الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

لا هم أدعوك دعاء جاهدا

اقتل بنى الضبعاء إلا واحدا

ثم اضرب الرجل فذره قاعدا

أعمى إذا ما قيد عنّى (١) القائدا

فمات إخوة لى تسعة فى تسعة أشهر فى كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت وليس يلائمنى قائد (٢).

(ومنها) ما روى عن حويطب بن عبد العزى أنه قال : كان فى الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد ، فجاء خائف فأدخل يده فى حلقة منها فاجتبذه (٣) رجل فشلت يده ، فلقد رأيته فى الإسلام وإنه لأشل (٤).

فائدة : روى ابن عباس رضى الله عنه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ذكر ما كان يعاقب به من حلف على ظلم ثم قال : إن الناس اليوم ليركبون ما هو أعظم من هذا ولا تعجل لهم العقوبة مثل ما كانت تعجل لأولئك فما ترون ذلك؟ فقالوا : أنت أعلم يا أمير المؤمنين. قال إن الله عزوجل جعل فى الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وعظمها وشرفها وعجل العقوبة لمن استحل شيئا منها لينتهوا عن الظلم مخافة تعجيل العقوبة ، فلما بعث الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم توعّدهم ، فلما انتهكوا ما حرم الله وعدهم بالساعة ، فقال : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) فأخّر العقاب إلى القيامة.

(ومنها) ما يروى أن عبد الله بن عمر بن العاص كان جالسا فى جماعة من قريش بالمسجد الحرام بعد ما ارتفع النهار وقلصت الأفياء وإذا هم ببريق آيم داخل من جهة باب بنى شيبة ، فاشرأبت أعينهم إليه وابتدروه بأبصارهم فجاء حتى استلم الركن وطاف بالبيت سبعا وهم يحصونه ثم ذهب إلى دبر المقام فركع ركعتين وهم ينظرون إليه ، فقال عبد الله ابن عمرو لبعض الجماعة : اذهب إلى هذا فحذره فإنى أخاف عليه أن يقتل أو يعبث به

__________________

(١) فى المطبوع : «يعيى» والمثبت رواية الأزرقى.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٢٦.

(٣) فى المطبوع : «فاجتذبه» والمثبت رواية الأزرقى.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٢٤.

٦١

فذهب إليه حتى وقف على رأسه وحذره فأصغى إليه برأسه حتى استنفد كلامه ثم ذهب فى السماء حتى غاب فما يرى. والآيم : هى الحية الذكر ، وبريقه : لمعانه (١).

(ومنها) ما روى أن طيرين أقبلا فى الجاهلية كأنهما نعامتان يسيران كل يوم ميلا أو بريدا حتى أتيا مكة فوقعا على الكعبة وكانت قريش تطعمهما وتسقيهما فإذا خف الطواف من الناس نزلا فدفا حول الكعبة حتى إذا اجتمع الناس طارا فوقعا على الكعبة فمكشا كذلك شهرا أو نحوه ثم ذهبا. ومعنى دفا : سارا. وسيأتى فى فضائل الكعبة يدفون إليك دفيف النسور. قال فى «الصحاح» : الدفيف : الدبيب وهو السير اللين.

ومنها : ما أخرجه الأزرقى فى «تاريخه» أن طائرا أقبل من ناحية أجياد الصغير لونه لون الحبرة بريشة حمراء وريشة سوداء دقيق الساقين طويلهما طويل العنق دقيق المنقار طويله كأنه من طير البحر ، وكان ذلك فى يوم السبت السابع والعشرين من ذى القعدة سنة ست وعشرين ومائتين عند طلوع الشمس والناس إذ ذاك فى الطواف كثير من الحاج وغيرهم فوقع فى المسجد الحرام قريبا من مصباح زمزم مقابل (٢) الركن الاسود ساعة طويلة ، ثم طار حتى صدم الكعبة فى نحو من وسطها ما بين الركن الأسود واليمانى وهو إلى الركن الاسود أقرب ثم وقع على منكب رجل محرم من الحجاج من أهل خراسان فى الطواف عند الحجر الأسود ، فطاف الرجل أسابيع وعيناه تدمعان على خديه ولحيته والطائر على منكبه الأيمن والناس يدنون منه وينظرون إليه ويتعجبون منه وهو [ساكن] غير مستوحش (٣) [منهم] ثم طار حتى وقع يمين المقام ساعة طويلة يمد عنقه ويقبضه إلى جناحه فأقبل فتى من الحجبة فأخذه ليريه رجلا منهم كان يركع خلف المقام فصاح أشد صياح لا يشبه صوته صوت الطير ، ففزع منه فأرسله فطار حتى وقع بين يدى دار الندوة ، ثم خرج من باب المسجد الذى بين دار الندوة ودار العجلة نحو قعيقعان (٤).

(ومنها) ما رواه أبو الطفيل قال : كانت امرأة من الجن تسكن ذا طوى فى الجاهلية ، وكان لها ابن ليس لها غيره ، وكانت تحبه حبّا شديدا وكان شريفا فى قومه فتزوج. فلما كان

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ١٧.

(٢) فى المطبوع : «فقابل» والمثبت رواية الأزرقى الذى ينقل عنه المؤلف.

(٣) فى المطبوع : «متوحش» والمثبت رواية الأزرقى الذى ينقل عنه المصنف.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ١٧ وما بين حاصرتين منه.

٦٢

يوم سابعه. قال لأمه : إنى أحب أن أطوف بالكعبة سبعا نهارا. فقالت : أرانى إنى أخاف سفهاء قريش فقال : أرجو السلامة. فأذنت له فولى فى صورة جان فلما أدبر جعلت تعوذه تقول :

* أعيذك بالكعبة المستوره*

* ودعوات ابن أبى محذوره*

* وما تلا محمد من سوره*

* إنى إلى حياته (١) فقيره*

* وإنى بعيشه مسروره (٢) *

ثم مضى فطاف سبعا وصلى خاف المقام ركعتين ، ثم أقبل راجعا حتى إذا كان ببعض دور بنى سهم عرض له شاب من بنى سهم أحمر أزرق أحول أعسر فقتله فثارت بمكة غبرة حتى لم تر الجبال. فقال أبو الطفيل : وبلغنا أن الغبرة إنما تثور كذلك عند موت عظيم من الجان. قال : فأصبح كثير من بنى سهم موتى على فرشهم من قبل الجان ، فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها فركبوا الجبال والشعاب بالثنية فما تركوا حية ولا عقربا ولا شيئا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه ، وأقاموا على ذلك ثلاثا ، فسمعوا فى الليلة الثالثة هاتفا على أبى قبيس يهتف بصوت جهورى يسمعه من بين الجبلين : يا معشر قريش الله الله ، فإن لكم أحلاما وعقولا ، اعذرونا من بنى سهم ، قد قتلوا منا أضعاف ما قتلنا منهم ، ادخلوا بيننا وبينهم بصلح ، نعطيهم ويعطونا العهد والميثاق أن لا يعود بعضنا لبعض بسوء أبدا. ففعلت قريش ذلك واستوثق البعض من البعض ، فسميت بنو سهم الغياطلة (٣) قتلة الجن لذلك (٤).

(ومنها) أن الله تبارك وتعالى وعد هذا البيت أن يحجه كل سنة ستمائة ألف ، فإن

__________________

(١) فى المطبوع : «خبوته» والمثبت رواية الأزرقى والأسدى.

(٢) من قوله : «أعيذك» إلى «مسروره» ورد نثرا فى المطبوع ، ومثله لدى الأزرقى ج ٢ ص ١٦ ، وورد شعرا فى المخطوط وكذا لدى الأسدى فى إخبار الكرام ص ١٠٧ ، وقد آثرت رواية المخطوط والأسدى والشعر هنا من الرجز.

(٣) فى المطبوع : «العباطلة» وهو تحريف صوابه لدي الأزرقى وسموا بالغياطلة لأن أمهم الغيطلة.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ١٥ ..

٦٣

نقصوا أكملهم بالملائكة. وأن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة من حجها تعلق بأستارها حتى تدخلهم الجنة ، وأن الملك إذا نزل إلى الأرض فى بعض أمور الله تعالى فأول ما يأمره الله بزيارة البيت فينقض من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر ، ثم يطوف بالبيت سبعا ويركع ركعتين ، ثم يمضى لما أمر بعد.

وعن عمر رضى الله عنه أنه قال : من أتى هذا البيت لا ينهزه غير صلاة فيه رجع كيوم ولدته أمه. ومعنى لا ينهزه لا يحمله على ذلك.

(ومنها) أن هذا البيت منذ خلقه الله تعالى ما خلا عن طائف يطوف به من أنس أو جن أو غير ذلك (١).

قال بعض السلف : خرجت يوما فى هاجرة ذات سموم ، وقلت : إن خلا البيت عن طائف ففى هذا الحين. فرأيت المطاف خاليا ، فدنوت فرأيت حية عظيمة رافعة رأسها وهى تطوف حوله (٢).

(ومنها) ما يروى أن الكعبة شكت إلى الله تعالى ما نصب حولها من الأصنام وما يستقسم به من الأزلام ، فأوحى الله إليها أنى منزل نورا وخالق بشرا يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضه ، ويدفون إليك دفيف النسور.

ويحكى عن بعض السلف أنه دخل الحجر فى الليل ، وصلى تحت الميزاب ، فسمع وهو ساجد كلاما بين أستار الكعبة والحجارة ، وهو : أشكو إلى الله ما يفعل هؤلاء الطائفون حولى من إساءتهم ، قال : فأولت أن البيت شكا (٣).

(ومنها) ما ذكر أن يوم قتل عبد الله بن الزبير بمكة اشتد الحرب واشتغل الناس فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها (٤).

(ومنها) أن من حجه ثلاث مرات حرم الله جسده على النار ولم تؤثر فيه (٥).

روى القاضى عياض فى «الشفاء» عن بعض شيوخ المغرب أن قوما أتوه فأعلموه أن

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٠٩.

(٢) إخبار الكرام ص ١١٠.

(٣) إخبار الكرام ص ١١٢.

(٤) إخبار الكرام ص ١١٠.

(٥) إخبار الكرام ص ١١٠.

٦٤

كتامة ـ وهى قبيلة من البربر ـ قتلوا رجلا وأضرموا عليه النار فلم تعمل فيه وبقى أبيض البدن ، فقال لهم : لعله حج ثلاث حجات. فقالوا : نعم. فقال : حدّثت أن من حج حجة أدى فرضه ، ومن حج ثانية داين ربه ، ومن حج ثلاث حجج حرم الله شعره وبشره على النار (١).

(ومنها) ما يروى عن الأوزاعى أنه قال : رأيت رجلا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول :

يا رب إنى فقير كما ترى

وصبيتى قد عروا كما ترى

وناقتى قد عجفت كما ترى

وبردتى قد بليت كما ترى

فما ترى فيما ترى

يا من يرى ولا يرى

فإذا بصوت من خلفه يا عاصم يا عاصم ، الحق عمك قد هلك بالطائف وخلّف ألف نعجة وثلاثمائة ناقة وأربعمائة دينار وأربعة أعبد وثلاثة أسياف يمانية ، فامض فخذها فليس له وارث غيرك. قال الأوزاعى : فقلت له : يا عاصم إنك دعوت قريبا ، فقال : يا هذا أما سمعت قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (سورة البقرة : ١٨٦).

(ومنها) ما روى عن على بن الموفق أنه قال : طفت بالبيت ليلة وصليت ركعتين بالحجر ، واستندت إلى جداره أبكى وأقول : كم أحضر هذا البيت الشريف ، ولا أزداد فى نفسى خيرا!! فبينما أنا بين النائم واليقظان إذ هتف بى هاتف ، وهو يقول : يا على ، سمعنا مقالتك أو تدعو أنت إلى بيتك من لا تحبه؟!.

(ومنها) ما ذكر عن أبى بن خلف وعبيد الله بن عثمان أنهما كانا فى الحجر فى شهر رجب فلم يشعرا إلا بحية قد أقبلت حتى مرت بهما ، فدخلت تحت أستار الكعبة ، وسمعا كلاما من حيث دخلت يقول : يا معشر قريش كفوا عما تأتون من الظلم قبل أن تنزل بكم النقم ، كفوا سفهاءكم فإنكم فى بلد عظيم حرمته (٣).

__________________

(١) الشفاء للقاضى عياض ج ٢ ص ٥٩.

(٢) إخبار الكرام ص ج ١١١.

(٣) إخبار الكرام ص ١١٢.

٦٥

(ومنها) أن امرأة عابدة جاءت حاجة ، فلما دخلت مكة جعلت تقول : أين بيت ربى؟ وتكرر ذلك ، فقيل لها : هذا بيت ربك ، فاشتدت نحوه تسعى حتى ألصقت جبينها بحائط البيت فما رفعت منه إلا ميتة.

(ومنها) أن الشبلى رضى الله عنه لما وصل إلى مكة ونظر إلى البيت عظم قدر ما ناله وأنشد طربا :

أبطحان مكة هذا الذى

أراه عيانا وهذا أنا

ثم لم يزل يكررها حتى غشى عليه (١).

(ومنها) أن أبا الفضل الجوهرى لما دخل الحرم ورأى الكعبة علاه حال فقال ـ وقد دخله الطرب ـ هذه ديار المحبوب فأين المحبوب؟ وهذه آثار أسرار القلوب فأين المشتاقون ، وهذه ساعة الاطلاع على الدموع ، فأين البكاءون؟ ثم شهق شهقة وأنشد :

هذه دارهم وأنت محب

ما بقاء الدموع فى الآماق

ثم بادر إلى البيت باكيا وهو ينادى : لبيك اللهم لبيك (٢).

وهذا بعض ما ذكر من فضائل هذا البيت ، وهذه الأوراق لا تسع أكثر من ذلك وفيما ذكر مقنع ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١١٣.

(٢) إخبار الكرام ص ١١٣.

٦٦

الباب الثالث

فيما يتعلق ببناء الكعبة الشريفة

وكم مرة بنيت وما ورد فى ذلك من الأقوال

والروايات والاختلاف وبيان أسباب البناء وهأنا

أذكره مبينا مفصلا مع التنبيه على أشهر الأقوال

(اعلم) أن الكعبة زادها الله تعالى شرفا بنيت مرات. قال فى «منهاج التائبين» : بنيت الكعبة خمس مرات : إحداها : بناء الملائكة ، وقيل آدم. الثانية : بناء الخليل عليه‌السلام ، الثالثة : بناء قريش فى الجاهلية. الرابعة : بناء عبد الله بن الزبير رضى الله عنه ، الخامسة : بناء الحجاج ، وقد قيل : إنها بنيت مرتين أخريين : الأولى : بناء العمالقة بعد إبراهيمعليه‌السلام ، والثانية : بناء جرهم بعد العمالقة ، ثم بنته قريش ، والله أعلم. انتهى.

وفى «شفاء الغرام» للقاضى تقى الدين الفاسى رحمه‌الله أنها بنيت عشر مرات : (الأولى) الملائكة عليهم‌السلام. ثم آدم صلوات الله عليه. ثم أولاده. ثم الخليل عليه الصلاة والسلام. ثم العمالقة. ثم جرهم. ثم قصى بن كلاب. ثم قريش. ثم عبد الله بن الزبير رضى الله عنه. ثم الحجاج بن يوسف الثقفى. قال القاضى تقى الدين المشار إليه : وإطلاق العبارة بأنه ـ أى الحجاج ـ بنى الكعبة تجوّز ، لأنه لم يبن إلا بعضها ، كما سيأتى بيانه ، ولو لا أن السهيلى والنووى ذكراه لما ذكرته. انتهى (١).

وفى «الروض الأنف» للسهيلى ، أن أول من بنى الكعبة شيث بن آدم عليهما‌السلام. وذكر فى موضع آخر أن الملائكة هى التى أسست الكعبة (٢).

وذكر القاضى تقى الدين أيضا : أنه وجد بخط عبد الله المرجانى أن عبد المطلب جد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى الكعبة بعد قصىّ وقبل بناء قريش ، ثم قال : ولا أعلم له فى ذلك سلفا ولا خلفا ، والله أعلم (٣).

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ١٤٧.

(٢) الروض الأنف ج ١ ص ٣٣٦ و ٣٤٠.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ١٤٧.

٦٧

واختلف هل بناء الملائكة قبل آدم أو بناء آدم قبل الملائكة. وذكر الأزرقى رحمه‌الله ما يشهد للقولين (١).

فى «منسك» الجد نوّر الله ضريحه : بنيت الكعبة الشريفة خمس مرات : الأولى : بناء الملائكة ، الثانية : بناء آدم عليه‌السلام ، الثالثة : بناء إبراهيم عليه‌السلام ، الرابعة : بناء قريش فى الجاهلية. الخامسة : بناء ابن الزبير ثم هدم الحجاج بعضه وبناه. قال الجد رحمه‌الله : وهذا هو المشهور المعروف.

وأخرج الفاكهى عن على كرم الله وجهه أن أول من بنى البيت الخليل عليه‌السلام وجزم به ابن كثير فى «تفسيره» وقال لم يجئ خبر عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبله.

وقال فى «تاريخه» عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) (سورة آل عمران : ٩٦) الآية. يذكر تعالى عن عبده وخليله أنه بنى البيت العتيق الذى هو أول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون الله فيه ، وبوأه مكانه ، أى أرشده إليه ودله عليه. وعن على وغيره أنه أرشده إليه بوحى من الله ولم يجئ خبر صحيح عن معصوم. وذكر ما تقدم ، ثم قال : ومن تمسك فى هذا بقوله تعالى (مَكانَ الْبَيْتِ) (سورة الحج : ٢٦) فليس بناهض ولا ظاهر ، لأن المراد مكانه الكائن فى علم الله المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمن إبراهيم. وقد ذكر أن آدم نصب عليه قبة ، وأن الملائكة قالوا له : قد طفنا قبلك بهذا البيت ، وأن السفينة طافت به أربعين يوما أو نحو ذلك. وكل هذه أخبار عن بنى إسرائيل وهى لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها (٢). انتهى.

أقول : فعلى هذا يكون بناء البيت ثلاث مرات ، الأولى : الخليل عليه‌السلام ، الثانية : بناء قريش ، الثالثة : بناء ابن الزبير والحجاج ، لأن بناء الخليل ثابت بنص الكتاب ، وبناء قريش ثابت فى «صحيح البخارى» وغيره ، وبناء ابن الزبير والحجاج ذكره عامة المفسرين وأهل التواريخ وغيرهم من العلماء.

ويحتمل أن يقال أيضا أن الكعبة بنيت أربع مرات : الأولى : بناء الملائكة وآدم معا فى آن واحد ، ويشهد له ما سيأتى قريبا عن ابن عباس عند ذكر السبب فى بناء آدم عليه‌السلام

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٣٢.

(٢) تاريخ ابن كثير ج ١ ص ١٨١ و ١٨٢.

٦٨

كما ستقف عليه ، وهو مجرد تأسيس ، الثانية : بناء الخليل. الثالثة : بناء قريش. الرابعة : بناء ابن الزبير والحجاج ، ويكون البناء الأول والرابع مشتركا. ثم القول بأن ذلك فى آنين فهو تأسيس أيضا كما ذكره الفاسى فى «شفاء الغرام» لا بناء مرتفع كغيره من الأبنية الآتى وصفها ، لأنه حينئذ يحتاج إلى معرفة السبب فى نقض بناء الملائكة على تقدير أوليته حتى بناه آدم ، وفى نقض بناء آدم أن لو كان أولا حتى بنته الملائكة ، كما ستعلمه عند ذكر أسباب الأبنية الآتية إن شاء الله تعالى.

ولم أر أحدا ذكر ذلك فيما وقفت عليه ولا تعرض لمقدار ارتفاع بناء الملائكة وآدم فى السماء كم هو؟ فيحتمل أنه كان مرتفعا وحفظ من الهدم والتغير إلى أن بنى عليه آدم أو الملائكة على الخلاف أيهما كان أولا ، أو أنه انهدم لتناسخ القرون فبنى ثانيا على ما وجد من الأساس ، أو لم يكن هناك ارتفاع أصلا بل مجرد تأسيس فبنى عليه ، ويحتمل غير ذلك والله أعلم بحقائق الأمور. انتهى.

وقد آن الشروع فى ذكر الأسباب المشار إليها :

أما سبب بناء الملائكة عليهم الصلاة والسلام : فروى عن على بن الحسين رضى الله عنهما أنه قال : لما قال الله للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (سورة البقرة : ٣٠) قالت : أى رب ، خليفة من غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ، فغضب عليهم ، فلاذوا بالعرش ورفعوا رءوسهم وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون إشفاقا لغضبه ، فطافوا بالعرش ثلاث ساعات ، وفى رواية سبعة أطواف يسترضون ربهم ، فرضى عنهم وقال لهم : ابنوا لى فى الأرض بيتا ، يعوذ به كل من سخطت عليه من خلقى ، فيطوف حوله كما فعلتم بعرشى ، فأغفر له كما غفرت لكم ، فبنوا البيت الحرام (١).

قال العلامة عماد الدين ابن كثير رحمه‌الله : قول الملائكة عليهم‌السلام : (أَتَجْعَلُ فِيها) (سورة البقرة : ٣٠) الآية سؤال على وجه الاستكشاف والاستعلام على وجه الحكمة ، لا على وجه الاعتراض والتنقص لبنى آدم والحسد لهم. كما توهمه بعض جهلة المفسرين (٢).

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١١٧.

(٢) البداية والنهاية ج ١ ص ٧٩.

٦٩

وفى «الروض الأنف» للسهيلى : لما قالت الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (سورة البقرة : ٣٠) خافت أن يكون الله عاتبا عليهم لاعتراضهم فى علمه ، فطافوا بالعرش سبعا. وذكر ما تقدم عن على بن الحسين رضى الله عنه (١).

كذا حكاه الجد نور الله ضريحه وجعل الرحمة غبوقه وصبوحه فى «منسكه». ثم قال بعد ذلك : ظاهر قول السهيلى : خافت أن يكون الله عاتبا عليهم ، أنه لم يقع من الله غضب عليهم وهو الموافق للحكم بعصمتهم ، وقوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (سورة التحريم : ٦) وما تقدم عن على بن الحسين يخالف ذلك. وقوله : لاعتراضهم فى علمه يخالف ما تقدم عن ابن كثير من أن ذلك منهم على وجه الاستكشاف لا الاعتراض ، اللهم إلا أن يراد ما صورته صورة الاعتراض فلا مخالفة. انتهى.

وفى بعض الروايات أن الله تعالى بعث ملائكة فقال : لهم ابنوا بيتا على مثال البيت المعمور وقدره ففعلوا ، وأمر الله تعالى أن يطاف به كما يطاف بالبيت المعمور ، وأن هذا كان قبل خلق آدم عليه‌السلام وقبل خلق الأرض بألفى عام ، وأن الأرض دحيت من تحته (٢).

فصل : فى الكلام على البيت المعمور

وشىء من خبره على سبيل الاستطراد

روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هذا البيت» يعنى الكعبة المشرفة «خامس عشر بيتا ، سبعة منها فى السماء إلى العرش ، وسبعة منها إلى تخوم الأرض [السفلى] وأعلاها الذى يلى العرش. البيت المعمور ، لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت ، لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى ، ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت». أخرجه الأزرقى (٣).

__________________

(١) الروض الأنف ج ١ ص ٣٤٠.

(٢) إخبار الكرام ص ١١٨.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٣٥ وما بين حاصرتين منه.

٧٠

مطلب فى كل من السبع الأرضين بيت يعمره أهلها

بحث : فإن قيل : فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ولكل بيت ... إلخ ، إشارة إلى تسمية كل بيت منها بالمعمور بهذا المعنى فحصل الاشتراك ، فأيها البيت المعمور المراد؟ فالجواب من وجوه : الأول : أن البيت المعمور قد غلب عليه هذا الاسم ولزمه وصار علما عليه عند الإطلاق ، والثانى : أنه تميز بكونه فى السماء السابعة على الرواية المشهورة كما ستقف عليها قريبا ، فيكون هو المراد دون غيره. الثالث : أنه يسمى بالضراح دون بقية البيوت الأخر. والله الموفق.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : البيت المعمور الذى فى السماء يقال له الضراح وهو على البيت الحرام ، لو سقط سقط عليه ، يعمره كل يوم سبعون ألف ملك لم يروه قط (١).

والضراح بالضاد المعجمة بعدها راء فألف فحاء مهملة ، وقيل بالصاد المهملة. والمشهور الأول ، وعند مجاهد : البيت المعمور هو الضريح يعنى بالضاد المعجمة والضريح لغة: البعيد.

الخلاف فى البيت المعمور وفى مكة

واختلف فى البيت المعمور وفى مقره فقيل : إنه البيت الذى بناه آدم أول ما نزل إلى الأرض ، كما سأذكره قريبا ، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان وتسميه الملائكة بالضراح لأنه ضرح عن الأرض إلى السماء بمعنى أبعد.

وقيل : إن البيت بمكة معمور بمن يطوف به ، وهذا منسوب إلى ابن عباس والحسن.

وعن محمد بن عباد بن جعفر أنه كان يستقبل الكعبة الشريفة ويقول : واحبذا بيت ربى ما أحسنه وأجمله ، هذا والله البيت المعمور ، وظاهر هذين القولين ينافى ما تقدم.

وأما مقره فللأزرقى ثلاث روايات : الأولى : أنه فى السماء السابعة ، الثانية : أنه فى السادسة ، الثالثة : أنه فوق السموات السبع تحت العرش.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٤٩.

٧١

وفى رواية لغير الأزرقى أنه فى السماء الرابعة.

أقول : الرواية الأولى هى المشهورة الصحيحة الموافقة لما رواه مسلم فى «صحيحه» من حديث ثابت البنانى عن أنس رضى الله عنه من كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجتمع بإبراهيم عليه‌السلام فى السماء السابعة ورآه مسندا ظهره إلى البيت المعمور. وهذا الحديث أولى بالاعتماد عليه دون غيره.

قال القاضى عياض رحمه‌الله فى «الشفاء» : جود ثابت هذا الحديث ما شاء ولم يأت عنه أحد بأصوب من هذا. وقد خلط فيه غيره عن أنس تخليطا كثيرا لا سيما شريك ابن أبى نمر. انتهى (١).

وأما سبب بناء آدم صلوات الله عليه : فروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الله تعالى لما أهبط آدم كان رأسه فى السماء ، ورجلاه فى الأرض وهو مثل الفلك من رعدته ، فطأطأ الله عزوجل منه إلى ستين ذراعا. فقال : يا رب ، ما لى لا أسمع صوت الملائكة؟ فقال له : خطيئتك يا آدم. ولكن اذهب فابن لى بيتا واذكرنى حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى ، فأقبل آدم يتخطى ، فطويت له الأرض ، ولم يقع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتى انتهى إلى مكة. فبنى البيت الحرام بعد أن ضرب جبريل عليه‌السلام بجناحه الأرض فأبرز عن أس ثابت فى الأرض السفلى. فقذفت فيه الملائكة الصخر ما لا يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلا. قال ابن عباس رضى الله عنه : فكان أول من أسس البيت وصلى فيه وطاف به آدم عليه‌السلام ، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان فدرس موضع البيت (٢).

أقول : هذا ما يشهد لبناء الملائكة وآدم فى آن واحد كما سبقت الإشارة إليه. انتهى.

مطلب الأجبل التى بنيت منها الكعبة خمسة

ويروى أن بناءه من خمسة أجبل : لبنان ، وطور زيتا ، وطور سيناء ، والجودى ، وحراء ، حتى استوى مع وجه الأرض ، أى لم يرتفع عن وجه الأرض ، كما قدمته. وسيأتى بيان موضع هذا الجبال عند ذكر بناء الخليل إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الشفاء للقاضى عياض ج ١ ص ١١٦.

(٢) إخبار الكرام ص ١١٩.

٧٢

والفلك فيما تقدم ـ بضم الفاء : هو السفينة. ووجه التشبيه أن آدم عليه‌السلام حال الهبوط كان فيه اضطراب كاضطراب السفينة فى البحر حال هبوب الرياح.

وفى بعض الروايات أن آدم عليه‌السلام لما أهبط بأرض الهند اشتد بكاؤه وحزنه فتاب الله عليه وأمره بالمسير إلى مكة ، فلما انتهى إليها عزاه الله بخيمة من خيام الجنة ووضعها له موضع البيت ، وكانت تلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة فيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة فيها نور يلتهب من نور الجنة (١).

وعن قتادة ، أن آدم عليه‌السلام أهبط ومعه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمن الغرق ، ثم رفعه الله عزوجل فصار فى السماء وهو الذى يدعى البيت المعمور. ذكره الحليمى فى «منهاجه» ثم قال : يجوز أن يكون معنى قول قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت أى مقدار البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا ثم قيل له : ابن بقدره وحياله فكان حياله موضع بالكعبة فبناها فيه. وأما الخيمة فقد يجوز أن يكون أنزلت وضربت فى موضع بالكعبة ، فلما بنى الكعبة كانت الخيمة حولها طمأنينة لقلب آدم ما عاش ثم رفعت فتتفق هذه الأخبار. كذا فى «منسك» الجد رحمه‌الله تعالى.

وأما سبب بناء الخليل صلوات الله عليه : فروى عن مجاهد رضى الله عنه أن موضع البيت كان قد خفى ودرس من الغرق أيام الطوفان ، فصار موضعه أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول ، غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هناك ولا يثبتونه. وكان المظلوم يأتيه من أقطار الأرض ويدعو عنده المكروب ، فقلّ من دعا هنالك إلا استجيب له (٢).

وعن ابن عمر : كانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لخليله وأعلمه مكانه (٣).

مطلب الخلاف فى هود وصالح هل حجا أم لا

وروى أن هودا وصالحا ومن آمن بهما حجوا البيت وهو كذلك. ونقل العلامة السيوطى فى بعض كتبه أن جميع الأنبياء حجوا البيت إلا هودا وصالحا فرنهما كانا تشاغلا بأمر قومهما فماتا ولم يحجا.

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٢٠.

(٢) إخبار الكرام ص ١٢١.

(٣) إخبار الكرام ص ١٢٢.

٧٣

مطلب سبب معرفة إبراهيم أساس البيت الحرام

وأن آدم لما حج حلق جبريل رأسه بياقوتة من الجنة فلما بوأ الله تعالى لخليله مكان البيت وأمره ببنائه بقوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) (سورة الحج : ٢٦) وقوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) (سورة البقرة : ١٢٧) الآيتين ، أقبل من الشام وسنه يومئذ مائة سنة ، وسن إسماعيل ست وثلاثون سنة. وأرسل الله معه السكينة والصّرد والملك دليلا حتى تبوأ البيت الحرام ، فقال لابنه إسماعيل عليه بالسلام : إن الله قد أمرنى أن أبنى له بيتا ، فقال له إسماعيل : وأين هو؟ فأشار إلى أكمة مرتفعة عليها رضراض من حصباء فقاما يحفران عن القواعد ويقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (سورة البقرة : ١٢٧) ويحمل إسماعيل الحجارة على رقبته وإبراهيم يبنى ، فلما ارتفع البناء وشق على الخليل تناول الأحجار ، قرّب له إسماعيل المقام فكان يقوم عليه (١). وقد تقدم الكلام عليه مستوفى.

والصرد ـ بضم الصاد وفتح الراء المهملتين ـ طائر ضخم الرأس فوق العصفور يصيد العصافير. وقيل : إنه أول طائر صام لله. والسكينة : لها رأس كرأس الهرة وجناحان. وفى رواية كأنها غمامة أو ضبابة تغشى الأرض كالدخان فى وسطها كهيئة الرأس يتكلم ، وكانت بمقدار البيت ، فلما انتهى الخليل صلوات الله عليه إلى مكة وقفت فى موضع البيت ونادت يا إبراهيم ، ابن على مقدار ظلى لا تزيد ولا تنقص.

وفى رواية أنها تطوقت بالأساس الأول كأنها حية.

وفى أخرى أنها لم تزل راكدة تظل إبراهيم وتهديه مكان القواعد فلما رفع القواعد قدر قامة انكشف.

قال السهيلى فى «روضه» : والسكينة من شأن الصلاة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأتوها وعليكم السكينة» انتهى. فجعله علما على قبلتها حكمة من الله تعالى (٢).

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٢٢.

(٢) الروض الأنف ج ١ ص ٣٤١.

٧٤

وروى أن السكينة قالت لإبراهيم : ربض على البيت ، فلذلك لا يطوف بالبيت ملك ولا أعرابى نافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة (١). كذا فى «منسك» الجدرحمه‌الله.

وذكر أن الخليل لما حفر القواعد أبرز عن رابض كأمثال خلف الإبل لا يحرك الصخرة إلا ثلاثون رجلا. وكان يبنى كل يوم سافا (٢) وهو المدماك (٣) فى عرفنا الآن (٤).

قال ابن عباس رضى الله عنه : أما والله ، ما بنياه بقصة ولا مدر. ولا كان معهم ما يسقفانه ولكنهما أعلماه وطافا (٥) به.

وفى رواية : رضماه رضما فوق القامة ولم يسقفاه. والرضم : أن ترص الحجارة بعضها فوق بعض بغير ملاط (٦).

والقصة بفتح القاف هى النورة أو شبهها.

قال السهيلى : بناه الخليل من خمسة أجبل كانت الملائكة تأتيه بالحجارة منها ، وهى: طور سيناء ، وطور زيتا ، اللذان بالشام. والجودى ، وهو بالجزيرة ، ولبنان وحراء وهما بالحرم ، ثم قال : وانتبه لحكمة الله كيف جعل بناءه من خمسة أجيل فشاكل ذلك معناها ، إذ هى قبلة للصلوات الخمس وعمود الإسلام ، وقد بنى على خمس. انتهى (٧).

قال الجد رحمه‌الله تعالى : وفى كون لبنان بالحرم نظر ، إذ لا يعرف ذلك.

ويروى أن ذا القرنين قدم مكة والخليل وابنه يبنيان فقال : ما هذا؟ فقالا : نحن عبدان أمرنا بالبناء ، فطلب منهما البرهان على ذلك فشهد بذلك خمسة أكبش ، فقال قد رضيت وسلمت ثم مضى.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٦٠.

(٢) تحرف فى د ، والمطبوع إلى : «ساقا».

(٣) المدماك : الصف من اللبن أو الحجارة.

(٤) إخبار الكرام ص ١٢٤.

(٥) إخبار الكرام ص ١٢٤.

(٦) إخبار الكرام ص ١٢٥.

(٧) الروض الأنف ج ١ ص ٣٤١.

٧٥

مطلب : الكلام على ذى القرنين صاحب الخضر

ولم لقب بذلك وتعريف نبوته وعدمها

فائدة استطرادية : اعلم أن ذا القرنين اثنان : رومى ، ومقدونى. والذى اجتمع بالخليل هو الرومى الذى ذكره الله تعالى فى القرآن وهو صاحب الخضر. واختلف فى تسميته بذى القرنين وهل كان نبيا أم عبدا صالحا. فقيل : سمى بذى القرنين لأنه بلغ مغرب الشمس ومطلعها ، وقيل : لأنه ، ملك الروم وفارس أو الروم والترك ، وقيل : لأنه انقرض فى زمنه قرنان من الناس وهو حى.

وقال الواحدى : لأنه أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه فمات فبعثه الله ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الآخر فمات ، فبعثه الله فسمى ذا القرنين ، وقيل : كان له قرنان. وقيل : كان كريم الطرفين أما وأبا ، وهذان القولان فى «المدارك» وقيل : لأنه عاش قرنين. وعن على : سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور ، وكان الليل والنهار عنده سواء.

وأما أنه نبى أو ملك فعن عبد الله بن عمر ومجاهد أنه كان نبيا ، وعن على كرم الله وجهه أنه كان عبدا صالحا أحب الله وناصحه فأحبه الله وناصحه ، وعن وهب أنه كان ملكا عادلا ، قال المفسرون : ملك الدنيا أربعة : مؤمنان وكافران : أما المؤمنان : فذو القرنين وسليمان بن داود عليهما‌السلام ، وأما الكافران : فنمرود وبختنصر. قال القرطبى : وسيملك الدنيا من هذه الأمة خامس وهو المهدى لقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (سورة الفتح : ٢٨) انتهى.

أقول : وسيملكها سادس أيضا ، وهو عيسى صلوات الله عليه. كما جاءت به السنة فى غير موضع من الصحيحين وغيرهما. انتهى.

مطلب سن ذى القرنين

وكان عمر ذى القرنين ألفا وستمائة سنة ، واختلف فى زمنه واسمه فقيل : كان فى زمن نمرود ، ويؤيده اجتماعه بالخليل حال بنائه البيت ، كما تقدم ، لأن الخليل والنمرود

٧٦

فى زمن واحد ، وعن وهب أنه كان فى الفترة بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، وقيل : كان بعد ثمود. وأما اسمه ، فقيل : عبد الله ، وقيل : إسكندر ، وقيل : مرزبان بن مرزبة.

مطلب : الحجر الأسود وهل كان قبل إبراهيم أم لا

عدنا إلى المقصود ، فلما انتهى الخليل عليه‌السلام فى البناء إلى موضع الحجر ـ بالفتح ـ طلب من إسماعيل حجرا يضعه ليكون علما على بداءة الطواف فجاءه جبريل بالحجر الأسود ، قيل نزل به من الجنة. وقيل : جاء به من أبى قبيس ، لأن الله استودع الحجر أبا قبيس لما غرقت الأرض. وفى رواية أن الحجر نفسه نادى الخليل من أبى قبيس هأنذا ، فرقى إليه فأخذه فوضعه فى موضعه هذا (١).

وجعل الخليل صلوات الله عليه طول البيت فى السماء تسعة أذرع ، وعرضه فى الأرض اثنين وثلاثين ذراعا من الركن الأسود إلى الركن الشامى الذى عنده الحجر ـ بكسر الحاء ـ من وجهه ، وجعل عرض ما بين الركن الشامى الغربى الذى فيه الحجر ـ بالكسر اثنين وعشرين ذراعا. وجعل طول ظهره من الركن الغربى إلى الركن اليمانى واحدا وثلاثين ذراعا ، وجعل عرض سقفها اليمانى من الركن الأسود إلى الركن اليمانى عشرين ذراعا ، فلذلك سميت كعبة لأنها على خلقة الكعب ، وكذلك بنيان أساس آدم عليه‌السلام ، وجعل بابها بالأرض غير مبوب ، حتى كان تبّع أسعد الحميرى هو الذى جعل لها بابا وغلقا فارسيّا ، وكساها كسوة تامة ، ونحر عندها كما علمته (٢) فيما تقدم. وسيأتى الكلام على ذلك فى محله مستوفى إن شاء الله تعالى.

وجعل الخليل الحجر ـ بكسر الحاء ـ إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز ، فكان زربا لغنم إسماعيل ، وحفر فى بطن الكعبة جبا على يمين الداخل يكون خزانة للبيت يلقى فيه ما يهدى للكعبة ، وهو الذى نصب عليه عمرو بن لحى هبل ، صنم قريش الذى كانت تعبده وتستقسم عنده بالأزلام (٣).

أقول : ولعله ـ والله أعلم ـ هو المراد بقول أبى سفيان بن حرب فى يوم أحد : اعل هبل. انتهى.

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٢٥.

(٢) إخبار الكرام ص ١٢٦.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٦٤.

٧٧

ثم عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا ما فيه من أموال الكعبة وحليتها مرة بعد أخرى ، فبعث الله الحية لحراسته وهى التى اختطفها العقاب كما تقدم ، والله أعلم.

وأما سبب بناء قريش للبيت : فروى أن امرأة ذهبت تجمر الكعبة فطارت شرارات من مجمرتها فاحترقت كسوته وكانت ركاما بعضها فوق بعض ، فحصل فى الأحجار تصدع ووهن ، ثم تواترت السيول بعد ذلك أيضا جاء سيل عظيم فدخل البيت فازداد تصدع الجدران ففزعت لذلك قريش فزعا شديدا ، وهابوا هدمها ، وخافوا إن مسوها ينزل عليهم العذاب(١).

فبينما هم على تلك الحال يتشاورون إذ أقبلت سفينة من الروم ، حتى إذا كانت بمحل يقال له الشّعيّبة ـ بضم الشين المعجمة ـ وهو يومئذ ساحل مكة قبل جدة انكسرت(٢).

استطراد : فى الكلام على فضل جدة التى هى الآن ساحل مكة وشىء من خبرها : روى الفاكهى عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مكة رباط وجدة جهاد» (٣).

وعن ابن جريج قال : سمعت عطاء يقول : إنما جدة خزانة مكة وإن ما يؤتى به إلى مكة لا يخرج به منها (٤).

ثم قال ـ أعنى ابن جريج : إنى لأرجو أن يكون فضل مرابطى جدة على سائر المرابطين كفضل مكة على سائر البلدان (٥).

وعن عباد بن كثير ، أنه قال : الصلاة بجدة سبعة عشر ألف ألف صلاة ، والدرهم فيها مائة ألف ، وأعمالها بقدر ذلك ، يغفر للناظر فيها مدّ بصره مما يلى البحر (٦).

وعن فرقد السّبخىّ أنه قال : إنى رجل أقرأ هذه الكتب ، وإنى لأجد فيما أنزل الله من كتبه جدّة ـ أو جديدة ـ يكون بها قتلى وشهداء ، لا شهداء يومئذ على ظهر الأرض أفضل منهم (٧).

__________________

(١) أخبار مكة الأزرقى ج ١ ص ١٦٠.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٦٠.

(٣) أخبار مكة للفاكهى ج ٣ ص ٥٢ وذكر محققه أن إسناده ضعيف.

(٤) أخبار مكة للفاكهى ج ١ ص ٥٣.

(٥) أخبار مكة للفاكهى ج ٣ ص ٥٣.

(٦) أخبار مكة للفاكهى ج ٣ ص ٥٣.

(٧) أخبار مكة للفاكهى ج ٣ ص ٥٥.

٧٨

وعن بعض المكيين أن الحبشة جاءت إلى جدة فى سنة ثلاث وثمانين فى صدرها ، فوقعوا بأهل جدّة ، فخرج الناس من مكة إلى جدّة غزاة فى البحر ، وعليهم أميرهم عبد الله محمد بن إبراهيم المخزومى. انتهى (١).

قال الفاسى رحمه‌الله : عبد الله بن محمد هذا ولى مكة للرشيد العباسى ، فيكون المراد سنة ثلاث وثمانين ومائة (٢).

وأول من جعل جدة ساحلا لمكة عثمان بن عفان رضى الله عنه فى سنة ست وعشرين من الهجرة ، وكانت الشّعيبة ساحل مكة قبل ذلك (٣).

وذكر ابن جبير أنه رأى بجدة أثر سور محدق وأن بها مسجدين ينسبان لعمر بن الخطاب رضى الله عنه ، أحدهما : يقال له مسجد الآبنوس ، وهو معروف إلى الآن ، والآخر غير معروف ، ولعله والله أعلم المسجد الذى تقام فيه الجمعة وهو من عمارة المظفر صاحب اليمن. انتهى (٤).

ويروى أن قبر حواء بجدة ، والله أعلم (٥).

ولنرجع إلى المقصود : فلما انكسرت السفينة بالشعيبة وبلغ قريشا قصدوها واشتروا خشبها ، وأذنوا لأهلها أن يدخلوا مكة فيبيعوا ما معهم من المتاع وأن لا يعشروهم (٦) وكانوا قبل ذلك يعشرون من دخلها من تجار الروم. وكانت الروم أيضا تعشر قريشا إذا دخلوا بلادهم. وكان فى السفينة نجار بناء اسمه باقوم. وهو الذى بنى الكعبة لقريش كما روى عن سفيان بن عيينة (٧).

ويروى أن قريشا لما هابوا هدمها قال الوليد : إن الله لا يهلك من يريد الصلاح فارتقى على ظهر البيت ، ومعه الفأس ثم هدم ، فلما رأوه سالما تابعوه (٨).

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ١٤١.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ١٤١.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ١٤١.

(٤) رحلة ابن جبير ص ٥٠ ، السلاح والعدة فى تاريخ بندر جدة ص ٤٧.

(٥) السلاح والعدة ص ٢٧.

(٦) عشر القوم : أخذ عشر أموالهم

(٧) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٥٧.

(٨) إخبار الكرام ص ١٢٩.

٧٩

وفى بعض الروايات أن قريشا كانوا كلما أرادوا هدم البيت بدت لهم حية فاتحة فاها فبعث الله طيرا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها فألقاها نحو أجياد ، فهدمته قريش وبنوها بحجارة الوادى ، ورفعوها ثمانية عشر ذراعا فى السماء ، وقيل عشرين (١).

وحضر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا البناء مع قريش ، وكان يحمل الحجارة ، وسنه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة ، وهو الأشهر ، وقيل : خمس وعشرون ، وهو مشهور (٢) ، وعن الفاكهى كان قد ناهز الحلم ، وفى «تاريخ الأزرقى» ما يؤيده ، وهو ضعيف جدا فلا يعتبر بمخالفته القولين الأولين.

فبينما هو يحملها وعليه نمرة قد ضاقت فذهب بعضها على عاتقه فبدت عورته فنودى : يا محمد ، خمر (٣) عورتك فلم ير بعدها عريانا ، وكان بين ذلك وبين المبعث خمس سنين (٤).

واختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود حتى رضوا بأول داخل ، فكان هو أول داخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضعه بيده الشريفة (٥).

وأخرج الأزرقى فى رواية أن طول الكعبة كان سبعة وعشرين ذراعا ، فاقتصرت قريش على ثمانية عشر ذراعا ، ونقصوا من عرضها أذرعا أدخلوها فى الحجر.

أقول : بناء قريش ثابت على القول المشهور بعد بناء الخليل ، وقد علمت فيما سبق أن الخليل صلوات الله عليه جعل طولها فى السماء تسعة أذرع كما تضافرت به الأقوال ، وستقف على ذلك من كلام الأزرقى أيضا عند ذكر بناء ابن الزبير آنفا ، فما نقله من أن طول الكعبة كان سبعة وعشرين ذراعا ... إلخ ، فيه مناقضة لما سيأتى عنه ، ولم يثبت من طريق صحيح أن أحدا بناها بعد الخليل ، وجعل طولها سبعة وعشرين ذراعا ، وما تقدم من بناء العمالقة وجرهم وقصى بعد الخليل إنما هو مجرد خبر وهو يحتمل ولم يتأيد بدليل ، وعلى تقدير الصحة فلم يذكر أحد مقدار ارتفاع بنائهم مطلقا. على أن الأزرقى نفسه ذكر

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٦٠.

(٢) إخبار الكرام ص ١٣٠.

(٣) خمر وجهه : غطاه وستره.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٥٨ ، إخبار الكرام ص ١٣١.

(٥) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٥٩ ، إخبار الكرام ص ١٣١.

٨٠