير تصادم ولا تلاحق فتأمل هذا.

طرفا المركب الحسى المختلفان

(و) المركب الحسي (فيما) أي : في التشبيه الذي (طرفاه مختلفان) أحدهما مفرد والآخر مركب قسمان ؛ لأنه إما أن يكون معه المفرد هو المشبه والمركب هو المشبه به وإما العكس ؛ فالأول (كما مر) أي : كالوجه الذي (في) ضمن ما ذكر من (تشبيه الشقيق) بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، وإنما قلنا في ضمن ما ذكر إعلاما بأن الوجه لم يذكر في المتن وإنما وجد في ضمن ما ذكر من تشبيه الشقيق والوجه المتضمن لما ذكر هو الهيئة الحاصلة من نشر أجرام حمر معقودة في نشرها وبسطها على رءوس أجرام خضر مستطيلة ، وقد علم أن متعلق هذه الهيئة في الشقيق محسوس حقيقة

١٤٣

وفي المشبه به متخيل ، وكون الشقيق وهو المشبه مفردا ظاهر ؛ لأن الشقيق اسم لمسمى واحد ، فأجزاؤه التي اعتبر اجتماعها هيئة كاليد من زيد ، وأما كون أعلام ياقوت مركبا لا مفردا مقيدا فلأن القصد إلى التشبيه بالمجموع ، وليس للأعلام قصد ذاتي حتى يكون مقيدا بدليل أن المشبه لم يعتبر فيه الجزء المناسب للأعلام فقط ، بل المعتبر المجموع ؛ إذ الهيئة متعلقة بالمراد بالشقيق الذي هو مجموع الأصل وفروعه ، ويأتي الفرق بين المركب والمقيد قريبا بنحو هذا ، وأما الثاني وهو العكس ، أي : أن يكون المشبه مركبا والمشبه به مفردا فلما يأتي في تشبيه نهار مشمس قد شابه زهر الربا بليل مقمر على ما سيجيء في أقسام التشبيه بيانه عند التمثيل به ، وهذا المركب لكثرة اعتباراته غالبا لا يخلو من دقة وحسن ، (ومن بديع المركب الحسي) ، أي : ومن جملة ما يعد بديعا ، أي : عجيبا ، قليل المثل من الوجه المركب الحسي ، فإضافة البديع للمركب من إضافة الصفة إلى الموصوف (ما) أي : من البديع في ذلك المركب وجه الشبه الذي (يجيء) أي : يأتي ويحصل (في الهيئات) أي : في الحالات من أوجه الشبه (التي تقع عليها الحركة) ، يعني أن الوجه هو الهيئة التي تقع عليها الحركة ، وهيئة الحركة التي تقع هي عليها إما استقامة كحركة السهم وتركيبها بوجود حركتين متعاكستين مثلا ، وإما استدارة كحركة الدولاب وتركيبها بوجود دولابين مثلا ، متعاكسين أحدهما محيط والآخر محاط به ، وإما غير ذلك كالاعوجاج ، وحركة الاعوجاج كطائف بالمثلث مثلا ، وتركيبها بوجود حركة تعاكسها أيضا ، ولا يخفى أن المثالين الآتيين ليس فيهما حركة الدورة المحضة ، بل المعوجة مع غيرها كحركة الشعاع ، لأنه عند الانبعاث عن وسط الشمس كأنه مضطرب كالذهاب مع الارتعاش فذهابه كالاستقامة وارتعاشه كالاعوجاج في الاستقامة ، وعند الرجوع من الجوانب لا يخلو من نقصان ، فحركته كحركة الراجع من جهات متفاوتة فكأنها معوجة باعتبار مجموع الراجع وأطرافه أو المستقيمة مع معاكستها كحركة المصحف فيما يبدو. نعم لا تخلو حركته في التحقيق عن اعوجاج فافهم ، ثم مجيء الوجه في الهيئة مع أنها نفس وجه الشبه هنا كمجيء الجنس في النوع وحصوله به كما يقال : يأتي الحيوان في الإنسان ، ويحصل خارجا به ؛ لأن مطلق الوجه

١٤٤

أعم من الهيئة الموصوفة ، ووقوع الحركة على الهيئة كوقوع الجزء على الكل ، فمعنى وقوع الحركة على الهيئة وجود مطلق الحركة في متعلق تلك الهيئة ، أي : في فرد من أفراد ما تعلقت به تلك الهيئة واتصف بها ، وهو كون أشياء تفاوت أو تقارن أشياء ، وإنما قلنا كذلك لأنها إن كانت نفسه هيئة الحركة فقط كما يأتي في الوجه الثاني فالمراد حالة حركة مخصوصة ، وإن كانت هيئة روعي فيها الشكل واللون والحركة المخصوصة ، فمطلق الحركة في ضمنها أيضا وكأن في الكلام قلبا ، والأصل ما يجيء في الهيئة التي تقع على الحركة ، لأن المحقق أن تلك الحالة عرضت للحركة مع غيرها في الوجه الأول ، ولها وحدها في الثاني ، (ويكون) الوجه الذي يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة (على وجهين) أي : يرد ذلك الوجه على حالتين يتحقق بهما كونه على نوعين : (أحدهما أن يقرن بالحركة غيرها) أي : أحد الوجهين اللذين يكون عليهما الوجه هو أن يقرن بالحركة غيرها ، وكون الوجه أيضا على اقتران الحركة بغيرها ككون الشيء على نفسه ؛ لأن الاقتران المذكور هو الهيئة ، أو كون تلك الأشياء مقترنة ، وهو قريب منه ، فهو من كون الجنس في النوع أيضا ، وذلك الغير المقترن بالحركة (من أوصاف الجسم كالشكل) الذي هو كما تقدم إحاطة نهاية واحدة أو أكثر بالجسم (واللون) وهو معلوم ، ولأجل الاحتياج في تصحيح عبارة المصنف إلى تأويل مجيء الوجه في الهيئة ، يكون ذلك كمجيء الجنس في النوع ؛ إذ لا يجيء الشيء في نفسه ، وإنما الجائي في هذا الوجه التشبيه ؛ لأن الوجه كالظرف للتشبيه ، كان الأوضح عبارة عن أسرار البلاغة المفيدة لمجيء التشبيه في هذا الوجه الخاص ؛ حيث يقول : اعلم أنه أن الشأن هو هذا ، وهو قوله مما يزداد به التشبيه دقة أي : لطافة مستحسنة وسحرا أي : إمالة للألباب كما يميل المسحور به الألباب أن يجيء ذلك التشبيه في الهيئات التي تقع عليها الحركات فتدق تلك الهيئة ، وبدقتها يدق التشبيه الجائي فيه ؛ لأن التشبيه يتبع حسنه حسن الوجه المرعى فيه كما يأتي ، ثم قال : والهيئة المقصودة في التشبيه على وجهين بهما تصير نوعا مخالفا للآخر ، أحدهما أن يقترن بالحركة غيرها من الأوصاف ، والثاني أن تجرد هيئة الحركة حتى لا يراد غيرها ، فهذه

١٤٥

العبارة أوضح من عبارة المصنف لقلة التسامح فيها ، المحوج إلى التأويل ؛ إذ لا تسامح فيها إلا في قوله : " تقع عليها الحركة" لإيهامه أن الهيئة متحققة في نفسها ووقعت عليها الحركة ، وقد علم أن الهيئة هي هيئة تقارن الحركة مع غيرها أو هيئة اختلاف الحركة ، والحركة مما تتعلق بها الهيئة فهي العارضة للحركة مع غيرها أو وحدها ، بل هي جزء ما اعتبرت فيه الهيئة ، فهي فيما يتبادر في الهيئة أي : في متعلقها لا عليها ، وقد تقدم بيانه فإن قلت فقوله أيضا ، ويكون ذلك على وجهين من باب كون الشيء على نفسه ، فيحوج إلى التأويل بكونه ككون الجنس على النوع فهو كقوله : " ويكون ما يجيء في تلك الهيئات على وجهين" قلت : لا شك أنه كهو ، لكن مجيء الجنس في النوع الذي اشتملت عليه العبارة الأولى ليس ككون الجنس على نوعين الذي اشتملت عليه الثانية كالأولى فإنه معهود في العبارات ، فكلام الأسرار أوضح فافهم ، ثم أشار إلى مثال الوجه الأول ، وهو أن يقترن بالحركة غيرها بقوله : وذلك (كما) أي كالوجه (في قوله والشمس) (١) عند طلوعها (كالمرآة في كف الأشل) والشلل يبس اليد أو الشق كله ، والمراد هنا الارتعاش ، وذلك أن الشمس إذا نظر الإنسان إليها فوق الأفق وأحد النظر إليها يجدها شديدة الاضطراب والتحرك وشكلها استدارة ، ثم يظهر شعاعها كأنه يفيض إلى جوانب الدائرة حتى إذا كاد أن يتعدى تلك الجوانب رجع إلى وسط الدائرة ، ففي جرم الشمس المستدير حركة خيالية ، وفي شعاعها أيضا حركة خيالية ، وإنما قلنا : " خيالية" للقطع بأن حركة الشمس ليست على الاضطراب ، بل هي من الجنوب إلى الشمال بالسوق المتمهل ؛ حتى إنها لو لا ذلك التخيل لرئيت كالثابتة والشعاع أجرام لطيفة مضيئة ، وهي المعبر عنها بالإشراق وهي منبسطة على ما يقابل الشمس ، وهذا هو المحقق في نفس الأمر فاضطراب التموج خيالي ، لكن التشبيه بالوجه الثابت بالتخيل صحيح كما تقدم ، ومثل هذا يبدو في المرآة في كف المرتعش إلا أن حركتها حقيقية وإشراقها متصل بها من شعاع الشمس لا يتحقق في الشعاع المتصل بها اضطراب إلى

__________________

(١) شطر البيت من أرجوزة لجبار بن جزء بن ضرار ابن أخى الشماخ ، وعجزه : لما رأيتها فوق الجبل. والبيت فى الأسرار ص (٢٠٧) ، والإشارات ص (١٨٠).

١٤٦

الجوانب والرجوع إلى الوسط ، بل ثبوت واتصال في مضطرب ، فتحقيق وجه الشبه في المرآة على الوجه المذكور في الشمس مبني على التساهل ، وإلى تلك الهيئة أشار بقوله (من الهيئة) بيان لما في قوله : (الحاصلة من الاستدارة) الكائنة في جرم الشمس والمرآة (مع الإشراق) الذي هو كاللون لهما.

(و) مع (الحركة السريعة المتصلة) القائمة بهما فيما يبدو (مع تموج) أي : اندفاع (الإشراق) كالماء ، والمراد بالإشراق الشعاع بنفسه لا المصدر (حتى يرى) ذلك (الشعاع) الذي هو الإشراق (كأنه يهم بأن ينبسط) يقال" هم بكذا" إذا قصد فعله ، فإسناد الهم إلى الشعاع تجوز ، والمراد القرب إلى الانبساط (حتى يفيض) بذلك الانبساط (على) جوانب (الدائرة) الكائنة للشمس والمرآة ، (ثم يبدو له) أي : يظهر لذلك الشعاع أن يرجع (فيرجع) عن الانبساط الذي هم به (إلى الانقباض) الذي بدا له الرجوع إليه.

يقال : بدا له إذا ندم ، والمعنى ظهر له رأي غير الأول ، فندم على الأول ، وقد علم أن إسناد البداء إليه تجوز ، والمراد عروض الرجوع إلى الوسط بعد قرب الفيضان عن الدائرة ، وقد تقدم أن هذا المعنى غير متحقق في المرآة ، وإنما يتحقق في الشمس عند إحداد النظر إليها فإنها تؤدي هذه الهيئة كلها عند ذلك ، والمرآة تؤدي إلى ما يقرب من هذه الهيئة في كف المرتعش ، ولا شك أن هذا التشبيه في غاية الدقة كما سيأتي بيانه ، (و) الوجه (الثاني) الذي يكون عليه بديع المركب الحسي ، وهو الذي تعتبر فيه الحركة (أن تجرد) الحركة (عن غيرها) الموجودة في الطرفين ، (فهناك) أي : ففي هذا الوجه (أيضا) ، وأشار إليه بصيغة البعد ؛ لأنه معنى والمعنى يحكم له بحكم البعد (لا بد من اختلاط حركات) أي : لا بد أن يوجد في ذلك الوجه حركات مختلطة اعتبرت هيئتها وكثرة حركات ذلك الجسم في أجزائه أو في كله هي التي تزداد به الدقة فيه ، وإن كان التعدد كافيا على مقتضى ظاهر ما تقدم من أن وجود التركيب في الهيئة مناط الدقة ، فالتعبير بالحركات الكثيرة لإفادة الوجه الذي لا يتطرق فيه مقال ، وقوله أيضا إشارة إلى أنه كما اعتبر التعدد الكثير في الوجه السابق يعتبر هنا كذلك وإن كان التعدد هنا باعتبار اختلاف في الحركة نفسها ، وهنالك باعتبار اختلاف بين الحركة وغيرها ، وإنما

١٤٧

قلنا كذلك لأن الأيضية تقتضي الرجوع لشيء تقدم ، ولا يتأتى إلا بهذا الاعتبار ، ثم الوجه الذي يكون عليه الوجه هنا خلاف الوجه فيما تقدم ؛ إذ هو الاقتران فيما تقدم والمتبادر أنه نفس الهيئة المعتبرة في التشبيه ؛ ولذلك احتجنا إلى تأويله بما تقدم ، وهو هنا التجريد عن غير الحركة ، وليس نفي الهيئة ، بل الهيئة تقارن الحركات المختلفة لكونها (إلى الجهات مختلفة) ، وإنما شرط اختلافها باختلاف الجهات كأن يتحرك بعض محل التشبيه إلى اليمين وبعضه إلى الشمال وبعضه إلى العلو وبعضه إلى السفل ليتحقق التركيب في الهيئة المتعلقة بتلك الحركات ؛ إذ لو اعتبر هيئة حركة واحدة كالاستقامة فيها واعوجاج كان وجه الشبه مفردا ، وهو هيئة تلك الحركة والكلام في المركب ، وقد علمت أن اجتماع الكثرة أكملى لا واجب على مقتضى ظاهر ما تقدم ، وإذا اشترط وجود حركات مختلطة ، ويحقق ذلك غالبا وجود اختلاف الجهات (ف) هيئة حركات الرحا) والدولاب (والسهم) لا تكون من بديع المركب الحسي ؛ إذ (لا تركيب فيها) جميعا ، وإن كان لحركة الرحا والدولاب هيئة الاستدارة ولحركة السهم هيئة الاستقامة ، وإنما قلنا : ويحقق ذلك غالبا وجود اختلاف الجهات ، لأن التركيب قد يحققه كثرة الحركة في أجزاء محل التشبيه وإن كانت الجهة واحدة كأن تشبه أرجل بعض الحيوانات الكثيرة الأرجل بصفى الخبا المتتابع أفراده في هيئة تتابع الحركات وإن كانت إلى جهة واحدة ، وإذا لم تكن حركة السهم والرحا والدولاب من بديع المركب الحسي لم يعد التشبيه بها من هذا الباب لعدم تركيبها (بخلاف) التشبيه بهيئة (حركة المصحف) حيث شبه به البرق (في قوله) ، أي : في ابن المعتز : (وكأن البرق مصحف قار) (١) ، ثم أشار إلى أن وجه الشبه بينهما هو حركة الانطباق والانفتاح بقوله : (ف) ينطبق المصحف (انطباقا مرة) ، وذلك في حال جمع طرفيه لتقليب الورقة المقروءة صفحتها ليقرأ ما في الصفحة الأخرى مع ما في مواليها ، (و) ينفتح (انفتاحا) مرة أخرى ، وذلك عند رد تلك الورقة إلى الجهة المقروءة مضمومة مع الطرف المقروءة ، وكثيرا ما تكون قراءة المصحف بهذه الهيئة إن كان خفيفا يحرك طرفاه لما ذكر وأما إن كان ثقيلا فالغالب أنه

__________________

(١) البيت لابن المعتز فى كتاب الإيضاح تحقيق د / عبد الحميد هنداوى ص (٦٥).

١٤٨

ليس فيه إلا انفتاح أولا والطباق آخرا ؛ وإنما يوجد في أثناء القراءة تقليب الورقات ، والمقصود في التشبيه المعنى الأول ؛ لأن تكرر ما يفنى بالانطباق والانفتاح في البرق هو الموجود كثيرا ، فههنا في المصحف حركات لأن طرفيه يتحركان عند الانفتاح إلى جهتي اليمين والشمال فالطرف الأيمن إلى اليمين والأيسر إلى الشمال ، وأعلى كل من الطرفين يتحرك من علو إلى سفل وعند الانطباق يتحرك كل طرف إلى جهة الآخر فيتحرك الأيمن إلى الشمال والأيسر إلى اليمين فيلتقيان في الوسط ، وأعلى كل من الطرفين يتحرك حينئذ من سفل إلى علو فتقرر بهذا أن الحركة في كل حالة إلى جهة واحدة باعتبار العلو والسفل وإلى جهتين باعتبار اليمين والشمال ، فمن عبر بإفراد الجهة أو تثنيتها فبالاعتبارين ، فافهم ووجه الشبه هو هيئة تقارن هذه الحركات مع تكررها وهي حسية حقيقية في المصحف وفي البرق تخييلية ؛ وذلك لأن الواقع فيه ظهور بالوجود وخفاء بالانعدام ، فإذا وجد وظهر تخيل فيه أن إشراقه لانفتاح فيه أظهر باطنه.

ووجه الشبه هو هيئة تقارن هذه الحركات مع تكررها وهى حسية حقيقية فى المصحف وفى البرق تخييلية ؛ وذلك ؛ لأن الواقع فيه ظهور بالوجود وخفاء بالانعدام ، فإذا وجد وظهر تخيل فيه أن إشراقه لانفتاح فيه أظهر باطنه كإظهاره باطن المصحف من لون الأوراق وإشراقها ، وإذا انعدم وخفى تخيل فيه أن ثم باطنا خفى لانطباق فيه كما في المصحف ، وقد تقدم أن وجه الشبه يكفى فيه تخيل الوجود ولإعانة ظهور الإشراق الذى هو في معنى اللون فى هذا التشبيه ورد أن الحركة هنا أيضا روعى معها غيرها من أوصاف الجسم وهو الإشراق والتلون ، وقد يجاب بأن قوله : فانطباقا مرة وانفتاحا أشار به إلى وجه الشبه كما ذكرنا ، ولم يدل صراحة إلا على الحركات ، وإن لزم مع ذلك ظهور الإشراق فلا يعد داخلا لعدم اعتباره ، إذ لم يدل عليه صراحة ، ولا يخلو الجواب من ضعف ؛ لأن دلالة الالتزام غير مهجورة ، لا سيما كمال الوجه في أحد الطرفين ، إنما هو بالتخيل المبنى على الإشراق الظاهر ، فكيف لا يعتبر بما لولاه لم يدرك الوجه في أحد الطرفين مع وجود الاشتراك فيه ، ويزداد الوجه به تركيبا موجبا للدقة المطلوبة ، تأمل.

١٤٩

قيل يمكن أن يدعى أن الوجه هنا اختلاف الحركات فيتحد ، وفيه أن ذلك الادعاء رد إلى الجملة مع إمكان التفصيل المناسب اعتباره لبلاغة الشاعر مع ظهور إرادته بالإشارة إلى اختلاف مخصوص فى الحركة ، وذلك يشعر بأن المعتبر التفصيل ، ثم لو فتح هذا الباب ، أعنى كون إمكان الجملة يسقط التفصيل ، انحلت عرى ذنب التشبيه المركب الوجه وكره وسقط اعتباره دفعة ، إذ ما من تفصيل وتركيب إلا ويمكن وجود جملة مشتركة فيه فتقول في عنقود الملاحية مع الثريا الوجه بينهما هو المناسبة في مطلق التشكل واللون وفى محمر الشقيق مع أعلام الياقوت المنشورة على رماح من زبرجد ، الوجه بينهما وجود حمرة متصلة بخضرة والذهاب لمثل هذا مما يسقط وجود الدقائق فى التشبيه العربى رأسا ، ولا سبيل إليه ، فليفهم.

ثم لما بين أن التركيب يقع باعتبار الحركة على الوجهين السابقين وأن ذلك من بديع المركب الحسى أشار إلى أن السكون كذلك ، وربما تشعر مقارنته بالحركة بأن التركيب باعتباره من البديع أيضا فقال : (وقد يقع التركيب فى هيئة السكون) ، وهو أيضا على وجهين :

أحدهما : أن تكون الهيئة التركيبية التى هى وجه الشبه معتبرة فى السكون وحده مجردا عن غيره من أوصاف الجسم ، ولا بد حينئذ من تعدد أفراد السكون ، والآخر أن يعتبر فى تلك الهيئة مع السكون غيره. فالأول (كما) أى : كالوجه (فى قوله) أى : فى قول أبى الطيب : فى صفة كلب (يقعى) (١) ، أى : يجلس على أليتيه (جلوس البدوى) أى : يجلس جلوسا فى إقعائه كجلوس الشخص المنسوب إلى البادية (المصطلى) بالنار ، وخص البدوى بذلك ؛ لأنه فى الغالب هو الذى يقع منه الاصطلاء على ذلك الوجه فإنه إذا أوقد النار على وجه الأرض لا يتمكن له الاصطلاء الذي تبلغ فيه الحرارة داخلة إلا بإقعائه مادّا ركبتيه إلى السماء مستندا على رجليه ويديه ، فقد شبه إقعاء الكلب على أليتيه بجلوس البدوى المصطلى ، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من تقارن سكنات الأعضاء حالة وقوع كل عضو منه موقعه المخصوص به فى إقعائه ، ويريد

__________________

(١) البيت لأبى الطيب المتنبى فى كتاب التلخيص فى علوم البلاغة بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى ص (٦٥).

١٥٠

بالوقوع فى الإقعاء الوقوع الثانى ليكون سكونا لا الحصول الأول فيه وهو ابتداؤه فإنه حركة ، ولكن غير محتاج للتنبيه على هذا لأن الإقعاء عرفا هو ما كان معه التمكن لا الحصول الأول منه ، وإليها أشار بقوله : (من الهيئة الحاصلة) هو بيان لما فى قوله : كما أى : الوجه هو الهيئة الحاصلة (من موقع) أى : من وقوع (كل عضو) كائن (منه) أى : من الكلب موقعه الخاص (فى إقعائه) ؛ وإنما قال : كل عضو ، إشارة إلى أنه اعتبر كل عضو ولو غير مجلوس عليه من ظهر ورأس وغير ذلك ، وبذلك كثرت السكنات المقترنة ، فاعتبرت هيئة اقترانها الموجودة فى الجلوسين ، وقد يقال : الطرفان هما الكلب والبدوى فى حالة الإقعاء ، فيكون وجه الشبه هيئة السكون الذى اتصف به كل منهما. فالطرفان أما الجلوسان والوجه مجموع هيئة وقوع كل عضو موقعه الخاص ، فإن لكل عضو موقعا خاصا ، ولمجموع المواقع هيئة خاصة ، وهذه الهيئة صفة الجلوسين ، وأما الجالسان وصفة جلوسهما صفة لهما ، والخطب فى مثل ذلك سهل.

والثانى : أعنى : الهيئة التى يضاف إلى السكون فيها غيره من أوصاف الجسم كقول بعضهم يصف مصلوبا :

كأنه عاشق قد مد صفحته

يوم الوداع إلى توديع مرتحل (١)

فقد اعتبر هيئة سكون عنقه وصفحته فى حال امتدادها ، واعتبر مع ذلك للسكون صفة اصفرار الوجه بالموت ؛ لأن تلك الهيئة موجودة فى العاشق الماد عنقه وصفحته لوداع المعشوق ، ولما فرغ من أمثلة المركب الحسى أشار إلى مثال المركب العقلى كما قدمنا فقال :

المركب العقلى

(و) المركب (العقلى) الذى هو من جملة أنواع وجه الشبه أيضا (كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع من تحمل التعب فى استصحابه) فإنه وجه شبه مركب عقلى (فى) التشبيه الكائن فى (قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها)(٢)) أى :

__________________

(١) البيت للأخطل فى صفة مصلوب وهو فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٧).

(٢) الجمعة : ٥.

١٥١

كلفوا بحمل التوراة علما وعملا ، ثم لم يحملوها لأنهم وإن وقع منهم حملها بدعوى الإيمان بها والعمل ببعضها لكن لما لم يعملوا بجميع ما فيها صار حملهم كالعدم ؛ ولذلك يقال فى تفسير لم يحملوها أى : لم يعملوا بما فيها (كمثل الحمار يحمل أسفارا) أى : يحمل كتبا ، فالأسفار جمع سفر بكسر السين وسكون الفاء ، وهو الكتاب لا جمع سفر بفتح السين والفاء ، فليس المعنى يتحمل مشاق السفر ، والمثل يطلق على القصة ، وقد يطلق على الصفة ، فعلى الأول يكون من تشبيه القصة بالقصة ، وعلى الثانى يكون من تشبيه صفة مركبة بأخرى مثلها فى التركيب ، ففى قصة الحمار المرادة هنا أو صفته المركبة كونه له فعل مخصوص هو الحمل ، وكون المحمول أوعية العلم ، وكون الحمار جاهلا بما فيها أى : ليس عالما بما فيها ، وإلا فالجهل مخصوص بذوات العقل ، ويلزم من عدم علمه عدم انتفاعه. ومثل هذا فى قصة أو فى صفة اليهود فإنه روعى فى قصتهم أو فى صفتهم أنهم فعلوا فعلا مخصوصا هو الحمل المعنوى ، وكون المحمول أوعية العلم ، وكونهم جاهلين أى : غير عالمين بما فيها علما نافعا ، وقد علم أن الطرفين إذا كان فيهما تركيب جاء وجه الشبه مركبا مرعيا فيه ما يشير إلى ما اعتبر فى الطرفين فأخذ من الطرفين هنا ما يجمع بينهما ، وتحمل اليهود لما كان معنويا ، واعتبر فى حمل الحمار الحمل الفعلى وجب أن يكون وجه الشبه معنويا جامعا للطرفين ، فأخذ حرمان الانتفاع الذى اشترك فيه الطرفان لاقتضاء عدم العلم وجوده فيهما ، وكون ما حرم الانتفاع به أبلغ نافع لاقتضاء وجوده فيهما كون المحمول فيهما أوعية العلم التى هى أولى ما ينتفع به ، وكون من حرم الانتفاع تحمل التعب فى الاستصحاب لما حرم الانتفاع به لاقتضاء وجوده فيهما كون المحمول غير خفيف التحمل فيهما ، ويجب أن يؤخذ التعب عقليا بمعنى مطلق المشقة على القوة الحيوانية الصادقة بالمحسوسة كما فى مشقة الحمار ، والمعقولة أو مع المحسوسة كما فى مشقة اليهود ، فالطرفان إن اعتبر كونهما صفتين أو قصتين لم يخلوا عن اعتبار العقلية فيهما كما أشرنا إليه ، ويمكن أن يراد بالطرفين الحمار واليهود موصوفا كل منهما بصفته المخصوصة فيمكن حينئذ أن يدعى حسية الطرفين معا ، ويكون ذكر المثل للتأكيد فى التشبيه ، ولا يخلو هذا التقدير عن بعد وتكلف ، وإذا

١٥٢

فهمت ما قررنا ظهر لك أن الكلام هنا محتاج لهذا التحقيق ، وقد اتضح بما ذكر بحمد الله تعالى ، والله الموفق بمنه وكرمه ، ثم أشار إلى أن وجه الشبه قد يقتضى تمام التشبيه أو حسنه انتزاعه من مجموع أشياء بحيث يكون هيئة مركبة ترعى فيها جميع تلك الأشياء فيقع الخطأ من السامع بانتزاعه إياه فى اعتقاده من أقل من مجموع تلك الأشياء أو من المتكلم بأن يصرح به مأخوذا من بعض تلك الأشياء فقط فقال :

دقيقة فى الوجه المركب

(واعلم أنه) أى : أن وجه الشبه (قد ينتزع) عند السامع أو المتكلم (من متعدد) ، ولكن لا يكفى انتزاعه من ذلك المتعدد فى حصول الغرض الذى يجب قصده ليحصل المعنى الذى ينبغى أن يراد أو الذى أريد (فيقع الخطأ) من المتكلم حيث لم يأت بما يجب أو من السامع حيث لم يتحقق ما قصده المتكلم مما يجب ، وذلك (لوجوب انتزاعه من أكثر) من ذلك المتعدد ؛ لأن الاقتصار على ذلك المتعدد فى الأخذ يبطل به المعنى الذى يجب أن يراد أو أريد ، وذلك (كما إذا انتزع) وجه الشبه (من الشطر الأول) أى : انتزع مما اشتمل عليه الشطر الأول (من قوله :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما رأوها أقشعت وتجلت) (١)

أى : كإبراق غمامة لقوم أى : تعرضها لهم فما فى كما مصدرية وقوما منصوب بإسقاط الخافض يقال : أبرقت لى فلانة ، إذا تزينت وتعرضت ، وأما أبرق بمعنى صار ذا برق أو أبرق بسيفه إذا ألمع به أو غير ذلك ، فلا يناسب هنا شيء منها ، فلما رأوها أقشعت أى : اضمحلت وذهبت ، وهو معنى تجلت يقال : قشعت الريح السحاب فأقشع أى : صار ذا قشع أو ذهاب أو طاوع فيه ، فالشاعر شبه الحالة المذكورة فيما قبل هذا البيت وهى كون الشاعر أو كون من هو فى وصفه ظهر له شيء هو فى غاية الحاجة إلى ما فيه ، وذلك الظاهر هو بصفة الإطماع فى حصول المراد ، وبنفس ظهور ذلك الشيء وإطماعه انعدم وذهب ذهابا أوجب الإياس مما رجى منه بحالة قوم

__________________

(١) أورده الطيبى فى شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ص (١ / ١٠٧) ، وأورده القزوينى فى الإيضاح ص (٣٥٤).

١٥٣

تعرضت لهم غمامة وهم فى غاية الحاجة إلى مارجوا فيها من الماء لعطشهم ، وبنفس ما طمعوا فى نيل الشرب منها تفرقت وذهبت.

فإذا سمع السامع كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فربما يتوهم أن ما يؤخذ منه يكفى فى التشبيه لطوله ؛ إذ فيه أن قوما ظهرت لهم غمامة وكون تلك الغمامة رجوا منها ما يشرب وكونهم فى غاية الحاجة لذلك الماء الموجود لعطشهم ، فإذا انتزعه من هذا الشطر وحده كان حاصل التشبيه أن الحالة الأولى كالحالة التى هى إبراق الغمامة لقوم إلخ فى كون كل حالة فيها ظهور شيء لمن هو فى غاية الحاجة إلى ما فيه مع كون ذلك الظاهر مطمعا فى حصول المراد ، فيقع الخطأ من ذلك السامع ، وكذا المتكلم لو فرض تصريحه بهذا القدر ؛ لأن المعنى المراد أو الذى يناسب أن يراد فى التشبيه لم يتم ؛ إذ تشبيه المجموع بالمجموع يقتضى كما تقدم أن يؤخذ الوجه من كل ماله دخل فى التشبيه ؛ لأن كل جزء من طرف له نظير من الطرف الآخر فإذا أسقط ما يؤخذ منه فى ذلك الوجه بطل اعتبار المجموع.

(ف) وجب أن يؤخذ من المجموع ، ل (أن المراد) من هذا التشبيه كما قررنا (التشبيه) أى : تشبيه الحالة بجميع ما اعتبر فيها كما أشرنا إليه بالحالة الثانية بجميع ما اعتبر فيها وهى كون القوم ظهرت لهم غمامة وهم عطاش فأطمعتهم فى حصول الماء للشرب ، وبنفس الإطماع ذهبت ، فأيسوا من حصول المراد فبقوا متحيرين ، ولا يتم التشبيه المحصل لدخول جميع ما اعتبر فى الحالتين إلا (ب) اعتبار (اتصال) أى : إلا بكون الوجه هو اتصال (ابتداء مطمع) أى : ابتداء شيء مطمع هو ظهور السحاب فى المشبه به وظهور المرغوب فى المشبه ، وهذا على أن ابتداء مضاف لمطمع ، ويحتمل أن ينون ويكون مطمع وصفا له ، وعلى كل حال فقوله : (بانتهاء مؤيس) متعلق باتصال وإعراب الانتهاء كإعراب الابتداء ، والمعنى أن وجه الشبه كون ابتداء الشيء الظاهر المطمع متصلا بانتهائه واضمحلاله المؤيس ، ويراد فيه مع شدة الحاجة إلى ذلك المطمع ، فإذا انتزع الوجه هكذا تحقق به تشبيه الحالة الاجتماعية بالأخرى ، وانتفى الخطأ اللازم على الأخذ الأول القاصر ، فالباء فى قوله : باتصال داخلة على الوجه ؛ إذ هو المشترك فيه

١٥٤

كهى في قولهم التشبيه بالوجه العقلى أعم ، وليست داخلة على المشبه به ، إذ هو كما تقدم حالة القوم المعتبر فيها ما تقدم ، وقولنا : الوجه هو اتصال الابتداء الموصوف بالانتهاء الموصوف ، ليس كقولنا : هو اتصال الابتداء واتصال الانتهاء بالعطف ؛ لأن حرف العطف إن كان واوا لا يقتضى إلا مجرد الجمعية من غير توقف ولا توقف ، وبهذا يعلم الفرق بين التشبيه المركب الوجه والتشبيه المتعدد الوجه ، وذلك لأن الأول لا يصح فيه حذف بعض ما اعتبر ، وإلا اختل المعنى كما تقدم بيانه فى هذا المثال ولا تقديم بعض ما اعتبر على بعض وإلا انعكس القصد ، إذ لو قيل الوجه اتصال ابتداء مطمع كان مختلا ، ولو قيل اتصال انتهاء مؤيس بابتداء مطمع اختل الواقع ، والقصد وإن كان المعنى فى نفسه صحيحا ؛ لأن الواقع المقصود هو وجود الإطماع بالابتداء أولا ، ثم الإياس بالانتهاء ثانيا ، ونظيره فى العطف ما لو قيل الوجه هو الابتداء ثم الانتهاء ؛ لأن ثم تقتضى الترتيب فلا يتقدم ما بعدها على ما قبلها ، فالمتعاطفان بها ـ ولو صح الاستغناء بأحدهما عن الآخر بحسب الظاهر ـ لا يصح فيهما تقدم المتأخر ولا إسقاط أحدهما لفوات إفادة المعنى الذى هو ترتيب أحدهما على الآخر بخلاف ما إذا قيل : زيد كعمرو فى الشجاعة والكرم ، فيصح التقديم والتأخير فيهما من غير تبدل فى المعنى ولو حذف أحدهما تم المعنى فإن قيل : إذا قصد الاستقلال فى العطف بالواو ظهر الفرق بين تعدد الوجه وتركبه وكان من التشبيهات المتعددة ، وأما إذا قصد اجتماعهما فلا يظهر الفرق بين العطف بثم الذى جعلت الوجه فيه من باب التركيب والاتصال والعطف بالواو لوجود اعتبار الاتصال فيهما ، بل لا يتقرر الفرق بين العطف بالواو حينئذ وبين التركيب بدون عطف أصلا قلت : مدلول الواو ولو قصد هو مطلق الاجتماع فى الوجود والاتصاف ، وهو أمر جملى عام ليس فيه خصوصية تترجح فى الاعتبارين على الاستقلال ، فعاد المعنى إلى الاستقلال والتعدد ؛ لأن مطلق الجمعية فى الوجود والاتصاف تجرى حتى فى غير العطف ، ولذلك شرط فى العطف بالواو وجود جامع زائد على مفادها فتقرر بذلك الفرق بين تركب الوجه وتعدده ، وبمثله يتقرر الفرق بين تركب الطرفين وتعددهما ، فإذا قلت : حال زيد فى لقاء عمرو وقد وعده بقضاء دينه ، وبنفس

١٥٥

لقائه اعتذر له بموجب إياسه كحال قوم عطاش أبرقت لهم غمامة فلما رأوها أقشعت فى أن كلا من الحالتين اتصل فيها ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس كان الطرفان مركبين كالوجه لعدم صحة الاقتصار على البعض من كل وعدم تمام المعنى إلا بالمجموع.

وإذا قلت : زيد كالأسد فى الشجاعة والبحر فى الكرم والسيف فى القطع ، كان من التعدد فى الكل ، وكان من التشبيهات المجتمعة لا تشبيه واحد فى المركب لصحة الاقتصار على كل واحد واستقلاله مع تمام المعنى ، ولصحة التقديم والتأخير بلا تبدل المعنى ؛ فالأول من تشبيه المجموع بالمجموع فى مجموع ، والثانى من مجموع تشبيهات فى أوجه مجموعة ، والفرق بين مفاد العبارتين واضح ، وقد أطنبت فى هذا الموضوع قصدا لإفادة الإيضاح ، فليفهم.

ولما فرغ من أمثلة المركب ، وقد تبين الفرق بينه وبين المتعدد ، شرع فى أمثلة المتعدد ، وقد تقدم أنه إما حسى كله أو عقلى كله أو بعضه حسى وبعضه عقلى ، فقال : (و) الوجه (المتعدد الحسى) كله (كاللون والطعم والرائحة فى تشبيه فاكهة بأخرى) ، ولا شك أن هذه الثلاثة إنما تدرك بالحواس المعلومة الثلاثة ، فاللون بالبصر ، والطعم بالذوق ، والرائحة بالشم ، وذلك كتشبيه التفاح الحامض بالسفرجل ، (و) الوجه المتعدد (العقلى) كله (كحدة النظر) الموجب لكونه يدرك به الخفيات ، (وكمال الحذر) الموجب لكونه لا يؤخذ عن غرة ، (وإخفاء السفاد) أى : إخفاء الذكر نزوه على الأنثى بحيث لا يرى فى تلك الحالة ، ولا شك أن حدة النظر وصف عقلى للنظر ؛ إذ النظر فى نفسه عقلى ؛ إذ لا يرى ، وكمال الحذر عقلى ؛ إذ الحذر فى نفسه عقلى أيضا ، وإنما تظهر آثاره وإخفاء السفاد لا يخفى كونه عقليا ، وذلك (فى تشبيه طائر بالغراب) ، وإنما قال : " طائر" ؛ لأن الإنسان أخفى منه سفادا ، كذا قيل ، وفيه بعد لأن الإنسان قد يرى فى تلك الحالة والغراب ، قيل : إنه لم ير عليها قط حتى قيل إنه لا سفاد له معتاد ، وإنما له إدخال منقره فى منقر الأنثى ، وأما حدة نظر الغراب فإنه يرى تحرك أى طرف من الإنسان ولو كان بغاية السرعة وذلك من كمال حذره حتى إن مما اشتهر فى كمال حذر الغراب ، ما يقال من أنه أوصى ابنه فقال له : إذا رأيت إنسانا أهوى إلى الأرض

١٥٦

فطر ؛ إذ لعله يأخذ حجرا يضربك به ، فقال له ابنه : بل أطير إذا رأيته مقبلا ، ومن يؤمننى أن يكون أتى بالحجر معه ، وهذا من مبالغة الناس فى وصفه بالحذر.

(و) الوجه المتعدد (المختلف) الذى بعضه عقلى وبعضه حسى (كحسن الطلعة) أى : حسن الوجه ، وقد تقدم أن الحسن يرجع إلى الشكل واللون وهما محسوسان ، فحسن الطلعة حسى (ونباهة الشأن) أى : شرف الشأن واشتهاره وعلوه ، ولا شك أن الشرف والاشتهار لا يحدان بالبصر ولا بغيره ، وإنما الشرف والاشتهار فى العقول ، ولو كان سبب كل منهما قد يكون حسيا ، فنباهة الشأن عقلى ، وذلك (فى تشبيه إنسان بالشمس) فى حسن الطلعة والنباهة ، وقد تقدم أى : المتعدد يقصد فيه إلى اشتراك الطرفين فى كل واحد ، والمركب يقصد فيه إلى الهيئة الاجتماعية العقلية أو الحسية ، فالمتعدد من التشبيه فى الجمع والمركب من التشبيه فى المجموع ، ثم أشار إلى أن المشبه قد يكون من إثبات ما ليس بثابت على وجه التخيل ، بل على وجه القصد فقال : (واعلم أنه) أى : أن الشأن (قد ينتزع الشبه) بفتح الشين والباء بمعنى التشابه والتماثل ، والمراد به هنا ما يقع به التشابه وهو وجه الشبه من إطلاق المصدر على المفعول ؛ إذ هو الذى يتعلق به الانتزاع ، ويحتمل أن يراد به معناه الأصلى الذى هو نفس التشابه والتماثل فى وجه ما ؛ لأنه إذا انتزع ، أى : استخرج ما وقع به التشابه بعد استخراج وصف التشابه فيلابس الانتزاع التشابه أيضا ، وهو ظاهر (من نفس التضاد) الكائن بين شيئين ، ومعنى الانتزاع من نفس التضاد أن يجعل التضاد وسيلة لجعل الشيء وجه شبه ، لا أن يعتبر ما يتعلق بالتضاد كما تعتبر الهيئة المنتزعة من أشياء فيما تقدم ، فإن هذا لا يصح هنا ؛ وإنما صح أن يجعل التضاد وسيلة لوجه الشبه (لاشتراك الضدين فيه) ، أى : فى التضاد ، فإن كلا من الضدين موصوف بتضاده للآخر ، وإذا كان التضاد مشتركا فيه ناسب أن يعتبر ذلك الاشتراك فى التضاد الذى لم يقصد أن يكون وجه الشبه كالاشتراك فى الوجه المشترك فيه المقتضى للتشبيه فى غير الضدين اللذين هما الطرفان المرادان هنا ، والمقصود بالضدين المتنافيان فى الجملة ، فيصح أن يتخيل التضاد كالتناسب ، فينزل منزلته بواسطة أن كلا منهما مشترك فيه ، وإلى هذا أشار بقوله : (ثم ينزل) ذلك

١٥٧

التضاد المشترك فيه (منزلة التناسب) والتماثل فى جامع يرفع الضدية الكائنة بين الطرفين ، وهذا التنزيل أعان عليه الاشتراك ، فذكر الاشتراك على هذا للبيان ؛ إذ لا بعد فى هذا التنزيل المؤدى إلى أخذ الوجه من التضاد ، فإن قلت : إذا كان الاشتراك فى التضاد كافيا فى أخذ الوجه المقتضى لنفى الضدية بواسطة تنزيل ذلك التضاد منزلة التناسب فى وجه يرفع التضاد لتصحيح الاشتراك ذلك التنزيل ضرورة اتصاف التضاد والتناسب بالاشتراك فى كل منهما صح أن يقال : السماء كالأرض فى الانخفاض ، والأرض كالسماء فى الارتفاع ، والسواد كالبياض فى تفريق البصر ، والبياض كالسواد فى عدمه ، ونحو هذا مما لم يصح وروده عن البلغاء ، وإنما قلنا بصحته ضرورة أن كل ذلك وجد فيه الاشتراك فى التضاد المصحح لتنزيله منزلة التناسب على ما قررت.

(قلت) اعتبار الاشتراك لتصحيح أخذ الوجه المقتضى للمناسبة إنما هو لزيادة توجيه الصحة ، دفعا لاستغراب أخذ المناسبة من التضاد ، وإلا فلا تكفى مجرد الاشتراك وإلا لزم ما ذكر ، بل لا بد فى صحة الأخذ من زيادة وجود تمليح أو تهكم ، وإلى ذلك أشار بقوله : (بواسطة تمليح أو تهكم) ، أى : إنما صح تنزيل التضاد منزلة التناسب فى الوجه الرافع للتضاد فيجعل ذلك الرافع للتضاد هو الوجه لأجل وجود الاشتراك فى التضاد والتناسب فى الجملة بواسطة التمليح والتهكم ، أى : إنما أعان على صحته وقبوله قصد التمليح أو التهكم أو قصدهما معا (فيقال) مثلا (للجبان) ، أى : للشخص المعلوم بالجبن : (ما أشبهه بالأسد) فى الشجاعة ، (وللبخيل) ، أى : الشخص المعلوم بالبخل : (هو حاتم) فى الكرم ، وكلا المثالين صالح لقصد التمليح ولقصد التهكم ولقصدهما معا ، فإذا قامت القرائن على عدم قصد الاستهزاء بالمشبه لصداقة له مثلا ، وإنما قصد التمليح ، أى : الإتيان بشيء مليح يستبدع ويستظرف عند السامع ، كانت الواسطة تملحيا ، وإذا قامت على قصد الاستهزاء بالمخاطب لعداوة وغضب من غير أن يكون ، ثم من تقصد ظرافة الكلام معه كانت الواسطة التهكم ، وإذا قامت على قصدهما معا لعداوة المشبه فقصدت إهانته وإذايته مع وجود سامع يقصد إيجاد الكلام فى غاية الظرافة والملاحة

١٥٨

معه كان كلاهما واسطة. أما التمليح فيما ذكر فلأن إفادة نهاية الذم المقصودة فى طى ما يفيد نهاية المدح مما يستملح ، وأما التهكم فلأن الإتيان بعكس ما يطلب فى طيه معروف لتلك الإهانة كمناولة حجر عند طلب خبز مثلا ، ولهذا يقال عند مناولته استهزاء : خذ الخبز ، ولأجل قصد نهاية الإهانة ناسب التعبير فى هذا التشبيه بصيغة التعجب والمبالغة كما فى المثالين ، وإنما زدنا ذكر الوجه نحن لقصد إيضاح المراد من الوجه ، ثم لا يخفى أن انتزاع الوجه من التضاد مؤخر عن تنزيله منزلة التناسب على ما قررنا ، فالتعبير بثم فى التنزيل للترتب الذكرى ، إلا أن يراد بالانتزاع قصده ، ويراعى فى التنزيل نهايته فيوجد حينئذ الترتب والمهلة ، فتكون ثم على بابها تأمل.

فتبين بما قررنا أن التمليح مصدر ملح الشاعر إذا أتى بشيء مليح وقصد التمليح ، أى : الإتيان بشيء مليح فى طى التعبير بما يدل فى الأصل على خلاف المراد موجود فى كلام العرب كما بينه الإمام المرزوقى فى قول الشاعر الحماسى ، أى : المنسوب إلى الحماسة وهى الشجاعة كما دل عليه شعره :

أتانى من أبى أنس وعيد

فسل لغيظة الضحاك جسمى (١)

فإنه قال هذا البيت قصد قائله التهكم بأبى أنس والتمليح ، أى : الإتيان بشيء مليح يستظرفه السامعون ، والإمام المرزوقى قدوة فيما يفهم من أشعار العرب لتدربه بها وممارسته لمقتضياتها ، ومعنى سل ذاب وهو بصيغة المبنى للمجهول ، والجسم هو النائب ، وفى بعض الروايات بدل لغيظة تغيظ فيكون بصيغة المبنى للفاعل ، والتغيظ فاعله ، والجسم مفعول ، والمراد بالضحاك أبو أنس نفسه ، وعبر بالظاهر موضع الإضمار بيانا لعين المستهزأ به بذكر الاسم العلم تحقيرا لشأنه ، وقيل : الضحاك اسم لملك من الملوك سماه به زيادة فى التهكم لتضمنه تشبيهه به على وجه الهزؤ والسخرية ، فكأنه قال : فسل جسمى تغيظ هذا الذى هو كالملك الفلانى ، ولا يخفى ما فيه من الاستهزاء فالتمليح بتقديم الميم معناه ما ذكر من الإتيان بالمليح ، وليس مرادفا للتلميح بتقديم اللام الذى هو الإشارة إلى قصة كما فى قوله :

__________________

(١) البيت لشاعر حماسى فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٨).

١٥٩

ألمت بنا أم كان فى الركب يوشع

أو شعر كما فى قوله :

لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظى

على ما سيأتى بيان ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ومن سوى بينهما وجعل قوله : هو حاتم إشارة إلى قصة حاتم ، فقد وهم ؛ لأن حاتما لا يشعر بقصة ، وإنما يشعر بالجواد الذى هو كاللازم له الذى قصد ليجعل وجه الشبه هنا ، وتبين أيضا بما قررنا أن وجه الشبه فى هذا التشبيه هو الوجه الرافع للتضاد الموجب للمناسبة ، لا نفس التضاد المشترك للضدين ، فإنا إذا قلنا : هذا ـ مشيرين إلى جبان ـ كالأسد ، وقصدنا أن الذى كان فى وصفيهما لم يفد تمليحا ولا تهكما ، بل بمنزلة قولنا : البياض كالسواد فى تقابلهما وتضادهما وجه التضاد أو فى اللونية الكائنة فيهما ، والكلام هنا فيما يفيد تمليحا أو تهكما ؛ وإنما يفيده إذا قصد أن يكون الوجه هو الأمر الذى تقتضيه المناسبة الرافع للضدية وهو الشجاعة فى المثال حتى إنا لو صرحنا به لقلنا فى الشجاعة ، وكذا إذا قلنا فى بخيل هو كحاتم ، وإنما نجعل الوجه هو الكرم لا الاتصاف بضد ما فى كل ، ولكن لما كان الحاصل فى نفس الأمر فى المشبهين ضد ما ذكر ؛ لأن الحاصل فى المشبه فى الأول الجبن وفى الثانى البخل نزلنا التضاد بين الوصفين كالمناسبة والمماثلة على ما قررنا آنفا ، فتوصلنا بذلك إلى جعل الحاصل فى المشبه هو الشجاعة فى الأول والكرم فى الثانى على وجه التمليح بإظهار المقصود فى نقيضه أو التهكم بإعطاء الأذى فى عكسه ، ومن جعل الوجه هنا هو التضاد المشترك فيه حقيقة فقدسها لما ذكرنا ؛ ولأنه لا معنى حينئذ لكون الوجه منتزعا من التضاد ، إذ هو نفس التضاد ، ولا معنى لانتزاع الشيء من نفسه ، فليفهم.

أداة التشبيه

ولما فرغ من ثلاثة أركان التشبيه شرع فى الرابع منها ، وهو أداته فقال : (وأداته) ، أى : وآلة التشبيه الدالة عليه (هى الكاف) ، وهى الأصل لبساطتها (وكأن) قيل : هى بسيطة ، وقيل : إنها مركبة من الكاف ومن أن المشددة ، والأقرب الأول لجمود الحروف مع وقوعها فيما لا يصح فيه التأويل بالمصدر المناسب لأن المفتوحة ، وإن كان الثانى أشبه بحسب ما يبدو من صورة كأن ، وإذا دخلت الكاف على أن فصل بينها

١٦٠