العقد الثّمين في تاريخ البلد الأمين - ج ١

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي

العقد الثّمين في تاريخ البلد الأمين - ج ١

المؤلف:

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-2553-2
ISBN الدورة:
978-2-7451-2553-2

الصفحات: ٤٣٠

واسم الملك المؤيد صاحب مصر ـ أبى النصر شيخ ـ مكتوب فى أحد فيارين الباب ، لتحليته فى زمنه.

وفى باب الكعبة مكتوب اسم الملك الناصر محمد بن قلاوون.

وفى مفتاحها مكتوب اسم الملك المظفر صاحب اليمن.

هذا ما علمته ما عمل فى الكعبة بعد ابن الزبير والحجاج. ولا أعلم أن أحدا غير بناءهما.

ونختم هذا الباب بفائدة تتعلق بباب الكعبة.

وهى : أنه اختلف فى أول من بوب الكعبة ؛ فقيل : أنوش بن شيث بن آدم عليهم‌السلام ، وقيل : تبّع الثالث ، الذى كساها ونحر لها ، وقيل : جرهم بوبته. والله تعالى أعلم.

* * *

٢٢١

الباب الثامن

فى صفة الكعبة المعظمة ، وذرعها ، وشاذروانها ، وحليتها ، ومعاليقها ، وكسوتها ، وطيبها ، وخدامها ، وأسمائها ، وهدم الحبشى لها ، ووقت فتحها فى الجاهلية والإسلام. وبيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق ، ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها (١).

أما صفة الكعبة : فإن أرضها مرخمة برخام ملون ، وكذلك جدرانها.

وأول من رخم ذلك : الوليد بن عبد الملك بن مروان ، فيما ذكر الأزرقى ، نقلا عن ابن جريج ، ثم غير ما توهن منه بعد ذلك مرات.

وفيها ثلاث دعائم من ساج على ثلاثة كراسى ، وفوقها ثلاث كراسى ، وعلى هذه الكراسى ثلاث جوايز من ساج ، ولها سقفان بينهما فرجة ، وفى السقف أربعة روازن للضوء نافذة إلى أسفلها.

وفى ركنها الشامى : درجة يصعد منها إلى سطحها ، وعدد درجها : ثمان وثلاثون درجة.

وسقفها الأعلى مما يلى السماء : مرخم برخام أبيض ، وكان طلى بالنورة فى سنة إحدى وثمانين وسبعمائة ، ثم كشط ذلك فى سنة إحدى وثمانمائة.

وبطرف سطحها إفريز مبنى بحجارة ، ويتصل بهذا الإفريز أخشاب فيها حلق من حديد تربط فيها كسوة الكعبة.

وبابها من ظاهر مصفح بصفائح فضة مموهة بالذهب ، وكذلك فيارين الباب وعتبته العليا مطلية بفضة.

وأما أذرع الكعبة (٢) : فقد ذكره الأزرقى ، وابن جماعة.

وحررت أنا ذلك أيضا. فكان من سقفها الأسفل إلى أرضها : سبعة عشر ذراعا ـ

__________________

(١) انظر : (شفاء الغرام ١ / ١٠٦ ـ ١٣٠).

(٢) انظر : (تاريخ الخميس ١ / ١١٩ ، ١٢٠ ، مرآة الزمان ١ / ٢٨٨ ، الأزرقى ١ / ٦ ، ٣٠١ ، القرى لقاصد أم القرى ٦٠٢ ، ٦٠٣).

٢٢٢

بتقديم السين ـ ونصف ذراع إلا قيراطا فى الجهة الشرقية ، وكذلك باقى الجهات ، إلا أن الجهة الشامية : تنقص عن الشرقية نصفا إلا قيراطا ، والجهة الغربية تنقص عن الشرقية : قيراطين ، واليمانية تزيد على الشرقية : ثمن ذراع.

وعرض الجهة الشرقية ـ على التقريب ـ ثمانية عشر ذراعا وسدس.

والجهة الشامية على ـ التقريب أيضا ـ أربعة عشر ذراعا إلا قيراطين.

والجهة الغربية : ثمانية عشر ذراعا وثلث ذراع.

واليمانية أربعة عشر ذراعا وثلثا ذراع.

وطول فتحة الباب من داخله مع الفيارين : ستة أذرع.

وطوله من خارجه بغير الفيارين : ستة أذرع إلا ربع.

وذرع فتحة الباب من داخل الكعبة ـ مع الفيارين ـ ثلاثة أذرع وثلث إلا قيراط.

وطول كل من فردتى الباب : ستة أذرع إلا ثمن ، وعرض كل منها ذراعان إلا ثلث.

وأما ذرع الكعبة (١) من خارجها : فإن من أعلى الشاخص فى سطحها فى الجهة الشرقية إلى أرض المطاف : ثلاثة وعشرين ذراعا وثمن ذراع. وكذلك الجهة اليمانية ، والجهة الغربية ، إلا أن الغربية تنقص ثمن ذراع.

وأما الجهة الشامية : فتنقص عن الشرقية واليمانية ربع ذراع.

وعرض الجهة الشرقية : أحد وعشرون ذراعا وثلث.

وكذلك الغربية بزيادة ثلث.

وأما الشامية : فعرضها ثمانية عشر ذراعا إلا ربع ذراع.

وكذلك اليمانية بزيادة نصف إلا قيراطين.

ومن عتبة باب الكعبة إلى أرض الشاذروان صحتها : ثلاثة أذرع ونصف ، وارتفاع الشاذروان تحتها : ربع ذراع وقيراط.

والذراع الذى حررنا به : هو ذراع الحديد المستعمل فى القماش بالقاهرة.

وكذلك ما حرر به ابن جماعة ، وبين ما ذكره وذكرناه اختلاف ، بيناه فى أصله.

__________________

(١) انظر : (تاريخ الخميس ١ / ١١٩ ، ١٢٠).

٢٢٣

والذراع الذى حرر به الأزرقى : ذراع اليد.

وأما شاذروان الكعبة (١) : فهو الأحجار الملاصقة بها التى فوقها مسنم مرخم فى الجانب الشرقى والغربى واليمانى.

وفى الجانب الشرقى : حجارة لا بناء عليها ، هى شاذروان.

وأما الأحجار التى تلى جدار الكعبة الشامى : فليست شاذروانا ؛ لكون موضعها من البيت ، بلا ريب.

والشاذروان : هو ما نقصته قريش من عرض أساس جدار البيت حين ظهر على الأرض ، كما هو عادة الأبنية.

أشار إلى ذلك الشيخ أبو حامد الإسفراينى ، وغيره من أئمة الشافعية.

وأما حكمه : فإن طواف من كان لشىء من بدنه : فهو غير صحيح على مذهب الشافعى رضى الله عنه.

وصرح بذلك ابن شاس ، وابن الحاجب ، وشارحه خليل.

وللميدة صاحب الشامل وغيرهم من متأخرى المالكية.

وأنكر ذلك بعض متأخريهم ، ولم يثبته فى المذهب.

ويصح طواف من لم يخير منه فى طوافه عند الحنفية والحنابلة. والله أعلم.

وطول الشاذروان فى السماء : ستة عشر إصبعا ، وعرضه : ذراع. ذكره الأزرقى.

وقد نقص عرضه فى بعض الجهات عما ذكره الأزرقى.

فأفتى عالم الحجاز المحب الطبرى بإيجاب إعادة مقداره على ما ذكره الأزرقى.

وأما حلية الكعبة المعظمة : فأول من حلاها فى الجاهلية ـ على ما قيل ـ عبد المطلب جد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما فى الإسلام ، فقيل : الوليد بن عبد الملك.

وقيل : أبوه.

وقيل : ابن الزبير رضى الله عنهما. والله أعلم.

__________________

(١) انظر : (تاريخ الخميس ١ / ١٢١).

٢٢٤

وحلاها الأمين العباسى ، وحلاها المتوكل العباسى.

هذا ما ذكره الأزرقى من حلية الكعبة.

وحلاها بعده المعتضد العباسى فى سنة إحدى وثمانين ومائتين.

وأمر المقتدر العباسى ـ فى سنة عشر وثلاثمائة ـ والوزير الجواد ، فى سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، وحلاها الملك المجاهد صاحب اليمن.

وأما معاليق الكعبة ، وما أهدى لها فى معنى الحلية : فذكر الأزرقى منها جانبا ذكرناه فى أصله ، مع أشياء لم يذكرها الأزرقى ، بعضها كان فى عصره ، وأكثر ذلك بعده ، ونشير هنا بشىء منه.

فمما أهدى لها فى عصر الأزرقى ، ولم يذكره : قفل فيه ألف دينار ، أهداه المعتصم العباسى فى سنة تسع عشرة ومائتين على ما ذكره الفاكهى.

ومن ذلك : طوق ذهب فيه مائة مثقال مكلل بالزمرد والياقوت والماسب ، وياقوتة خضراء وزنها أربعة وعشرون مثقالا ، بعث بذلك ملك من ملوك السند لما أسلم فى سنة تسع وخمسين ومائتين.

ومن ذلك : حلقتان من ذهب مرصعتان باللؤلؤ والبلخش ، كل حلقة وزنها ألف مثقال ، وفى كل حلقة ستة لؤلؤات فاخرات ، وفيها ست قطع بلخش فاخر. بعث بذلك الوزير على شاه وزير السلطان أبى سعيد بن خربندا ملك التتار ، فى موسم سنة ثمان عشرة وسبعمائة.

وكان أمير الركب المصرى عارض فى تعليق ذلك ، فلوطف حتى أذن فى تعليقهما ، ثم أزيلا بعد قليل.

ومن ذلك ـ على ما ذكره بعض فقهاء مكة ـ : أربعة قناديل ، كل قنديل منها قدر الدورق بمكة ، اثنان ذهب واثنان فضة. بعث بذلك السلطان شيخ أوس صاحب بغداد. وعلق ذلك فى الكعبة ، ثم أخذ عن قريب.

وكان إرساله بذلك فى أثناء عشر السبعين وسبعمائة ، على مقتضى ما أخبرنى به الفقيه المذكور.

وقد أهدى لها من هذا المعنى بعد ذلك أشياء.

وبالجملة : فلا يجوز أخذ شىء من حلية الكعبة ، لا للحاجة ، ولا للتبرك ؛ لأن ما جعل لها وسبل لها تجرى مجرى الأوقاف ، ولا يجوز تغييرها عن وجهها.

٢٢٥

أشار إلى ذلك المحب الطبرى فى كتابه «القرى (١)» قال : وفيه تعظيم للإسلام وترهيب على العدو (٢). انتهى.

وأما كسوة الكعبة (٣) : فإنها كسيت فى الجاهلية والإسلام أنواعا من الكسى وذكر الأزرقى من ذلك جانبا ذكرناه فى أصله.

وقد كساها قبل الإسلام جماعة ، ولم يذكرهم الأزرقى. وذكرنا ذلك فى أصله.

وكسيت الكعبة ـ بعد الأزرقى ـ أنواعا من الكسى.

فمن ذلك : الديباج الأبيض الخراسانى ، والديباج الأحمر الخراسانى ، على ما ذكر صاحب العقد.

ومن ذلك : الديباج الأبيض ، فى ز من الحاكم العبيدى ، وحفيده المستنصر ، كساها ذلك فى ز من المستنصر الصليحى صاحب اليمن ومكة.

وكسيت فى سنة ست وستين وأربعمائة الديباج الأصفر ، وهذه الكسوة عملها السلطان محمود بن سبكتكين ، صاحب الهند.

ثم ظفر بها نظام الملك وزير السلطان ملك شاه السلجوقى ، فأنفذها إلى مكة وجعلت فوق كسوة كساها لها فى هذه السنة أبو النصر الأسترابادى. وكانت كسوته بيضاء من عمل الهند.

وكسيت فى خلافة الناصر العباس كسوة خضراء وسوداء.

واستمرت تكسى السواد حتى الآن ، وفيها طراز أصفر ، وكان قبل ذلك أبيض.

وقد أحدث : فى كسوة الكعبة من الجانب الشرقى جامات منقوشة بالحرير الأبيض فى سنة عشر وثمانمائة.

ثم ترك ذلك فى سنة خمس عشرة وثمانمائة ، وثلاث سنين بعدها متوالية بعدها.

ثم أعيدت الجامات البيض فى سنة تسع عشرة وثمانمائة ، وفى خمس سنين متوالية بعدها.

__________________

(١) انظر : (القرى لقاصد أم القرى ٥٢١).

(٢) وفيه أيضا : فيه ترك خلاف من يقتدى به ، والاقتداء بهم فى أفعالهم ، وذلك فعل سلف الأمة رضى الله عنهم. انظر : القرى لقاصد أم القرى (٥٢١).

(٣) انظر : تاريخ الخميس (١١٩).

٢٢٦

ثم ترك ذلك فى سنة خمس وعشرين وثمانمائة.

وكسيت ثيابا من القطن مصبوغة بالسواد ؛ لأنها عريت من ريح عاصفة هاجت بمكة فى سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

وقيل : فى سنة أربع وأربعين.

ولم يكن عند شيخ الحرم ـ العفيف منصور بن منعة البغدادى ـ شىء يقوم بكسوتها ، فاقترض ثلاثمائة دينار واشترى بها ثيابا بيضاء وصبغها بالسواد ، وكب عليها الطرز العتيقة.

وممن كساها : رامشت صاحب الرباط بمكة فى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. كساها من الحبرات وغيرها ، وقومت كسوته بثمانية عشر ألف دينار مصرية ، على ما ذكر ابن الزبير.

وقيل : بأربعة آلاف.

وأول من كساها : من الملوك ـ بعد انقضاء الخلافة من بغداد ـ : المظفر يوسف صاحب اليمن فى سنة تسع وخمسين وستمائة.

وأول من كساها من ملوك الترك بمصر : الملك الظاهر بيبرس فى سنة إحدى وستين وستمائة.

وكان المظفر يكسوها معه ، ومع من عاصره من ملوك مصر ، وربما انفرد بذلك.

ثم انفرد ملوك مصر بكسوتها بعد المظفر ـ فيما أحسبه ـ وإلى تاريخه.

وكسوتها ـ فى تاريخه ، وفيما قبله من نيف وسبعين سنة ـ من وقف وقفه صاحب مصر الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون على كسوة الكعبة فى كل سنة ، والحجرة النبوية والمنبر النبوى فى كل خمسين سنة مرة.

وكساها أخوة الناصر حسن ، وكانت تصل إلى الأرض والباقى منها نحو نصفها الأعلى ، وهى كسوة حسنة ، وهى حرير مذهب. وكان ذلك فى سنة إحدى وستين وسبعمائة.

وكان قبلها فى جوفها كسوة للمظفر ـ صاحب اليمن ـ فيما بلغنى.

وقد أزيلت كسوة الكعبة بجوفها التى عملها الناصر حسن ، وعوضت بكسوة حرير أحمر أنفذها مولانا السلطان الملك الأشرف برسباى صاحب مصر والشام ـ نصره الله ـ

٢٢٧

على يد المقر الأشرف الكريمى الزينى عبد الباسط ، ناظر الجيوش المنصورة بالمماليك الشريفة. أجزل الله علينا أفضاله ، وبلغه آماله فى سنة ست وعشرين وثمانمائة. وجعلت فى جوف الكعبة فى موسم هذه السنة.

وللعلماء من الشافعية وغيرهم خلاف فى جواز بيع كسوة الكعبة.

وذكر الحافظ صلاح الدين العلائى فى قواعده : أنه لا يتردد فى جواز ذلك.

وأما طيب الكعبة : فروينا عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : طيبوا البيت ، فإن ذلك من تطهيره. وروينا عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : «طيبوا البيت ، فإن ذلك من تطهيره» (١) وروينا عنها أنها قالت : «لأن أطيب الكعبة أحب إلىّ من أهدى لها ذهبا وفضة».

ولا يجوز أخذ شىء من طيب الكعبة ، لا للتبرك ولا لغيره. نص عليه النووى.

وأما خدام الكعبة : فإن معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه أخدمها عبيدا ثم أتبعت ذلك الولاة بعده.

وأما أسماء الكعبة : فالكعبة ، وبكة ـ بالباء ـ والبيت الحرام ، والبيت العتيق ، وقادس ، ونادر ، والقرية القديمة.

وهذه الأسماء الثلاثة الأخيرة مذكورة فى تاريخ الأزرقى.

ومن أسمائها : البنية. ذكره القاضى عياض فى المشارق.

وأما هدم الحبشى للكعبة : فروينا فى ذلك حديثا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من رواية أبى هريرة رضى الله عنه فى الصحيحين ـ وحدثنا من رواية ابن عباس رضى الله عنهما فى صحيح البخارى ، وتخريبه لها يكون بعد رفع القرآن على ما ذكر السهيلى. وذلك بعد موت عيسىعليه‌السلام.

وقيل : فى زمن عيسى. والله أعلم.

وأما وقت فتح الكعبة فى الجاهلية : فيوم الاثنين والخميس والجمعة.

وأما فى الإسلام : فيوم الجمعة ، وكانت تفتح يوم الاثنين. وفعل ذلك فى عصرنا فى رمضان وشوال وذى القعدة من سنة إحدى وثمانمائة.

__________________

(١) انظر : (القرى لقاصد أم القرى ٤٩٢).

٢٢٨

وتفتح فى أوقات أخر من كل سنة.

منها : فى بكرة الثانى عشر من ربيع الأول ، وفى بكرة تاسع عشرين رجب الفرد لغسلها.

وتفتح فى سادس عشرى ذى القعدة لغسلها.

وفى بعض أيام المواسم فى الثمان من ذى الحجة وفى لياليها.

وفتحها فى التاريخ لأجل البر المأخوذ ممن يدخلها من الحجاج ، وهو لا يحل إلا بطيب نفس ممن يدفعه.

وذكر المحب الطبرى : أنه لا يحل منع أحد من دخول البيت.

وأما بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق ، ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها :

فأخبرنى به خالى قاضى الحرمين محب الدين النويرى رحمه‌الله تعالى ـ سماعا ـ عن القاضى عز الدين بن جماعة ـ سماعا ـ أنه نقل ذلك من خط والده القاضى بدر الدين فى الدائرة التى ذكر فيها صفة الكعبة ، وما يحتاج إلى معرفة تصويره وأن والده قال : إنه كتبها فى شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وستمائة. وذكرنا كلامه فى أصله بزيادة فوائد.

* * *

٢٢٩

الباب التاسع

فى بيان مصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكعبة المعظمة ، وقدر صلاته فيها ووقتها ، ومن رواها من الصحابة ، ومن نفاها منهم رضى الله عنهم أجمعين ، وترجيح رواية من أثبتها على رواية من نفاها ، وما قيل من الجمع بين ذلك (١).

وعدد دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة بعد هجرته إلى المدينة ، وأول وقت دخلها فيه بعد هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

أما موضع صلاته فى الكعبة : فقد بينه ابن عمر رضى الله عنهما ؛ لأن فى البخارى من رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما ـ «أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حتى يدخل ، ويجعل الباب قبل الظهر ، يمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذى قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع ، فيصلى ، يتوخى المكان الذى أخبره بلال رضى الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فيه».

وروينا فى الأزرقى : أن معاوية رضى الله عنه «سأل ابن عمر رضى الله عنهما عن مصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكعبة؟ فقال : بين العمودين المقدمين ، اجعل بينك وبين الجدار ذراعين ، أو ثلاثة».

وأما قدر صلاته هذه : فركعتان ، كما فى كتاب الصلاة من صحيح البخارى ، من حديث مجاهد عن ابن عمر رضى الله عنهما.

وأما من روى صلاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكعبة ـ يوم فتح مكة ـ من الصحابة : فبلال ، وشيبة بن عثمان الحجبى ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عباس ـ ولا يصح عنه ـ وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن صفوان القرشى ، وعثمان بن طلحة الحجبى ، وعمر بن الخطاب ، وأبو هريرة ـ وإسناد حديثه ضعيف ـ وعائشة ، رضى الله عنهم أجمعين.

وأما الذين نفوها : فأسامة بن زيد ، والفضل بن العباس ، وأخوه عبد الله ، رضى الله عنهم.

وأما ترجيح رواية من أثبت صلاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكعبة على رواية من نفاها ؛ فلإثباته ما نفاه غيره. وفى مثل هذا يؤخذ بقول المثبت.

__________________

(١) انظر : (شفاء الغرام ١ / ١٣٨ ـ ١٥٤).

(٢) انظر : (شفاء الغرام ١ / ١٥٥ ـ ١٥٧).

٢٣٠

وقد أشار إلى الترجيح بذلك جماعة ، منهم : النووى ، رحمهم‌الله.

وأقرب ما قيل فى الجمع بين الاختلاف فى إثبات صلاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكعبة ونفيها ، أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فى الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة لأمر ندبه إليه ، وهو : أن يأتى بما يمحو به الصور التى كانت فى الكعبة ؛ لأن فى مسند الطيالسى ـ من حديث أسامة ابن زيد ـ : أنه «أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلو من ماء ، فجعل يمحو به الصور» وإسناد الطيالسى فيه تقوم به الحجة ، فلذلك كان هذا الوجه أقرب ما قيل فى الجمع بين هذا الاختلاف.

ويجمع أيضا بين حديث بلال والفضل بمثل هذا الجمع ؛ لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الفضل ـ بعد دخوله معه إلى الكعبة ـ ليأتيه بما يطمس به الصور التى فى الكعبة على ما قيل. فصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غيبته.

وهذا رويناه فى تاريخ الأزرقى عن عبد المجيد بن أبى رواد عن الزهرى.

وحديث بلال أرجح من حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنهما ؛ لأن بلالا رضى الله عنه شهد صلاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكعبة ، وابن عباس رضى الله عنهما لم يشهدها ، وإنما اعتمد فى نفيها على أخيه ، وأسامة رضى الله عنهما. والله أعلم.

وأما عدد دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة بعد هجرته : فروينا فيه أخبارا يتحصل من مجموعها دخوله إليها أربع مرات يوم فتح مكة. وهذا لا ريب فى صحته.

وفى ثانية ، كما هو مقتضى حديث ابن عمر رضى الله عنهما ، وحديث أسامة رضى الله عنه ، الذى جمع به ابن ماجة.

وفى حجه الوداع ، كما هو مقتضى حديث عائشة رضى الله عنها. وسيأتى ذكره قريبا فى أول الباب الذى بعده.

وفى عمرة القضية ، كما يقتضيه كلام المحب الطبرى. وفى صحة ذلك نظر.

وأما أول وقت دخل فيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة بعد هجرته : فيوم فتح مكة.

وقد نقل الأزرقى عن جده عن سفيان بن عيينة عن غير واحد من أهل العلم ، سمع منهم : يذكرون «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ، ثم حج ولم يدخلها». انتهى.

وهذا يدل على أنه لم يدخل فى ثانى الفتح ، ولا فى حجة الوداع. والله أعلم.

* * *

٢٣١

الباب العاشر

فى ثواب دخول الكعبة المعظمة ، وفيما جاء من الأخبار الموهمة لعدم استحباب ذلك ، وفيما يطلب فيها من الأمور التى صنعها فيها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الصلاة فيها وآداب دخولها (١).

وأما ثواب دخولها : فروينا فيه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دخل البيت وصلى فيه ، دخل فى حسنة وخرج من سيئة مغفور له». أخرجه الطبرانى.

وروى الفاكهى من حديث ابن عمر رضى الله عنهما : «من دخله ـ يعنى البيت ـ فصلى فيه ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

وقد اتفق الأئمة على استحباب دخولها. واستحسن مالك كثرة دخولها.

وأما ما ورد موهما بخلاف ذلك : فحديث عائشة رضى الله عنها قالت : «خرج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عندى ، وهو قرير العين ، طيب النفس ، فرجع إلىّ وهو حزين ، فقلت له. فقال : إنى دخلت الكعبة ، وودت أنى لم أكن فعلت. إنى أخاف أن أكون أتعبت أمتى من بعدى». أخرجه الترمذى ، والحاكم فى مستدركه من حديث إسماعيل بن عبد الله بن عبد الملك بن أبى الصغير المكى ، عن ابن أبى مليكة عن عائشة رضى الله عنها.

وإسماعيل : وهاه ابن مهدى ، وذلك يقتضى توهين حديثه. والله أعلم.

وقال المحب الطبرى ـ بعد إخراجه لهذا الحديث ـ : وقد استدل بهذا الحديث من كره دخول البيت ، ولا دلالة فيه ، بل نقول : دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليل على الاستحباب ، وتمنيه عدم الدخول : قد علله بالمشقة على أمته ، وذلك لا يرفع حكم الاستحباب. انتهى.

وأما ما يطلب فى الكعبة من الأمور التى صنعها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فحمد الله ، والثناء عليه ، والدعاء والذكر. وغير ذلك مما ذكرناه فى أصله.

وأما حكم الصلاة فى الكعبة : فإن النافلة فيها مستحبة عند المالكية ، وجمهور

__________________

(١) انظر : (شفاء الغرام ١ / ١٥٨ ـ ١٦٥).

٢٣٢

العلماء ، وخالف فى ذلك بعض العلماء ، فقال : لا يصح فيها فرض ولا نفل. وهذا ضعيف. والله أعلم.

ويستثنى من النوافل فيها ـ على مقتضى مشهور مذهب مالك رحمه‌الله ـ النفل المؤكد : كالعيدين ، والوتر ، وركعتى الفجر ، والطواف الواجب ، فإن ذلك لا يصح فيها.

وأما الفرض : فمشهور المذهب عدم صحته فيها ، وهو الأصح من مذهب الحنابلة.

ويصح على مذهب أبى حنيفة والشافعى.

وسطحها فى الفرض كجوفها ، على مقتضى ما سبق من مذهب الأئمة الأربعة ، إلا أن صحة الصلاة فى سطحها ـ على مذهب الشافعى ـ مشروطة بأن يكون بين يدى المصلى شاخص من نفس الكعبة قدر ثلثى ذراع تقريبا على الصحيح.

والشاخص الآن بسطحها يزيد على ثلثى ذراع ؛ لأنه فى الجهة الشرقية ذراع إلا ثمن ، والشامية ذراع وثمن ، وفى الغربية ذراع ، واليمانية ثلثا ذراع.

وأما آداب دخولها : فالاغتسال ، ونزع الخف والنعل ، وأن لا يرفع بصره إلى السقف ، وأن لا يزاحم زحمة يتأذى بها ، أو يؤذى غيره ، وأن لا يكلم أحدا إلا لضرورة ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، وأن يلزم قلبه الخشوع ، وأن يلزم قلبه الخشوع والخضوع ، وعينيه الدموع إن استطاع ذلك ، وإلا حاول درهما.

ذكر ذلك المحب الطبرى : والنساء يساوين الرجال فى دخولها من غير خلاف فيما أعلم.

* * *

٢٣٣

الباب الحادى عشر

فى ذكر شىء من فضائل الكعبة ، وفضائل ركنيها : الحجر الأسود واليمانى (١).

فأما فضل الكعبة : فكثير ثابت فى القرآن العظيم ، وفى السنة الشريفة ، ولم نورده إلا للتبرك.

قال الله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٦ ، ٩٧].

وأما الأحاديث : فروينا عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن هذا البيت دعامة الإسلام ، ومن خرج يؤم هذا البيت ـ من حاج أو معتمر ـ كان مضمونا على الله عزوجل ، إن قبضه ، أن يدخله الجنة ، وإن رده ، أن يرده بأجر وغنيمة». أخرجه الأزرقى بإسناد صالح.

وأما فضل الحجر الأسود : فكثير ؛ لأنا روينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة ، طمس الله نورهما ، ولو لا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب».أخرجه ابن حبان فى صحيحه ، والترمذى (٢). وقال : غريب.

وذكر إمام المقام ، وخطيب المسجد الحرام ، سليمان بن خليل : أنه رأى فيه ـ يعنى: الحجر الأسود ـ ثلاث مواضع بيض نقية ، ثم قال : إنى أتلمح تلك النقط ، فإذا هى كل وقت فى نقص. انتهى.

__________________

(١) انظر : (شفاء الغرام ١ / ١٦٦ ـ ١٧٤).

(٢) أخرجه الترمذى فى سننه ، كتاب الحج ، حديث رقم (٨٧٨) من طريق قتيبة ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن رجاء أبى يحيى ، قال : سمعت مسافعا الحاجب قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب». قال أبو عيسى : هذا يروى عن عبد الله بن عمرو موقوفا قوله وفيه عن أنس أيضا. وهو حديث غريب.

وأخرجه أحمد فى مسنده ، حديث رقم ٦٩٦١ ، ٦٩٦٩.

٢٣٤

وبه الآن فى الجهة التى تلى باب الكعبة فى أعلاها نقطة بيضاء مثل حبة سمسة ، على ما أخبرنى به ثلاثة نفر يعتمد عليهم من أصحابنا الفقهاء. وكان إخبارهم لى بذلك فى العشر الأخير من جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة. وفى هذا التاريخ شاهدوا ذلك على ما ذكرا.

ومن فضائله : «أنه يشهد يوم القيامة لمن استلمه بحق». كذا رويناه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا فى الترمذى. وله فضائل أخر.

وأما الركن اليمانى : فمن فضائله : ما رويناه عن ابن عمر رضى الله عنهما «أنه كان يزاحم على الركنين ، فقيل له فى ذلك ، فقال : إنه أفضل ، فإنى سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن مسحهما كفارة للخطايا». أخرجه الترمذى (١).

وروينا عن ابن عمر رضى الله عنهما : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مسح الحجر الأسود ، والركن اليمانى : يحط الخطايا حطّا». أخرجه ابن حبان. وهذا فى حق الرجال.

وأما النساء : فلا يستحب ذلك لهن إلا فى خلوة. ويكره لهن مزاحمة الرجال على ذلك.

* * *

__________________

(١) أخرجه الترمذى فى سننه ، كتاب الحج ، حديث رقم (٩٥٩) من طريق : قتيبة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن عبيد بن عمير ، عن أبيه أن ابن عمر كان يزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعله فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، إنك تزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزاحم عليه ، فقال : إن أفعل فإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن مسحهما كفارة للخطايا». وسمعته يقول : «من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه كان كعتق رقبة». وسمعته يقول : «لا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة وكتب له بها حسنة». قال أبو عيسى : وروى حماد بن زيد عن عطاء بن السائب ، عن ابن عبيد بن عمير ، عن ابن عمر نحوه ولم يذكر فيه عن أبيه ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن.

٢٣٥

الباب الثانى عشر

فى فضائل الأعمال المتعلقة بالكعبة ، كالطواف بها ، والنظر إليها ، والحج والعمرة ، وغير ذلك (١).

أما فضل الطواف من غير تقييد بزمن : فروينا من حديث أنس رضى الله عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأنصارى سأله عن الطواف بالبيت : «وأما طوافك بالبيت ، فإنك لا تضع قدما ولا ترفعها إلا كتب الله عزوجل لك بها حسنة ، ومحا عنك بها خطيئة ، ورفعك بها درجة ، وأما ركعتيك بعد الطواف : فكعتق رقبة ، وأما طوافك بعد ذلك : فإنك تطوف ولا ذنب عليك». أخرجه ابن حبان فى صحيحه مطولا.

وروينا فى الطبرانى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا : «من طاف بالبيت خمسين أسبوعا : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». وهو فى الترمذى إلا أنه قال : «مرة» بدل «أسبوع».

والمراد بذلك : وجوده فى صحيفة حسناته ، لا الإتيان به فى وقت واحد. نص على ذلك المحب الطبرى فى «القرى» (٢).

وللعلماء خلاف فى الطواف ، والصلاة بمكة : أيهما أفضل؟.

وفى المسألة قول ثالث : أن الطواف للغرباء أفضل ، لعدم تأتيه لهم ، والصلاة لأهل مكة أفضل ، لتمكنهم من الأمرين.

ويدل لفضل الطواف على الصلاة (٣) حديث ابن عباس رضى الله عنهما فى تنزل الرحمات ؛ لأن فيه : «للطائفين ستين ، وللمصلين أربعين».

وقد ذكر دلالته على ذلك المحب الطبرى. وأفاد فيما ذكر. والله أعلم. واختلف أيضا فى الطواف والعمرة : أيها أفضل؟.

وللمحب الطبرى فى ذلك تأليف ، سماه «عواطف النظرة فى تفضيل الطواف على العمرة». وذكر ما يوافق ذلك فى كتابه «القرى».

__________________

(١) انظر : (شفاء الغرام ١ / ١٧٥ ـ ١٨٣).

(٢) انظر : (القرى لقاصد أم القرى ٣٢٥).

(٣) انظر : (القرى لقاصد أم القرى ٣٣١ ، ٣٣٢).

٢٣٦

وافقه على ذلك القاضى عز الدين بن جماعة ، والشيخ أبو أمامة بن النقاش ، فيما بلغنى عنه.

وقال بتفضيل العمرة الشيخ عبد الله اليافعى (١) شيخ مكة ، وشيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى (٢) وغيرهما. والله أعلم.

وجاء فى الطائفين : ما رويناه عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يباهى بالطائفين». وأخرجه الآجرى فى ثمانيته.

وأما ثواب النظر إلى الكعبة : ففيه عشرون رحمة ، كما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما.

وفيه ما رويناه عن سعيد بن المسيب قال : «من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه». وهذا فى الأزرقى. وفيه غير ذلك.

وأما ثواب الحج والعمرة : ففيه ما رويناه عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». متفق عليه (٣).

وروينا من حديث عمرو بن العاص رضى الله عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الحج يهدم ما قبله». أخرجه مسلم (٤). وفى المعنى أحاديث أخر.

* * *

__________________

(١) هو عبد الله بن أسعد بن على اليافعى عفيف الدين. انظر : (الأعلام ٤ / ٧٢ ، الدرر الكامنة ٢ / ٢٤٧ ، الفوائد البهية ٣٣ فى التعليقات ، شذرات الذهب ٦ / ٢١٠ ، معجم المطبوعات ١٩٥٢ ، طبقات الشافعية ٦ : ١٠٣ ، وفيه وفاته سنة ٧٦٧ ومثله فى مفتاح السعادة ١ / ٢١٧).

(٢) هو عمر بن رسلان بن نصر بن صالح الكنانى ، العسقلانى الأصل ، ثم البلقينى المصرى الشافعى ، أبو حفص ، سراج الدين.

انظر : (الأعلام ٥ / ٤٦ ، الضوء اللامع ٦ / ٨٥ ، شذرات الذهب ٧ / ١٥ ، حسن المحاضرة ١ / ١٨٣ ، الخزانة التيمورية ٣ / ٣٨ ، ويقال لقريته : «بلقين» فينسب إليها بفتح القاف وسكون الياء انظر : التاج ٩ / ١٤٣ وتكرر ذكره فى رفع الإصر ١٦ فى أرجوزة الهامش بما يفيد أن الكسر أشهر. الأزهرية ٢ / ٥٩).

(٣) أخرجه البخارى فى صحيحه ، كتاب الحج ، حديث رقم ١٧٧٣ ، ومسلم فى الصحيح ، كتاب الحج حديث رقم ١٣٤٩.

(٤) أخرجه مسلم فى صحيحه من حديث طويل ، فى كتاب الإيمان ، حديث رقم ١٢١.

٢٣٧

الباب الثالث عشر

فى الآيات المتعلقة بالكعبة المعظمة (١)

للكعبة آيات بينات :

منها : بقاء بنائها الموجود الآن. وهو يقتضى أنه لا يبقى هذه المدة ، على ما بلغنى عن بعض مهندسى عصرنا. قال : وإنما بقاؤها آية من آيات الله. انتهى.

ولعمرى إنه لصادق ، فإن من المعلوم ضرورة : أن الريح والمطر إذا تواليا أياما على بناء يخرب.

ومن المعلوم ضرورة : أن الكعبة المعظمة ما زالت الرياح العاصفة والأمطار الكثيرة المهولة تتوالى عليها منذ بنيت وإلى تاريخه. وذلك سبعمائة سنة ونيف وخمسون سنة. ولم يحدث فيها ـ بحمد الله ـ تغير أدى إلى خللها.

ومن آياتها : حفظها ممن أرادها بسوء ، وهلاك من أرادها بذلك ، كما جرى لتبع والهذليين ، وأصحاب الفيل.

أما قصة تبع (٢) : فإنه لما أقبل من المدينة حسن له نفر من هذيل هدم الكعبة ، وأن يبنى عنده بيتا يصرف إليه الحج ، فعزم على ذلك ، فدقت بهم دوابهم ، وغشيتهم ظلمة شديدة وريح. ثم رجع عن عزمه ونوى تعظيم الكعبة فانحلت عنهم الظلمة ، وسكنت الريح وانطلقت بهم دوابهم ، وأمر بضرب رقاب الهذليين فضربت ، وسار إلى مكة ، فأقام بها أياما ينحر كل يوم مائة بدنة للصدقة ، وكسى البيت الحرام أنواعا من الكسوة. وهذا الخبر فى الأزرقى مطولا.

وفى رواية : أنه لما أصغى لقول الهذليين بات صحيحا ، فأصبح وقد سالت عيناه فلما نوى كرامة البيت وأهله رجعت عيناه ، فارتد بصيرا. وهذا الخبر فى الفاكهى. وقيل : أصابه غير ذلك.

__________________

(١) انظر : (شفاء الغرام ١ / ١٨٥ ـ ١٨٦).

(٢) انظر : (المنتظم ١ / ٤١٥ ، تاريخ الطبرى ١ / ٥٦٦ ، شفاء الغرام ١٨٧).

٢٣٨

وأما أصحاب الفيل (١) : فإن أبرهة بن الصباح الأشرم ـ ملك اليمن من قبل النجاشى ـ سار إلى مكة يريد تخريب الكعبة ؛ لأن رجلا من العرب بال فى كنيسة بناها أبرهة بصنعاء ، وكان يعظمها ، ويريد أن يصرف الحج إليها ، وساق معه الفيل. فلما بلغ المغمّس عبّأ جيشه ، وقدّم الفيل ، فكانوا إذا وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح. وإذا وجهوه إلى اليمن ـ أو إلى غيره من الجهات ـ هرول. فأرسل الله تعالى طيرا سوداء ـ وقيل : خضراء ، وقيل : بيضاء ـ مع كل طائر حجر فى منقاره وحجران فى رجليه ، أكثر من العدسة وأصغر من الحمصة. فكان يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، ففروا ، وهلكوا فى كل طريق ، وتساقطت أنامل أبرهة ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزيره أبو مكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشى ، فقص عليه القصة. فلما أتمها وقع عليه الحجر ، فخر ميتا بين يديه.

وخبر أصحاب الفيل أطول من هذا. وهذا ملخص منه.

* * *

__________________

(١) انظر : (شفاء الغرام ١ / ١٨٩ ، ١٩٠).

٢٣٩

الباب الرابع عشر

فى ذكر شىء من أخبار الحجر الأسود (١)

روينا فى تاريخ الأزرقى عن ابن إسحاق وغيره : أن الله عزوجل استودع الركن أبا قبيس حين غرق الأرض ز من نوح عليه‌السلام ، وقال : «إذا رأيت خليلى يبنى بيتى فأخرجه له». فلما بنى الخليل البيت جاءه جبريل عليه‌السلام بالحجر الأسود ، فوضعه موضعه من البيت. انتهى.

وقيل : إن إلياس بن مضر أول من وضع الحجر للناس بعد الغرق. ذكره الزبير بن بكار. وهذا مخالف لما سبق.

ولما خرجت جرهم من مكة ، خرج عمرو بن الحارث بن مضاضة بغزالى الكعبة وبحجر الركن ، فدفنهما فى زمزم.

وفى بعض الأخبار : أن جرهما لما خرجت دفنت الحجر بأسفل مكة ، وأن قصى بن كلاب بحث عنه حتى أظهره للناس.

وفى بعض الأخبار : أن بنى إياد دفنوه لما خرجوا من مكة.

هذا ما علمت من خبره فى الجاهلية.

وأما خبره فى الإسلام : فإنه أزيل من موضعه اثنتين وعشرين سنة ، إلا أربعة أيام. والمزيل له القرامطة ، وشد بالفضة لتصدعه.

وكان تصدعه ثلاث مرات.

الأولى : من الحريق الذى أصابه فى ز من ابن الزبير ، وانشطبت منه شطبة فشدت بالفضة. ثم تغيرت هذه الفضة ، فأحكمت فى سنة تسع وثمانين ومائة.

والمرة الثانية : أن بعض القرامطة ضرب الحجر الأسود بدبوس فتكسر ، ثم قلع يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة بأمر أبى طاهر

__________________

(١) انظر : (المنتظم ١ ، تاريخ الطبرى ١ / ٢٥١ ، زاد المسير ١ / ١٢٩ ، ٤٢٤ ، الأزرقى ١ / ٢٥ ، ٣١ ـ ٣٢ ، البداية والنهاية ١ / ١٦٣ ، طبقات ابن سعد ١ / ٥٢ ، مرآة الزمان ١ / ٢٨٥ ، شفاء الغرام ١ / ١٩١ ـ ١٩٥).

٢٤٠