الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

مطلب : هل كان الحجر يسمى أسود قبل اسوداده

حال كونه أبيض من اللبن أم لا؟

السادسة : قال الجد رحمه‌الله : فإن قلت : هل كان الحجر يسمى بالأسود قبل اسوداده حال كونه أشد بياضا من اللبن أو لا؟ وإنما تجدد له هذا الاسم بعد اسوداده. قلت : لم أر فى ذلك لأحد نقلا ، ويحتمل أنه كان يسمى بذلك لما فيه من السودد ، فيكون المراد بقولهم أسود أى ذو سودد ، ويحتمل أنه لم يسم بذلك ، إلا بعد اسوداده ، والله أعلم. انتهى.

مطلب : خواص الحجر

السابعة : من خواص الحجر الأسود أنه اذا جعل فى الماء لا يغرق بل يطفو ويرتفع ، وإذا جعل فى النار لا يحمى ولا تعمل فيه النار بل يبقى باردا على حاله. كذا نقله الطرسوسى.

ومن آيات الحجر : أنه أزيل عن مكانه غير مرة ثم أعاده الله إليه. ووقع ذلك من جرهم وإياد والعمالقة وخزاعة والقرامطة.

وآخر من أزاله منهم أبو طاهر سليمان بن الحسن القرمطى وذلك أنه فى موسم سنة سبع عشرة وثلاثمائة حصل منه فى يوم التروية أذى عام ، وذلك أنه نهب الحاج وسفك الدماء حتى سال بها الوادى ثم رمى ببعض القتلى فى بئر زمزم حتى امتلأت ، وأصعد رجلا على أعلى البيت ليقلع الميزاب فتردى على رأسه ومات ، ثم انصرف ومعه الحجر الأسود فعلقه على الأسطوانة السابعة من جامع الكوفة لاعتقاده الفاسد وزعم أن الحج ينتقل إليها ، فاستمر عنده إلى أن اشتراه منه المطيع لله أبو القاسم وقيل أبو العباس الفضل بن المقتدر بثلاثين ألف دينار ، ثم أعيد إلى مكانه سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، وكانت مدة مكثه عندهم اثنتان وعشرون سنة إلا شهرا ، ولما ذهب به هلك تحته أربعون جملا ولما أعيد إلى مكة حمل على قعود أعجف فسمن تحته.

٤١

وعن مجاهد أنه قال : يأتى الحجر والمقام يوم القيامة مثل أبى قبيس كل واحد منهما له عينان وشفتان يناديان بأعلى أصواتهما يشهدان لمن وافاهما بالوفاء.

وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله يعيد الحجر إلى ما خلقه أول مرة» أخرجه الأزرقى.

وأخرج ابن شيبة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : يرفع الحجر الأسود يوم الاثنين. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مسح الحجر الأسود والركن اليمانى يحط الخطايا حطّا» وروى أن الحجر الأسود كان يسلم على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث.

فروع :

الأول : السّنة فى تقبيل الحجر الأسود أن يكون بلا تصويت ولا تطنين ولا لحس باللسان ، ثم إن أمكنه أن يسجد عليه فعل لأنه جائز عندنا وعند الشافعى وأحمد لأن فيه تقبيلا وزيادة سجود لله تعالى ، وقال مالك : إن السجود عليه بدعة ، ثم ذلك مشروط بعدم الإيذاء والزحام والمدافعة ، لأن التقبيل سنة وترك الأذى عن الناس فريضة ، فلا يجوز الإتيان بالسنة مع ترك الفريضة ، ولأن له خلفا وهو الإشارة.

الثانى : إذا كان الحجر مطيبا فقبله المحرم فلزق الطيب بفمه أو بيده أو بأكثرهما لزمه الدم وإلا فصدقة ، وهذا عندنا ، وعند الشافعى لا يشرع له التقبيل ولا المس.

الثالث : يستحب لمن أكل بصلا أو ثوما أو ما له رائحة كريهة وأراد تقبيل الحجر أن ينظف فاه بسواك ونحوه مما يذهب الرائحة ، فإن كان به بخر لا يمكن زواله فهو معذور.

الرابع : لو أزيل الحجر من موضعه ـ والعياذ بالله تعالى ـ استلم ركنه وقبّله وسجد عليه. كذا نقله القاضى عز الدين بن جماعة الدارمى من الشافعية ، واستشكله بعض علمائهم. ووجهه الجد رحمه‌الله وقال : إن الخصوصية التى تثبت للحجر من كونه يمين الله فى الأرض ويشهد لمن استلمه بحق وتقبيله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له غير موجودة فى الركن الذى هو فيه. انتهى.

أقول : لم أقف على نقل لأصحابنا فى ذلك ، وما ذكره الجد من التوجيه فى غاية القبول ، وربما يوافق أصولنا لأنه حيث ثبت هذا الحكم للحجر اقتصر عليه واختص به

٤٢

دون الركن فلا ينتقل الحكم إلى الركن ولا يقوم بدلا عن الحجر ، لأن من أصلنا أن نصب البدل بالرأى لا يجوز. أما من أراد الطواف ووقف مستقبل الركن ورفع يديه لأجل النية فينبغى الجواز لأنه محل البداءة. فتأمل. انتهى.

فائدتان :

الأولى : قد تقدم فى الفرع الأول أن الزحام المفضى إلى الإيذاء عند استلام الحجر ممنوع ، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه أنه كان يزاحم على الحجر حتى يدمى أنفه ولا يترك تقبيله ، فالجواب أنه كان مجتهدا وأن مذهبه أفضلية المزاحمة على الحجر وإن أفضت إلى الأذى.

مطلب : أول من استلم الركن من الأئمة

قبل الصلاة وبعدها ابن الزبير

الثانية : أول من استلم الركن الأسود من الأئمة قبل الصلاة وبعدها ابن الزبير فاستحسنت ذلك الولاة بعده فاتبعته ، أخرجه الأزرقى.

فصل : فى فضل الركن اليمانى وذكر شىء مما ورد فيه :

روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما مررت بالركن اليمانى إلا وعنده ملك ينادى آمين آمين فإذا مررتم به فقولوا اللهم ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».

وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال : «على الركن اليمانى ملكان يؤمنان على دعاء من مر بهما وإن على الحجر الأسود ما لا يحصى» أخرجه الأزرقى.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وكل بالركن اليمانى سبعون ملكا من قال اللهم إنى أسألك العفو والعافية فى الدنيا والآخرة ، ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب بالنار ، قالوا : آمين» قال العلامة عز الدين بن جماعةرحمه‌الله : ولا تضاد بين الأحاديث على تقدير الصحة إذ يحتمل أن السبعين موكلون به ولم يكلفوا التأمين ، وإنما يؤمّنون عند سماع الدعاء ، والملكان كلفا قول آمين. ورواية ملك محمولة على الجنس. انتهى بمعناه.

٤٣

وروى الأزرقى عن عطاء قال قيل : يا رسول الله ، إنك تكثر من استلام الركن اليمانى ، قال : ما أتيت عنده قط إلا وجبريل عليه‌السلام قائم عنده يستغفر لمن يستلمه (١).

وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عند الركن اليمانى باب من أبواب الجنة ، والركن الاسود من أبواب الجنة».

وأخرج الأزرقى عن مجاهد أنه قال : ما من إنسان يضع يده على الركن اليمانى ويدعو إلا استجيب له ، وإن بين اليمانى والركن الأسود سبعين ألف ملك لا يفارقونه ، هم هنالك منذ خلق الله البيت (٢).

وفى «رسالة الحسن البصرى» عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما بين الركن اليمانى إلى الركن الأسود قبور سبعين نبيا».

وفى «منسك» ابن جماعة «ما بين الركن والمقام وزمزم قبور نحو من ألف نبى».

ونقل عن الشعبى أنه قال : رأيت عجبا : كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله ابن الزبير وأخوه مصعب وعبد الملك بن مروان ، فقالوا بعد أن فرغوا من حديثهم : ليقم رجل رجل فليأخذ بالركن اليمانى وليسأل الله تعالى حاجته فإنه يعطى من سعة ، ثم قالوا لعبد الله بن الزبير : قم أولا ، فإنك أول مولود فى الهجرة ، فقام فأخذ بالركن اليمانى ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم ، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيكصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا تميتنى من الدنيا حتى تولينى الحجاز ويسلم علىّ بالخلافة ، وجاء وجلس.

ثم قام أخوه مصعب فأخذ بالركن اليمانى فقال : اللهم إنك رب كل شىء وإليك كل شىء ، أسألك بقدرتك على كل شىء أن لا تميتنى من الدنيا حتى تولينى العراق وتزوجنى سكينة بنت الحسين. وجاء وجلس.

ثم قام عبد الملك بن مروان فأخذ بالركن وقال : اللهم رب السموات السبع والأرض ذات النبات بعد القفر ، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك ، وأسألك بحرمة وجهك،

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٣٣٨.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٣٣٩.

٤٤

وأسألك بحقك على جميع خلقك وبحق الطائفين حول بيتك أن لا تميتنى حتى تولينى شرق الأرض وغربها ، ولا ينازعنى أحد إلا أتيت برأسه ، ثم جاء فجلس.

ثم قام عبد الله بن عمر حتى أخذ بالركن ثم قال : اللهم يا رحمن يا رحيم ، أسألك برحمتك التى سبقت غضبك ، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك أن لا تميتنى من الدنيا حتى توجب لى الجنة.

قال الشعبى فما ذهبت عيناى من الدنيا حتى رأيت كل واحد وقد أعطى ما سأل ، وبشر عبد الله بن عمر بالجنة (١).

أقول : لقائل أن يقول : ما الدليل على وجه البشرى؟ ولم أر أحدا من المؤلفين فى هذا المعنى ذكر شيئا مما يستدل به على ذلك ولا تعرض له فيما وقفت عليه. ويحتمل أن يكون أن يكون فى ذلك وجهان :

الأول : أن سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنه كان قد كف بصره بعد ذلك وقد وعد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابتلى بذلك بالجنة كما فى «صحيح البخارى».

الثانى : أن الثلاثة لما أعطوا ما سألوه كان ذلك أدل دليل على إجابة دعاء الجميع ، إذ هو اللائق بكرم الله وسعة عطائه ، وكان سيدنا عبد الله رضى الله عنه من الورع والزهد والصلاح بالمكانة التى لا تجهل كما فى مناقبه.

وفى «منهاج التائبين» : من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الركن اليمانى ليستلمه خاض فى الرحمة ، فإذا استلمه غمرته الرحمة. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما بين الركن اليمانى والحجر الاسود روضة من رياض الجنة».

فرع : استلام الركن اليمانى عندنا حسن وتركه لا يضر. لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستلمه مرة ويتركه أخرى وهو الصحيح. كذا نقله الكرمانى من أصحابنا. وعن محمد أنه يستلمه ويقبل يده. وفى رواية عنه أنه يقبله. وعند الشافعى رحمه‌الله يستلم الركن اليمانى قولا واحدا.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣١٨.

٤٥

مطلب : فى كيفية استلام الركن اليمانى هل يقبل يده ثم ينقلها

إليه أو يضع يده عليه ثم يقبلها؟

لكن اختلف أصحابه فى كيفية استلامه. قال بعضهم : يقبل يده أولا ثم يضعها على الركن لينقل القبلة إليه. وقال بعضهم : يضع اليد على الركن أولا ثم يقبلها ليكون ناقلا بركته إلى يده ونفسه ، وهو الأصح عندهم. وعند مالك رحمه‌الله يستلم الركن اليمانى ولا يقبل يده ، وإنما يضعه على فيه. وعند أحمد رحمه‌الله أنه يستلمه بيده ولا يقبله. وفى تقبيل يده خلاف عند أصحابه ، كذا نقله الشيخ عز الدين بن جماعة. ونقل الكرمانى من أصحابنا رواية عن أحمد أنه يقبله. وفى الكل ورد النقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.

(وأما الركنان الآخران) اللذان يليان الحجر : فمذهب أهل العلم لا يستلمان ، كذا نقل عن كثير من الصحابة منهم عمر وابنه ومعاوية.

فصل : فى فضل الملتزم والدعاء فيه :

إنما سمى بذلك لأن الناس يلتزمونه ويدعون عنده وهو من المواطن التى يستجاب فيها الدعاء. روى القاضى عياض فى «الشفاء» بقراءته على القاضى الحافظ أبى علىّ رحمه‌الله ، عن أبى العباس العذرىّ عن (أبى) أسامة محمد الهروىّ ، عن الحسن بن رشيق ، عن أبى الحسن محمد بن الحسن بن راشد ، عن أبى بكر محمد بن إدريس ، عن الحميدىّ ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما دعا أحد بشىء فى هذا الملتزم الا استجيب له» قال ابن عباس : وأنا فما دعوت الله بشىء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا استجيب لى. وقال عمرو بن دينار : وأنا فما دعوت الله بشىء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من ابن عباس إلا استجيب لى. وقال سفيان : وأنا فما دعوت الله بشىء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من عمرو بن دينار إلا استجيب لى. وقال الحميدى : وأنا فما دعوت الله بشىء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من سفيان إلا استجيب لى. وقال محمد بن إدريس : وأنا فما

٤٦

دعوت الله بشىء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحميدى الا استجيب لى. وقال أبو الحسن محمد بن الحسن : وأنا فما دعوت الله بشىء فى هذا الملتزم منتذ سمعت هذا من محمد بن إدريس إلا استجيب لى. قال أبو أسامة : وما أذكر الحسن بن رشيق قال فيه شيئا. وأنا فما دعوت الله بشىء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحسن بن رشيق إلا استجيب لى فى أمر الدنيا ، وأنا أرجو أنت يستجاب لى فى أمر الآخرة. قال العذرى : وأنا فما دعوت الله بشىء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من أبى أسامة إلا استجيب لى. قال أبو على : وأنا فقد دعوت الله فيه بأشياء كثيرة فاستجيب لى بعضها وأرجو من سعة فضله أن يستجيب لى بقيتها. انتهى (١).

يقول الحقير مؤلف هذه الفضائل وجامعها : قد دعوت الله فيه بأشياء فاستجيب لى بفضل الله وأنا مستمر على الدعاء فى أمور أخر ، منها حسن الخاتمة ، وأرجو الله إجابة الدعاء بحصولها.

وذكر القاضى عز الدين فى «منسكه» عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : من التزم الكعبة ودعا استجيب له ، ثم قال : فيجوز أن يكون على عمومه ويجوز أن يكون محمولا على الملتزم (٢). انتهى.

ذكر معرفة الملتزم والمستجار (٣) والمتعوذ والمدعى والحطيم

أما الملتزم فهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة (٤) كما ثبت عن ابن عباس رضى الله عنه.

وأما المستجار فهو ما بين الركن اليمانى والباب المسدود فى دبر الكعبة (٥) والدعاء عنده مستجاب كما رواه ابن أبى الدنيا.

وأما الحطيم فهو ما بين الحجر الأسود ومقام إبراهيم وزمزم وحجر إسماعيل. وسمى بذلك لأن الناس كانوا يحطّمون هنالك بالأيمان ويستجاب فيها الدعاء للمظلوم على

__________________

(١) الحديث والأخبار التالية له لدى القاضى عياض فى الشفاء ج ٢ ص ٦٠.

(٢) إخبار الكرام للأسدى ص ٨٠.

(٣) تحرف فى المطبوع إلى «المستجاب» وصوابه لدى الأسدى ص ٨٠ وهو ينقل عن ابن ظهيرة.

(٤) الأسدى ص ٨٠.

(٥) الأسدى ص ٨٠.

٤٧

الظالم ، فقل من حلف هنالك كاذبا إلا عجّلت له العقوبة وكان ذلك يحجز الناس عن المظالم (١).

وقيل : لأن الشاذروان هو الحطيم ، لأن البيت رفع بناؤه وترك هو بالأرض محطوما(٢).

والحطيم عندنا : هو الحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ وهو الموضع الذى نصب فيه ميزاب البيت ، وإنما سمى بالحطيم لأنه حطم من البيت أى كسر ، كذا فى كتبنا.

وأما المتعوّذ والمدعى فروى عن ابن عباس أن الملتزم والمتعوذ والمدعى ما بين الحجر الأسود والباب. وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أن ما بين الركن الاسود والباب ، هو الملتزم ، وما بين الركن اليمانى والباب المسدود هو المتعوذ. كأنه جعل الأول موضع رغبة ، والثانى موضع استعاذة.

وعن عمرو بن العاص أنه طاف بالبيت ثم استلم الحجر وقام بين الركن والباب ، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه وبسطهما بسطا ، ثم قال : كذا رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعله (٣).

مطلب : دعاء آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام

وأخرج الأزرقى فى «تاريخه» أن آدم عليه‌السلام طاف بالبيت سبعا حين نزل ، ثم صلى تجاه الكعبة ركعتين ، ثم أتى الملتزم فقال : اللهم إنك تعلم سريرتى وعلانيتى فاقبل معذرتى. وتعلم ما فى نفسى وما عندى فاغفر لى ذنوبى. وتعلم حاجتى فأعطنى سؤلى. اللهم إنى أسألك إيمانا يباشر قلبى ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبنى إلا ما كتبت لى ، والرضا بما قضيت علىّ ، فأوحى الله تعالى إليه : يا آدم قد دعوتنى بدعوات واستجبت لك ، ولن يدعونى بها أحد من ولدك إلا كشفت همومه وغمومه ، وكففت عليه ضيعته ، ونزعت الفقر من قلبه ، وجعلت الغنى بين عينيه ، وتجرت له من وراء تجارة كل تاجر ، وأتته الدنيا وهى راغمة وإن كان لا يريدها ، ثم قال : فمنذ طاف آدم كانت سنة الطواف انتهى (٤).

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣١٨.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٣١٨.

(٣) الأسدى ص ٨١ والخبر لديه بالنص كما هنا.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٤٤ ، إخبار الكرام ص ٨١.

٤٨

قال العلامة عز الدين بن جماعة : ولعله يريد سنة الطواف فى العدد ، وإلا فقد ورد أن الملائكة طافت به قبل آدم عليه‌السلام ، فلعله كان بغير عدد أو بغير ذلك العدد أو أراد لبنيه من بعده ، والله أعلم. انتهى.

وروى الأزرقى أن ابن الزبير مر بعبد الله بن العباس وهو بين الباب والركن الأسود فقال له ليس هاهنا الملتزم ، إنما هو دبر البيت ، فقال ابن عباس هنالك ملتزم عجائز قريش.

وذكر أيضا أن عائشة رضى الله عنه أرسلت إلى أصحاب المصابيح فأطفئوها ثم طافت من وراء ستر وحجاب ثلاثة أسابيع ، تقف بعد كل أسبوع بين الباب والحجر تدعو.

مطلب : الأولى عند الحنفية لمن أراد الملتزم أن يقدمه

على ركعتى الطواف ثم يأتى بهما

فرع : الأولى عندنا لمن انتهى طوافه وأحب أن يلتزم أن يقدمه على ركعتى الطواف ثم يأتى بهما بعد ذلك ، كذا فى منسك الكرمانى من أصحابنا : وذكر غيره تقديم الصلاة على الالتزام وهذا فيما عدا طواف الوداع. وأما بعده فإنه عقب الصلاة والشرب من ماء زمزم يأتى الملتزم ثم يدعو فيه بما أراد ثم ينصرف القهقرى فيكون آخر عهده الالتزام. والله أعلم.

عدنا إلى المقصود :

ومنها : بقاء بنائه الموجود الآن وثباته ولا يبقى غيره من الأبنية هذه المدة الطويلة كما ذكره المهندسون ، وذلك لأن الأرياح والأمطار قلما تواترت على بناء إلا خرب ، وهذا البيت الشريف لم تزل الأرياح العاصفة والأمطار العظيمة تتوالى عليه منذ بنى وإلى تاريخه ، ولم يقع بحمد الله تغير فى بنائه ولا خلل.

مطلب : ما وقع فى الكعبة من الترميم

قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر رحمه‌الله : ولم أقف فى شىء من التواريخ على أن أحدا من الخلفاء ولا من دونهم غيّر من الكعبة شيئا مما صنعه الحجّاج إلى الآن إلا فى الميزاب والباب وعتبته. وكذا وقع الترميم فى جدارها غير مرة وفى سقفها وسلم سطحها. ووقع أيضا فى جدارها الشامى ترميم فى شهور سنة سبعين ومائتين ، ثم فى شهور سنة

٤٩

اثنتين وأربعين وخمسمائة ثم فى شهور سنة تسع عشرة وستمائة ثم فى سنة ثمانين وستمائة ثم فى سنة أربع عشرة وثمانمائة (١).

ثم قال : وقد ترادفت الأخبار الآن فى وقتنا هذا فى سنة اثنتين وعشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم ، فاهتم لذلك سلطان الإسلام الملك المؤيد. ثم حججت سنة أربع وعشرين وتأملت المكان الذى قيل عنه فلم أجده بتلك الشناعة. وقد نقض سقفها فى سنة سبع وعشرين على يدى بعض الجند فجدد لها سقفا ورخم السطح. فلما كان فى سنة ثلاث وأربعين صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولا فأداه رأيه الفاسد إلى أن نقض السقف مرة أخرى ، وسدّ ما كان فى السطح من الطاقات التى كان يدخل منها الضوء إلى الكعبة (٢).

ولزم من ذلك امتهان الكعبة ، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب ، فغار بعض المجاورين ، فكتب إلى القاهرة يشكو ذلك ، فبلغ السلطان الظاهر فأنكر أن يكون أمر بذلك. وجهز بعض الجند لكشف ذلك (٣). فتعصب للأول من جاور واجتمع الباقون رغبة ورهبة فكتبوا محضرا بأنه ما فعل شيئا إلا عن ملأ منهم وأن كل ما فعله مصلحة فسكن غيظ السلطان وغطى عليه الأمر.

وقال أيضا : ومما يتعجب منه أنه لم يبق الاحتياج فى الكعبة إلى الإصلاح إلا فيما صنعه الحجاج ، إما من الجدار الذى بناه فى الجهة الشامية وإما فى السلم الذى جدده للسطح والعتبة ، وما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادة محضة كالرخام أو التحسين كالباب والميزاب (٤).

قال الجد نوّر الله ضريحه : وما ذكره من نقض سقفها سنة سبع وعشرين على يد بعض الجند وأنه جدد لها سقفا سبق قلم ، وصوابه سنة ثمان وثلاثين والله أعلم. انتهى (٥).

__________________

(١) إخبار الكرام ص ٩٠.

(٢) إخبار الكرام ص ٩٠.

(٣) إخبار الكرام ص ٩١.

(٤) إخبار الكرام ص ٩٢.

(٥) إخبار الكرام ص ٩٢.

٥٠

مطلب : عقوبة من أخذ شيئا من مال الكعبة ويسمى بالأبرق

(ومنها) أن فتى من الحجبة حضرته الوفاة واشتد عليه النزع جدا حتى مكث أياما ينزع نزع شديدا فقال له أبوه : لعلك أصبت من الأبرق شيئا ، يعنى مال الكعبة ، فقال : أربعمائة دينار ، فأشهد أبوه أن عليه للكعبة أربعمائة دينار ، فسرى عن الفتى ثم لم يلبث أن مات (١).

مطلب : إذا وضع مفتاح البيت فى فم الصغير تكلم سريعا

(ومنها) أن مفتاح بابها إذا وضع فى فم الصغير الذى ثقل لسانه عن الكلام تكلم سريعا. ذكره الفاكهى ، وقال : إن ذلك مجرب (٢).

مطلب : دخان البيت يصعد مستويا

(ومنها) ما ذكره ابن الحاج أن دخان البيت لا يذهب يمينا ولا شمالا ولا أمام ولا خلف ، بل يصعد مستويا إلى السماء. قال الفاسى : ولعل المراد بالدخان دخان ما تجمر به الكعبة (٣) والله أعلم

مطلب : هيبته وتعظيمه فى القلوب

(ومنها) هيبته وتعظيمه فى قلوب الناس وكف الجبابرة عنه على مر الدهور والأعصار وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة بدون ناه ولا زاجر. روى أن الحجاج بن يوسف لما نصب المنجنيق على أبى قبيس بالحجارة والنيران واشتعلت النار فى أستار الكعبة ، جاءت سحابة من نحو جدة يسمع فيها الرعد ويرى البرق فمطرت فلم يجاوز مطرها الكعبة والمطاف، فأطفأت النار وأرسل الله عليهم صاعقة فأحرقت منجنيقهم فتداركوه.

قال عكرمة : وأحسب أنها احترقت تحته أربعة رجال فقال الحجاج : لا يهولنكم هذا فإنها أرض صواعق ، فأرسل الله صاعقة أخرى فأحرقت المنجنيق وأحرقت معه أربعين رجلا ، وذلك فى سنة ثلاث وسبعين فى أيام عبد الملك بن مروان.

__________________

(١) إخبار الكرام ص ٩٣.

(٢) نقله الفاسى فى شفاء الغرام ج ١ ص ٣٠١.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٠٢.

٥١

قال الجد : هذا والحجاج ما قصد التسلط على البيت ، وإنما تحصن به ابن الزبير ففعل ذلك لإخراجه كما أشير إليه قريبا إن شاء الله تعالى.

أقول : وتوجيهه أن فعل الحجاج وإن لم يقصد التسلط على البيت فهو مؤذن بجبروته وعدوانه وانتهاكه لحرمة البيت والمسجد والبلد واستباحته للقتال فى هذه البقعة الشريفة ، فهو جدير بإرسال الصواعق على منجنيقه ورجاله ، بل وعليه ، فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. انتهى.

(ومنها) أمن الخائف الثابت ذلك من قديم الدهر وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطفون الناس بالقتل وأخذ الأموال وأنواع المظالم إلا فى الحرم ، وينبنى على هذا أمن الحيوان فيه وسلامة الشجر ، وذلك للبركة والهيبة والعظمة التى جعلها الله فى هذا البيت وما جاوره وبركة دعوة الخليل صلوات الله عليه فى قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (سورة البقرة : ١٢٦) الآية ، والعرب تقول فى ضرب المثل : آمن من حمام مكة ، لأنها لا تهاج ولا تصاد (١).

حكى عن بعض العباد أنه قال : كنت أطوف بالبيت ليلا ، فقلت : يا رب ، إنك قلت (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (سورة آل عمران : ٩٧) فمن ماذا هو آمن؟ فسمعت من يكلمنى ويقول : من النار ، فنظرت وتأملت فما كان فى المكان أحد (٢).

مطلب : لا يرى البيت أحد لم يكن رآه قبل إلا ضحك أو بكى

(ومنها) ما روى عن الجاحظ أنه قال : لا يرى البيت الحرام أحد ممن لم يكن رآه قبل ذلك إلا ضحك أو بكى.

مطلب : تعجيل العقوبة لمن قصد البيت بسوء

(ومنها) تعجيل العقوبة لمن قصده بسوء كقصة تبع وأصحاب الفيل (٣). حين قصدوا تخريبه ، وعند ذكرهما رأيت أن أسوق خبرهما باختصار :

(أما قصة تبع (٤)) فذكر القطبى (٥) فى «الإعلام» أنه كان من الخمسة الذين دانت لهم

__________________

(١) إخبار الكرام ص ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) إخبار الكرام ص ٩٥.

(٣) إخبار الكرام ص ٩٥.

(٤) انظر قصة تبع : منائح الكرم ج ١ ص ٣٧٤.

(٥) تحرف فى المطبوع إلى : «القرطبى» وصوابه لدى السنجارى فى منائح الكرم ج ١ ص ٣٧٤.

٥٢

الدنيا بأسرها ، وكان كثير الوزراء فاختار منهم واحدا وأخرجه لينظر فى ملكه ، وكان إذا أتى بلدة يختار من حكمائها عشرة رجال ، وكان معه من العلماء والحكماء مائة ألف رجل هم الذين اختارهم من البلدان ولم يكونوا محسوبين من الجيش. ثم إنه قصد مكة ، فلما انتهى إليها لم يخضع له أهلها كخضوع غيرهم ولم يعظموه ، فغضب لذلك ودعا وزيره وشكى إليه فعلهم ، فقال : إنهم عرب لا يعرفون شيئا ولهم بيت يقال له الكعبة وهم معجبون به ، فنزل الملك بعسكره ببطحاء مكة وعزم على هدم البيت وقتل الرجال ونهب النساء وسبيهم ، فأخذه الصداع وتفجر من عينيه وأذنيه ومنخريه وفمه ماء منتن فلم يصبر عنده أحد طرفة عين من شدة النتن.

(فقال لوزيره) اجمع العلماء والحكماء والأطباء فلم يقدروا على الجلوس عنده ، وعجزوا عن مداواته وقالوا : نحن نقدر على مداواة ما يعرض من أمور الأرض ، وهذا من السماء لا نستطيع له ردا ، ثم اشتد أمره وتفرق الناس عنه ، فلما أقبل الليل جاء أحد العلماء لوزيره فقال : إن بينى وبينك سرا ، فإن كان الملك يصدقنى فى حديثه عالجته ، فاستبشر الوزير بذلك وجمع بينه وبين الملك ، فلما خلا به قال له العالم : أيها الملك أنت نويت لهذا البيت سوءا ، قال : نعم ، فقال له العالم : أيها الملك نيتك أحدثت لك هذا الداء ، ورب هذا البيت عالم بالأسرار ، بادر وارجع عما نويت ، فقال الملك : قد أخرجت ذلك من قلبى ونويت لهذا البيت وأهله كل خير ، فلم يخرج العالم من عنده الا وقد عافاه الله تعالى من علته فآمن بالله من ساعته وخلع على الكعبة سبعة أثواب ، وهو أول من كسا الكعبة ، كما سأذكره بعد إن شاء الله تعالى.

(ثم خرج) إلى يثرب وليس بها يومئذ بيت وإنما فيها عين ماء فنزل عند العين ثم إن العلماء والحكماء أخرجوا من بينهم أربعمائة وهم أعلمهم وتبايعوا أن لا يخرجوا من يثرب وإن قتلهم الملك فلما علم الملك بذلك سألهم عن الحكمة التى اقتضت إقامتهم فى هذه البلدة؟ فقالوا : أيها الملك إن ذلك البيت وهذه البقعة يشرفان برجل يبعث فى آخر الزمان اسمه محمد ، ووصفوه ثم قالوا : طوبى لمن أدركه وآمن به ، ونحب أن ندركه أو يدركه أولادنا ، فلما سمع الملك بذلك هم بالمقام معهم فلم يقدر على ذلك فأمر بعمارة أربعمائة دار على عدة العلماء ، وأعطى كل واحد منهم جارية وأعتقها وزوجه بها ، وأعطاهم مالا جزيلا.

٥٣

ثم كتب كتابا وختمه بخاتم من ذهب ودفعه إلى عالمهم الكبير ، الذى أبرأه من علته وأمره أن يدفعه إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أدركه ، وإلا يوصى بذلك أولاده ثم أولادهم.

وكان الكتاب أما بعد : فإنى آمنت بك وبكتابك الذى ينزل عليك ، وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك وبكل ما جاء من ربك من شرائع الإيمان والإسلام ، فإن أدركتك فبها ونعمت ، وإلا فاشفع لى ولا تنسنى يوم القيامة فإنى من أمتك الأولين ، وقد بايعتك قبل مجيئك وأنا على ملتك وملة إبراهيم أبيك عليه‌السلام.

ثم نقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد ، وكتب عنوانه : إلى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب نبى الله ورسوله وخاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبع الأول حمير ابن وردع ، ثم سار من يثرب إلى بلاد الهند فمات بها ، وكان من يوم موته إلى اليوم الذى بعث فيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف سنة لا تزيد ولا تنقص.

مطلب : آباء الأنصار أولئك الأربعمائة حكيم

وكان الأنصار من أولاد أولئك العلماء والحكماء (فلما ظهر خبره) صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة أرسلوا إليه كتاب تبع مع رجل منهم يقال له : أبو ليلى إلى مكة فوجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قبيلة بنى سليم ، فعرفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : أنت أبو ليلى؟ فقال : نعم ، قال : معك كتاب تبع الأول ، قال : نعم ، وبقى أبو ليلى متفكرا ، ثم دفع الكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدفعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى على بن أبى طالب فقرأه عليه ، فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلام تبع قال : مرحبا بالأخ الصالح ثلاث مرات ، ثم أمر أبا ليلى بالرجوع إلى المدينة يبشرهم بقدومهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مطلب : أبو أيوب الذى نزل عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم

من ولد العالم الذى شفى به تبع

(فلما هاجر) النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة سأله أهل القبائل أن ينزل عليهم وصاروا يتعلقون بزمام ناقته وهو يقول : خلوها فإنها مأمورة ، حتى جاءت إلى دار أبى أيوب الأنصارى ، وكان من أولاد العالم الذى شفى تبع برأيه. انتهى بمعناه.

٥٤

مطلب : على وجه تسمية قعيقعان وأجياد بذلك

وقيل : بل سبب عزمه على هدم البيت أن جماعة من هذيل ممن يحسد قريشا حسنوا لتبع هدم الكعبة ، وأن يبنى بيتا عنده ويصرف حجاب العرب إليه ، فلما سار لهذا القصد حصل له ما حصل ، فأقلع عن ذلك كما تقدم ، وأمر بقتل الهذليين ، ثم لما قدم مكة كان سلاحه بالموضع المعروف بقعيقعان فلذلك سمى به ، وقيل لغير ذلك ، وكانت خيله بالمكان المعروف بأجياد ، فقال : سمى بذلك لهذا ، وقيل : لغيره ، وكانت مطابخه فى الشعب المعروف بعبد الله بن عامر بن كريز ، فلذلك سمى الشعب بالمطابخ ، وأقام بمكة أياما ينحر كل يوم مدة إقامته مائة بدنة لا يرزأ هو ولا أحد ممن فى عسكره منها شيئا ، بل يردها الناس ثم الطير ثم السباع.

(وأما قصة أصحاب الفيل) إذ قصدوا تخريب البيت فأهلكهم الله تعالى ، فروى أن الحبشة لما ملكت اليمن وعليهم أبرهة الأشرم ، بنوا كنيسة بصنعاء كالكعبة وصرفوا حجاج الكعبة إليها فسمع بذلك رجال من قريش فتوجهوا إليها ودخلوها ولطخوها بالعذرة وهربوا.

فبلغ ذلك أبرهة وعزم على هدم الكعبة وتجهز فى جيش عظيم ، فلما شارف مكة أغار على سرحها فاستاق أموال قريش وأصاب إبلا لعبد المطلب ونزل بعرفة ، فخرج إليه عبد المطلب فلما رآه أبرهة نزل عن سرير ملكه إجلالا له وقال لترجمانه : سله عن حاجته ، فسأله ، فقال : حاجتى أن يرد علىّ مائتى بعير أصابها قومه. فقال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتنى حين رأيتك ، ولقد زهدت الآن فيك حيث جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك لأهدمه فلم تكلمنى فيه وكلمتنى فى إبل أصبتها ، فقال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه ، وفى رواية يحميه ، فعظم كلامه عنده ، ورد عليه إبله.

ثم خرج عبد المطلب وأمر قريشا أن يتفرقوا فى الشعاب ورءوس الجبال خوفا عليهم من معرة الجيش إذا دخل ففعلوا ، وأتى عبد المطلب إلى الكعبة وأخذ بحلقتها (١). وجعل يقول(٢) :

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٤٩.

(٢) سيرة ابن هشام ج ١ ص ٥١.

٥٥

لا هم إن المرء يم

نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم غدوا محالك

جروا جموع بلادهم

والفيل كى يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم

جهلا وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع

بتنا فأمر ما بدا لك

ومعنى محالك أى مكرك ، ومنه : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) وقال أيضا :

يا رب لا أرجو لهم سواكا

يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت قد عاداكا

فامنعهم أن يخربوا قراكا

ثم إن أبرهة أصبح متهيئا لدخول مكة ووجهوا الفيل إليها فنكص على عقبيه راجعا وبرك ، فأدخلوا الحديدة فى أنفه حتى خرموه فلم يساعدهم على التوجه إلى مكة فوجهوه إلى اليمن وإلى غيره من الجهات فهرول فوجهوه إلى مكة فأبى.

فبينما هم كذلك إذ أرسل عليهم طيرا من جهة البحر أبابيل ، أى : جماعات ، تجىء شيئا بعد شىء ، يحمل كل طير منهم ثلاثة أحجار صغار حجرين فى رجليه وحجرا فى منقاره إذا وقع الحجر على رأس أحدهم خرج من دبره فأهلكهم الله جميعا.

ويروى أن كل حجر كان مكتوبا عليه اسم الذى يقع عليه ، وبعث الله على أبرهة داء فى جسده فتساقطت أنامله وانصدع صدره قطعتين فهلك.

واختلف فى مقدار الحجارة ، فقيل : كانت كأمثال الحمص ، وقيل غير ذلك ، ورأى

٥٦

أهل مكة الطير لما أقبلت من ناحية البحر فقال عبد المطلب : إن هذا الطير لغريب ، ثم بعث ابنه عبد الله أبا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فرس ينظر فرجع وهو يركض ، ويقول : هلك القوم جميعا ثم خرج عبد المطلب وقريش وغنموا أموالهم.

وروى أنه لم ينج منهم إلا أبو يكسوم فسار راجعا وطائر يطير فوقه ولا يشعر به حتى دخل على النجاشى وأخبره بمصاب القوم فما استتم كلامه حتى رماه الطير فمات. ومن يومئذ احترمت الناس قريشا وقالوا هم جيران الله يدافع عنهم.

وذكر العلامة ابن بحرق الحضرمى رحمه‌الله فى سيرته النبوية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يومئذ حملا وولد بعد الفيل بخمسين ليلة ، والله أعلم.

(ومنها) تعجيل الانتقام لمن تعاطى عنده ما لا يليق ، فمن ذلك ما حكى أن رجلا كان فى الطواف فبرق له ساعد امرأة فوضع ساعده عليه متلذذا به فلصق ساعداهما ، فقال له بعض الصالحين : ارجع إلى المكان الذى فعلت فيه فعاهد رب البيت أن لا تعود بإخلاص وصدق نية ففعل ، فخلى عنه وانفصل ساعده.

(ومنها) قضية إساف لما فجر بنائلة فى البيت مسخا حجرين ، وهما الصنمان اللذان كانا على زمزم تنحر لهما قريش فى الجاهلية وتعبد هما وقالوا لو لا أن الله رضى بهما أن يعبدا معه ما نكسهما. فأنزل الله تعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (سورة آل عمران : ٧٥) ولم يزالا يعبدان حتى كان يوم فتح مكة فخرجت من نائلة عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها وتدعو بالويل والثبور فيروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تلك أيست أن تعبد ببلادكم» وكان إساف ونائلة من جرهم (١).

(ومنها) قصة المرأة التى جاءت إلى البيت تعوذ به من ظالم ، فجاء فمد يده إليها فصار أشل (٢).

(ومنها) قصة الرجل الذى سالت عيناه على خده من نظرة نظرها إلى شخص فى الطواف استحسنه.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٠٧.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٠٧.

٥٧

ومنها : أن البيت الشريف يفتح فيدخله الجم الغفير من الناس متزاحمين فيسعهم بقدرة الله تعالى ، ولم يعلم أن أحدا مات فيه من الزحام إلا ما وقع فى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كما نقله المؤرخون ، فإنه مات فيه أربعة وثمانون نفرا.

قال العلامة ابن النقاش : والكعبة تسع ألف إنسان وإذا فتحت أيام الموسم دخلها آلاف كثير. قال الجد بوأه الله دار كرامته : فعلى هذا إنها تتسع كما ورد أن منى تتسع كاتساع الرحم.

(ومنها) ما أخرجه الفاكهى فى «تاريخ مكة» بسنده إلى عبد الله بن بكر السهمى عن أبيه أنه قال : جاورت بمكة فعابت أسطوانة من أساطين البيت ، فأخرجت وأتى بأخرى ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع وأدركهم الليل ، والكعبة لا تفتح ليلا ، فتركوها ليعودوا من غد فيصلحوها ، فجاءوا فى الغد فأصابوها أقوم من قدح (١).

قال العلامة ابن حجر : وهذا إسناد قوى رجاله ثقات ، وبكر هو ابن حبيب من كبار التابعين. وكانت هذه القصة فى أوائل دولة بنى العباس ، والأسطوانة من خشب والله أعلم.

وعابت فيما رواه الفاكهى بالعين المهملة والموحدة ـ وقدح ـ بكسر القاف وبالحاء المهملة هو السهم.

(ومنها) كما نقل عن الجاحظ أن الفرقة من الطير من حمام وغيره تقبل حتى إذا كادت أن تبلغ الكعبة انفرقت فرقتين فلم يعل ظهره شىء منها (٢).

ونقل عن جمع من العلماء منهم العز بن جماعة ومكى رحمهما‌الله ، أن ما عوين من ارتفاع الطبر على البيت فللاستشفاء. وأنشدوا فى معنى ذلك :

والطير لا يعلو على أركانها

إلا إذا أضحى بها متألما

قال ابن عطية رحمه‌الله : والقول بأن الطير لا يعلو ضعيف ، فإنه يعاين يعلوه ، وقد علته العقاب التى أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته. انتهى (٣).

__________________

(١) إخبار الكرام ص ٩٧.

(٢) كتاب الحيوان للجاحظ ج ٣ ص ١٩٣.

(٣) إخبار الكرام ص ٩٨.

٥٨

قال الزركشى : وليس فى هذا ما ينافى كلام مكى ، انتهى ، قال الجد رحمه‌الله : قلت : وتوجيه عدم منافاته أن ما عوين من ذلك قد يكون للاستشفاء ، وأما العقاب فلأخذ الحية المذكورة ، ثم قال أيضا : والمعروف عند أهل مكة المشرفة قبل وقتنا هذا ما قاله مكى وابن جماعة وغيرهما. وأما فى وقتنا هذا فما قاله ابن عطية فإن الطيور الآن تعلوه كثيرا ويتكرر منها ذلك فى الساعة الواحدة ، وهذا مشاهد لا ينكر ، ولعل حدوث ذلك بسبب ما وقع من نقض السقف والتغيرات الواقعة والله أعلم. انتهى بنصه (١).

أقول : وتوجيه قول الجد رحمه‌الله ظاهر ، إذ يحتمل أنه كان فى السقف المنقوض وفيما غير منه شىء من الإرصاد يمنع من ذلك ، فزال عند النقض والتغيير ، والله الموفق. انتهى(٢).

(ومنها) ما وقع عن التوربشتى فى «شرح المصابيح» أنه قال : ولقد شاهدت من كرامة البيت أيام مجاورتى بمكة أن الطير كان لا يمر فوقه ، وكنت كثيرا أتدبر تحليق الطيور فى ذلك الجو فأجدها مجتنبة عن محاذاة البيت ، وربما انقضت من الجو حتى تدانت فطافت به مرارا ثم ارتفعت.

ثم قال أيضا : ومن آيات الله البينة فى كرامة البيت أن حمامات الحرم إذا نهضت للطيران طافت حوله مرارا من غير أن تعلوه فإذا وقفت عن الطيران وقعت على شرفات المسجد أو على بعض الأسطحة التى حول الكعبة من المسجد ولا تقع على ظهر البيت مع خلوها عما ينفره ، وقد كنا نرى الحمامة إذا مرضت وتساقط ريشها وتناثر ترتفع من الأرض حتى إذا دنت من ظهر البيت ألقت بنفسها على الميزاب أو على طرف ركن من الأركان فتبقى به زمانا طويلا كهيئة المتخشع لا حراك فيها ثم تنصرف بعد حين من غير أن تعلو شيئا من سقف البيت.

(ومنها) أن المطر إذا عمه من جميع جوانبه دل ذلك على حصول الخصب فى جميع جهات الأرض ، فإن كان المطر من جانب ، أخصب من الأرض ما بإزائه من الجهة (٣).

__________________

(١) إخبار الكرام ص ٩٩.

(٢) إخبار الكرام ص ٩٩.

(٣) إخبار الكرام ص ١٠٠.

٥٩

(ومنها) أن الله تعالى يلحظه فى كل عام لحظة فى ليلة النصف من شعبان.

(ومنها) أن خمسة من جرهم تواعدوا أن يسرقوا ما فى خزانة الكعبة من الحلى ، فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم ، واقتحم الخامس ، فجعل الله تعالى أعلاه أسفله وسقط منكسا فهلك وفر الأربعة (١).

وبعث الله تعالى حية سوداء الرأس والذنب ، وباقيها أبيض. فحرست البيت خمسمائة سنة ، وهى التى اختطفها العقاب ، كما تقدم. ويروى أن هذه الحية هى الدابة التى تخرج عند قيام الساعة تكلم الناس. كذا نقله ابن جماعة (٢).

(ومنها) ما روى عن ابن عباس أن رجلا قرشيا قتل هاشميا فى الجاهلية وأنكر قتله. فقال له أبو طالب : اختر إحدى ثلاث : إما أن تؤدى مائة من الابل ، وإما أن يحلف خمسون رجلا من عشيرتك أنك لم تقتله ، وإلا قتلناك. فاختار عشيرته الحلف. فقبل أبو طالب عن واحد منهم الفداء ، وأطلق آخر بشفاعة أمه فيه ، وحلف ثمانية وأربعون عند البيت. قال ابن عباس : فوالذى نفسى بيده ما جاء الحول ومنهم عين تطرف. وقال إن ذلك أول قسامة فى الجاهلية (٣).

(ومنها) أيضا أن خمسين رجلا من بنى عامر بن عامر بن لؤى حلفوا فى الجاهلية عند البيت على قسامة باطلا. ثم خرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نزلوا تحت صخرة ، فبينما هم قائلون إذ أقبلت الصخرة عليهم. فخرجوا من تحتها يسعون ، فانفلقت خمسين فلقة فأدركت كل فلقة رجلا فقتلته (٤).

(ومنها) ما روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل رجلا من بنى سليم عن ذهاب بصره فقال : يا أمير المؤمنين ، كنا بنى الضبعاء عشرة ، وكان لنا ابن عم فظلمناه ، فكان يذكّرنا بالله والرحم أن نكف عنه ، وكنا أهل جاهلية نرتكب كل الأمور ، فلما رآنا لا نرد ظلامته أمهل (٥) حتى إذا دخلت الأشهر الحرم انتهى إلى الحرم فجعل يرفع يديه ويقول :

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٠٠.

(٢) إخبار الكرام ص ١٠١.

(٣) إخبار الكرام ص ١٠١.

(٤) إخبار الكرام ص ١٠٢.

(٥) تحرف فى المطبوع إلى : «انسهل» والمثبت رواية الأسدى وهو ينقل عن المصنف.

٦٠