الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

بناء العمالقة ، وجرهم ولم يبين مقدار ارتفاعهما ، نعم نقل الفاسى رحمه‌الله عن الزبير بن بكار : أن قصيا بنى الكعبة بناء محكما على خمس وعشرين ذراعا وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل ، ثم قال : وفيه نظر ، لأنه إن أريد به أن قصيا جعل ارتفاع الكعبة خمسا وعشرين كان مخالفا لما اشتهر من أن الخليل جعل طولها تسعة أذرع وأن قريشا زادت تسعة أذرع ، وإن أريد أن قصيا جعل عرضها خمسة وعشرين ذراعا فالمعروف أن عرضها من الجهة الشرقية والغربية لا ينقص عن ثلاثين فى بناء الخليل ، ومن الجهة الشامية واليمانية لا يبلغ خمسة وعشرين وكل من بنى الكعبة بعد إبراهيم لم يبنها إلا على قواعده غير أن قريشا استقصرت عن عرضها فى الجهة الشرقية والغربية أذرعا لأمر اقتضاه الحال هذا معنى كلام الفاسى. ثم على تقدير حمل الخمسة والعشرين ذراعا فى بناء قصى على أنه ارتفاع البيت فى السماء وإن كان يخالف المشهور ، فليس فيه دلالة لما رواه الأزرقى لنقصه ذراعين ، فيكون ما نقله الأزرقى مجرد رواية لم يعضدها شىء فلا يعول عليه ، والله الموفق.

وروى أن أبا وهب المخزومى قال لقريش عند بناء البيت : لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا طيبا ، ولا تدخلوا فيه مهر بغى (١) ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس ، فلهذا قصرت بهم النفقة فنقصوا بناء الكعبة عن قواعد إبراهيم (٢). والله أعلم.

وأما سبب بناء ابن الزبير رضى الله عنهما : فهو أن الحصين بن نمير لما قدم مكة ، ومعه الجيش من قبل يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير ، أصحابه فتحصن بهم فى المسجد الحرام حول الكعبة ، ونصب خياما يستظلون فيها من الشمس ، وكان الحصين قد نصب المنجنيق على أخشبى مكة ، وهما ، أبو قبيس والأحمر الذى يقابله ، وصار يرمى به على ابن الزبير وأصحابه فتصيب الأحجار الكعبة فوهنت لذلك وتخرقت كسوتها عليها وصارت كأنها جيوب النساء (٣).

ثم إن رجلا من أصحاب ابن الزبير أوقد نارا فى بعض تلك الخيام مما يلى الصفا بين الركن الأسود واليمانى ، والمسجد يومئذ صغير ، وكانت فى ذلك اليوم رياح شديدة ،

__________________

(١) البغى : المرأة الزانية الفاجرة.

(٢) إخبار الكرام ص ١٣١.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٠٢ وما بعدها.

٨١

والكعبة إذ ذاك مبنية بناء قريش : مدماك من ساج ومدماك من حجارة ، فطارت الريح بشرارة من تلك النار فتعلقت بكسوة الكعبة فاحترقت واحترق الساج الذى بين البناء ، فازداد تصدع البيت وضعفت جدرانه ، وتصدع الحجر الأسود أيضا حتى ربطه ابن الزبير بعد ذلك بالفضة ، ففزع لذلك أهل مكة ، وأهل الشام ، أعنى الحصين وجماعته (١).

وعن الفاكهى : أن سبب حريق البيت إنما كان من بعض أهل الشام أحرق على باب بنى جمح ، وفى المسجد يومئذ خيام فمشى الحريق حتى أخذ فى البيت ، فظن الفريقان أنهم هالكون (٢).

قال الجد رحمه‌الله : قلت : وهذا يخالف ما ذكر من أن السبب فى ذلك إنما هو من بعض أصحاب ابن الزبير ، ولعل ما ذكره الفاكهى أصوب ، على أنه يمكن الجمع بوقوع كل من ذلك (٣) : فيكون السبب مركبا. والله أعلم. انتهى معناه.

فائدة : أخرج الأزرقى عن محمد ابن الحنفية أنه قال : أول ما تكلم فى القدر حين احترقت الكعبة فقال رجل احترقت ثياب الكعبة وهذا من قدر الله. وقال آخر : ما قدر الله هذا (٤).

ثم جاء نعى (٥) يزيد بعد ذلك بتسعة وعشرين يوما والحصين مستمر على حصار ابن الزبير ، فأرسل ابن الزبير إلى الحصين جماعة من قريش فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة وقالوا له : إن هذا من رميكم لها ، فأنكر ذلك ثم ولى راجعا إلى الشام فدعا ابن الزبير حينئذ وجوه الناس واستشارهم فى هدم الكعبة فأشار عليه القليل من الناس بذلك وأبى الكثير.

وكان أشدهم إباء عبد الله بن عباس ، وقال دعها على ما أقرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنى أخشى أن يأتى بعدك من يهدمها فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس بحرمتها ولكن ارقعها ، فقال ابن الزبير : والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه ، فكيف أرفع بيت الله ، واستقر رأيه على هدمها رجاء أن يكون هو الذى يردها على قواعد الخليل صلوات الله

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٠٣.

(٢) إخبار الكرام ص ١٣٣.

(٣) إخبار الكرام ص ١٣٣.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٩٧.

(٥) انظر فى ذلك : أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٠٣.

٨٢

عليه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة رضى الله عنها : «لو لا قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين» وفى رواية : «حديث عهدهم بكفر» (١).

نكتة : اعلم أن للمبتدأ الواقع بعد لو لا ثلاثة أحوال : مخبر عنه بكون غير مقيد ، ومخبر عنه بكون مقيد لا يدرك معناه عند حذفه ، ومخبر عنه بكون يدرك معناه عند حذفه. فمن الثانى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا قومك حديثو عهد ...» الحديث. ولو لا زيد غائب لم أزرك ، فالخبر فى هذا النوع واجب الثبوت بعد لولا لأنه لو اقتصر فى هذا الحديث على المبتدأ لصار المراد لو لا قومك على كل حال من أحوالهم لنقضت الكعبة ، وهو خلاف المقصود ، إذ من أحوالهم بعد عهدهم بالكفر فيما يستقبل ، وفى هذا الحال لا مانع من نقض الكعبة وبنائها على الوجه المذكور ، وقد ذكره ابن مالك فى شواهده على «صحيح البخارى» بأبسط من هذا فراجعه إن أردته.

ثم إن ابن الزبير رضى الله عنه أمر بهدم الكعبة وكان ذلك سنة أربع وستين من الهجرة فى يوم السبت النصف من جمادى الآخرة. أخرجه الأزرقى. وقيل : سنة خمس وستين (٢).

فلم يجترئ على ذلك أحد ، وخرج أهل مكة إلى منى وأقاموا بها ثلاثا خوفا أن ينزل عليهم عذاب بسبب ذلك. وخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف ، فلما رأى ذلك ابن الزبير علاها بنفسه وأخذ المعول وجعل يهدمها ، فلما رأوا أنه لم يصبه شىء صعدوا معه وهدموا وأرقى ابن الزبير [فوقها] عبيدا من الحبشة يهدمونها ، رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشى الذى قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» (٣).

لطيفة : قال بعض العلماء : إنما صغر ذو السويقتين ، لأن فى سيقان الحبشة دقة وحموشة ـ أى بالحاء المهملة والشين المعجمة ـ قال فى «الصحاح» : رجل أحمش الساقين دقيقهما.

أقول : فعلى هذا يكون العطف تفسيريا. انتهى.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٠٤.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٠٦.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٠٥ وما بين حاصرتين منه.

٨٣

قال الجد رحمه‌الله : فإن قلت : هذا الحديث ظاهره معارض لقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (سورة العنكبوت : ٦٧) ولأن الله تعالى حبس عن مكة الفيل ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة ، ولم تكن إذ ذاك قبلة فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة لمسلمين.

قلت : (الجواب) أن ذلك محمول على وقوعه فى آخر الزمان قريب من قيام الساعة حيث لا يبقى فى الأرض قرآن ولا إيمان. انتهى بمعناه.

أقول : ويؤيده ما روى عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال : قال الله تعالى: إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتى فخربته ، ثم أخرب الدنيا على أثره. انتهى.

قال شيخ الإسلام فى «فتح البارى» : وما وقع قبل ذلك فيه من القتال وغزو أهل الشام له فى زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده وفى وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة ، كل ذلك لا يعارض الآية أعنى قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) لأن ذلك إنما وقع بأيدى المسلمين ، فهو مطابق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولن يستحل هذا البيت إلا أهله». وليس فى الآية ما يدل على استمرار الأمن المذكور فيها. انتهى.

وقال الزركشى : والحق فى الجواب أنه لا يلزم من قوله : (حَرَماً آمِناً) وجود ذلك فى كل الأوقات فلا يعارضه ارتفاع هذا المعنى فى وقت آخر. فإن قيل : قد قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى أحلت لى مكة ساعة من نهار ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة». قلنا : أما الحكم بالحرمة والأمن فلم يرتفع إلى يوم القيامة ، وأما وقوع الخوف فيها وترك حرمتها فقد وجد ذلك فى أيام يزيد وغيرها. انتهى.

وعن الحليمى من الشافعية أن تخريب الحبشة للبيت يكون فى زمن عيسى عليه‌السلام ، والصحيح بأن ذلك بعد موته.

ولما انتهى ابن الزبير رضى الله عنه من هدم البيت حفر عن الأساس من نحو الحجر ـ بكسر الحاء ـ ليقف على قواعد إبراهيم فلم يصب شيئا فشق عليه ذلك فبالغ فى الحفر ونزل بنفسه فكشفوا له عن قواعد إبراهيم فإذا هى صخر أمثال الخلف من الإبل ـ بالخاء المعجمة واللام.

٨٤

وعن عطاء أنه قال : كنت فى الأمناء الذين جمعوا على حفره فحفروا قامة ونصفا فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عروق المروة فحركوها بالعتل ، فتحركت قواعد البيت وارتجت مكة بأسرها. ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض فحمد الله ابن الزبير وكبر (١).

ثم أحضر الناس وأمرهم بالإشراف فنزلوا وشاهدوا ذلك. فشرع حينئذ فى أمر البناء وأراد أن يبنيها بالورس ، فقيل له : إن الورس يذهب. ولكن ابنها بالقصّة (٢) ، وأخبر أن قصة صنعاء (٣) أجود فأرسل بأربعمائة دينار يشترى بها ذلك (٤).

وفى «الزهر الباسم» أنه بناها بالرصاص المذاب بالورس.

ثم إنه سأل رجالا من أهل العلم بمكة من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروه بمقلعها ، فنقل ما احتاج إليه وعزل من حجارة البيت ما يصلح أن يعاد فيه ، ثم بنى على تلك القواعد بعد بأن جعل أعمدة من الخشب وستر عليها الستور ليطوف الناس من ورائها ويصلون إليها حتى ارتفع البناء (٥).

وأخرج الأزرقى أن البناء لما صار ثمانية عشر ذراعا فى السماء وكان هذا طولها يوم هدمها ، قصرت حينئذ لأجل الزيادة التى زادها من الحجر ، فلم يعجب ابن الزبير ذلك إذ صارت عريضة لا طول لها ، فقال : قد كانت قبل قريش تسعة أذرع ، وزادت قريش تسعة أذرع ، وأنا أزيد تسعة أخرى. فبناها سبعة وعشرين ذراعا وعرض الجدار ذراعان. وجعل فيها ثلاث دعائم فى صف واحد. وكانت قريش جعلت فيها ست دعائم فى صفين ، وأرسل إلى صنعاء فأتى برخام منها يقال له البلق ، فجعله فى الروازن الذى فى سقفها للضوء (٦). انتهى.

أقول : هذا يخالف ما تقدم عن الأزرقى من أن طول البيت كان سبعة وعشرين ذراعا فاقتصرت قريش إلخ كما سبق الكلام فيه. انتهى.

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٣٦.

(٢) القصّة ـ بالفتح ـ الجصّ ، لغة حجازية.

(٣) تحرف فى المطبوع إلى «صفا» وصوابه لدى الأزرقى.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٠٥ ، إخبار الكرام ص ١٣٦.

(٥) بإخبار الكرام ص ١٣٧.

(٦) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٠٩.

٨٥

وجعل ابن الزبير للبيت بابين متقابلين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه ، وفى «شفاء الغرام» أنهما لاصقان بالأرض.

قال الحافظ ابن حجر : جميع الروايات التى جمعتها فى هذه القصة متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض. ومقتضاه أن يكون الباب الذى زاده على سمته.

وقد ذكر الأزرقى أن جملة ما غيره الحجاج : الجدار الذى من جهة الحجر ، والباب المسدود الذى فى الجانب الغربى عن يمين الركن اليمانى وما تحت عتبة الباب الأصلى وهو أربعة أذرع وشبر (١).

وهذا موافق لما فى الرواية المذكورة لكن المشاهد الآن فى ظهر الكعبة باب مسدود يقابل الباب الأصلى ، وهو فى الارتفاع مثله. ومقتضاه أن يكون الباب الذى فى عهد ابن الزبير لم يكن لاصقا بالأرض فيحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الروايات ، لكن الحجاج لما غيره رفعه ورفع الباب الذى يقابله أيضا ثم بدا له فسد الباب المجدد. لكن لم أر النقل بذلك صريحا ، ثم قال : وذكر الفاكهى أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة فى سنة ثلاثة وستين ومائتين فإذا هو مقابل باب الكعبة ، وهو بقدره فى الطول والعرض ، وفى أعلاه كلاليب ثلاثة كما فى الباب الموجود سواء ، والله أعلم. انتهى.

قال الجد رحمه‌الله : قوله ويحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الرواة فيه بعد إذ مشاهدة البناء من أسفل الباب وارتباط بعضه ببعض يقضى بخلاف ذلك ، والله أعلم. انتهى.

أقول : وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعا واحدا فجعله مصراعين ، ولما انتهى إلى موضع الحجر الأسود تحرى غفلة الناس نصف النهار فى يوم صائف ، وجاء بالحجر هو وولده وجبير بن شيبة ووضعوه بأيديهم. كذا فى «الزهر الباسم» وقيل : بل الحجبة تواعدوا لوضع الركن ، فلما دخل ابن الزبير فى صلاة الظهر خرجوا به فوضعوه فأدركهم حمزة بن عبد الله بن الزبير فأخذ بطرف الثوب فرفعه معهم. وقيل : بل وضعه ابن الزبير بنفسه وشده بالفضة. وقيل : وضعه عباد بن عبد الله بن الزبير وجبير بن شيبة ،

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢١٠.

٨٦

أمرهما عبد الله بن الزبير أن يجعلا الركن فى ثوب ويخرجا به ، وهو يصلى بالناس الظهر على غفلة من الناس لئلا يعلموا بذلك فيتنافسوا فى وضعه. أخرجه الأزرقى (١).

وقيل : وضعه حمزة ابنه وحده بأمر أبيه. نقله السهيلى بالصواب.

وكان الحجر قد تصدع من الحريق وانفرق ثلاث فرق ، وانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد الحريق بدهر طويل ، فشده ابن الزبير بالفضة إلا تلك الشظية ، وموضعها بين فى أعلى الركن. ثم تزلزلت تلك الفضة بعد ذلك وتقلقلت حتى خيف على الحجر. فلما اعتمر هارون الرشيد فى سنة تسع وثمانين ومائة أمر بنقب الأحجار التى فوق الحجر والتى تحته فنقبت بالماس من فوقها ومن تحتها ثم أفرغ فيها الفضة.

ولما فرغ ابن الزبير رضى الله عنه من بناء الكعبة وذلك فى سابع وعشرين من رجب من سنة خمس وستين خلق جوفها بالعنبر والمسك ولطخ جدرانها من خارج بذلك من أعلاها إلى أسفلها وسترها بالديباج ، وقيل : بالقباطى ، وما فضل من الحجارة فرشها حول البيت ، وقال : من كانت لى عليه طاعة فليعتمر من التنعيم شكرا لله عزوجل ، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل ، ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة ، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله. ثم خرج ماشيا حافيا وخرج معه رجال من قريش مشاة حفاة : عبد الله بن صفوان وعبيد بن عمير فأحرم من أكمة أمام مسجد عائشة رضى الله عنها بمقدار غلوة تقارب المسجد المنسوب لعلى ، وجعل طريقه على ثنية الحجون ، ودخل من أعلى مكة وطاف بالبيت ، واستلم الأركان الاربعة ، وقال : إنما كان ترك استلام الركنين يعنى الشامى والغربى لأن البيت لم يكن تامّا يعنى على قواعد إبراهيم. وصارت هذه العمرة سنة عند أهل مكة فى هذا اليوم يعتمرونها فى كل سنة إلى يومنا هذا.

وأهدى ابن الزبير فى تلك العمرة مائة بدنة نحرها من جهة التنعيم ، وبعض طرق الحل ولم يبق من أشراف مكة وذوى الاستطاعة بها إلا من أهدى ، وأقاموا أياما يتطاعمون ويتهادون شكرا لله تعالى على الإعانة والتيسير على بناء بيته الحرام بالصفة التى كان عليها مدة الخليل عليه‌السلام ، والله أعلم.

(وأما سبب بناء الحجاج وتغييره) بعض ما صنعه ابن الزبير فهو أن ابن الزبير رضى الله عنه لما

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢١٨ ، ٢١٩.

٨٧

قتل ، كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد زاد فى الكعبة ما ليس منه وأحدث فيها بابا آخر ، واستأذنه فى رد ذلك على ما كان عليه من بناء قريش. فكتب إليه عبد الملك : لسنا من تلطيخ ابن الزبير فى شىء ، أما ما زاد فى طوله فأخره. وأما ما زاد فيه من الحجر ـ بكسر الحاء ـ فرده إلى بنائه وسد بابه الذى فتحه ـ يعنى الغربى ـ.

فبادر الحجاج عند ذلك ونقض الشق الذى يلى الحجر ـ بالكسر أيضا ـ وبناه ورفع بابها وسد الباب الغربى (١).

وقد رورى غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج فى ذلك ، ولعن الحجاج لما أخبره الحارث أن عبد الله بن أبى ربيعة سمع الحديث من عائشة رضى الله عنها الذى اعتمده ابن الزبير فيما فعله فى الكعبة. وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لولا قومك (٢) ... إلخ.

وكل شىء فيها الآن بناء ابن الزبير ما عدا الجدار الذى فى الحجر وسد الباب الغربى وتغيير ما تحت عتبة الباب الشرقى والدرجة التى فى باطنها.

وروى أن هارون الرشيد أو أباه المهدى أو جده المنصور سأل مالك بن أنس رضى الله عنه فى هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للحديث المذكور ، فقال مالك : نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه ، فتذهب هيبته من صدور الناس (٣).

قال الفاسى : وكأن مالكا لحظ فى ذلك كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح.

وهى قاعدة مشهورة معتمدة انتهى. والله أعلم (٤).

فصل فى ذكر كنز الكعبة والحكم فيه

روى البخارى عن أبى وائل ، قال : جلست مع شيبة ـ يعنى ابن عثمان ـ على الكرسى فى الكعبة ، فقال : لقد جلس هذا المجلس عمر. ثم قال : لقد هممت أن لا أدع فيها

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢١٠ ، إخبار الكرام ص ١٤٥.

(٢) إخبار الكرام ص ١٤٦.

(٣) إخبار الكرام ص ١٤٧.

(٤) إخبار الكرام ص ١٤٧.

٨٨

صفراء ولا بيضاء إلا قسمته. قلت : إن صاحبيك لم يفعلا (ه ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر رضى الله عنه) قال : ـ يعنى عمر ـ هما المرآن أقتدى بهما (١).

أقول : جلوس شيبة على الكرسى فى الكعبة ، قال المحب الطبرى : لما أخبر شيبة أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر لم يتعرضا للمال رأى عمر أن ذلك هو الصواب.

وكأنه رأى حينئذ أن ما جعل فى الكعبة يجرى مجرى الوقف عليها فلا يجوز تغييره ، أو رأى ترك ذلك تورعا حين أخبر أنه تركه صاحباه مع رؤيته جواز إنفاقه فى سبيل الله ، لأن صاحبيه إنما تركاه للعذر الذى تضمنه حديث عائشة رضى الله عنها (٢). انتهى.

وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر رحمه‌الله : يحتمل أن يكون تركه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواهد بناء إبراهيم ، ويؤيده ما وقع عند مسلم فى بعض طرق الحديث : ولأنفقت كنز الكعبة فى سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض وهذا التعليل هو المعتمد عليه ، فإنفاقه جائز كما جاز لابن الزبير بناؤها على قواعد إبراهيم لزوال سبب الامتناع. انتهى.

فائدة : أخرج الأزرقى فى «تاريخه» أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد فى الجب الذى فى الكعبة سبعين ألف أوقية من ذهب مما كان يهدى للبيت ، وأن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال : يا رسول الله ، لو استعنت بهذا المال على حربك. فلم يحركه. ثم ذكر لأبى بكر فلم يحركه (٣).

وأخرج أيضا أن الحسين بن الحسين العلوى عمد إلى خزانة الكعبة فى سنة مائتين من الفتنة حين أخذ مكة فأخذ مما فيها مالا عظيما ، وقال : ما تصنع الكعبة بهذا المال؟ نحن أحق به نستعين به على حربنا (٤).

ويروى أن مال الكعبة كان يدعى الأبرق. ولم يخالط مالا قط إلا محق (٥). وأدنى ما يصيب آخذه أن يشدد عليه عند الموت.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٤٥ وما بين حاصرتين منه ، القرى ص ٥٢١ ، منائح الكرم ج ١ ص ٣٨٠.

(٢) القرى لقاصد أم القرى ص ٥٢١.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٤٦.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٤٧.

(٥) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٤٧.

٨٩

فروع : الأول : تختص الكعبة الشريفة بما يهدى إليها وما ينذر لها من الأموال وامتناع صرف شىء منها إلى الفقراء والمصالح ، إلا أن يعرض لها نفسها عمارة فيصرف فيه. وإلا فلا يغير شىء عن وجهه. نبه عليه الزركشى فى الشافعية.

الثانى : إذا نذر شمعا يشعله فيها أو زيتا ونحوه وضعه فى مصابيحها. وإن كان لا يستعمل فيها بيع وصرف الثمن فى مصالحها. صرح به الماوردى.

الثالث : نقل الجد فى «منسكه» مسألة تعم بها البلوى ، فقال : شخص نذر أن يوقد شمعا على باب الكعبة فأرسل به مع غيره ليوقده فجاء المرسل به وأوقده على الباب قليلا ، فجاء الحجبة فأخذوه ومنعوا استمرار وقوده ، وقالوا : هذه عادتنا مع كل أحد. وربما سرقه نوابهم على غفلة بعد إيقاده قليلا فهل تبرأ ذمة الناذر والمرسل معه ذمة الناذر دون المرسل معه أم كيف الحال؟.

الجواب : الناذر خلص عن عهده المنذور لبلوغه محله ، وكون الحجبة يأخذونه أمر آخر لا يتعلق ببقاء النذر فى ذمة الناذر ولا المرسل معه ، وإن كان على الحجبة إبقاؤه موقودا إلى نفاده. ولا خفاء أن الناذر نفسه لو حضر بالشمع فكان ما تقدم كان الحكم كذلك. ومحل صحة هذا النذر من أصله أن ينتفع بهذا الموقود ولو على ندور مصل هناك أو غيره ، وإلا فإن كان المقصد بالنذر وهو الغالب تعظيم البقعة ففيه وقفة ، ومقتضى كلام النووى عدم الصحة. وصرح به الأذرعى وتبعه الزركشى انتهى.

أقول : مقتضى مذهبنا أن المرسل بالشمع لا يخلص عن العهدة بمجرد إيصال الشمع إلى المحل بل ولا بوقوده قليلا ما لم يوقد ثلثاه فأكثر. وأما الحجبة فلهم أخذه بغير إذن المرسل ، إذ جرى العرف بذلك بعد أن وقد معظمه. نص عليه فى «القنية» من كتب المذهب انتهى.

الرابع : تصح صلاة الفرض والنفل عندنا فى الكعبة من غير كراهة بجماعة وغيرها ، وتجوز فوق سطحها من غير ساتر مع الكراهة. ومذهب الإمام الشافعى رحمه‌الله كمذهبنا فى جواز الفرض والنفل فى باطن الكعبة بل هو الأفضل عنده ، لكن يشترط فى الفريضة أن لا يرجو المصلى جماعة خارج الكعب.

٩٠

قال الشافعى رحمه‌الله : ما تفوتنى فريضة فى جماعة فأصليها فى موضع أحب إلى من بطن البيت ، لأن البقاع إذا فضلت بقربها منه فبطنها أفضل منها. وأما صحة الصلاة على سطحها فيشترط أن يكون أمام المصلى شاخص قدر ثلثى ذراع تقريبا من جدار الكعبة وهو الصحيح من مذهبه ، ومذهب الإمام مالك رضى الله عنه عدم جواز الفريضة فى جوف البيت وكذلك السنن المؤكدة كالعيدين والوتر وركعتى الفجر وما أشبهها على مشهور مذهبه. وأما النفل فيجوز. وأما الصلاة على سطحها فالمشهور عنده المنع ومذهب الإمام أحمد رضى الله عنه أن صلاة الفريضة فى الكعبة لا تصح ، وفى النافلة خلاف بين أصحابه. والأصح الصحة ، وكذا الحكم فى السطح عندهم فى الفريضة والنافلة.

فصل فى الكلام على دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الكعبة الشريفة بعد الهجرة وصلاته فيها

وبيان مصلاه منها وعدد (١) دخوله

روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم مكة يوم الفتح نزل بفناء الكعبة وبعث إلى عثمان بن طلحة فجاء بالمفتاح وفتح له الباب ودخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقها عليهم ومكث فيها ما شاء ثم خرج. قال ابن عمر رضى الله عنهما : فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره وثلاثة أعمدة وراءه. وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى ركعتين (٢).

وفى البخارى عن ابن عمر أيضا ، أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل ويجعل الباب قبل ظهره [فمشى] حتى يكون بينه وبين الجدار الذى قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع ، فيصلّى [وهو] يتوخّى المكان الذى أخبره بلال أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فيه (٣).

وقد أوضح ابن عمر رضى الله عنه موضع مصلاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحديث إيضاحا شافيا.

__________________

(١) تحرف فى المطبوع إلى : «عدم».

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٦٦.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٦٨ ، وما بين حاصرتين منه.

٩١

وأخرج الأزرقى أن معاوية لما دخل الكعبة استدعى ابن عمر وهو فيها فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، أين صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها؟ قال : بين العمودين المقدّمين ، اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة (١).

فوائد : الأولى : قال الحافظ أبو الفضل العراقى : وينبغى للمصلى أن لا يجعل بينه وبين الجدار أقل من ثلاثة أذرع ، فإن كان الواقع أنه ثلاثة فقد صادف مصلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان ذراعين فقد وقع وجه المصلى وذراعاه فى مكان قدمى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذا أولى من التقدم عنه (٢). والله أعلم انتهى.

الثانية : إدخال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء الثلاثة معه لمعان تخص كل واحد منهم.

(أما دخول عثمان بن طلحة) فلئلا يتوهم الناس أنه عزله أو لأنه كان يقوم بفتح الباب وإغلاقه.

(وأما بلال) فلكونه مؤذنه وخادم أمر صلاته.

(وأما أسامة) فلأنه كان يتولى خدمة ما يحتاج إليه.

الثالثة : أن الحكمة فى غلق عثمان الباب عليهم لأمرين : لئلا يزدحم الناس عليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولئلا يظنوا أن الصلاة فيه سنة. قاله الكرمانى.

وهذا الدخول الذى وقع فى يوم الفتح هو أول دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة. ولا خلاف فيه بين العلماء كما ثبت ذلك عن ابن عمر فى الصحيحين وغيرهما.

وقيل : إنه دخل البيت بعد ذلك ثلاث مرات أخر : الأولى : فى ثانى الفتح لحديث أخرجه الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه فى مسنده عن أسامة رضى الله عنه وفيه أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى ركعتين ولم يصل يوم الفتح.

الثانية : فى عمرة القضية لما رواه المحب الطبرى فى «القرى» (٣) عن عروة بن الزبير.

الثالثة : فى حجة الوداع لما أخرجه أبو داود فى سننه عن ابن أبى مليكة عن عائشة رضى الله عنها وقد ضعفها العلماء. وبين الفاسى رحمه‌الله ما فيها من الوهن والضعف.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٧١.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٢٧.

(٣) تحرف فى المطبوع إلى : «الغرر».

٩٢

ونقل الأزرقى أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج ولم يدخلها(١). انتهى والله أعلم.

وهذا يدل على عدم دخوله فى المرات الثلاث.

(استطراد مفيد) : أجمع العلماء وأصحاب السير والمحدثون أن حجة الوداع كانت وقفتها الجمعة بلا ريب ونقل النووى فى «الروضة» أن وفاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت ضحوة يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من ربيع الأول. كذا نقله ابن سيد الناس (٢) وغيره من أصحاب السير ، وهو مذهب الجمهور الراجح. واعترضه بعض العلماء بأنه لا يستقيم أن تكون وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الأول حيث كانت الوقفة فى عام حجة الوداع سواء تمت الشهور الثلاثة التى بقيت من عمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم نقصت أم تم بعضها ، لأنها إن تمت كان الثانى عشر من ربيع ، الأحد. لأنه يكون أول ذى الحجة الخميس وآخره الجمعة وأول المحرم السبت وآخره الأحد وأول صفر الاثنين وآخره الثلاثاء وأول ربيع الأربعاء وحينئذ يكون ثانى عشره الأحد ، وإن نقص شهر واحد كان أول ربيع الثلاثاء فيكون ثانى عشره السبت وإن نقص شهران كان أول ربيع الاثنين وثانى عشره الجمعة وإن نقصت الثلاثة كان أول ربيع الأحد وثانى عشره الجمعة.

قال العلامة ابن العماد : وهذا الاعتراض ساقط من أصله ، والصواب ما قاله الجمهور وصاحب «الروضة» وذلك أن التاريخ إنما يقع برؤية الهلال ، والأهلة تختلف بحسب اختلاف المطالع ، وكل قطر يؤرخون ويصومون برؤيتهم ولا يعتبرون رؤية من بعد عنهم كما قاله الأصحاب واتفقوا عليه فى كتاب الصيام.

فحينئذ فأهل مكة رأوا هلال الحجة ليلة الخميس ووقفوا الجمعة. وأهل المدينة يجوز أنهم رأوه ليلة الجمعة لأن مطلعهم مختلف مع أهل مكة ، فإذا تمت الشهور كان أول ذى الحجة الجمعة وآخره السبت ، وكان أول ربيع الأول الخميس فيكون ثانى عشره الاثنين وهذا الجواب صحيح ، ويتصور أيضا بغير هذا.

والعجب ممن يقدم على تغليط جمهور العلماء ويغفل عن قاعدة التاريخ وأقوال العلماء

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٦٩ ، والقرى ص ٤٩٥.

(٢) سيرة ابن سيد الناس ج ٢ ص ٣٣٨.

٩٣

فى اختلاف المطالع ورؤية الأهلة. انتهى ما قاله ابن العماد ملخصا من «سيرته» وهو قول عظيم وبحث مستقيم فلهذا أثبته والله أعلم.

(وقد استحب الأئمة الأربعة رضى الله عنهم) دخول الكعبة واستحسن مالك كثرة دخولها. ونقل عن بعض العلماء عدم استحباب ذلك مستدلا بما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عندى وهو قرير العين طيب النفس ثم رجع إلىّ وهو حزين ، فسألته فقال : إنى دخلت الكعبة ووددت أنى لم أكن فعلت ، إنى أخاف أن أكون أتعبت أمتى من بعدى. أخرجه أحمد والترمذى (١).

ولا دلالة فيه على ذلك ، بل دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليل الاستحباب وتمنيه عدم الدخول قد علله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشفقة على أمته ، ولا يرفع ذلك حكم الاستحباب. قاله المحب الطبرى (٢).

(اعلم) أن لدخول الكعبة آدابا كثيرة ، منها : الاغتسال كما روى عن بعض العلماء.

ومنها : نزع الخف والنعل لما فى «سنن» سعيد بن منصور عن عطاء ومجاهد ، وكرهه مالك رضى الله عنه وهو مذهب أحمد رضى الله عنه.

أقول : مقتضى مذهبنا عدم كراهة ذلك قياسا على الصلاة فى الخف والنعل ، قال فى النصاب من كتب المذهب المختار أن الصلاة فى الخفاف والنعل أقرب إلى حسن الأدب انتهى. والله الموفق.

فائدة : أخرج الأزرقى أن قريشا لما فرغت من بناء الكعبة كان أول من خلع الخف والنعل ولم يدخل بهما الكعبة إعظاما لها الوليد بن المغيرة ، فجرى ذلك سنة (٣). والوليد هذا هو جدنا لأن نسب بنى ظهيرة متصل به وكان إسلامه .... (٤).

ومنها : أن لا يرفع بصره إلى السقف لحديث عائشة رضى الله عنها قالت : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة ما خلّف بصره موضع سجوده حتى خرج منها. أخرجه البيهقى فى «سننه» والحاكم فى «المستدرك» قال المحب الطبرى : وإنما كره ذلك لأنه يولد الغفلة واللهو عن القصد (٥).

__________________

(١) أورده صاحب القرى ص ٤٩٤.

(٢) القرى ص ٤٩٤.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٧٤.

(٤) بياض بالأصلين.

(٥) القرى ص ٥٠٢.

٩٤

ومنها : أن لا يزاحم زحمة شديدة يتأذى بها أو يؤذى. نص عليه النووى وغيره.

ومنها : أن لا يكلم أحدا إلا لضرورة أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر (١).

ومنها : أن يلزم قلبه (٢) الخشوع وعينيه الدموع إن استطاع ذلك (٣).

ومنها : أن لا يسأل مخلوفا لما روى عن سفيان بن عيينة أنه قال : لما دخل هشام بن عبد الملك الكعبة وجد سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، فقال : سلنى حاجتك. فقال : إنى أستحى من الله أن أسأل فى بيته غيره (٤).

وذكر الفاكهى أن التارك لسؤال هشام إنما هو منصور الحجبى. والله أعلم.

فصل فى ثواب دخول الكعبة الشريفة

وفيما يطلب من الأمور التى فعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أما ثواب دخولها فروى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دخل البيت فصلى فيه دخل فى حسنة وخرج من سيئة مغفورا له» ومثله عن ابن عمر رضى الله عنهما.

وفى «رسالة الحسن البصرى» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دخل الكعبة دخل فى رحمة الله عزوجل وفى حمى الله عزوجل وفى أمن الله عزوجل ، ومن خرج خرج مغفورا (٥) له».

وفى رواية عن مجاهد أنه زاد : يخرج معصوما فيما بقى ، نقله ابن جماعة. ثم قال : يحتمل أنه يريد بذلك العصمة من الكفر فتكون فيه البشارة لمن دخله بالموت على الإسلام.

وعن عطاء رضى الله عنه قال : لأن أصلى ركعتين فى الكعبة أحب إلى من أن أصلى أربعا فى المسجد الحرام. وعن الحسن أنه قال : الصلاة فى الكعبة تعدل مائة ألف صلاة ، أخرجهما الفاكهى (٦).

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٦٦.

(٢) تحرف فى المطبوع إلى : «قبله» وصوابه لدى المحب الطبرى فى القرى ص ٤٠٢ ، وشفاء الغرام ج ١ ص ٢٦٦.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٦٦.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٦٦.

(٥) ذكره السيوطى فى الجامع الكبير ج ١ ص ٧٧٦ عن ابن عباس ، وعزاه للطبرانى والبيهقى فى السنن.

(٦) نقله الفاسى فى شفاء الغرام ج ١ ص ٢٥٦.

٩٥

وأخرج الأزرقى عن موسى بن عقبة قال : طفت مع سالم بن عبد الله بن عمر خمسة أسابيع كما طفنا سبعا دخل الكعبة فصلى فيها ركعتين.

وما أحسن ما أنشده الحافظ أبو طاهر السلفى لنفسه بعد أن دخل الكعبة :

أبعد دخول البيت والله ضامن

يبقى قبيح والخطايا الكوامن

فحاشا وكلا بل تسامح كلها

ويرجع كل وهو جذلان آمن (١)

وأما ما يطلب فى الكعبة من الأمور التى فعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالتكبير والتسبيح والتهليل والتحميد والثناء على الله تعالى والدعاء والاستغفار للأحاديث الدالة على ذلك فى «الصحيحين» وغيرهما. وفيهما أيضا عن أسامة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خرج من البيت ركع قبل البيت ركعتين ، وقال : هذه بالقبلة. وقبل : بضم القاف والباء الموحدة ، ويجوز إسكان الموحدة وهو ما استقبلك (٢) منها.

وفى معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه القبلة ثلاثة احتمالات. الأول : أن أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم وصلوا إليه أبدا الثانى : أن معنى ذلك أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علمهم سنة موقف الإمام وأنه يقف فى وجه الكعبة دون أركانها وجوانبها وإن كانت الصلاة فى جميع جهاتها مجزئة. قالهما أبو سليمان الخطابى رحمه‌الله الثالث : قاله النووىرحمه‌الله فى «شرح مسلم» بعد ذكره للاحتمالين الأولين ، وهو أن معناه هذه بالكعبة هى المسجد الحرام الذى أمرتم باستقباله لا كلّ الحرم ولا مكة ولا كل المسجد الذى حول الكعبة بل هى الكعبة نفسها فقط (٣). والله أعلم.

أقول : قد ظهر لى احتمال آخر لم أر أحدا ذكره وهو أنه يحتمل أن يكون المراد بقوله هذه القبلة التعظيم والتشريف والتأكيد لأمرها والإشادة بذكرها على حد قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر رضى الله عنه عند الحجر الأسود : هاهنا تسكب العبرات. والله الموفق.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٥٦.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٥٨.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٥٨.

٩٦

وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل البيت وقف عند كل ركن واستقبله بالتكبير والثناء والاستغفار.

وأخرج الفاكهى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل البيت دعا بماء فصبه على جسده.

قال الفاسى رحمه‌الله : وهذا غريب جدا والله أعلم بصحته. ولا أعلم أحدا من أهل العلم قال باستحبابه (١). انتهى.

ومن الأمور التى صنعها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الكعبة على ما قيل أنه ألصق بطنه وظهره بها. واستحب ذلك الحافظ العراقى ونقل الطبرى الكراهة فى ذلك (٢). والله تعالى أعلم.

فائدة : ذكر ابن الصلاح رحمه‌الله فى منسكه أن مما أحدثه بعض الفجرة فى جوف الكعبة بعد الستمائة بدعتين : إحداهما : العروة الوثقى ، وذلك أنهم عمدوا إلى موضع عال داخل الكعبة مقابل الداخل من بابها فسموه بالعروة الوثقى وأوقعوا فى العقول الضعيفة أن من ناله بيده فقد استمسك بالعروة الوثقى فألجأهم ذلك إلى أن يقاسوا فى الوصول إلى ذلك المحل عناء وشدة بحيث يركب بعضهم بعضا ، وربما صعدت الأنثى فوق الذكر ولامست الرجال ولامسوها فيلحقهم بذلك أنواع الضرر دنيا ودينا.

الثانية : أن فى وسط البيت مسمارا سموه سرة الدنيا وحملوا العامة على أن يكشف أحدهم سرته وينبطح على ذلك المسمار فلا قوة إلا بالله. انتهى.

قال السيد الفاسى رحمه‌الله : وهذان الأمران لا أثر لهما الآن فى الكعبة. وكان زوال البدعة المسماة بالعروة الوثقى فى سنة إحدى وسبعمائة بأمر بعض العلماء الواردين فى السنة المذكورة انتهى. ولم يذكروا زوال البدعة الأخرى متى كان.

أقول : قول ابن الصلاح رحمه‌الله فيما تقدم : وربما صعدت الأنثى فوق الذكر فيه دلالة على دخول النساء والرجال إذ ذاك جميعا ، وإنما اختص النساء بانفرادهن فى الدخول بعد ذلك. انتهى.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٦٠.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٦٠.

٩٧
٩٨

الباب الرابع

فى الكلام على كسوة الكعبة الشريفة

زادها الله شرفا وتطيبها وتحليتها ومعاليقها

روى الأزرقى رحمه‌الله عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن سب أسعد الحميرى وهو تبع ، لأنه أول من كسا الكعبة فى الجاهلية كما تقدم ، فكساها المسوح ثم الأنطاع ثم الحصر ثم الوصائل وجعل لها بابا يغلق وفى ذلك يقول :

وكسونا البيت الذى حرم الل

ه ملاء مقصبا وبرودا

وأقمنا به من الشهر عشرا

وجعلنا لبابه إقليدا

وخرجنا منه نؤم سهيلا

قد رفعنا لواءنا معقودا (١)

ويروى أنه لما كساها المسوح والأنطاع انتفضت ، فأزال ذلك عنها وكساها الخصف فانتفضت أيضا ، فلما كساها الملاء والوصائل قبلتها.

أقول : مقتضى ما رواه الأزرقى من النهى عن سب تبع كونه كسا البيت. وقد علمت فيما سبق من خبره أنه آمن بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث وأنه كتب بذلك كتابا وأودعه للعالم الذى أبرأه من علته وأوصاه أن يوصله إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أدركه هو أو واحد من ولده وكان الأمر كذلك. وإن الكتاب وصل إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرئ عليه فقال : مرحبا بالأخ الصالح فينبغى أن لا يسب تبع مطلقا لأنه من جملة المؤمنين والمؤمن لا يباح سبه.

وأيضا قد تقدم أن تبعا لما كسا البيت وخرج من مكة قصد المدينة المشرفة. وقوله هنا فى ثالث الأبيات المنسوبة إليه : وخرجنا منه نؤم سهيلا ، يدل على خلاف ذلك والله أعلم بالحقائق. انتهى.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٤٩.

٩٩

وقيل إن إسماعيل عليه‌السلام أول من كسا الكعبة ، وكانت فى الجاهلية تكسى أكسية شتى ما بين وصائل وأنطاع وكرار وخز ونمارق عراقية ، وإذا خلق منها شىء أخلف مكانه ثوب آخر ولا ينزع مما عليها شىء من ذلك.

وكساها فى الإسلام (١) سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثياب اليمنية ثم كساها أبو بكر وعمر وعثمان ، ثم معاوية ، وابن الزبير ومن بعدهما.

ويقال : إن أول من كسا البيت الديباج ، الحجاج. وقيل : يزيد بن معاوية ، وقيل : ابن الزبير ، وقيل : عبد الملك بن مروان.

وكانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحجاج ، حتى كانت دولة بنى هاشم فكانوا يعلقون عليها القميص من الديباج يوم التروية لكى يرى الناس ذلك عليها بهاء وجمالا ، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا الإزار (٢).

وكان عمر رضى الله عنه يكسوها من بيت المال ، وكساها عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما ما كان يجلل به بدنه من القباطى والحبرات والأنماط.

وكان المأمون يكسوها ثلاث مرات فيكسوها الديباج الأحمر يوم التروية والقباطى يوم هلال رجب ، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان لأجل العيد (٣).

والقباطى ـ بفتح القاف جمع قبطية بضم القاف ـ وهو ثوب رقيق أبيض من ثياب مصر كأنه منسوب إلى القبط والضم فيه من تغيير النسب والضم خص بالثياب ، وأما فى الناس فقبطى ـ بكسر القاف ـ لا غير. والوصائل : ثياب حمر مخططة يمانية. والحبرات جمع حبرة وهو ما كان من البرود مخططا أيضا وهو من ثياب اليمن. ويقال له برد حبرة وبرد حبرة على الوصف وعلى الإضافة. والعصب برود يمانية يعصب غزلها ويشد ثم يصبغ وهو على الوصف والإضافة أيضا. والأنماط ضرب من البسط واحدها نمط.

وممن كسا البيت الصليحى صاحب اليمن ومكة ، وذلك فى زمن الحاكم العبيدى ، والمستنصر العبيدى. وكانت من الديباج الأبيض (٤).

__________________

(١) انظر فى ذلك : شفاء الغرام ج ١ ص ١٩٥.

(٢) إخبار الكرام ص ١٦٠.

(٣) إخبار الكرام ١٦٠.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ١٩٨.

١٠٠