مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

أخضر ، فالهيئة التركيبية التى قصد التشبيه بها وهى هيئة نشر أعلام مخلوقة من الياقوت على رماح مخلوقة من الزبرجد لم تشاهد قط لعدم وجودها ، ولكن هذه الأشياء التى اعتبر التركيب معها التى هى مادة ، أى أصل تلك الهيئة ، وهى العلم والياقوت والزبرجد ، وشوهد كل واحد منها لوجوده فهو محسوس ، وقد علم من هذا أن ليس المراد بالخيالى هنا ما تقدم وهى الصورة المدركة بالحواس ، ثم تبقى فى خزانة الخيال بعد غيبتها عن الحس المشترك ؛ لأن هذا المركب المسمى بالخيالى هنا ليس صورة مشاهدة قط لعدم وجودها ؛ وإنما أحست مادته ، فالمراد بالخيالى هنا المركب من مادة مشاهدة ، وهو بنفسه معدوم ، واختار إلحاقه بالحسى دون العقلى مع أن صورته الكلية تدرك بالعقل نظرا لمادته المحسوسة ، فلما كانت مادته صورا خيالية بعد شهودها وغيبتها عن الحس المشترك ناسب جعله حسيا خياليا مع أنه لو جعل الحسى ما يدرك بالحواس حقيقة والعقلى ما سوى ذلك انضبط التقسيم أيضا ، وأحاط مع قلته.

المراد بالعقلى

(و) المراد (بالعقلى ما عدا ذلك) ، وهو ما لا يكون هو ولا مادته مدركا بأحد الحواس الخمس الظاهرة ، (فدخل فيه) أى فى العقلى على هذا (الوهمى) ، وليس المراد بالوهمى هنا ما تقدم فى باب الفصل والوصل ، وهو المعنى الجزئى المحقق خارجا فى المحسوس بشرط أن لا تتوصل النفس إليه من طريق الحواس كعداوة وصداقة فى عمرو وإذاية فى ذئب تدركها الشاة مثلا ؛ وإنما المراد به الذى لا يكون للحس مدخل فيه ، أى باعتبار نفسه ومادته ، ولكن يكون له مدخل فيه بأن يكون شيئا آخر (أى ما هو) معدوم (غير مدرك بها) ، أى بإحدى الحواس الخمس المذكورة ، (و) لكنه بحيث (لو) وجد ف (أدرك لكان مدركا بها) ، أى : بتلك الحواس ، فهو يتميز عن الخيال السابق بأن لا وجود لمادته ولا لنفسه حتى يدرك هو أو مادته بالحواس ، ويتميز عن العقلى الصرف بأنه لو وجد وأدرك لأدرك بالحواس بخلاف العقلى المحض فإنه يوجد ويدرك بغير الحواس كالعلم والحياة ؛ وإنما جعل هذا الوهمى من قبيل العقلى هنا مع أنه لو وجد وأدرك أدرك بالحواس ؛ لأنه معدوم فصار إدراكه إدراك ما لا يحس فى الحالة الراهنة ،

١٠١

فألحق بالمعقول الذى لا يحس ، وذلك الوهمى ، (كما) أى : كالمشبه به (فى قوله) أى : فى قول امرئ القيس : (أيقتلنى) (١) والاستفهام للإنكار أى : كيف يقتلنى زوج سلمى (والمشرفى) أى والحال أن : السيف المشرفى ، أى : المنسوب إلى مشارف ، ومشارف الأرض أعاليها ، قيل : إن المقصود بها هنا قرى من أعلى أرض العرب تقرب من الريف ، وهى أرض المياه والخضر والزرع ، كما فى القاموس ، فالمشارف جمع ، والنسبة إليه إفرادية ، فلا يقال : والمشارفى (مضاجعى) خبر المشرفى أو مبتدأ ، ومضاجعته السيف عبارة عن ملازمته ؛ لأن لزومه حال الاضطجاع يستلزم لزومه فى غير ذلك من باب أحرى ، ويحتمل أن يكون المقصود نفس مضاجعته إشارة إلى أنه لا يحاول قتله ولا يطمع فيه إلا فى حال اضطجاعه ، وفى حال الاضطجاع معه المشرفى فلا يوصل إليه (ومسنونة زرق) عطف على المشرفى ، أى كيف يقتلنى والسيف والسهام المسنونة ، أى : المحدودة تضاجعنى ، ووصفها بالزرقة إشارة إلى أنها مجلوة مصقولة معدة لتناولها واستعمالها وجمعها ، كما دل عليه قوله : زرق ، دليل على إرادة السهام لا الرماح ، كما قيل ؛ لأن العادة جرت بعدم استصحاب الجماعة من الرماح بخلاف السهام ، ثم شبه المسنونة فقال : وهى (كأنياب أغوال) ، ولا شك أن المشبه به هنا وهو أنياب الأغوال ليس وهميا بالاعتبار السابق فى الفصل والوصل ؛ إذ ليس معنى جزئيا موجودا فى المحسوس يدرك من غير طرق الحواس كالعداوة فى زيد ، وإنما هو صورة مفردة منعدمة خارجا ، ولو وجدت وأدركت لأدركت بالحواس فإن الغول (منعدم) وأنيابه وصفتها منعدمة تبعا له ، ولذلك لم يكن خياليا ؛ لأن مادة الخيالى موجودة كما تقدم فى أعلام ياقوت إلخ ، ويرد ههنا أن يقال : إن اعتبرت الأنياب على حدة فهى موجودة ، وإنما انتفت باعتبار نسبتها إلى الأغوال ، وكذا أعلام الياقوت ورماح الزبرجد إنما وجد كل منهما باعتبار قطعه عما نسب إليه ، وإلا فالأعلام المنسوبة إلى الياقوت لا وجود لها أيضا ، وكذا الرماح المنسوبة للزبرجد فيكونان على هذا وهميين لعدم وجودهما تبعا لما

__________________

(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٣٣) ، ولسان العرب (غول) (شطن) وتهذيب اللغة (٨ / ١٩٣) ، وجمهرة اللغة (٩٦١) ، وتاج العروس (زرق) وبلا نسبة فى المخصص.

١٠٢

نسبا إليه كأنياب الأغوال. والجواب : أن المنسوب إليه هنا منعدم ، فتبعه المنسوب والمنسوب إليه فيما تقدم ، وهو الياقوت والزبرجد موجود ، ولا يقال : موجود هنا أيضا باعتبار ما صور بصورته كالسبع ؛ لأنا نقول : فرق بين وجود الشيء بنفسه ووجود ما صور بصورته ، وهما على أنا نقول : لا نسلم تعين تصويره بصورة السبع ، بل نقول : صور بصورة وهمية هى أفجع وأطول وأهول ، فيكون التشبيه بالأنياب فى الحدة لا فى القدر ، فإنه أعظم مما يقدر ، ثم إن هذه الصورة الوهمية المنعدمة ينبغى أن يبين أصل اختراعها ، ومن أين صح فى النفس إنشاؤها ، وبيان ذلك أن يعلم كما أشرنا إليه فيما تقدم أن من القوى الباطنية قوة تسمى مخيلة ، وتسمى مفكرة ، وهى الأصل فى اختراعها وإنشائها ، وهى قوة لا ينتظم عملها ، بل تتصرف بها النفس كيف شاءت ، فإن استعملتها بواسطة الوهم سميت متخيلة أو بواسطة العقل سميت عاقلة ومفكرة ، وهى أبدا لا تسكن يقظة ولا مناما ، ومن شأنها تركيب الصور المحسوسة وتفصيلها كتركيب رأس الحمار على جثة الإنسان ، وإثبات إنسان له جناحان وتفصيل أجزاء الإنسان عنه حتى يكون إنسانا بلا يد ولا رجل ولا رأس ، ومن شأنها أيضا تركيب المعانى مع الصور بإثباتها لها ، ولو على وجه لا يصح كإثبات العداوة للحمار والعشق للحجر والضحك للشجر ، وتفصيلها عنها لنفيها ولو على وجه لا يصح كنفى الجمود عن الحجر والمائعية عن الماء ، ومن أجل ذلك تخترع أمورا لا حقيقة لها حتى أنها تصور المعنى بصورة الجسم والعكس ، فإن اخترعتها بواسطة تركيب صور مدركة بالحس سمى ما اخترعته خياليا ، كما تقدم فى أعلام الياقوت ، وإن اخترعتها بما لم يحس كما إذا سمع أن الغول شيء يهلك فانتقل من الإهلاك إلى ملزومه حسا كالأسد فيصوره من ذلك بصورة مخترعة بخصوصها مركبة مع أنياب مخترعة بخصوصها أيضا سمى وهميا ، وقد تقدم وجه تحقق الفرق بينه وبين الخيالى ، (و) دخل فى العقلى أيضا (ما يدرك بالوجدان) ، والذى يدرك بالوجدان هو الذى يدرك بالقوى الباطنية ، مثل : القوة التى يدرك بها الشبع ، والتى يدرك بها الجوع ، وكالقوة الغضبية التى يدرك بها الغضب ، وكذا التى يدرك بها الغم والفرح والخوف ونحو ذلك ، فهذه الأشياء توجد بقوى باطنية بسبب تكيف تلك القوى بها

١٠٣

فتدركها النفس بها ، وتسمى تلك القوى وجدانا ، والمدركات بها وجدانيات ، وسميت عقلية لخفائها وعدم إدراكها بالحواس الظاهرة كالطعم المدرك بالذوق واللون والمدركات بالعين ، وليست من العقلية الصرفة ؛ لأنها جزئيات موجودة فى الخارج لا كلية تدرك بالعقل كالعلم والحياة ، فإن اعتبرت من حيث إنها كلية تتصور بالعقل خرجت عن معنى كونها وجدانية ، لكن تسمى بذلك باعتبار أصل إدراكها ، ثم مثل للوجدانيات بقوله : (كاللذة) ، وعرفوها بأنها هى إدراك ونيل لما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ، فقولهم : إدراك جنس يدخل فيه سائر الإدراكات الحسية والعقلية وعطف النيل عليه إشارة إلى أن مجرد الإدراك ـ أعنى تصور المدرك ـ لا يكون من باب اللذة حتى يكون معه نيل المدرك واتصال به والتكيف بصفته تكيفا حسيا كنيل النفس من القوة الذائقة للمذوق ، أو عقليا كنيل النفس لشرف علمها القائم بها والتذاذها بذلك ، ولم يكتف بالنيل عن الإدراك ؛ لأن مجرد النيل من غير إحساس وشعور بالمدرك لا يكون التذاذا والنيل الذى يكون بعد الشعور بالمدرك وهو المراد هنا إنما يدل على الإدراك بالالتزام فعبر بهما معا لعدم حضور عبارة تجمعهما صراحة ، وخرج بقولهم : لما هو كمال وخير الألم ؛ لأنه إدراك لما هو شر وزاد قوله من حيث هو كذلك ليخرج إدراك لما هو خير من حيث إنه شر كإدراك لدواء نافع مع اعتقاد أنه مهلك فإدراكه ألم ؛ لأنه إدراك من حيث أنه شر فيكون إدراكه ألما ، (و) ك (الألم) وهو إدراك ونيل لما هو شر عند المدرك من حيث هو كذلك ، ولا يخفى مفاد قيود الألم من مفاد قيود اللذة ، ثم إن حد كل من اللذة والألم يشمل عقلى كل منهما ، وهو ما يكون إدراكه بمجرد العقل ، والمدرك عقلى محض كاللذة التى هى إدراك الإنسان شرف علمه المحض والتألم الذى هو إدراكه نقصان جهله الخالص ، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ، ولكن المقصود اللذة والألم الحسيان ؛ لأنهما هما المحتاج لإدخالهما فى العقلى ، وذلك كاللذة الحاصلة للنفس بنيل الذائقة لمذوقها الحلو أو المر ، كما تقدم ، وبنيل الباصرة لمبصرها الجميل أو الخبيث ، وبنيل اللامسة لملموسها اللين أو الخشن ، وبنيل السامعة لمسموعها المطرب أو المنكر ، وبنيل الشامة لمشمومها الطيب أو المنفر ، وفهم من

١٠٤

قولنا كاللذة الحاصلة للنفس وجه كونها باطنية ، ولو كانت أسبابها حسية فالذوق مثلا إنما يدرك به حلاوة الحلو ، وليست الحلاوة نفس اللذة ، بل هى معنى حصل عن إدراك الحلاوة فى قوة باطنية نفسانية ، وقد تكون اللذة وهمية كما يوجد من استطابة صورة المرجو عند توهم الاتصاف به ، وعلى هذا لا يقال : الحسية كسائر المحسوسات ، فما معنى كونها وجدانية باطنية ؛ لأنا نقول معناها قائم بالنفس ، ولو كان سببه الحس ، وأيضا حيث فسرت اللذة والألم بالإدراك فليسا مما يدرك بالحواس ، ثم وجود القوى الباطنية إنما هو عند الحكماء ، وأما المتكلمون من أهل السنة فالنفس هى المدركة بالقوة الواحدة ، وهى العقل إما بواسطة حس ظاهرى أو باطنى ناشئ عن ظاهرى أو لا ، ويسمى وجدانا ، أو بدون واسطة أصلا وليس ثم قوة زائدة على الإحساس ، فالغضب مثلا عندهم معنى قائم بالإنسان يوجب إرادة الانتقام لو لا المانع يدركه الإنسان من نفسه بالعقل بعد الإحساس الباطنى ، ولا يفتقر فيه إلى قوة أخرى ، وهكذا سائر الوجدانيات ، ويمكن حمل القوى فى كلام الحكماء على الإحساس الباطنى ، أعنى اتصاف محل تلك المعانى بها ، فيتفق المذهبان ، وتفسير اللذة بما ذكر تبعا لهم لا يوجب كون ذلك معناها الحقيقى ، وكذا الألم فإن إذا راجعنا وجداننا كدنا أن نجزم بأن اللذة لازمة لذلك الإدراك وذلك النيل ، وهى معنى آخر يوجد بالضرورة عند ذلك النيل وذلك الإدراك ، ويعسر التعبير عن كنهه ، فإدراكه ضرورى عند الوجدان ، وتحقيق كنهه يمكن ادعاء صعوبته ، وكذا الألم ، وهذا فى لذة المذوق مثلا ظاهر إذا أريد إدراك النفس طيب الملتذ به أو قبح ضده ، وأما إذا أريد نفس المدرك عند اتصال الذائقة به وكثيرا ما تطلق اللذة على ذلك فيقال : وجد لذة المأكول اللسان والتذ به لسانى أو تألم بكذا لسانى ، فالأقرب أنها حينئذ حسية محضة لا وجدانية لعود معناها حينئذ إلى نفس الحلاوة أو المرارة ، بل إن بنينا على أن القوى الباطنية المسماة بالوجدان لا تدرك إلا المحسوس بواسطة تكيفها بما أدرك الحس ، وإلا الأمور القائمة بها نقول : اللذة ليست من هذا المعنى لعدم إدراكها بالحواس وعدم قيامها بتلك القوى إلا أن يراد بالوجدان ما يتعلق بالنفس مطلقا ، وهو ظاهر ما تقدم ، تأمل.

١٠٥

وجه التشبيه

(ووجهه) أى : ووجه التشبيه بين المشبهين الذى هو من جملة الأركان السابقة هو (ما) أى : المعنى الذى (يشتركان فيه) بأن يوجد فيهما معا ، والمراد بالمشترك فيه فى باب التشبيه الأمر الذى يختص به المشبهان فى قصد المتكلم فيقصده للتشبيه لتحقيق الفائدة به بخلاف ما ليس كذلك فلا يقصد لعدم تحقق الفائدة فيه فقولنا مثلا : زيد كالأسد ، ووجهه كالشمس ، يكون الوجه فى الأول الجراءة المختصة بهما وبما ضاهاهما المشهورة بالأسد ، وفى الثانى الحسن والبهاء ، فلا يصح أن يكون الوجه فيهما الجسمية ونحوها ككونهما ذاتين أو حيوانين أو موجودين أو غير ذلك لعمومه وعدم فائدته ، اللهم إلا أن تعرض الفائدة لقصد المتكلم كالتعريض بمن لا يفهم المشابهة فى وجه من الوجوه فيكون كالمختص فى الإفادة ثم المراد بوجود الوجه المذكور فى المشبهين أن يثبت فيهما (تحقيقا) بأن يتقرر فى كل منهما على وجه التحقق ، كما تقدم فى تشبيه زيد بالأسد (أو) يثبت فيهما (تخييلا) أى : على وجه التخيل والتوهم بأن لا يكون ثابتا فيهما وفى أحدهما حقيقة ، ولكن يثبته الوهم ويقرره بتأويل غير المحقق محققا كعادة الوهم فى أحكامه الغير الواقعة فى نفس الأمر ، وذلك كاف فى التشبيه والإلحاق هنا ، وإلى هذا أشار بقوله : (والمراد بالوجه التخييلى) هنا أى : المنسوب إلى التخييل والتوهم هو أن لا يوجد ذلك المعنى المجعول وجه الشبه فى أحد الطرفين أو فى كليهما ، ولكن يثبته الوهم فيهما على طريقه المعلوم ، وهو تخيل ما ليس بالواقع فى نفس الأمر واقعا لسبب من الأسباب ، وذلك (نحو ما) أى : الوجه الذى (فى قوله) أى : فى قول القاضى التنوخى (وكأن النجوم) (١) حال كونها لائحة (بين دجاه) أى : دجى الليل ، والدجى جمع دجية كغرفة وغرف ، والدجية الظلمة وجمعها مضافة لليل باعتبار قطعها الموجودة فى النواحى المتقاربة والمتباعدة ، وإلا فهى واحدة لعدم تميز أفراد مستقلة لها ، هذا على أن الضمير فى دجاه مذكر كما فى هذه الرواية ، وروى بين دجاها بتأنيث الضمير فيعود على النجوم ،

__________________

(١) البيت للقاضى التنوخى ، والمصباح ص (١١٠) ، ونهاية الإيجاز ص (١٩٠).

١٠٦

وهو واضح ؛ لأن الإضافة بأدنى سبب (سنن) خبر كأن أى : كأن النجوم بين ظلم الليل سنن فى وصفها أنها (لاح) أى : ظهر (بينهن) أى : بين تلك السنن (ابتداع) أى : بدعة ، وهى الأمر الذى اتخذ مأمورا به شرعا ، وليس كذلك ، كما أن السنة ما تقرر كونه مأمورا به شرعا بقول الشارع أو بفعله أو ما يجرى مجرى ذلك من تقريره صلوات الله تعالى وسلامه عليه ، ثم إن المشبه هنا ، وهى النجوم ، وصفها بكونها ظهرت بين أجزاء ظلمة الليل ، ومعلوم أن اللائح بين أجزاء الشيء من مقتضى كونه لائحا كذلك كونه أضعف وأقل من الذى أحاطت به أجزاؤه ، وأن الذى وقع اللوحان فى جنبه كان باديا ظاهرا لا يفتقر إلى إثبات ظهوره ، وإنما يفتقر إلى إثبات ظهور ذلك اللائح ؛ ولذلك وصف النجوم هنا بأنها لاحت لقلتها وضعفها بالنسبة إلى قوة الظلمة فى جميع النواحى ، وإن كانت أحق بالوصف بذلك لذاتها ؛ لأن الموصوف باللوحان والظهور هو المضيء لا المظلم ، كالهواء عند عدم إشراقه ، لما اعتبر اللوحان فى النجوم لما ذكر كان المطابق لهذا الاعتبار فى المشبه به أن يكون اللائح هو السنن المقابلة للنجوم والملوح فى جنبه هو البدع المقابلة للظلمة ، لكنه عكس وأوقع القلب فى المشبه به فجعل اللائح هو الابتداع والملوح فى جنبيه هو السنن ، وكأن السر فى ذلك الإيماء إلى أن كون السنن أكثر والابتداع باعتبارها أقل ، وإنما أفرد الابتداع مع أن المطابق لمقابله وهو الدجى الجمعية لما أشرنا إليه وهو المطابق لقوله فى جنب شيء إلخ ، من كون الأصل الإفراد ؛ إذ ظلمة الليل واحدة ، وإنما جمعها باعتبار القطع من الظلمة فى النواحى وأجزائها ، ثم بين وجه الشبه هنا مع بيان سبب كونه غير متحقق فى أحد الطرفين ، فقال : (فإن وجه الشبه) أى : إنما قلنا : إن الوجه هنا غير متحقق ؛ لأن وجه الشبه (فيه) فى هذا التشبيه (هو الهيئة الحاصلة) أى : المتحققة والمتقررة (من حصول أشياء مشرقة) أى : مضيئة (فى جنب) أى : فى جهة (شيء مظلم أسود) بأن تبدو تلك الأشياء فى خلل ذلك المظلم الأسود ، وقولنا : فى تفسير الحاصلة ، أى : المتحققة إلخ ، إشارة إلى أن تلك الهيئة هى نفس الحصول إلى آخره ، فحصول الهيئة بذلك الحصول كحصول الجنس بالنوع ، بمعنى أن الهيئة تتحقق خارجا بهذا الحصول ، كما تتحقق وتتقرر بغيره لأن هذا الحصول سبب

١٠٧

بيان لها مجمل لها على حدة ، ويحتمل أن يراد بالهيئة الحالة اللازمة لذلك الحصول ، أعنى كون أشياء حصلت فى جنب شيء أسود ، فيظهر التباين بين الحصول والهيئة ، ومثل هذا يتقرر فى كل ما كان مثل هذا الكلام ، فليفهم.

وإذا علم أن وجه الشبه هو الهيئة المذكورة (فهى) أى : فتلك الهيئة معلوم أنها (غير موجودة فى المشبه به) الذى هو السنن الكائنة بين البدع ، ضرورة أن الإشراق لكونه حسيا لا تتصف به السنة لكونها عقلية محضة ؛ إذ هى عائدة إلى كون الشيء مأمورا به شرعا ، وهو كذلك فى نفس الأمر ، والحكم بذلك أصله العلم الموجب للهدى والإظلام لكونه حسيا أيضا ، لا تتصف به البدعة لكونها عقلية محضة ، إذ هى عائدة إلى الحكم بكون الشيء مأمورا به مع أنه ليس كذلك فى نفس الأمر ، وأصله الجهل الموجب للغى والضلال ؛ وإنما وجدت تلك الهيئة حقيقة فى المشبه وهو ظاهر ، ولا يقال الحصول إلى آخره ليس بحسى ؛ لأنا نقول : المراد بالحسى ـ كما تقدم ـ ما يعم ما تعلق بحسى فتحقق بهذا أن الوجه لم يوجد فى المشبه به (إلا على طريق التخييل) أى : إلا على السبيل الذى هو تخيل الوهم كون الشيء حاصلا مع أنه ليس كذلك فى نفس الأمر ، ثم أشار إلى بيان سبب التخييل المذكور فقال : (وذلك) أى : وكون وجود الهيئة المذكورة فى المشبه به حاصلا على سبيل التخييل سببه (أنه) أى : أن الشأن هو هذا ، وهو قوله : (لما كانت البدعة) التى إنما ترتكب بسبب الجهل بموجب تركها (و) كذا (كل ما) أى : كل فعل (هو جهل) أى : ارتكابه يسمى جهالة لحصوله عن الجهل بموجب تركه (يجعل صاحبها) أى : صاحب تلك البدعة ، يعنى وكل ما هو جهالة (كمن يمشى فى الظلمة) وإذا كان صاحب الفعل الذى لا يرتكبه إلا الجاهل يجعل كالماشي فى الظلمة فالجهل نفسه أحرى أن يجعل صاحبه كذلك ؛ لأنه السبب فى كون صاحب الفعل كذلك ، وإنما حملنا الكلام على ما ذكر ، ولم نحمله على ظاهره للعلم بأن البدعة اصطلاحا ليست هى نفس الجهل ، ولو كان ارتكابها عن جهالة ، وإذا كانت كذلك فالمعطوف عليها ينبغى أن يكون من جنسها ، ومثل هذا يتقرر فى السنة فيعلم أيضا حكم محض العلم فى التشبيه من باب أحرى (فلا يهتدى) أى : وحيث كان كمن

١٠٨

يمشى فى الظلمة فلا يهتدى ، أى : فلا يتوصل (للطريق) الذى تقع له به النجاة (ولا يأمن) فى مشيه فى تلك الظلمة (أن ينال) أى : أن يلقى (مكروها) يتأذى به (شبهت) جواب لما أى : لما كان صاحب البدعة كالماشي فى الظلمة شبهت البدعة (بها) أى : بالظلمة فى عدم الأمن من لقاء المكروه وفى عدم الاهتداء لطريق النجاة ، ولا يخفى ما فى الكلام من شبه اتحاد الجواب بالشرط ، إذ حاصله أن صاحب البدعة لما كان شبيها بصاحب الظلمة شبهت البدعة بالظلمة ومعلوم أن العلم بتشبيه الصاحب بالصاحب علم بتشبيه المصاحب بالمصاحب ، والخطب فى مثل ذلك سهل لظهور المراد ، (ولزم) من ذلك (بطريق العكس أن تشبه السنة) أى : أن يصح تشبيه السنة (وكل ما هو علم بالنور) ، وإذا صح هذا لزم وقوعه إذا أريد ، وقد أريد ووقع ؛ ولذا قلنا بطريق العكس أى : بالطريق الذى هو مراعاة المعاكسة والمخالفة الضدية ؛ لأن ما يترتب على الشيء من جهة أنه ضد يترتب عكسه ، أى : خلافه ، على مقابله ، وإلا انتفت الضدية ، ويحتمل أن يراد بطريق العكس العكس المتقرر فيما ذكروا فى التعليل ، وهو انتفاء الحكم عند انتفاء العلة ، فإذا كانت الضدية الخاصة علة فى صحة التشبيه بشيء كان انتفاؤه فى ضده علة لخلافه أى لصحة التشبيه بمقابله وإلا لزم كون لازم الضد ثابتا لمقابله فينتفى التضاد والاحتمالان متلازمان ، وبهذا يندفع ما يقال من أن تشبيه الضد بشيء لا يستلزم صحة تشبيه ضده بمقابل ذلك الشيء ، وقد تقدم أن السنة ليست هى نفس العلم ، كما أن البدعة ليست هى نفس الجهل ، لكن ارتكاب الأولى بالعلم والثانية بالجهل ، فلما كان الإظلام من لازمه عدم الإبصار ، ومن لازم عدم الإبصار عدم تحقق الاهتداء للطريق ، ومن لازم ذلك عدم الأمن من لقاء مكروه ناسب تشبيهه بالبدعة والجهل الملزومين لعدم الأمن ، ولما كان النور بالعكس أى : من لازمه الإبصار الملزوم لتحرى المكاره ، وبذلك صار كالضد للظلمة ناسب تشبيهه بالسنة والعلم الملزومين لتوقى المكاره فتبين أن ما تقرر فى أحد الضدين من حيث إنه ضد وجه شبه مع شيء يتقرر خلافه فى ضده مع مقابل ذلك الشيء ، وقد جعل المصنف الأصل فى التشبيهين المذكورين هو تشبيه البدعة والجهل بالظلمة ، والفرع تشبيه السنة والعلم بالنور ، ولو

١٠٩

جعل كل منهما أصلا أو عكس فى التأصيل والتفريع صح ، ومرجع ذلك إلى الاستعمال القديم والحادث فإن لم يثبت فالأقرب أن كلا منهما أصل وقد يوجه ما ذكر على تقدير عدم تحقق للسابقية بأن الأصل أى : الكثير الجهل والظلمة والخطب فى مثل هذه الاعتبارات سهل بعد تقرر تشبيه السنة ، والعلم بالنور ، والبدعة والجهل بالظلمة ، (وشاع ذلك) التشبيه على ألسنة الناس أى : كثر تداوله فيما بينهم (حتى تخيل) أى : إلى أن تخيل الوهم على قاعدته من إثبات الأحكام على خلاف ما هى بكثرة التقارن والمجاورة (أن الثانى) أى : المذكور فى كلام المصنف ثانيا ، وهو السنة وكل ما هو علم (مما له بياض وإشراق) لكثرة تقارنه فى التشبيه بالنور الحسى ، فتوهم ثبوت وصف المقارن الذى هو النور لذلك الثانى الذى هو السنة والعلم ، فإذا كان الوهم يثبت أحكاما غير متحققة بدون اقتران كثيرا بل مجرد خطور شيء مع غيره يكفيه إثبات أحكام أحدهما للآخر ، فإثباتها مع كثرة المقارنة أحرى ، وهذا الحكم الوهمى يصح البناء عليه والخطاب به لغة وشرعا لظهور المراد ، ويصح أن يكون الاستعمال فيما يمثل به لما فيه من التجوز البليغ (نحو) قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (أتيتكم بالحنيفية) (١) أى : بالطريقة الحنيفية ، وهى دين الإسلام ، والحنيفية نسبة للحنيف ، والحنيف هو المائل عن كل دين سوى دين الحق ، وعنى به إبراهيم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (البيضاء) ولا شك أن وصف الطريقة الدينية بالبياض ليس على طريق التحقيق الحسى ، بل لاقترانها بما له بياض فى التشبيه أعطى حكمه وهما ؛ فصح أن يجعل البياض وجه الشبه بينها وبين ما له البياض الحسى لاتصافها به وهما. (و) تخيل (أن الأول) فى كلام المصنف وهو البدعة وكل ما هو جهل كائن (على خلاف ذلك) الثانى بأن يكون هذا الأول مما له سواد وإظلام بالطريق المذكور ، فصح وصفه به لذلك الحكم الوهمى أو لقصد المبالغة فى التشابه ؛ ولذلك يقع فى الكلام (كقولك : شاهدت سواد الكفر من جبين فلان) مع أن الكفر لا سواد له حقيقة ، بل تخيلا ، والجبين ما بين العين والأذن إلى جهة الرأس ، ولكل

__________________

(١) الحديث أخرجه أحمد بنحوه فى المسند (٥ / ٢٦٦) ، وفيه" إنى لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ، ولكننى بعثت بالحنيفية السمحة" وأورده الألبانى بنحوه فى الصحيحة ح (١٧٨٢).

١١٠

إنسان جبينان يكتنفان الجبهة ، وخص بشهود سواد الكفر منه مع أن المراد شهوده من الوجه ، إذ هو الذى يدعى ظهور أمارة الكفر عليه ، إذ هو الذى يظهر فيه الغبرة والسواد المنبئان عن الكفر ؛ لأنه أول ما يبدو عند الالتفات ، حيث يقصد تتبع الشخص ليظهر وجهه ، ويحتمل على بعد أن يكون المعنى : شاهدت مثل سواد الكفر من جبين فلان ، أى : من سواد شعر ذلك الجبين ، والخطب فى مثل ذلك سهل ، وأشرت بقولى أولا ، ويصح أن يكون الاستعمال لما فيه من التجوز البليغ ، وبقولى ثانيا أو لقصد المبالغة فى التشابه إلى أنه يصح أن يعتبر فى مثل وصف الكفر بالسواد ووصف الحنيفية بالبياض كون الإطلاق حقيقة بلا تشبيه بناء على أن ذلك الإطلاق إنما هو لتوهم وجود المعنى فى المطلق عليه كما قرر المصنف ، أو كونه مجازا مرسلا من إطلاق ما للمجاور على مجاوره فى التشبيه ، أو كونه تشبيها بناء على تقدير حرف التشبيه فى نحو ذلك ، فيكون التقدير فى نحو ذلك الحنيفية التى هى كحقيقة بيضاء ، أو كونه استعارة بناء على نقل اللفظ بعد التشبيه ، وأن ذكر المشبه على هذا الوجه لا ينافى الاستعارة على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ ولكن على أنه مجاز أو تشبيه لا يخفى أنه لا تخييل حينئذ ، تأمل.

(فصار) أى : فبسبب تخيل البدعة مما له سواد والسنة مما له بياض ، وإعطاء حكم المتخيل حكم المحقق صار (تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع) صحيحا ، وإن كان وجود وجه الشبه فى أحدهما تخييلا ؛ لأن حكم المتخيل فى باب التشبيه حكم المحقق ، فيكون تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع (كتشبيهها) أى : النجوم كذلك (ببياض الشيب) أى : بما تحقق فيه وجه الشبه حسا كالشعر الأبيض وقت المشيب الكائن (فى سواد الشباب) أى : فى الشعر الذى كان أسود وقت الشباب ، يعنى فيما استمر منه على سواده ؛ وإنما قلنا : كالشعر إلخ ، ضرورة أن النجوم لم تشبه بنفس البياض فى السواد ، بل بالأبيض الكائن فى الأسود ، فإنك إذا أردت تشبيه النجوم كذلك قلت : النجوم فى الدجى كالشعر الأبيض فى الشعر الأسود ، حالة ابتداء المشيب ، (أو) كتشبيهها (بالأنوار) أى : بما تحقق فيه الوجه أيضا كالأنوار جمع نور بفتح النون وهو الزهر حال تلك الأنوار (مؤتلقة) بالقاف أى : لامعة ظاهرة التلون (بين) أجزاء

١١١

(النبات الشديد الخضرة) حتى مال بشدة اخضراره إلى السواد ، وقد اشترك التشبيهان فى كون الوجه محققا فيهما فى الطرفين ، لكن وجه الشبه فى التشبيه الأول ـ أعنى تشبيه النجوم بين الدجى بالشعر الأبيض فى الأسود ـ الهيئة الحاصلة من حصول أشياء بيض فى جنب شيء أسود ، والوجه فى الثانى ـ أعنى تشبيهها بالأنوار ـ فيه مخالفة ما لذلك ؛ إذ الأنوار لا يشترط بياضها ، فهو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء متلونة بلون مخالف للون ما حصلت فى جانبه مما فيه إظلام ما ، وذلك ظاهر ، فتحقق بما قرر أن تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع صحيح ـ كما بينا ـ لوجود وجه الشبه فى الطرفين ، وإن كان فى السنن بين الابتداع ؛ إنما هو بطريق التأويل وتخييل أن ما ليس بمتلون متلونا ببياض فى إظلام على ما قررناه فيما تقدم ، فإذا قيل : النجوم فى الدجى كالسنن فى الابتداع صح أن يقال فى تفسير الوجه فى كون كل منهما شيئا ذا بياض بين أجزاء شيء ذى سواد ، وإن كان فى الثانى تخييلا ، وتحقق أيضا أن قوله : سنن لاح بينهن ابتداع فيه قلب كما قررنا فيما تقدم ، وأشرنا إلى الاعتذار عنه ، وأن الأصل سنن لحن بين الابتداع ، ف (إذا) حقق وجوب اشتراك الطرفين فى الوجه ، وأنه لا بد من وجوده فيهما تحقيقا أو تخييلا (علم) أن التشبيه إذا اعتبر فيه وجه لم يوجد فى الطرفين تحقيقا ولا تخييلا ، فذلك الاعتبار فاسد ، فعلم بذلك (فساد جعله) أى : جعل وجه الشبه (فى قول القائل : النحو فى الكلام كالملح فى الطعام كون القليل) ، أى : جعل وجه الشبه فى ذلك كون القليل من كل من النحو والملح (مصلحا) لما وجد فيه ، وهو الكلام فى الأول والطعام فى الثانى ، (والكثير) منهما (مفسدا) لما وجد فيه ، وإنما فسد جعل الوجه بين النحو والملح ما ذكر لعدم وجود الوجه المذكور فى النحو ، وهو المشبه ، فلم يشترك الطرفان فى الوجه ؛ وإنما قلنا : لم يوجد ذلك الوجه فى المشبه الذى هو النحو (لأن النحو لا يحتمل) أى : لا يقبل (القلة والكثرة) فيما يعتبر فيه من الكلام ، وإن قبلها فى نفسه بكثرة جزئياته ، لكن لا غرض لنا فى كثرة جزئياته ، وإنما الغرض ما يستعمل منه ، ويراعى فى الكلام وهو الذى اعتبر فى التشبيه ، وبذلك الاعتبار لا تعدد له حتى يحتمل القلة والكثرة ، وبيان ذلك أن النحو قواعد معلومة ، فكل كلام اعتبرته فيه ، فإن راعيت

١١٢

فيه ما يجب من النحو صح وصلح لفهم المراد ، وإن لم تراع ما يجب فيه فسد ، ولم يصلح لفهم المراد كما ينبغى ، بل يكون فهمه كفهم المعنى من غير العربية ، وليس فى هذا النحو المخصوص المراعى فى الكلام المخصوص جزئيات يمكن اعتبار بعضها دون بعض ، فيكون اعتبار الكثير منها مفسدا والقليل مصلحا ، بل تجب رعاية كل ما يتعلق به وما لا يتعلق به ليس بنحو. مثلا إذا قلنا : ما قام زيد ، فالواجب من النحو فى هذا الكلام أن يكون هكذا من تقديم الفعل وتأخير الفاعل ، وبناء ذلك الفعل الماضى على الفتح ، ورفع ذلك الفاعل ، وهذا القدر واجب ، ومتى سقط شيء منه فسد الكلام ، وإذا اعتبر صح ، فلا قلة تصلح ولا كثرة تفسد ، بل كله واجب مصلح ، وإسقاط شيء منه مفسد ، اللهم إلا أن يحمل الكلام على معنى أن رعاية الشواذ فيه هو المعنى بالكثرة كنصب الفاعل فى المثال ، وهو بعيد ؛ لأن رعاية الشواذ إسقاط لبعض الواجب ، فليست ثم كثرة زائدة على الواجب فافهم ، فتبين أن القلة والكثرة المعتبرة وجها لم توجد فى المشبه الذى هو النحو (بخلاف الملح) الذى هو المشبه به ، فإنه يقبل القلة والكثرة باعتبار ما يجعل فيه من الطعام بأن يجعل فيه المقدار الكافى ، فيصلح أو أقل أو أكثر فيفسد ، وعلى هذا يفسد جعل الوجه ما ذكر لعدم صحة وجوده فى أحد الوجهين ، وهو النحو ، وإن صح وجوده فى الآخر ، على أن القلة فى الملح ليست مصلحة للطعام دائما ، بل ربما كانت مفسدة ، فلا يتحقق صحة وجود الوجه حتى فى الطرف الآخر ، فإن أريد بالقلة المقدار الكافى وأريد بالكثرة التعدى لما سوى ذلك كان الواجب تحويل العبارة إلى ما يدل عليه فافهم ، وإذ فسد هذا الوجه وجب أن يجعل الوجه ما يعم الطرفين ، ويصح اعتباره فى الإفادة فيقال : وجه الشبه بين النحو والملح فيما ذكر الصلاح بإعمالهما والفساد بإهمالهما.

الوجه الداخل فى الطرفين والخارج عنهما

(وهو) أى : ووجه الشبه (إما غير خارج) أى إما أن يكون غير خارج (عن حقيقتهما) أى : عن حقيقة الطرفين ، أعنى المشبه والمشبه به وغير الخارج يشمل الداخل

١١٣

فى الحقيقة ، وهو الجنس والفصل ، ويشمل ما ليس بداخل ولا خارج ، وهو نفس الحقيقة التى هو النوع ؛ ولذا قابل قوله بعد أو خارج بغير الخارج لا بالداخل ليدخل ما ذكر وهو ثلاثة أشياء كما ذكرنا : النوع والجنس والفصل ، وذلك (كما فى تشبيه ثوب بآخر فى نوعهما) ؛ حيث يتعلق الغرض بذلك ؛ لأن ما يتعلق به الغرض مفيد كقولك : هذا الملبوس كهذا فى كونهما قميصا ، وهذا الثوب كهذا فى كونهما ثوبى كتان ، وإنما لم نقتصر فى المثال الثانى على قولنا فى كونهما كتانا ؛ لأنه يعود إلى التشبيه بالفصل كما يأتى مثاله على أنه لا يخلو من بحث ؛ لأن الثوب مذكور ، فكونه كتانا هو المقصود فى التشبيه ، وذكر الثوب توطئة إلا أن البحث فى المثال أمره خفيف ، ومثل هذا أن يقال : زيد كعمرو فى كون كل منهما إنسانا ، ومثل هذا الكلام يفيد حيث يقصد مثلا تقريع من نزلهما منزلة المتباينين ، وأن عمرا مثلا منهما جعله من نوع الفرس والحمار فى إعداده لمشاق الخدمة والاستنكاف عن صحبته ، (أو) تشبيه ثوب بآخر فى (جنسهما) الذى هو جزء الحقيقة الأعم منها ، كما يقال : هذا الثوب كذاك فى كون كل منهما ثوبا ، ومثل هذا الكلام أيضا يفيد عند التعريض مثلا بمن استنكف عن لبس أحدهما أو تشبيه ثوب بآخر فى فصلهما ، كقولك : هذا الثوب كهذا فى كون كل منهما قطنا أو كتانا ، وقد علم بما أشرنا إليه أن التشبيه بالنوع والجنس والفصل لا ينافى ما تقرر من كون وجه الشبه لا بد له من نوع خصوصية ، وإلا لم يفد ؛ لأنا بينا أن معنى الخصوصية كونه فى قصد المتكلم مما ينبغى أن يشبه به لإفادته بخصوصه ، ولو باعتبار ما يعرض فى الاستعمال كما قررنا ، وعلم أيضا من قوله كتشبيه ثوب بآخر إلخ أن ليس المراد بالنوعية والجنسية والفصلية هنا ما يقصده الحكماء بكل منها ، بل ما يقصد عرفا وهو ظاهر ، (أو خارج) هذا مقابل قوله : إما غير خارج عن حقيقتهما ، أى : وإما أن يكون خارجا عن حقيقة الطرفين ، وإذا كان خارجا فهو (صفة) أى : معنى قائم بالطرفين ؛ لأنه يجب اشتراكهما فيه ، ومعنى الاشتراك أن يكون قائما بهما ، وإلا لم يشتركا فيه ، وإذا كان الاشتراك يستلزم القيام وجب أن يكون معنى وصفة لاستحالة قيام ذات بغيرهما ، وإذا كان الوجه الخارج لا بد أن يكون صفة فتلك الصفة تنقسم إلى أقسام ؛

١١٤

أنها هيئة متمكنة فى الذات متقررة فيها خارجا تقررا استقلت معه فى ذلك الموصوف بالمفهومية ، واحترز بذلك عن النسبية ، فإن النسبية لا تعقل إلا بين شيئين ، فليست مستقلة المفهومية فى الموصوف على ما يأتى تحقيق ذلك فى تفسير مقابل الحقيقة ، وهى ـ أعنى تلك الحقيقة قسمان ـ لأنها :

قسما الحقيقة :

الحسية

(إما حسية) أى مدركة بإحدى الحواس الخمس التى هى البصر والشم والسمع والذوق واللمس ، وذلك (كالكيفيات الجسمية) أى : المختصة بالوجود فى الجسم والكيفية عرض لا يقتضى قسمة ولا عدمها لذاته اقتضاء أوليا ، ولا يتوقف تعقله على تعقل الغير ، وقد تقدمت محترزات هذه القيود فى صدر الكتاب عند تفسير الملكة ، ثم الكيفية الجسمية حيث كانت حسية تدرك بإحدى الحواس ، فهى حينئذ إما أن تكون (مما يدرك بالبصر) وهى معنى قائم بالحدقة يتعلق بالألوان ، والأكوان التى هى الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، ويفسر عند الحكماء على ما اقتضاه التشريح بأنه قوة مترتبة أى : متمكنة فى العصبتين المجوفتين اللتين هما متلاقيتان ، فتفترقان إلى العينين ، وذلك أن الطرف الأول من الدماغ قامت من جهته اليسرى عصبة مجوفة كالقصبة الصغيرة ، ومن جهته اليمنى عصبة كذلك ، فذهبت اليسارية إلى العين اليمنى واليمنية إلى العين اليسرى ، فتلاقت العصبتان قبل الوصول إلى العينين على التقاطع فصارتا على هيئة الصليب ، وقام معنى البصر فى العصبتين وظاهر هذا التفسير أن البصر لا يختص بما اتصل منهما بالعينين ولا بما اتصل بالدماغ ولا بوسطهما ، بل هو مبثوث فى الجميع ، وليس فى ذلك قيام المعنى بمحلين ؛ لأن ذلك محمول على أن فى كل محل مثل ما فى الآخر ، ويحتمل اختصاصها بمحل مخصوص منها ، ولكن جرت العادة مطلقا بأن العصبة إذا أصابتها آفة فى موضع منها ذهب البصر عن جميعها ، ثم بين ما يدرك بالبصر بقوله : (من الألوان) كبياض وسواد وحمرة وصفرة وغير ذلك ، فيقال مثلا عند التشبيه فى اللون : خده كالورد فى حمرته ، وشعره كالغراب فى سواده ، (و) من (الأشكال) والشكل عبارة

١١٥

عن الهيئة الحاصلة للجسم باعتبار وضع أجزائه الاتصالية بعضها مع بعض ، فيحدث من ذلك فى ظاهره طول مخصوص وعرض مخصوص ودورة مخصوصة ، وما يرجع لذلك ، فكون أجزائه على ذلك الوضع الموجب لتلك الحالة من طول وعرض إلخ ، هو الشكل ، ويفسر عند الحكماء بما يرجع لهذا ويستلزمه ، وهو أنه هو هيئة إحاطة نهاية واحدة أو أكثر من نهاية واحدة فالجسم كالدائرة ونصف الدائرة والمثلث والمربع وغير ذلك كالمخمس والمسدس والمثمن ونحوها ، ولكن التمثيل للشكل بالدائرة إلى آخرها يقتضى أن المراد بالشكل الشكل المقدارى لا الجسمى المعلوم ، وعلى هذا فذكر الجسم فى تعريف الشكل مستدرك ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن هذه الأشياء ، وهى كون الشيء دائرة ونصفا ومثلثا ومربعا إلى آخر ما ذكر كلها من عوارض المقدار ؛ إذ المقدار الذى هو كم متصل قار الذات مبدؤه النقطة ، وهى شيء ما لا جزء له ، فذلك المقدار إن اجتمع فيه من النقط ما يقتضى صحة قسمته من الأوجه الثلاثة أعنى الطول والعرض والعمق ، فهو الجسم التعليمى أو ما يقتضى قبوله القسمة فى الطول فقط فهو الخط ، أو ما يقتضى قبوله لها فى الطول والعرض فقط ، فهو السطح ، وكل ما ذكر من المقدار ومبدئه وعوارضه كلها أمور وهمية مفروضة لا حقيقة لها خارجا ونزلها الحكماء منزلة الأمور المحققة وسموا الأول من المقدار جسما تعليميا ؛ لأنه يوضع فرضا لتعليم المسائل الهندسية هو وما يناسبه ، فالمتصف بهذه الأمور فى الأصل هو الشكل المقدارى ؛ لأن الدائرة سطح أو خط ، وكذا نصفها والمثلث والمربع باعتبار خطوطهما كل منهما جسم تعليمى ، وكلها أمور اعتبارية عند المتكلمين ، لكن يتصف بها الجسم تبعا لاتصافه بالمقدار الوهمى على قاعدة اتصاف الأمر الخارجى بالاعتبار العقلى ، ولعل هذا هو الذى اعتبر حتى صح ذكر الجسم فى تعريف الشكل وجعله موصوفا بكونه دائرة ونصفها ، وغير ذلك ، وكون الشكل محسوسا بناء على إرادة المقدار ؛ إنما هو تبعا للإحساس الجسمى المعلوم عند المتكلمين ، وإذا تمهد هذا فالمراد بالنهاية فى قولهم إحاطة نهاية واحدة هو الخط المحيط بالشكل المقدارى المفروض أو بالشكل الجسمى المتصف بالمقدار ، فالدائرة شكل أحاطت به نهاية واحدة أى : خط واحد ويحققها كون ما أحاط

١١٦

به الخط فيه مكان لو وضعت فيه نقطة وفرض خروج خطوط مستقيمة للخط المحيط استوت تلك الخطوط ، ويسمى موضع تلك النقطة مركز الدائرة ، فإن اعتبرت فرضية فهى من الأشكال الهندسية التعليمية وإن وجد جسم كذلك كانت حسية موصوفة بالاعتبارية ، وإنما قيل فى الخط المحيط بها واحد لاتحاد وضع نقطته واستوائه فى تناهى خطوط الدائرة الذاهبة إليه من كل وجه بخلاف نصفها فله نهايتان المقوس والجامع لطرفى القوس كالوتر ، وإذا فرضت نقطة فى وسط النصف لم تتساو الخطوط الخارجة منه إلى النهايتين والمثلث له ثلاث نهايات تجتمع فيه نهايتان فى زاوية حادة أو منفرجة ، وتجمع النهاية الثالثة طرفى المجتمعتين ، والمربع له أربع نهايات تجتمع فيه كل نهاية باثنين وتسمى كل نهاية ضلعا وهو والمثلث وغيرهما إما متساوى الأضلاع أو لا فشكل الدائرة كونها ذات إحاطة بنهاية واحدة وشكل المثلث كونه ذا إحاطة بثلاث نهايات ، وقس على هذا ، فإذا أردت التشبيه فى شكل قلت مثلا : رأسه كالبطيخ الشامى فى شكله ، (و) من (المقادير) جمع مقدار وهو كون أجزاء الشيء على كثرة مخصوصة أو قلة كذلك متصلة أو منفصلة ، ويعرف عند الحكماء بأنه كم أى : صفة يسأل عنها بكم متصل قار الذات ، وتقدم أنه يشمل الجسم التعليمى والسطح والخط ، وتقدم بيانها فخرج بالاتصال العدد ؛ لأنه كم منفصل الأجزاء ، إذ لا تجامع الوحدة الاثنينية ولا الاثنينية الثلاثية ، وكذا غيرها ، والمراد بالاتصال أن يكون لأجزائه حد يتلاقى فيه عند التجزئة ، بمعنى أن المقدار الموصوف بالطول مثلا إذا جزأته وهما وجعلته طرفين كان بين طرفيه حد موهوم يتلاقى فيه الطرفان ، وقد علمت أن المقدار وهمى فى أصله ولا يستحيل فرض التجزئة والتلاقى الذى هو من خواص الأجسام فى الأمور الوهمية التى لا حاصل لها ، وعلمت أيضا أن كونه حسيا باعتبار الجسم الذى يفرض متصفا به هذا إذا أريد به المقدار الحكمى ، وأما إن أريد به كونه أجزاء الجسم على وضع مخصوص واتصال أو انفصال لأجزائه مع كم مخصوص فحسيته واضحة ، وخرج بقار الذات الزمان فإن أجزاءه سيالة أى : لا تجتمع فى الوجود بمعنى أن أى جزء يوجد منه فلم يوجد حتى انعدم ما قبله ، ولا يخفى أيضا أن هذا الاعتبار إنما صح فى الزمن باعتبار

١١٧

الوهم ، وإنما قلنا ذلك ؛ لأنه على هذا عرض لا يصح فيه السيلان ، فإذا أردت التشبيه فى المقدار قلت : " جهنم ترمى بشرر كالقصر" فى مقداره أعاذنا الله تعالى منها برحمته ، (و) من (الحركات) ، والحركة هى حصول الجسم حصولا أولا فى الحيز الثانى ، ويسمى النقلة ، وهذا معناها عند المتكلمين ، وتفسر عند الحكماء بأنها هى الخروج من القوة إلى الفعل على سبيل التدريج كخروج الخضرة بالتدريج أى : وقتا فوقتا إلى اليبوسة التى كانت الخضرة فى قوتها أى : قابلة لأن تؤول إليها وخرج بالتدريج خروج الهواء من صورته الخاصة إلى صورة الماء دفعة فلا يسمى حركة ، والمعنى الأول هو المناسب لما يذكر بعد من حركة السهم والدولاب والرحى ، فإذا أردت التشبيه بها قلت : كأن فلانا فى ذهابه السهم السريع ، وإن أردت التشبيه بالمعنى الثانى قلت كأن الإنسان فى حركته من شبابه إلى الهرم الزرع الأخضر فى حركته من الخضرة إلى اليبوسة ، ثم إن الكلام مفروض فى الصفة الحقيقية وفى الكيفيات ، وقد علم إن المقدار من الكميات لا من الكيفيات والحركة على ما فسرت به من الخروج من القوة إلى الفعل اعتبارية لا حقيقية ؛ لأن الخروج أمر معتبر مثلا بين حال الاخضرار واليبوسة لا تحقق له خارجا ، فعد الحركة على هذا التفسير ، وكذلك المقدار من الكيفيات الحقيقية تسامح ، وما قيل من أن المصنف كأنه أراد صفة الحركة من سرعة وبطء وتوسط فهى حقيقية ، وصفة المقدار من طول وقصر وبينهما فهى كيف يرد بأن السرعة وما يقابلها صفات اعتباريات ؛ لأن الشيء يكون باعتبار سريعا وبآخر بطيئا مع أن ذلك من صفات النقلة ، ولم تفسر الحركة هنا بها ، وكذا الطول وما يقابله صفات اعتباريات ؛ ولذلك يكون الشيء طويلا باعتبار قصيرا بآخر ، (و) من (ما يتصل بها) أى : بما ذكر من مدركات البصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات ، والذى يتصل بها هو ما يحصل من اجتماع اثنين فأكثر منها أو باعتبار واحد مخصوص منها بخصوصه بدون اجتماع كالحسن والقبح اللذين يتصف بهما الجسم فى خلقته وحاصلهما هيئة حاصلة من شكل مخصوص ولون مخصوص ، فالحسن مأخوذ من الشكل واللون وكذا القبح ، وقد يوصف بهما الجسم باعتبار أحدهما فقط فيقال : قبيح فى شكله حسن فى لونه ، أو العكس فتقول

١١٨

فى التشبيه فى الحسن وجهه كالشمس فى الإشراق والاستدارة اللذين هما مرجع الحسن وفى القبح وجهه كالقرمود الأخضر فى شكله ولونه اللذين هما مرجع القبح فيه ، وكالضحك والبكاء الراجعين إلى مجموع الحركة ، والشكل فى الفم فيقال عند التشبيه فى الضحك على وجه المدح : فمه فى ضحكه كالأقحوان عند انفتاحه ، وفى البكاء على وجه الذم : فمه فى بكائه كفم الكلب عند حتفه ومعالجته سكرات الموت ، ولا تخفى كيفية التشبيه فيهما عند قصد الذم فى الأول والرحمة والمدح فى الثانى ، (أو بالسمع) عطف على قوله بالبصر يعنى أن الكيفيات الحسية إما أن تكون مما يدرك بالبصر ـ كما تقدم ـ أو مما يدرك بالسمع ، والسمع صفة تدرك بها الأصوات قائمة بالباطن من الصماخ ، ويفسر عند الحكماء بأنه قوة مترتبة أى متمكنة فى العصب المفروش على سطح باطن الصماخين ـ وهما ثقبتان معلومتان فى الأذن ـ وفى الطرف الأسفل من الأذن عصبة جلدت عليه كالطبل ، فالسمع قوة متمكنة فى تلك العصبة تدرك بها الأصوات ، (من الأصوات القوية والضعيفة والتى بين بين) هذا بيان لما يدرك بالسمع يعنى والثقيلة والحادة والتى بين بين ، والفرق بين الصوت القوى والثقيل أن مرجع الأول إلى العلو والارتفاع بحيث يسمع عن بعد ، والثانى إلى التمهل وعدم النفوذ سريعا فى السمع ، والحدة فيه راجعة إلى النفوذ فى السمع بسرعة ، ويتصور ذلك فى أوتار المزامير ، والصوت معنى قائم بالمصوت ، وعند الحكماء معنى قائم بالهواء سببه التموج فى ذلك الهواء ومدافعة بعضه بعضا كتموج الماء ومصادمة بعضه بعضا ، والتموج المذكور يشتمل على سكون بعد سكون ؛ لأن أحد المصطدمين انتقل عن سكون كان قبل الصدم ثم عراه سكون بعد الصدم والآخر باعتبار مصادمة الثالث كذلك ، وسبب هذا التموج فى الهواء القرع العنيف أو القلع العنيف ، والقرع عبارة عن ملاقاة جرمين ، والقلع عبارة عن تفريق أحدهما عن الآخر. فأما الأول وهو القرع الذى هو إمساس عنيف أى : ملاقاة عنيفة فكإلقاء حجر على آخر فإذا لاقاه تموج الهواء متكيفا بالصوت فإذا صادم هواء آخر تموج الآخر متكيفا به أيضا ثم لا يزال التموج كذلك إلى أن يصل إلى الهواء الراكد فى الصماخ فيقرع الجلدة فيدرك السمع الصوت ، وعلى هذا فالصوت

١١٩

قائم بالهواء ، إذ لو قام بالقارع والمقروع لزم كونه نسبيا ، وبحث فى هذا بأنه يلزم فيه أن لا تدرك جهة الصوت ، وأجيب بما ذكره فى محله ، وإنما شرط فى القرع كونه عنيفا أى : شديد الأنك لو وضعت حجرا على آخر بمهل لم يحصل تموج ولا صوت ، ويشترط فيه أيضا مقاومة بين المقروع والقارع أى : الملاقى بفتح القاف والملاقى بكسرها بأن يكون كل منهما قويا صلبا ، إذ لو كان ضعيفا غير صلب كالصوف المندوف المتراكم يقع عليه حجر أو خشب لم يحصل صوت ، وبحسب القوة والضعف فى المتقارعين يقوى الصوت ويضعف ، وأما الثانى وهو القلع الذى هو تفريق عنيف فهو على وجهين تفريق متصلين بالأصالة كتقطيع الخيط الصحيح ، وتفريق قطعة خشبة عن أخرى ، وتفريق متصلين اتصالا عارضا كجذب رجل غائص فى الطين منه ، فإذا وقع التفريق فيهما بعنف تموج الهواء أيضا على الوجه السابق ، وإنما شرط فيه العنف أى كونه بشدة ؛ لأنه لو وقع بتمهل بأن قطع الخيط شيئا فشيئا وجذب الرجل بتدريج لم يحصل تموج ولا صوت ، ويشترط فيه مقاومة المقلوع للقالع أى المقلوع عنه للمقتلع فى القوة مع شدة الاتصال ، فلذلك لو قلعت ريشة خفيفة من طائر ولو مع الاتصال وعنف القلع لم يحصل صوت ، وبحسب تلك المقاومة وضعفها يقوى الصوت ويضعف ، فإن قلع رجل الصبى الغائص من الطين ليس كقلع الكبير وإن اتحد القلع عنفا ، بل إذا ضعف المتقاومان ولو استويا ضعف الصوت أيضا كقطع خيط ضعيف ، وقولنا : إن التموج سبب الصوت لا ينافى ما عند أهل السنة من أن الأصوات بخلق الله تعالى ؛ لأن التسبب عادى (أو بالذوق) أى : ومن جملة الكيفيات الحسية الجسمية ما يدرك بحاسة الذوق وهى صفة قائمة باللسان تدرك بها النفس طعم المطعومات ، ويعرف عنه الحكماء بما يرجع لذلك وهو أنه قوة أى صفة إدراك منبثة أى منبسطة فى العصب المفروش على جرم اللسان ووصفها بالانبثاث ، وإن كان الانبثاث فى أصله مخصوصا بأجزاء الجرم ؛ إذ هو جعل الشيء منبسطا عاما لأماكن إشارة إلى أن تلك القوى موجودة فى كل جزء من أجزاء العصب المفروش على جرم اللسان ؛ وإنما لم يقل المنبثة فى جرم اللسان ؛ لأن الواقع فى التشريح على جرم اللسان عصبا هو محل تلك القوة ، ثم بين ما يدرك

١٢٠