مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

بالذوق بقوله (من الطعوم) يعنى الكيفيات الموجودة فى المطعومات ، ولها أوائل ثمانية منها الحلاوة ، وهى أقوى البواقى ملاءمة للذائقة وأشهاها لديها ، ومنها الدسومة وتليها فى الملاءمة ، وذلك كطعم اللحم والشحم والأدهان الملائمة ، ومنها المرارة ، وهى أقواها منافرة للذائقة ، ومنها الحرافة وفيها أيضا منافرة للذائقة ، إذ هى طعم فيه لذع ما ، ومنها الملوحة وهى فى رتبة التنفير بين المرارة والحرافة ، ولذلك تارة توجد مائلة للمرارة وتارة توجد مائلة للحرافة ، ومنها العفوصة وهى منافرة أيضا للذائقة وهى قريبة من المرارة ، بل هى نوع منها كطعم العفص المعلوم ، ولهذا قال فى القاموس : العفص : المرارة والقبض ، ومنها الحموضة وفيها تنفير أيضا وهى معلومة ، ومنها القبض وهو فى منافرة الذائقة فوق الحموضة وتحت العفوصة ، ولهذا يقال : إن العفوصة تقبض ظاهر اللسان وباطنه والقبض يقبض ظاهره فقط ، فهذه ثمانية هى أوائل المطعومات ، وقد تبين أن غير الحلاوة والدسومة منها تشترك فى مطلق المنافرة للذائقة ولو تفاوتت فيها ، ومتى لم تنافر فلفساد المزاج ، وأما عد التفاهة منها فغير مرضى إذ هو عدم الإحساس بطعم المذوق لبعض الأجسام فإنها عند اتصال الذائقة بها لا يحس منها بطعم ، وكل ما سوى هذه من المطعومات وهى أنواع لا تنتهى فمركبة من هذه المزازت المركبة من الحلاوة والحموضة وكلما خلط مطعوم بآخر حدث طعم آخر ، وفيما أشير إليه من المطعومات أبحاث موكولة لمحالها ، فإذا أريد التشبيه فى المذوق قيل : هذا الطعام كالعسل فى الحلاوة ، وهذا كالصبر فى المرارة ، وقس على هذا (أو بالشم) أى ومن جملة الكيفيات الحسية الجسمية ما يدرك بحاسة الشم ، وهو معنى قائم بباطن الأنف تدرك به الروائح ، وهذا هو المتبادر الجارى على الألسن من معناه ، ويفسر عند الحكماء ـ بناء على ما اقتضاه التشريح ـ بأنه هو قوة أى : صفة إدراك كائنة فى زائدتى مقدم الدماغ حلمتين زائدتين هنالك شبيهتين بحلمتى الثديين فهما بالنسبة لمجموع الدماغ بخريطته كالحلمتين بالنسبة إلى الثديين ، فالقوة الشمية قائمة بتينك الزائدتين كل منهما يقابل ثقبة من ثقبتى الأنف ، وعلى هذا فلا إدراك فى الأنف وإنما هو واسطة ، بدليل أنه إذا انسد من داخل انقطع إدراك المشموم ولو سلم نفس الأنف من الآفات ، ثم بين المدرك بهذه الحاسة بقوله (من

١٢١

الروائح) الطيبة والمنافرة ولا تمييز بينها إلا بالإضافة كرائحة المسك ورائحة الزبل وغير ذلك ، ولا تنضبط بزمام فإذا أريد التشبيه فى المشموم قيل هذا النبات كالورد فى رائحته ، وهذا الدهن كالقطران فيها وعلى هذا فقس ، (أو باللمس) أى : ومن جملة الكيفيات الحسية الجسمية ما يدرك بحاسة اللمس ، وهو فى الأصل مصدر لمسه إذا اتصل به شيء من جسده ، وأطلق هنا على قوة سارية أى عامة فى ظاهر البدن بها تدرك الملموسات ، ولا يضر تفاوت أجزاء ظاهر البدن فى الإحساس لاشتراكها فى مطلق الإدراك ، ثم بين بعض المدرك باللمس بقوله : (من الحرارة) وهى قوة من شأنها تفريق المختلفات وجمع المؤتلفات ، ولهذا إذا أوقد على حطب ذهب الجزء الهوائى وهو المتكيف بصورة الدخان صاعدا لأصله من الهواء ، والجزء الترابى وهو المتكيف بصورة الرماد متراكما إلى الأرض والعزل المائى والنارى وكل ذلك بالمعاينة ، وكذا إذا أوقد على معدن حتى ذاب انعزل زبده وخبثه عن صفيه (والبرودة) وهى قوة من شأنها جمع المؤتلفات وغيرها ، ولذلك إذا برد المعدن المذاب التصق خبثه بصفيه ، ولأجل كونهما فى أصلهما لهذا التأثير سميتا فعليتين وإن كان يقع منهما انفعال أى : تأثر عند تأثر الأجسام العنصرية بهما والتقاء أصولها ؛ لأنهما عند ذلك تنكسر سورة كل منهما بالأخرى فتحدث هيئة اتحاد فى الأجسام المركبة العنصرية ، وتسمى تلك الهيئة مزاجا لحصولها عن مزج الأجزاء البسيطة ، وبتلك الهيئة عند الاعتدال يصلح لكونه نباتا أو حيوانا بالفعل على حسب الاستعداد ، وكذا إذا ألقى الماء الحار على البارد انفعلت كيفية كل منهما بكسر الأخرى ؛ ولكن اعتبرت فيهما الحالة الأولى الأصلية فسميتا فعليتين ، (و) من (الرطوبة) وهى كيفية تقتضى سهولة التشكل والالتصاق والتفريق فى الجسم القائمة هى به ، (و) من (اليبوسة) وهى بعكسها أى كيفية تقتضى صعوبة التفريق والالتصاق والتشكل ، ولأجل اقتضائهما تأثر موصوفهما سميتا انفعاليتين ، وإن كانت الثانية منهما بتأويل الصعوبة أثرا ؛ وإنما هو فى الحقيقة نفى الأثر ومن عادتهم عد ما يمنع التأثر انفعالا ، وتسمى هذه الأربع أوائل الملموسات لأنها تدرك بمجرد اللمس من غير حاجة إلى توسط شيء آخر ، فإن الملموس تدرك حرارته أو برودته أو رطوبته أو يبوسته فى

١٢٢

أول اللمس ، بخلاف غيرها مما يأتى فإنها إنما تدرك باللمس مع زيادة خصوصية أخرى فى اللمس ، فإن اللزوجة مثلا يحتاج فى إدراكها إلى التشكل والجذب الزائدين على مجرد اللمس لتعلم سهولة الأول وصعوبة التفريق بالثانى ، وكذا الخفة والثقل يحتاج إلى زيادة الاندفاع ليعلما باللمس ، وأما الخشونة والملاسة فهما من صفات الوضع المدركة بالبصر فلم يعدا من أوائل هذه مع إدراكهما بأول اللمس ، وبهما يعلم أن الكيفية قد تكون منسوبة لحسيين والكلام فيما يختص باللمس ، وأيضا تسمى أوائل لأنها فى الأجسام البسيطة التى هى أوائل المركبات ، (و) من (الخشونة) وهى كيفية حاصلة من كون بعض الأجزاء أى : أجزاء الجسم أخفض وبعضها أرفع ، وتلك الكيفية خروشة تدرك عند اللمس ، ويدرك بالبصر ملزوم تلك الخشونة ، وهى كون الأجزاء على الوضع المخصوص من نتوء البعض وانخفاض الآخر على وجه مشاهد مخصوص ، وبذلك الاعتبار تسمى وضعية ، (و) من (الملاسة) وهى كيفية حاصلة عن استواء الأجزاء ، أى : أجزاء الجسم فى الوضع مع الالتصاق فهى أيضا باعتبار كونها على ذلك الوضع المخصوص الذى له مراتب وضعية مشهودة بالبصر ، وباعتبار الإحساس عند اللمس بسلاسة فى مرور الماس على سطح الممسوس بحيث لا يلتذع بما يمر به تسمى ملموسة ، (و) من (اللين) وهى كيفية تقتضى قبول الغمز أى التداخل إلى الباطن ويكون للشيء القائمة هى به قوم ، أى : جواهر فيها تماسك غير سيال ، فالماء على هذا ليس له لين ؛ لأن قوامه أى : جواهره فيها تماسك مع السيلان ، فيدخل فى الصلابة وهو بعيد. (و) من (الصلابة) وهى تقابل اللين ، فهى كيفية تقتضى قبول الانغماز أى : التداخل إلى الباطن ، فالأولى ككيفية العجين ، والثانية ككيفية الحجر والخبز اليابس ، (و) من (الخفة) ، وهى كيفية تقتضى فى الجسم أن يتحرك إلى صوب ، أى : جهة المحيط لو لم يعقه عائق كالريش الخفيف مثلا ، فإنه لو لا العائق لارتفع إلى العلو ، (و) من (الثقل) ، وهى كيفية تقتضى فى الجسم أن يتحرك إلى صوب المركز لو لم يعقه عائق كالرصاص المحمول ، فإنه لو لا حمله لتنزل إلى السفل ، وشبهوا العلو بمحيط الدائرة والسفل بمركزها لارتفاع المحيط عن المركز فى الجملة ، ولذلك قالوا فى الأول لصوب المحيط ،

١٢٣

أى : إلى جهة العلو ، وفى الثانى لصوب المركز ، أى : إلى السفل ، وأيضا السماء للأرض كالدائرة وهى فى جهة العلو ، والأرض كالمركز ، وهو بالنسبة إلى ما يظهر من السماء منخفض ، فإذا فرض الثقيل والخفيف بينهما اندفع الأول إلى الأرض التى هى كالمركز ، واندفع الثانى إلى السماء التى هى كالدائرة لو لا العائق فى كل منهما ، ولذلك عبروا بالمحيط والمركز (وما يتصل بها) ، أى : ما يلحق المذكورات فى كونه يدرك باللمس ، كالبلة وهى اتصال المائع بسطح الجسم ، فإن داخله فهو انتفاع ، وهذه فى الحقيقة ترجع إلى إدراكه المائعية فى سطح جسم ما ، والجفاف وهو عدم اتصال المائع بسطح غير مائع ، واللزوجة وهى من اللزج الذى هو اللزوم ، وهى كيفية تقتضى سهولة التشكل وعسر التفرق ، بل يمتد عند محاولة التفرق كبعض أنواع الصمغ الممضوغ وكالمصطكى ، والهشاشة تقابلها ، فهى كيفية تقتضى سهولة التفرق وعسر الاتصال بعد التفرق كالخبز اليابس المعجون بالسمن ، واللطافة وهى رقة القوام أى : الأجزاء المتصلة كالماء ، وقيل هى كون الشيء بحيث لا يحجب ما وراءه ، والكثافة ضدها وهى غلظ القوام أو حجب الجسم ما وراءه ، ولكن المعنى الثانى فيهما لا يناسب المس ، وتطلقان على معان أخرى وغير ذلك مما ذكر فى غير هذا المحل كاللذع الذى هو كيفية سارية فى الأجزاء يحس بها عند مس اللاذع توجب تفرقا موجعا ، فإذا أردت التشبيه بالكيفية المتعلقة بحاسة اللمس قلت مثلا فى الحرارة أو البرودة : هواء اليوم كالنار فى حرارته ، أو كالثلج فى برودته ، وفى الرطوبة أو اليبوسة : هذا الطعام كالزبد عند انفصاله عن اللبن فى رطوبته ، أو هذا الخبز كالحجر فى يبوسته وعلى هذا فقس وقد أطنبت قليلا فيما يتعلق بهذه الكيفيات على حسب ما فسرها به الشارح مما هو من تدقيقات الحكماء بعد تفسير بعضها بما هو أقرب إلى الفهم قصد الإيضاح وزيادة فى الفائدة ، وإن كان تفسيره كما قيل لا يناسب هذا الفن ولا يسهل على المتعلم ، بل يزيده حيرة ، ولكن حيث ارتكب ذلك وجب مجاراته مع زيادة ما يوضح الغرض من بيان اصطلاحهم إزالة للحيرة عن المتعلم ، قيل ولعل ذلك من الشارح صدر منه قصدا للافتخار باطلاعه على تدقيقات الحكماء. وأنا أقول : بل لعله لما كان معنى تلك الكيفيات فى متفاهم العرب

١٢٤

ظاهرا لم يبق ما يقال فيها إلا أن يؤتى فى تفسيرها بما يعلم به معناها فى تدقيقات الحكماء قصدا التمرين قريحة المتعلم وزيادة لافادته ، وأما الحيرة فالغالب أنها إنما تكون من البليد فيلزمه طلب الفهم فيما ذكر فيها ، وأما غيره فالمعانى المذكورة فيها غالبها يفهمه إذا راجع فكره ووجدانه والله وأعلم.

الحقيقة العقلية

(أو عقلية) هذا هو القسم الثانى من قسمى الحقيقة ، يعنى أن الصفة الخارجية الحقيقية إما أن تكون حسية كما مر وإما أن تكون عقلية فهو معطوف على حسية ، والعقلية (كالكيفيات النفسانية) أى : المختصة بذوات الأنفس الناطقة المتعلقة بالباطن ، وإنما أثرت فى الظاهر ثم أشار لبيانها بقوله : (من الذكاء) ، والذكاء شدة قوة العقل المعدة لاكتساب النفس بها الآراء الدقيقة ، فتقول فى التشبيه به هو كأبى حنيفة فى الذكاء ، (و) من (العلم) وهو الإدراك المفسر بحصول صورة الشيء عند العقل ، وتفسير العلم بالحصول يقتضى كونه نسبيا أى اعتباريا ؛ لأن الحصول من الأحوال الاعتبارية بين الحاصل والمحصول فيه فى التحقيق ، والمنهج المشهور فيه أنه معنى ينكشف به الشيء كما هو ، ولذلك قيل : إن الصورة بقيد حصولها فى العقل هى العلم ، وبقيد كونها فى الخارج هى المعلوم ، ورام هذه القائل بهذا أن يجعل العلم وجوديا لا نسبيا ، ولا يخفى أنه لا معنى لكون الصورة علما إلا باعتبار إدراكها وحصولها فيعود لأحد الأولين ، وإن الصورة العلمية على هذا اعتبارية وإلا لزم أن الصور والأمثال وجودية خارجية والبديهة تدفع ذلك ، وقد يطلق العلم على معان أخر ، فيطلق على الملكة كما تقدم أول الكتاب ، وعلى إدراك الكلى فيقابل المعرفة المتعلقة بإدراك الجزئى ، وعلى إدراك المركب فيقابل المعرفة المتعلقة بالبسيط ، فيقال فى التشبيه بالعلم هو كمالك فى علم الفقه وكسيبويه فى علم النحو ، (و) من (الغضب) وهو تغيظ على ما يكره وتكره فى الشيء يوجب غليان دم القلب وتنشأ عنه حركة النفس أى : انبعاثها للانتقام لو لا الحلم ،

١٢٥

فجعل إرادة الانتقام مبدأ لهذه الحركة كجعل الشيء مبدأ لنفسه ؛ إلا أن يراد بالإرادة أول الانبعاث تأمل فيقال : هو كعنترة فى غضبه ، (و) من (الحلم) وهو اطمئنان النفس عند وجود أسباب الغضب ، بحيث لا يحركها ذلك الغضب بسهولة ولا يضطرب للانتقام عند إصابة المكروه الذى هو من أسباب الغضب ، ومعلوم أن الانتقام على قدر الغضب ، ومطلق الغضب لا يحرك الحليم ، وإنما يحركه القوى جدا فيكون الانتقام على قدره ، ولذلك يقال : انتقام الحليم أشد ، فيقال فى التشبيه به : هو فى حلمه معاوية.

(و) من (سائر) أى : باقى (الغرائز) مما سوى الذكاء والحلم ، وملكة العلم أى : العقل ، والغرائز جمع غريزة وهى الطبيعة التى لتمكنها فى النفس كأنها مغروزة فيها ، وهى ملكة متمكنة فى النفس تصدر عنها الأفعال الملائمة لها بسهولة مثل الكرم النفسي أى : الذاتى لا العارض لغرض فيصدر عنه الإعطاء ، ومثل القدرة فتصدر عنها الأفعال الاختيارية من العقوبة وغيرها ، ومثل الشجاعة الذاتية لا العارضة فيصدر عنها بسهولة اقتحام الشدائد وغير ذلك مثل أضدادها فالبخل يصدر عنه المنع مما يطلب وهو فعل ، والعجز يصدر عنه تعذر الفعل عند المحاولة وهو فعل يسند لصاحب العجز ، والجبن يصدر عنه الفرار من الشدائد المتلفة ونحو ذلك ، فيقال عند التشبيه بها مثلا هو حاتم فى الكرم ، وعنترة فى الشجاعة ، ومعتصم فى القدرة ، وظاهره أن الغريزة تختص بما تصدر عنه الأفعال أو ما يجرى مجرى الأفعال ، فلو فرضت طبيعة لا فعل لها لم تكن غريزة كالبلادة ، إلا أن يلتزم أن الغريزة لا تخلو من فعل أو ما يجرى مجراه كعدم العلم بالدقائق فى البليد ، تأمل.

(وإما إضافية) هذا مقابل قوله : إما حقيقية فهو معطوف عليه ، يعنى أن الصفة الخارجية إما أن تكون حقيقية ، وهى التى لها تقرر فى الموصوف الواحد حال كونها مستقلة بالمفهومية ، وقد تقدم أنها قسمان حسية ومعنوية ، وإما أن تكون إضافية أى : نسبية يتوقف تعقلها على تعقل الغير ، فلم تستقل بالمفهومية ، وإذا قوبلت الحقيقية بالنسبية دخل فى الحقيقية الصفة التى لها تحقق حسا كالبياض والسواد ، سواء كان لها وجود كهذه أو لا وجود لها ، ولكن لو وجد موصوفها وجدت كصورة الأنياب للأغوال

١٢٦

كما تقدم ، ودخل فيه ما له تحقق عقلا بدون نسبة وإضافة ، سواء كان لها وجود فى الخارج كالحياة أو لا وجود لها إلا فى الاعتبار العقلى ، ولو وصف بها الموجود كالإمكان ، وعلى هذا يكون المقابل للحقيقى هو الإضافى النسبى ووجه المقابلة أن هذه الأقسام لها تحقق فى استقلال المفهومية ، وقد أشرنا إلى هذا فيما تقدم ، وإليه أشار بقوله : وإما إضافية ، ثم مثل لهذه الإضافية بقوله : (كإزالة الحجاب) المعتبرة هى (فى تشبيه الحجة) الواضحة (بالشمس) ، فإن هذه الإزالة أمر إضافى يتعقل فيما بين المزيل والمزال وليس هيئة متقررة فى الحجة ولا فى الحجاب ، كما لم يتقرر فى الشمس ولا فى الحجاب المزال لها ، فإذا قلت : هذه الحجة كالشمس كان الوجه بينهما أن كلا منهما أزال الحجاب عما من شأنه أن يخفى ؛ إلا أن الشمس أزالته عن المحسوسات والحجة عن المدارك المعقولات ، وإذا زال الحجاب ظهر المزال عنه ، قيل : وجه الشبه فى الحقيقة هو ظهور ما خفى بكل منهما والإزالة تستلزمه ؛ وذلك لأن المقصود بالذات الظهور والإزالة واسطة والخطب فى مثل هذا الاعتبار سهل ، وقد ظهر بهذا التقرير أن بعض أقسام الاعتبارى داخل فى الحقيقى ولم يخرج عنه منها إلا النسبى إن قلنا إن النسبة إضافية ، وإن قلنا إن الأمور النسبية وجودية كما هو مذهب الحكماء دخل الاعتباري كله فى الحقيقى فتكون مقابلة الإضافى بالحقيقي مقابلة بما يشمل الاعتبارى والوجودى مما سوى ذلك الإضافى ، وقد أدخلنا نحن فى الحسى ما لم يوجد ولكن لو وجد موصوفه صار محسوسا كصورة أنياب الأغوال بناء على أن الصورة حسية لرجوعها إلى هيئة الوضع ، وبعض الناس يجعله اعتباريا بناء على أنه لما كان وهميا محضلا فلا وجود له فلا يكون حسيا كما دل عليه كلام السكاكى فيما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ وعلى كل حال فلم يخرج عن الحقيقى إلا النسبى أى الإضافى المقابل له ، وقد يطلق الحقيقي على ما يقابل الاعتبارى الذى لا تحقق له إلا فى اعتبار العقل دون الخارج ، فعلى مذهب الحكماء يدخل النسبى فى الحقيقى لوجود النسبة عندهم وعلى مذهب المتكلمين من أن النسب والإضافات أمور اعتبارية وهو الحق تدخل النسبة فى الاعتبارى ، ومما يدل على هذا الإطلاق ـ أعنى إطلاق الحقيقى فى مقابلة الاعتبارى مطلقا ـ كلام للسكاكى فى

١٢٧

المفتاح فإنه قال : الوصف العقلى منحصر ـ أى : متردد على وجه الحصر ـ بين حقيقى كالكيفيات النفسانية وبين اعتبارى ونسبى ، ثم مثل للنسبى بقوله : كاتصاف الشيء بكونه مطلوب الوجود أو العدم عند العقل أى : لأن كون الشيء مطلوب الوجود عند العقل ، يعنى إن كان محبوبا أمر نسبى يتعقل بين المطلوب والطالب الذى هو العقل فكان إضافيا ، وكذا اتصاف الشيء بكونه مطلوب العدم عند العقل ، يعنى إن كان مكروها أمر نسبى أيضا ، وذلك كقولك فى التشبيه : هذا الأمر كأشد ما يتمنى أو كأشد ما يكره ومثل للاعتبارى الوهمى بقوله : أو كاتصافه بشيء تصورى وهمى محض ، يعنى كصورة أنياب الأغوال التى لا وجود لها إلا فى الوهم كما تقدم ، فتقول فى التشبيه : هذا السنان كناب الغول ، فإن هذا الكلام من السكاكى إن بنى على ما هو المشهور عند المتكلمين ـ من أن الأمور النسبية اعتبارية ـ يكون عطف النسبى فى قوله : ونسبى على الاعتبارى من عطف الخاص على العام ، ويكون التمثيل الأول كما أشرنا إليه لهذا الاعتبارى المخصوص ، والتمثيل الثانى لقسم آخر من الاعتبارى وهو الوهمى لا يتوهم عده من الحسى كما تقدم. ويلزم على هذا البناء كون الحقيقى فى مقابلة الاعتبارى ، ويدخل فى الاعتبارى جميع أنواعه وإن كان لم يمثل إلا لنوعين ، وأما إن بنى على أن النسبى موجود لم يدل على أن الحقيقى قوبل بالاعتبارى فقط ، بل على أنه قوبل بالاعتبارى والنسبى ؛ لأن النسبى ليس من قبيل الاعتبارى على هذا البناء ، فلم يدل كلامه على أن الحقيقى أطلق فى مقابلة الاعتبارى فقط ، بل نقول : يحتمل كلامه كما يدل عليه المثال أن يختص الاعتبارى بالوهمى فيندرج فى الحقيقى بعض أنواع الاعتبارى كالإمكان فلا يدل على ما قيل على وجه الإطلاق ، فتأمل ههنا حتى تعلم أن هذا البسط والتحرير محتاج إليه فى هذا المقام.

تقسيم آخر لوجه الشبه

وجه الشبه الواحد

(و) نعود (أيضا) إلى تقسيم آخر فى الوجه فنقول : (إما واحد) أي : إما أن يكون واحدا ، ونعنى بالواحد ما يعد فى العرف واحدا لا الذي لا جزء له أصلا ، وذلك

١٢٨

كقولك : خده كالورد فى الحمرة ، فهذا واحد وإن اشتملت الحمرة على مطلق اللونية ومطلق القبض للبصر.

وجه الشبه المنزل منزلة الواحد

(وإما بمنزلة الواحد) أي : وإما أن يكون بمنزلة الواحد (لكونه) اعتبر في التشبيه مجموعه بحيث لا يكفي فيه بعضه وإن كان هو بنفسه (مركبا من متعدد) وهذا الذي بمنزلة الواحد لكونه ركب من متعدد واعتبر في التشبيه مجموعه على قسمين أحدهما أن يكون تركيبه تركيبا حقيقيا وهو الذي يكون فيه كل جزء صحيح الصدق على الآخر أي : صحيح المعروضية والعارضية بحيث يصيران في الخارج شيئا واحدا ، وتلتئم من أجزاء التركيب حقيقة واحدة كقولك : زيد كعمرو في أن كلا منهما حيوان ناطق ، فإن الناطق والحيوان يصح أن يصدق كل منهما على الآخر ، فيقال : الحيوان ناطق والناطق حيوان ، وذلك عند التئامهما على أنهما حقيقة واحدة هي الحقيقة المسماة بالإنسان ؛ وإنما كان هذا التركيب حقيقيا ؛ لأن الجزأين صارا به شيئا واحدا في الخارج ، فتأثير هذا التركيب في تقريب المركب من الوحدة أحق وأقوى ، والغرض من التركيب إفادة هذا المعنى فكان باسم التركيب أحق وأولى ، وقد يقال : المراد بكونه حقيقيا كونه يجعل المركبين حقيقة واحدة وهما متقاربان والوجه الأول أقرب ، وقد تقدم وجه صحة نحو هذا التشبيه ، والآخر أن يكون تركيبه لا حقيقيا ، وذلك بأن يعتبر هيئة اجتماع أمور بحيث لا يصح التشبيه إلا باعتبار تعلقها بمجموع الأجزاء أيضا ؛ ولكن ليس تركيب تلك الأجزاء بحيث يصدق كل منهما على الآخر فيلتئم من الكل حقيقة واحدة كما في القسم الأول وذلك كالوجه في قوله :

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (١)

فإن الوجه على ما يأتي هو الهيئة الحاصلة من هوى أجرام مشرقة على وجه مخصوص في جنب شيء مظلم ، ومعلوم أن تلك الأجرام المخصوصة لا يصدق عليها ذلك الشيء المظلم ، وأنه لا تلتئم من المجموع حقيقة واحدة ؛ ولكن تلك الهيئة ولو اعتبر

__________________

(١) البيت لبشار بن برد ، ديوانه (١ / ٣١٨) ، والمصباح (١٠٦) ويروى (رؤوسهم) بدل" رؤوسنا".

١٢٩

فيها متعدد كالشيء الواحد في عدم استقلال كل جزء منها في التشبيه (وكل منهما) أي : وكل من الواحد والذي بمنزلة الواحد ينقسم إلى قسمين ؛ لأن الواحد إما (حسي) كالحمرة (أو عقلي) كالعلم ، والذي بمنزلته أيضا إما حسي كالهيئة الحاصلة من وجود أشياء مشرقة على وجه مخصوص في جنب شيء مظلم فيما تقدم وسيأتي ، وإما عقلي كعدم الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه كما يأتي أيضا فى الأمثلة ، ودخل فى العقل المنسوب للمركب الذى هو بمنزلة الواحد ما بعضه عقلى وبعضه حسى كما يأتى ، إذ يصدق عليه أن مجموعه ليس بحسي ، ولك أن تدخله فى الحسى لمثل هذا التعليل مع أن له مزيد اختصاص بالإحساس من حيث إن طرفيه يجب أن يكونا حسيين ؛ إذ لا يقوم الحسي بالعقلي ، والمصنف لم يعتبره قسما ثالثا في المركب ؛ لأن حسيته أو عقليته باعتبار بعض الأجزاء ، والمعتبر في التشبيه به هو الهيئة الاجتماعية لا بعض الأجزاء بخصوصها.

وجه الشبه المتعدد

(وإما متعدد) هذا مقابل قوله : وإما واحد أو بمنزلته فهو معطوف عليه ، يعني أن وجه الشبه إما أن يكون واحدا أو بمنزلته ـ كما تقدم ـ وإما أن يكون متعددا ، والمراد بالتعدد أن يذكر في التشبيه عدد من أوجه الشبه بين شيئين أو أشياء على وجه صحة الاستقلال ، بمعنى أن كل واحد مما ذكر لو اقتصر عليه كفى في التشبيه بخلاف المركب ، فإنه يجب أن يكون بحيث لو أسقط جزء مما اعتبرت فيه الهيئة أو مما اعتبر جميعها حقيقة واحدة بطل التشبيه في قصد المتكلم كما تقدم في تشبيه مثار النقع .. إلخ. في الهيئة السابقة وفي تشبيه زيد بعمرو في الحيوانية والناطقية. مثال المتعدد أن يقال : هذه الفاكهة كهذه في لونها وفي شكلها وفي حلاوتها ، فلو أسقط اثنان من هذه لكفى الباقي في التشبيه في قصد المتكلم ، وهذا المتعدد (كذلك) السابق وهو الواحد أو بمنزلته في أنه ينقسم إلى كونه إما حسي أو عقلي وقوله : (أو مختلف) عطف على ما تضمنه كذلك ، والتقدير : المتعدد إما حسي كله أو عقلي كله أو مختلف أي : بعضه

١٣٠

حسي وبعضه عقلي. مثال الحسي كله ما تقدم في تشبيه الفاكهة بأخرى ، ومثال العقلي كله أن يقال : زيد كعمرو في علمه وصحبته وإيمانه ، ومثال المختلف أن يقال : زيد كعمرو في علمه وشكله وكلامه ، ثم أشار إلى ما يقتضيه كون الوجه حسيا أو عقليا في الطرفين بقوله : (والحسي) من وجه الشبه ؛ سواء كان حسيّا كله ، أو كان بعضه حسيا وبعضه عقليا (طرفاه حسيان لا غير) أي : يجب أن يكون كل من طرفي التشبيه حيث تحققت حسيته في الوجه حسيا ، فلا يجوز أن يكونا معا عقليين أو أحدهما ؛ وإنما وجب كون الطرفين عند وجود الحسية في الوجه حسيين معا (لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسي شيء) يعني أن وجه التشبيه يجب أن يقوم بالطرفين ، ولا بد من إدراكه فيهما ليتحقق التشارك فيه ، فإذا كان ذلك الوجه حسيّا أدرك بإحدى الحواس ؛ إذ لا معنى للحسي إلا ما يدرك بالحواس حال وجوده خارجا فلو صح أن يكون أحد الطرفين عقليا مع كون الوجه حسيّا لصح أن يدرك الوجه الحسى فى ذلك الطرف العقلى ؛ لأن الوجه الحسى عند وجوده يدرك بإحدى الحواس ، وإلا لم يكن حسيا لكن إدراك الأمر العقلي بالحواس محال ، فإدراك أوصافه بالحواس محال ؛ لأن أوصاف العقلي لا تكون إلا عقلية ؛ إذ لا يصح اتصاف العقلي بالحسي ضرورة أن الأوصاف المدركة بالحواس أوصاف الجسم ولا يصح أن تكون لغيره ، والجسم حسي لا عقلي ، وهذا المعنى أعني كون الحسي لا يكون قائما بالعقلي يكفي في التعليل ، بل هو أوضح ، لكن لما كان يستلزم عدم إدراك الحس من العقلي شيئا علل به إشارة إلى تأخر إدراك الوجه على إدراك الطرفين ؛ إذ هو المطلوب إفادة في التشبيه ، فهو المجهول المطلوب بعد تصور الطرفين ، فإن قلت : كيف يصح أن يجعل الجسم الموصوف بالمحسوس محسوسا حتى لا يصح أن يقوم الحسي بالعقلي مع ما تقرر من أن المدرك بالبصر مثلا اللون لا الجسم ، فقد صح اتصاف العقلي وهو الجسم بالحسي وهو اللون ، قلت : هذا تقرير فيلسوفي وليس على مذهب المحققين ، فإن الضرورة حاكمة بإدراك الجسم بحاسة البصر ، فلا يصح قيام الحسي بغير الجسم المحسوس ، فالمحسوس إما جسم أو قائم به وهو ظاهر ، (و) أما (العقلي) من وجه الشبه فيجوز أن يكون طرفاه عقليين

١٣١

معا ، وأن يكون حسيين معا ، وأن يكون أحدهما حسيا والآخر عقليّا ، فمحل العقلي (أعم) من محل الحسي ؛ وذلك (لجواز أن يدرك بالعقل من) الأمر (الحسي شيء) معقول يقع التشبيه به ، وإدراك المعقول من المحسوس يتوقف على صحة اتصاف المحسوس بالمعقول ، وهو محقق كاتصاف الإنسان بالعلم والإيمان والجهل وغير ذلك (ولذلك) أي : لأجل كون وجه التشبيه العقلي أعم محلا (يقال) موافقة لذلك : (التشبيه بالوجه العقلي أعم) محلا من التشبيه بالوجه الحسي ؛ وذلك لأن صحة التشبيه تابعة لوجود وجه الشبه في الطرفين ، فإذا كان يوجد في العقليين والحسيين والمختلفين ، والحسي لا يوجد إلا في الحسيين كان محل الأول أعم لعمومه الأقسام الثلاثة واختصاص الحسي بواحد منها ؛ وإنما جعلنا العموم والخصوص في المحلين أعني محل الوجه الحسي ومحل الوجه العقلي لأن نفس التشبيهين متباينان ؛ إذ معنى التشبيه بالوجه الحسي التشبيه بالوجه الذي لا يدرك أولا إلا بالحس ، ومعنى التشبيه بالوجه العقلي التشبيه بالوجه الذي لا يدرك أولا إلا بالعقل ؛ وذلك لأنه لو أريد بالعقلي مطلق المدرك بالعقل لم تصح مقابلته بالحسي في التقسيم ضرورة أن كل مدرك بالحس مدرك بالعقل ولا ينعكس ، فيكون العقلي على هذا أعم فلا يقابله الحسي ـ فافهم ـ ثم أورد بحثا على كون وجه الشبه قد يكون حسيّا ، فقال : (فإن قيل هو) ، أي : وجه الشبه لأجل اشتراط وجوده في الطرفين معا (مشترك) فيه ضرورة ؛ لأن غير المشترك فيه لا يوجد في الطرفين معا وإنما يوجد في أحدهما ، وإذا كان مشتركا بين الطرفين (فهو كلي) لصدقه على الوصفين المعينين الموجودين في الطرفين ، وما يصدق على اثنين فأكثر كلى لاشتراكهما في وجود معناه فيهما بخلاف الجزئي فإنه لا يصح صدقه على اثنين فأكثر بوضع واحد ، فلا يقع التشارك فيه ؛ وذلك لأن المراد بالاشتراك ههنا ما ذكره من صحة الصدق على المتعدد بوضع واحد ؛ لأن ذلك شأن وجه الشبه لا التشارك في مطلق نسبة شيئين إلى شيء واحد كاشتراك زيد وعمرو فى أيهما فإنه يصح في الجزأين ، وإذا كان وجه الشبه كله كليّا صحت لنا هنا قضية صادقة كلية ، وهي قولنا : " كل وجه شبه كلي" فتضم إلى قضية أخرى كلية مسلمة الصدق ، وإليها أشار بقوله : (والحسي ليس بكلي) ؛ إذ

١٣٢

هي في قوة قولنا لا شيء من الحسي بكلي ، ودليل صدقها أن ما يدرك بإحدى الحواس الخمس إنما يدرك في مادة معينة ، أي : في جسم معين فيكون جزئيات ضرورة أن كل معين خارجا جزئي ، وذلك ظاهر لأنه لا تدرك الكليات بالحواس فينتظم لنا من القضيتين قياس من الشكل الثاني ، هكذا كل وجه شبه كلي ولا شيء من الحسي بكلي ينتج كلية لكلية مقدمتيه ، وهي قولنا : لا شيء من وجه شبه بحسي ، وهذا يناقض ما تقرر من أن وجه الشبه يكون حسيّا ثم أجاب عن ذلك بقوله : (قلنا : المراد) بكون وجه الشبه حسيّا (أن أفراده) أي : جزئيات وجه الشبه (تدرك بالحواس) الخمس الظاهرة ، فالحمرة مثلا في تشبيه الخد بالورد حسية لا بمعنى أن المعنى الكلي المفهوم منها الصادق على الجزئيات حسي ، بل بمعنى أن أفراد ذلك الكلي الذي وقعت فيه الشركة حسية ، فنسبة الحسية إلى الوجه إنما هي باعتبار نسبتها إلى أفراده ، ففي الكلام على هذا بعض التسامح ، وأما العقلي كالعلم فلا يدرك شيء من أفراده بالحس أصلا ، فلذلك سمي عقليّا ، وحاصل السؤال أن الاشتراك المشترط في الوجه يقتضي نفي الإحساس لاقتضائه كونه كليّا والكلي لا يتعلق به الحس ، وحاصل الجواب تسليم البحث وتأويل أن إطلاق الإحساس على المعنى الكلي ليس على ظاهره ، بل إنما أطلق عليه ، نظرا لأفراده فسمي بما يعرض لأفراده ؛ لأنها هي الموجودة خارجا في الطرفين حقيقة لا الكلي ، وإن كان هو المشترك فيه ، والذي يتحصل من أقسام الوجه بالنظر إلى الطرفين ثمانية وعشرون قسما ؛ وذلك لأن الوجه إما واحد ، وإما بمنزلة الواحد ، وإما متعدد ، والواحد والذي بمنزلته إما أن يكونا حسيين أو عقليين فهذه أربعة ، والمتعدد إما أن يكون حسيا أو يكون عقليا أو يكون بعضه عقليا ، وبعضه حسيا ، فهذه ثلاثة في المتعدد إلى الأربعة التي في الواحد والذي بمنزلته مجموعها سبعة ، وكل من هذه السبعة إما أن يكون طرفاه عقليين أو حسيين أو المشبه حسيا والمشبه به عقليا والعكس مجموع ذلك ثمانية وعشرون من ضرب سبعة أحوال الوجه في أربعة أحوال الطرفين ، ثم إن الثلاثة أعني الواحد والذي بمنزلته والمتعدد إذا كانت عقلية فهي تجري في أربعة أحوال الطرفين لما تقدم أن الوجه العقلي يجري في المحسوسين والمعقولين والمختلفين

١٣٣

فتكون أقسام العقلي الاثنا عشر صحيحة ، وأما الأربعة الباقية أعني الواحد والذي بمنزلته إذا كانا حسيين والمتعدد إذا كان كله حسيا أو بعضه فلا يجري واحد منهما في غير الحسيين وإنما تجري هذه الأربعة في الطرفين الحسيين فقط لما تقدم أن الحسي طرفاه حسيان فهذه أربعة تضم إلى اثنى عشر التي للعقلي فتكون ستة عشر ، والباقي لتكميل الثمانية والعشرين ساقطة وهي اثنا عشر لتحصل أن الأقسام التي أشار المنصنف إلى إثباتها ستة عشر فشرع في التمثيل لبعض هذه الأقسام مع ما يتعلق بها فقال :

أمثلة الواحد الحسى

(الواحد الحسي) من وجه الشبه هو (كالحمرة) فيما مرّ من تشبيه الخد بالورد فإنها محسوسة بحاسة البصر ، (و) ك (الخفاء) أي : خفاء الصوت فيما مرّ من تشبيه الصوت الضعيف بالهمس فإنه محسوس بحاسة السمع ، ومما يتأمل فيه كون الخفاء مسموعا ، والذي يتبادر أن الخفاء من حيث إنه عدم الجهر لا يحس وإنما يدرك بالعقل عند سماع الصوت بحالته الخاصة به من الضعف ، لكن عبر به عن حالة الصوت الخفى لا من حيث مجرد الخفاء ، بل من حيث إنه حالة لا ينفك الصوت عن إدراكه (و) ك (لذة الطعم) فيما مر تشبيه الريق بالخمر فإنها مدركة بحاسة الذوق وفيه أيضا أن المدرك هو الطعم بحالته واللذة لكونها إدراكا عقلية كما مر ، ولكن عبر باللذة عن ملزومها وهو الطعم بحالته الخاصة من الحلاوة ، وعليه يراد بالطعم المضاف إليه الطعوم ، (و) ك (طيب الرائحة) فيما مر من تشبيه النكهة وهي ريح الفم بريح العنبر فإنه مدرك بحاسة الشم ، وفي جعل الطيب مدركا بالشم أيضا شيء فإن المدرك بالشم هو نفس الرائحة بحالتها الخاصة ، وأما الطيب فمدرك بالعقل ، ولكن إنما يظهر هذا إن فسر طيب الرائحة باستطابة النفس إياها في إدراكها للطيب من حيث هو طيب ، وإن فسر بالحالة الذاتية للرائحة التي بها تستطيبه النفس هو مدرك بالحاسة ؛ إذ إدراك الشيء يقتضي إدراك خاصته النفسية ، (و) ك (لين الملمس فيما مر) من تشبيه الجلد الناعم

١٣٤

بالحرير ، وقد علم بما ذكرنا أن قوله فيما مر مقدر مع جميع المذكورات كما قررنا ، وأن المصنف تسامح في جعل الخفاء والطيب واللذة من المحسوسات بالحواس التي هي السمع في الأول والشم في الثاني والذوق في الثالث إلا إن حمل على ما أشرنا إليه ، والله أعلم.

هذه أمثلة الواحد الحسي.

أمثلة الواحد العقلى

(و) أما الواحد (العقلي) فأمثلته (كالعراء) أي : الخلو (عن الفائدة و) ك (الجرأة) أي : الشجاعة بمعنى التجاسر ، والعداء على ما يراد قتله ؛ وإنما لم يعبر بالشجاعة في مكان الجرأة لأن الحكماء فسروا الشجاعة بما يقتضي اختصاصها بذوات الأنفس الناطقة ، وهي أنها هي الجرأة الصادرة عن روية وبصيرة بخلاف الجرأة فهي أعم ، وفيها لغات الجرأة على وزن الجرعة ، كما مثل المصنف ، والجرأة كالكراهة ، والجرائية كالكراهية ، والجرة كالكرة ، وفعلها جرؤ بضم الراء (و) ك (الهداية) وهي الدلالة على الطريق الموصل إلى المقصود حسا أو معنى (و) ك (استطابة النفس) أي : ملاءمتها لشيء واستحسانها له ؛ فهذه أربعة أمثلة للواحد العقلي وعددها باعتبار تعدد الطرفين ، لأنهما إما عقليان أو حسيان أو المشبه عقلي والمشبه به حسي أو العكس ، فأما الأول وهو العراء عن الفائدة فهو وجه شبه فيما طرفاه عقليان ، وذلك (في تشبيه وجود الشيء العديم النفع) أي : الذي لا نفع له يعني ولا ضرر (بعدمه) كرجل هرم ولا عقل له فيقال وجود هذا كعدمه في العراء عن الفائدة ، ولا شك أن الوجود والعدم عقليان ؛ إذ المراد بالوجود الحال النفسي لا الذات ونفعه أو عدمه باعتبار متعلقه ، فتبين بهذا صحة تشبيه الوجود بالعدم فيما ذكر ، وأن ما قيل من أنا إذا قلنا : زيد كالمعدوم ليس من باب التشبيه ، بل هو من باب نفي الوجود ليس بظاهر لإمكان الظاهر من التشبيه بالوجه المذكور ، (و) أما الثاني وهو الجراءة فهو وجه شبه فيما طرفاه حسيان ، وذلك في (تشبيه الرجل الشجاع بالأسد) ؛ حيث يقال مثلا : " زيد كالأسد في الشجاعة".

١٣٥

(و) أما الثالث وهو الهداية فهو وجه شبه فيما طرفه الأول وهو المشبه عقلي ، والثاني وهو المشبه به حسي ، وذلك في تشبيه (العلم بالنور) حيث يقال : " العلم كالنور والجهل كالظلمة" فإن وجه الشبه بين العلم والنور الهداية إلى المقصود ؛ فإن العلم يفصل بين الحق والباطل ، فقد دل على الطريق الذي هو الحق ليتبع فيتوصل به إلى المقصود من السلامة في الدنيا والآخرة ، والنور يفصل بين طريق الهلاك وطريق السلامة ليركب الثاني دون الأول ، فقد دل أي : هدى كل منهما إلى طريق السلامة والانتفاع فوجه الشبه بينهما ما اشتركا فيه وهو الهداية ، وإن كانت في الأول معنوية وفي الثاني حسية باعتبار المتعلق (و) أما الرابع وهو استطابة النفس فهو وجه شبه فيما طرفه الأول وهو المشبه حسي ، والثاني وهو المشبه به عقلي ، وذلك في تشبيه (العطر) وهو ما يتعطر به مما له رائحة طيبة كالمسك (بخلق) أي : طبائع رجل (كريم) ، ولا يخفى كما قررنا أن قوله في تشبيه الرجل إلخ هو مع ما قبله من باب اللف والنشر المرتب ؛ إذ تشبيه وجود العديم النفع بعدمه يتعلق بالعراء عن الفائدة ، وتشبيه الرجل الشجاع بالأسد يتعلق بالجراءة ، وتشبيه العلم بالنور يتعلق بالهداية ، وتشبيه العطر بخلق الرجل الكريم يتعلق باستطابة النفس ، ثم لا يخفى أيضا أن العراء عن الفائدة واستطابة النفس من باب المقيد ، وقد علم أن المقيد من قبيل المفرد ، فما قيل من أن عدها من المفرد فيه تسامح لما فيها من شائبة التركيب إنما يتم لو كان الكلام في المفرد المقيد بكونه محضا في الإفراد ، وليس كلامنا فيه ، بل في مطلق المفرد ، فصح عدها منه ، فلا تسامح ، وسيأتي البحث في التفريق بين المقيد والمركب ، ثم شرع في بيان أمثلة المركب فقال :

وجه الشبه المركب الحسى

(والمركب الحسي) الذي هو من جملة أوجه الشبه لا ينقسم باعتبار الطرفين إلى ما طرفاه عقليان أو حسيان أو مختلفان ؛ لأن الحسي لا يكون طرفاه إلا حسيين كما تقدم ، ولكن ينقسم باعتبار آخر وهو أن طرفيه إما مفردان أو مركبان أو المشبه مركب والمشبه به مفرد أو العكس ، والمراد بالمركب هنا أحد قسمي ما هو بمنزلة المفرد ، وهو

١٣٦

القسم الذي تركيبه أن يعتبر اجتماع عدة أشياء مختلفة لا يصدق كل واحد فيها على غيره فينتزع منها هيئة تكون هي المشبه به أو المشبه كما تقدم ، وسيأتي في بيت" بشار" ، وقد صرح صاحب المفتاح بذلك ، وكذا المراد بتركيب وجه الشبه أن يؤخذ من عدة أوصاف ذلك المركب هيئة اجتماعية تكون هي الجامع بين الطرفين لا القسم الذي تركيبه أن تجمع بين شيئين أو أشياء على أن يكون المجموع حقيقة واحدة معبرا عنها بلفظ واحد ، ويدل على أن المراد ما ذكر أنهم جعلوا المشبه به في قولنا : " زيد كالأسد" من قبيل المفرد مع أن زيدا فيه حيوانية وناطقية وغيرهما ، والأسد فيه حيوانية ومفترسية وغيرهما ، وجعلوا أيضا وجه الشبه في قولنا : " زيد كعمرو في الإنسانية" واحدا مع اشتمال الإنسانية على الحيوانية والناطقية ، ولم يجعلوا الإنسانية وجها منزلا منزلة الواحد حتى يمكن فيه التركيب مع ما في ضمنه من التركيب المعنوي ، وقولنا معبرا عنها بلفظ واحد احترازا مما لو قيل مثلا : " زيد كعمرو في الحيوانية والناطقية معا" ، وقصد اشتراكهما في المجموع فإنه منزل منزلة الواحد كما تقدم ، ولكن التفريق بين ما عبر عنه بلفظ واحد وما لم يعبر به لا يخلو من ضعف ؛ لأنه أمر لفظي ؛ إذ المعنى متحد ، ثم هذا القسم ـ أعني المنزل منزلة الواحد للتعبير فيه بمتعدد عن حقيقة واحدة ـ يتدافع فيه مفهوم تخصيصهم المركب بذي الأجزاء التي لا تلتئم منها حقيقة واحدة ، وتخصيصهم الخارج عن ذلك بالذي لا ينزل منزلة الواحد وهو المركب المعبر عنه بلفظ واحد على أنه حقيقة واحدة لاقتضاء الأول كونه غير مركب والثاني كونه مركبا ، والأقرب إخراج ذلك القسم هنا عن التركيب فالواجب أن يقال بدليل أنهم لم يجعلوا من المركب قولنا : " زيد كعمرو في الحيوانية والناطقية" ، إذ ليس هنا هيئة منتزعة من عدة أشياء ، بل حقيقة واحدة ملتئمة من شيئين ، وإنما لم يجر هذا التقسيم ، أعني تقسيم الطرفين إلى أفرادهما أو تركيبهما معا أو مختلفين في المفرد المراد هنا وهو المفرد حقيقة أو المنزل منزلته الذي هو المركب مما جعل مجموعه حقيقة واحدة ؛ لأنه لما أريد بالمركب الهيئة المنتزعة من عدة أشياء وجب أن يكون وجه الشبه معتبرا فيه تلك الأشياء المختلفة التي لها دخل في التشبيه ، فلم يتصور إفراد الوجه فيما

١٣٧

طرفاه مركبان بهذا الاعتبار فلم يجر فيه التقسيم ، وإنما يجري في الوجه المركب الحسي كما تقدم ، فطرفاه إما مفردان أو مركبان ، أو المشبه مفرد والمشبه به مركب أو العكس ، فالمركب الحسي (فيما) أي : في التشبيه الذي

طرفا المركب الحسى المفردان

(طرفاه مفردان) معا (كما) أي : كالوجه (في قوله) أي : في قول أحيحة بن الجلاح ، أو قول قيس بن الأسلت (وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى) (١) أي : حل كون الثريا على الحالة التي تراها فهي حينئذ (كعنقود ملاحية) بضم الميم وتشديد اللام وهي عنب أبيض في حبه طول وتخفيف اللام أكثر ، لكن ارتكب التشديد مع قلته لاستقامة الوزن ، ثم قيد المشبه به بقوله : (حين نورا) إشارة إلى أن المشابهة بين الثريا والعنقود إنما هي في حال التنوير ، أي : إخراج النور ، ويأتي الآن ما فيه ، فالثريا وعنقود الملاحية مفردان لأن كلا منهما اسم لمسمى واحد ، وإضافة العنقود إلى الملاحية تصيره مقيدا ، والتقييد لا ينافي الإفراد ، ولما كان كل منهما اسما لمسمى واحد صارت أجزاء كل منهما كاليد من زيد ، ولما كانت تلك الأجزاء لها وضع مخصوص ولون مخصوص ومقدار مخصوص وكل منها كالمستقل عن الآخر ؛ إذ هي أجرام مفترقة تأتي اعتبار هيئة مأخوذة من تلك الأجرام تكون وجه شبه فتأتي التركيب بهذا الاعتبار في الوجه ، ولو وجد الإفراد في الطرفين وإلى تلك الهيئة أشار بقوله : (من الهيئة) هو بيان لما في قوله كما في قوله : وقد لاح .. إلخ أي : كالوجه الذي هو الهيئة (الحاصلة) أي : المتحققة (من تقارن) أي : اجتماع (الصور البيض) ، وهي النجوم المتعددة في الثريا وأفراد النور المتعددة في العنقود (المستديرة) استدارة مصاحبة للتساهل في تحققها (الصغار المقادير في المرأى) أي : في مرأى العين باعتبار ما يبدو ، وإن كانت النجوم من الكبر بحيث يقال إنها أعظم من جميع الأرض بكثير ؛ إذ المعتبر في التشبيه ما يبدو لا في نفس الأمر إذ الخطاب بما يتبادر حال كون تلك الصور البيض المستديرة كائنة (على الكيفية

__________________

(١) البيت لأبى قيس بن الأسلت ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (١٨٠).

١٣٨

المخصوصة) ، وهي كونها لا مجتمعة اجتماع الانضمام والتلاصق كما في أجزاء عنقود غير الملاحية ، أعني العنقود المتراكم الأجزاء ، وكما في حب الرمان ، ولا شديدة الافتراق أي : متباعدة ، ثم وصف الكيفية بقوله : (إلى المقدار المخصوص) يعني أن أجزاء الطرفين كائنة على الكيفية المخصوص المنضمة تلك الكيفية إلى المقدار المخصوص في مجموع الطرفين ، بمعنى أن الثريا كما لكل جزء من أجزائه مقدار مخصوص في الصغر روعي في التشبيه كذلك لمجموعه مقدار مخصوص ، فإن لم يكن ذلك المجموع كبيرا جدا ولا قليلا جدا ، وكذا في عنقود الملاحية ، فالمراد بالمقدار الأخير هذا المعنى ، ثم إن في هذا التشبيه شيئا ، وهو أنا إن اعتبرنا تشابه أجزاء الطرفين في المقدار باعتبار المرأى بحيث لم تكن صغيرة جدا كحب الخردل ، بل وحب الحمص والقصبور مثلا فإنما يتحقق ذلك في العنب بعد كبر حبه ، ويلزم عليه أمران أحدهما لغو البياض في التشبيه ، وقد اعتبره لأن حب العنب ولو سمى أبيض لكن ليس بياضه كبياض نجوم الثريا ، إذ معنى بياضه أنه ليس بأخضر جدا ولا أسود ولا أحمر ولا أصفر مثلا ، والآخر كون التقييد بقوله حين نور ضائعا ؛ لأن كبر الحب ليس حال التنوير ، وإن لم نعتبر التشابه في المقدار بعد مقدار النجوم عن حال النور حينئذ على أن تنوير العنب إن كان كما يعتاد لا بياض فيه والأقرب أن المراد بالتنوير كمال خلقته المستلزمة لوجود التنوير قبلها فالمراد حين قارب النفع وعبر عن ذلك بنور أي : تفتح لأن انفتاح النور يحصل معه ويلابسه الانتفاع في الجملة ، ويراد بالبياض مطلق الصفاء الذي لا تشوبه حمرة ولا اسوداد ، وشبه ذلك ، وبهذا يعلم أن التشبيه هنا مبني على التساهل ، وفسرنا الحاصلة بالمتحققة إشارة إلى حقيقة الهيئة متحققة خارجا بالتقارن كتحقق الأعم بالأخص ، وأنها نفس ذلك التقارن ، ويحتمل أن يحمل الكلام على ظاهره من كون التقارن سببا لحصول هيئة أخرى وهي كون تلك الأجرام متقاربة على الوجه المخصوص على قاعدة حصول الحال بموجبها ، وكون تلك الهيئة على الوجهين حسية إنما هو [أي](١) : في التشبيه الذي هو باعتبار محلها ، وكذا يقال في مثلها وقد تقدم مثل ذلك فليفهم.

__________________

(١) ولعل أي زائدة من الناسخ. كتبه مصححه.

١٣٩

طرفا المركب الحسى المركبان

(و) المركب الحسي (فيما) أي : الذي (طرفاه مركبان) هو (كما في) أي : كالوجه في (قول بشار : كأن مثار النقع) (١) النقع الغبار ، ومثار على صيغة اسم المفعول ، فإضافته إلى النقع من إضافة الصفة إلى الموصوف والأصل كأن النقع المثار ، وهو من آثار الغبار إذا حركه وهيجه ، ويحتمل أن يراعى في الإضافة معنى البيان أي : كأن المثار الذي هو النقع الكائن (فوق رءوسنا. وأسيافنا) منصوب على المعية أي : كأن مثار النقع مع أسيافنا قيل رواية فوق رءوسهم أولى ؛ لأن السيوف إنما تتساقط وتنزل على رءوسهم فهي مع الغبار فوق رءوسهم لا على رءوس أصحاب السيوف المناسب لرواية رءوسنا ، وفيه أن السيوف فيما بين الصعود والنزول هي من رءوس أصحابها إلى رءوس الأعداء ، فالرءوس من الفريقين مشتركة في فوقية السيوف ، وضمير نا يدل على المشاركة فرواية رءوسنا التي هي المشهورة أولى فليتأمل. (ليل تهاوى كواكبه) أي : تتساقط كواكبه شيئا فشيئا بأن يتبع بعضها بعضا في التساقط من غير انقطاع ، ومن لازم ذلك بقاء الكواكب في السماء ليستمر تساقطها ، فتهاوى مضارع حذفت منه إحدى التاءتين : تاء المضارعة أو التاء الموجودة في الماضي على المذهبين المقررين في النحو ، وأما حمله على الماضي ليفيد أن التهاوي قد وقع وانقطع وبقى الليل بلا كواكب ، فشبه به مثار النقع مع السيوف فلا يناسب ما وجد في الشبه من هيئة حركة السيوف ، ويفوت بذلك دقة وجه الشبه التي يقتضيها اختلاف حركة السيوف كحركة الكواكب المستمرة ، كما سيأتي بيانه. نعم يمكن أن يراد هذا الوجه أيضا لهذا المعنى بمراعاة حال التهاوي الفارغ ، ولكن الدال على الحال بالأصالة هو المضارع فالحمل عليه أبين ، وإنما قلنا إن أسيافنا منصوب على المعية ولم نجعله منصوبا بكأن لئلا يتوهم أنهما تشبيهان مستقلان ؛ إذ يتوهم حينئذ التغاير ، وأن المعنى كأن مثار النقع ليل ، وكأن أسيافنا نجومه ، وهذا لا يصح الحمل عليه ؛ لأنه تفوت معه الدقة التركيبة المرعية للشاعر في وجه الشبه ، ولأن قوله : " تهاوى كواكبه" تابع لليل فهو غير مستقل في

__________________

(١) البيت لبشار بن برد ، ديوانه (١ / ٣١٨) ، والمصباح (١٠٦) ، ويروى (رؤوسهم) بدل (رؤوسنا) ، تهاوى : تتساقط ، خفف بحذف إحدى التائين.

١٤٠