الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

ممن هو أسن منه وممن هو مثله وممن هو دونه. وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال : منهومان لا يشبعان : طالب العلم وطالب الدنيا ، وهما لا يستويان ، أما طالب العلم فيزداد رضى الرحمن ، وأما طالب الدنيا فيزداد فى الطغيان ثم قرأ : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) وما أحسن قول بعضهم :

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم

على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه

والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حيا به أبدا

فالناس موتى وأهل العلم أحياء

وقيل للحسين بن الفضل رضى الله عنه : هل تجد فى القرآن من جهل شيئا عاداه؟فقال : نعم ، فى موضعين : قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (سورة يونس : ٣٩) وقوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (سورة الأحقاف : ١١).

وقال يحيى بن معاذ الرازى رضى الله عنه : العلماء أرأف بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرحم عليهم من آبائهم وأمهاتهم ، وذلك أن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها ، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها.

وقال سفيان الثورى رضى الله عنه : العجائب عامة وفى آخر الزمان أعم ، والنوائب طامة وفى أمر الدين أطم. والمصائب عظيمة ، وموت العلماء أعظم ، وإن العالم حياته رحمة للأمة ، وموته فى الإسلام ثلمة.

وعن معاذ : تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، وما أحسن قول الزمخشرى :

وكل فضيلة فيها سناء

وجدت العلم من هاتيك أسنى

٢١

فلا تعتد غير العلم ذخرا

فإن العلم كنز ليس يفنى

وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال : باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع.

وعن عمر رضى الله عنه : موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العالم البصير بحلال الله وحرامه.

والكلام فى هذا يطول ، ولنختم هذا النوع بحديث نبوى ورد فى الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس ، ولكن يقبض العلماء ، حتى لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير بعلم فضلوا وأضلوا» وهذا التعليق لا يحتمل أكثر من هذا. وفيما ذكرته مقنع.

اللهم إنى أسألك بجاه نبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ترزقنى علما نافعا وتختم لى بخير وتحشرنى فى زمرة من ذكرتهم بقولك تبارك اسمك : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (سورة النساء : ٦٩) آمين يا رب العالمين.

٢٢

الباب الأول

فى مبدأ أمر الكعبة الشريفة وبيان فضلها وشرفها

وما يدل على ذلك من الآيات والأحاديث والآثار والحكايات والعجائب

[وما سبب تسميتها كعبة وتسميتها بالبيت العتيق](١)

أما الآيات فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) (سورة آل عمران : ٩٦ ، ٩٧) الآيتين. قال الكواشى : سبب نزول هاتين الآيتين أن اليهود لما قالوا للمسلمين : قبلتنا قبل قبلتكم أنزل الله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ).

واختلف فى معنى كونه أول بيت وضع للناس ، فقيل : أول بيت وضعه الله للطاعات وجعله متعبدا وقبلة للصلوات وموضعا للطواف ، ويدل عليه ما روى عن على رضى الله عنه، أنه سئل أهو أول بيت وضع؟ فقال : كان قبله بيوت ولكنه أول متعبد. وقيل : أول بيت بنته الملائكة فلما حجه آدم قالت له الملائكة : بر حجك فإنا قد حججنا قبلك بألفى عام. وقيل : أول بيت بناه آدم. وقيل : أول بيت بناه إبراهيم ، وقيل : أول بيت حج بعد الطوفان. وقيل : أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السموات والأرض. فهذه ستة أقوال.

وبيان القول الأخير أن الله تعالى كان ولم يكن شىء قبله ، وكان عرشه على الماء وليس هو ماء البحر بل هو ماء تحت العرش بكيفية شاءها الله تعالى. فقيل : إنه خلق السماء دخانا قبل الأرض وفتقها سبعا بعد الأرض. ورده بعضهم بأن خلق الأرض كان أولا مستدلا بقوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (سورة فصلت : ٩) إلى قوله : (طائِعِينَ.) قال النسفى فى تفسيره المسمى «بالمدارك» : يفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض ، وبه قال ابن عباس رضى الله عنه واختاره الشيخ جلال الديبن السيوطى من المتأخرين ، وأجاب بذلك عن سؤال رفع إليه صورته :

يا عالم العصر لا زالت أناملكم

تهمى وجودكم نام مدى الزمن

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

٢٣

لقد سمعت خصاما بين طائفة

من الأفاضل أهل العلم واللسن

فى الأرض هل خلقت قبل السماء وهل

بالعكس جا أثر يا نزهة الزمن

فمنهم قال إن الأرض منشأة

بالخلق قبل السما قد جاء فى السنن

ومنهم من أتى بالعكس مستندا

إلى كلام إمام ماهر فطن

أوضح لنا ما خفى من مشكل وأبن

نجاك ربك من زور ومن محن

ثم الصلاة على المختار من مضر

ماحى الضلالة هادى الخلق للسنن

فأجاب رضى الله عنه بما صورته :

الحمد لله ذى الإفضال والمنن

ثم الصلاة على المبعوث بالسنن

الأرض قد خلقت قبل السماء كما

قد نصه الله فى حاميم فاستبن

ولا ينافيه ما فى النازعات أتى

فدحوها غير ذاك الخلق للفطن

فالحبر أعنى ابن عباس أجاب بذا

لما أتاه به قوم ذوو لسن

وابن السيوطى قد خط الجواب لكى

ينجو من النار والآثام والفتن

انتهى بنصه.

٢٤

فإن قيل : هل قول السماء والأرض كان بلسان الحال أم المقال : قيل : إن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما. وقيل : إن الله خلق فيهما كلاما فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء ما بحيالها.

مطلب : أصل طينة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة

قال الثعلبى : خلق الله تعالى جوهرة خضراء ثم نظر اليها بالهيبة فصارت ماء فخلق الله الأرض من زبده والسماء من بخاره فكان أول ظاهر على وجه الأرض مكة. زاد غيره ثم المدينة ثم بيت المقدس ثم دحا الأرض منها طبقا واحدا ثم فتقها بعد ذلك وكذلك السماء. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال أصل طينة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سرة الأرض بمكة. قال بعض العلماء : فى هذا إيذان بأنها التى أجابت من الأرض ، وعن كعب الأحبار رضى الله عنه قال : كانت الكعبة غثاء على الأرض. قبل خلق السموات والأرض بأربعين سنة ، ومنها دحيت الأرض فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأصل فى التكوين والكائنات تبع له.

مطلب : مدفن الإنسان بتربته

فإن قيل : مدفن الإنسان يكون بتربته ، أى مكان طينته التى خلق منها وهوصلى‌الله‌عليه‌وسلم دفن بالمدينة الشريفة ، أجاب بعض العلماء أن الماء لما تموج عند وقوع الطوفان ألقى تلك الطينة إلى ذلك الموضع من المدينة الشريفة. وعن ابن عباس رضى الله عنه قال : لما كان العرش على الماء قبل أن تخلق السموات والأرض بعث الله ريحا هفافة ـ بفاءين ـ فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة فى موضع البيت كأنها قبة ، فدحا الله الأرضين من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها بالجبال.

مطلب : أول جبل وضع فى الأرض أبو قبيس

وكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس ، فلذلك سميت مكة أم القرى أى أصلها. والخشفة بالخاء والشين المعجمتين والفاء واحدة الخشف ، وهى حجارة تنبت فى الأرض نباتا.

وروى عمر بن شبة فى أخبار مكة : خشعة بالعين المهملة عوضا عن الفاء وهى أكمة لاطية بالأرض. وقيل : هو ما غلب عليه السهولة وليس بحجر ولا طين. ويقال للجزيرة التى فى البحر لا يعلوها الماء خشفة بالفاء وجمعها خشاف.

٢٥

وقوله فى الآية السابقة : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) (سورة ال عمران : ٩٦) أى كثير الخير لما يحصل لمن حجه أو اعتمره أو عكف عنده أو طاف حوله من الثواب.

وانتصاب مباركا على الحال. قال الزجاج وغيره : المعنى استقر بمكة فى حال بركته وهو حال من وضع ، وقوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) (سورة ال عمران : ٩٧) قال النسفى فى «تفسيره» : أى علامات واضحات لا تلتبس على أحد.

ومقام إبراهيم : عطف بيان لقوله آيات بينات ، وصح بيان الجماعة بالواحد ، لأنه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه‌السلام من تأثير قدمه فى صخر صلد ، أو لاشتماله على آيات ، لأن أثر القدم فى الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم‌السلام آية لإبراهيم خاصة.

وقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (سورة ال عمران : ٩٧) عطف بيان لآيات ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله. والآيتان فى معنى الجمع ، ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهم دلالة على تكاثر الآيات ، فكأن المعنى مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما ، ونحوه فى طى الذكر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حبب إلى من دنياكم ثلاث» وقيل إن لفظ ثلاث موضوعة لا أصل لها فى الحديث ، كما صرح به بعض أئمة الحديث «الطيب والنساء وقرة عينى فى الصلاة» فقرة عينى ليس من الثلاث ، بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا ، والثالث مطوى. انتهى باختصار.

مطلب : أول مسجد وضع بالأرض المسجد الحرام

وعن أبى ذر رضى الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أى مسجد وضع فى الأرض أولا؟ قال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أى؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما؟ قال : أربعون عاما.

وفى ذلك إشكال أشار إليه جدى ـ أى جد المؤلف قاضى القضاة شيخ الاسلام خطيب المسجد الحرام فخر الدين أبو بكر بن على بن ظهيرة الشافعى تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوح جنته ـ فى منسكه المسمى «بشفاء الغليل فى حج بيت الله الجليل» وهو أن

٢٦

مسجد مكة بناه إبراهيم عليه‌السلام بنص القرآن (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) (سورة البقرة : ١٢٧) الآية. والمسجد الأقصى بناه سليمان كما جاء فى حديث ابن عمر ، أخرجه النسائى بإسناد صحيح. وبين إبراهيم وسليمان زمان طويل يزيد على ألف سنة كما قاله أهل التواريخ ، فكيف قال فى الحديث : بينهم أربعون سنة؟ والجواب عن ذلك بأنه يحتمل أن ابراهيم وسليمان إنما جددا ما بناه غيرهما كما سيأتى آنفا من أن أول من بنى البيت آدم ، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس بعده بأربعين عاما. ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن من الله تبارك وتعالى ، فعلى هذه الأقاويل يكون قوله تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) وضع على ظاهره ، وهو الذى عليه جمهور العلماء وصححه النووى. انتهى بمعناه.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) (سورة البقرة : ١٢٥) المراد بالبيت الكعبة ، لأنه غالب عليها كالنجم للثريا. ومثابة : قال النسفى : مباءة ومرجعا للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه.

وأمنا موضع أمن ، فإن الجانى يأوى إليه فلا يتعرض له حتى يخرج ، وهو دليل لنا فى الملتجئ إلى الحرم. انتهى.

وأصل الثوب لغة : الرجوع ، ومن ذلك قوله تعالى عقب هذه الآية : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) (سورة البقرة : ١٢٥) الآية ، المعنى : طهراه من الأوثان والأنجاس والخبائث كلها. والمراد بالطائفين : الدائرون حوله. وبالعاكفين : قيل : المجاورون الذين عكفوا عنده أى أقاموا لا يبرحون.

وقيل : المعتكفون ، وقيل : الطائفون النزاع إليه من البلاد. والعاكفون : المقيمون عنده من أهل مكة.

مطلب : قبلته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) (سورة البقرة : ١٤٣) ثم قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) (سورة البقرة : ١٤٤) الآيات.

٢٧

وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود ثم حول إلى الكعبة.

قال النسفى : أى وما جعلنا القبلة التى تحب أن تستقبلها الجهة التى كنت عليها أولا بمكة الا امتحانا للناس وابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه فيرتد ، فقد ارتد عن الإسلام عند تحويل القبلة جماعة. انتهى.

والمراد بقوله : (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بمعنى المحرم هو الكعبة. قال الكواشى : وذكر النسفى أن المراد جهته وسمته أى جعل تولية الوجه تلقاء المسجد وشطره نصب على الظرف أى نحوه ، لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائى.

وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين. انتهى ، وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ) (سورة البقرة : ١٤٤) قال الزمخشرى أى إن التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان فى بشارة أنبيائهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يصلى إلى القبلتين.

مطلب : تحويل القبلة

فائدة : قال العلامة شهاب الدين أبو الفضل بن العماد الأقفهسى فى الدرة الضوية فى هجرة خير البرية : كان تحويل القبلة فى السنة الثانية من الهجرة. ثم قال : قال النووى ناقلا عن محمد بن حبيب الهاشمى : حولت القبلة فى ظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان ، كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أصحابه فحانت صلاة الظهر فى منازل بنى سلمة ـ بكسر اللام ـ فصلى بهم ركعتين من الظهر فى مسجد القبلتين إلى بيت المقدس ، ثم أمر وهو فى الصلاة باستقبال الكعبة وهو راكع فى ثالثة فاستدار واستدارت الصفوف خلفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتم الصلاة ، فسمى مسجد القبلتين.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمورا بالصلاة إلى بيت المقدس مدة مقامه بمكة وبعد الهجرة بستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، ثم قال ـ أعنى ابن العماد : قول النووى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا باستقبال بيت المقدس مدة إقامته بمكة قد جزم البغوى بخلافه فقال فى تفسير قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) (سورة البقرة : ١٤٤) الآية ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يصلون

٢٨

بمكة إلى الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم بما يجدون من نعته فى التوراة ، فصلى إليها ستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة إبراهيم.

وقال مجاهد : كان يحب ذلك من أجل أن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا ويصلى إلى قبلتنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل : وددت لو حولنى الله إلى الكعبة ، فقال له سل ربك. فجعلصلى‌الله‌عليه‌وسلم يديم النظر إلى السماء فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) (سورة البقرة : ١٤٤) الآيات. انتهى بنصه.

وما جزم به البغوى من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة هو المعتمد وعليه أكثر المفسرين وأصحاب السير.

مطلب : المختار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن متعبدا

بشرع من قبله بعد البعثة

واختلف العلماء هل كان ذلك باجتهاد أو بأمر من ربه؟ وهذا تفريع على الأصح من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتعبد بشرع غيره بعد البعثة. ومن ذلك قوله تعالى فى سورة المائدة : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) (سورة المائدة : ٢) أى لا تحلوا من قصده من الحجاج والعمار ، وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها ، قاله النسفى.

أقول : وتوجيهه أن المتنسكين إنما أرادوا تعظيم هذا البيت المشرف وجزيل الثواب ، وفى الإحالة إبطال ذلك ، والله الموفق.

وفى «تفسير الكواشى» : (وَلَا آمِّينَ) أى ولا قتال قاصدين البيت ، فإن قيل : هذا عام فى المؤمنين والمشركين أم انتسخ الحكم فى حق المشركين؟ فالجواب أنه منسوخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (سورة التوبة : ٥) وبقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (سورة التوبة : ٢٨) وهو المشهور.

٢٩

مطلب : عن الحسن وغيره ليس فى المائدة منسوخ

وعن الحسن وغيره ليس فى المائدة منسوخ. ومن ذلك قوله تعالى فى السورة المذكورة (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (سورة المائدة : ٩٥) فبالغ الكعبة صفة لهديا وجاز الوصف بذلك لأن إضافته غير حقيقية كما صرح به النحاة. ومعنى بلوغ الكعبة أن يذبح بالحرم وهو فناء المسجد الذى هو فناء للبيت ، كل ذلك تعظيما لهذا البيت أن لا تقام هذه القربة إلا فى حرمه ، ولا يجزئ الذبح فى غيره.

فروع : الأول : الهدى المذكور فى الآية هو جزاء الصيد ، ويجب على المحرم عندنا بقتله الصيد سواء كان ناسيا أو عامدا أو مبتدئا وهو الذى قتل الصيد مرة أو عائدا وهو الذى قتل مرة بعد أخرى ، بل العائد عندنا أشد جناية خلافا لمن يقول لا جزاء على العائد لأن الله تعالى قال : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) (سورة المائدة : ٩٥) جعل كل جزاء العائد الانتقام فى الآخرة فلا تجب الكفارة.

والجواب عنه بأن وجوب الكفارة فى العائد مستفاد من الآية بدلالة النص ، والمراد من قوله : ومن عاد ، العود مستحلا.

الثانى : يجب الجزاء على المحرم عندنا بالدلالة أيضا خلافا للشافعى لأنه يقول : الجزاء متعلق بالقتل فى قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) (سورة المائدة : ٩٥) ليست بقتل ولنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أشرتم هل دللتم ... الحديث. مع أن فى الدلالة عليه تفويتا لأمنه وهو قتل معنى.

الثالث : يجوز التصدق بلحوم الهدايا عندنا على مساكين الحرم وغيرهم سواء كان التصدق بالحرم أو حيث شاء بعد أن حصلت الإراقة فى الحرم ، وعند الشافعى رحمه‌الله لا يجوز التصدق إلا بالحرم على مساكينه فقط نص عليه ابن خليل فى «منسكه» ومن ذلك قوله عقيب الآية المتقدمه آنفا (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (سورة المائدة : ٩٧) أى قواما لهم فى أمر دينهم ودنياهم فلا يزال فى الأرض دين ما حجت وعندها المعاش والمكاسب كذا فى «منسك» ابن جماعة. قال الجد تغشاه الله برحمته بعد ذكر هذه الآية : أى ركز فى قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى على أحد وصارت وازعا لهم من الأذى

٣٠

وهم فى الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون نارا إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم بعضا ، فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك. هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر ، وبالجملة فهو سبب لقيام مصالح الناس فى أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم : أما فى أمر الدين فإن به يقوم الحج وتتم المناسك ، وأما فى أمر الدنيا فإنه تجبى إليه ثمرات كل شىء ويأمنون فيه ، وأما فى الآخرة فلأن المناسك لا تقام إلا عنده ، وهى سبب لعلو الدرجات وتكفير الخطيئات وزيادة الكرامات والمثوبات. انتهى. بحروفه.

وروى عن الحسن البصرى أنه تلا هذه الآية ثم قال : لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة.

مطلب : وجه تسمية البيت الحرام كعبة

وفى تسمية البيت كعبة أقوال ، فقيل : لتكعبه أى تربعه ، يقال برد مكعب إذا طوى مربعا ، وقيل لعلوه ونتوئه ، ومنه سمى الكعب كعبا لنتوئه وخروجه من جانب القدم ، يقال تكعبت الجارية إذا خرج نهداها ، وقيل لانفرادها عن البيوت وارتفاعها. وذكر الأزرقى رحمه‌الله فى «تاريخه» أن الناس كانوا يبنون بيوتهم مدورة تعظيما للكعبة» (١).

مطلب : أول من بنى بيتا مربعا بمكة حميد بن زهير

وأول من بنى بيتا مربعا حميد بن زهير ، فقالت قريش : ربع حميد بيتا ، إما حياة وإما موتا (٢).

وذكر أيضا أن شيبة بن عثمان كان يشرف فلا يرى بيتا مشرفا على الكعبة إلا أمر بهدمه.

ونقل عن جده عن يوسف بن ماهك قال : كنت جالسا مع عبد الله بن عمرو بن العاص فى ناحية المسجد الحرام إذ نظر إلى بيت على أبى قبيس مشرف على الكعبة فقال : أبيت ذلك؟ قلت : نعم ، فقال : إذا رأيت بيوت مكة قد علت أخشبيها كذا وفجرت بطونها أنهارا فقد أزف الأمر. أى : قرب (٣).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٨٠.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٨٠.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٨٠.

٣١

وذكر أن العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس لما بنى داره التى بمكة على الصيارفة حيال المسجد الحرام أمر القوام أن لا يرفعوا بناءها فيشرفوا به على الكعبة إعظاما لها ، وأن الدور التى كانت تشرف على الكعبة هدمت وخربت إلا دار العباس هذه فإنها على حالها إلى اليوم. انتهى بمعناه (١).

وأخرج ابن شبة البصرى فى مؤلفه «أخبار مكة» أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما قدم مكة رأى حول الكعبة بناء قد أشرف عليها فأمر بهدمه وقال : ليس لكم أن تبنوا حولها ما يشرف عليها. انتهى.

أقول : إذا كانت العلة فى عدم العلو والإشراف هى الإعظام ، فارتفاع البيوت الموجودة الآن المحيطة بالمسجد تؤذن بتركه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وبالجملة التطاول فى البنيان من علامات الساعة على حد قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان» لأن المراد من الحديث الإخبار بتغير الأحوال وتبدلها كما قال الإشبيلى. وفيه دليل على كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده. ومات صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يشيد بناء ولا طوله. انتهى.

وما تقدم عن عبد الله بن عمرو بن العاص آنفا مشعر بذلك حيث قال : فقد أزف الأمر.

وأما تسميته بالبيت الحرام فلأن الله تعالى حرمه وعظمه وحرم أن يصاد صيده وأن يختلى خلاه وأن يعضد شجره وأن يتعرض له بسوء. ثم المراد بتحريم البيت سائر الحرم على حد قوله تعالى (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (سورة المائدة : ٩٥) فإن المراد بها الحرم كما تقدم آنفا. ومن ذلك قوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ) (سورة الحج : ٢٦) أى المقيمين بمكة ، وناهيك بهذه الإضافة المنوهة بذكره المعظمة لشأنه الرافعة لقدره. وكفى ذلك شرفا وفخرا ، وبه علا على سائر البقاع عظمة وقدرا ، وما أحسن ما قيل فى ذلك المعنى :

وكفى شرفا أنى مضاف إليكم

وأنى بكم أدعى وأدعى وأعرف

وهى من السر فى إقبال قلوب العالمين عليه وعكوفهم لديه ، وأنشد فى المعنى :

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٨٠.

٣٢

لا يرجع الطرف منه حين يبصره

حتى يعود إليه الطرف مشتاقا

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (سورة الحج : ٢٩) والمراد به طواف الزيارة الذى هو ركن فى الحج باتفاق الأئمة الأربعة ، ولا يحصل تمام التحلل إلا به ، وهو آخر فرائض الحج الثلاثة ، ثم قال قال النسفى : وهو : مطاف أهل الغبراء كما أن العرش مطاف أهل السماء.

مطلب : تسمية الكعبة البيت العتيق

واختلف فى تسميته بالعتيق ، فقيل : لأن الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار. قيل : لقدمه لأنه أول بيت وضع كما تقدم ، والعتيق القديم ، قاله الحسن. وقيل : لأنه كريم على الله لأنه لم يجر عليه ملك لأحد من خلق الله فلا يقال بيت فلان وإنما بيت الله. وقيل : لأنه أعتق من الغرق لما أنه رفع زمن الطوفان. وقيل : لشرفه سمى عتيقا. وفيل : لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المؤمنين من العذاب. وقيل : لأنه يعتق زائره من النار وهو قريب مما قبله. وقيل غير ذلك. والقول الأول هو المعتمد وفى هذا من التنويه بشأنه ما لا يخفى.

استطراد : قوله بعد هذه الآية : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) (سورة الحج : ٣٠) الآية ، قال النسفى : الحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله عزوجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل أن يكون عاما فى جميع تكاليفه ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج.

وقيل : حرمات الله خمس : البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والشهر الحرام ، والبلد الحرام ، والمسجد الحرام.

أقول : فعلى هذا القول يكون التعظيم خاصا بهذه الخمس والله الموفق. وذكر الزمخشرى بدل المشعر المحرم حتى يحل ، ومن ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (سورة الحج : ٣٣) أى عنده ، والمراد الحرم الذى هو حريم البيت كقوله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (سورة المائدة : ٩٥) كما تقدم ، والمعنى واحد فلا نطول.

٣٣

نكتة : ثم : للتراخى فى الوقت فاستعيرت للتراخى فى الأحوال آنفا ، والمعنى إن لكم فى الهدايا منافع كثيرة فى دينكم ودنياكم وأعظها وأبعدها شوطا فى النفع محلها إلى البيت العتيق. كذا فى «الكشاف» وهذا بعض ما ورد من الآيات بنصها على فضل هذا البيت وشرفه. وأما ذكره الله ضمن الآيات على سبيل الكناية فكثير كما ذكره المفسرون.

وأما الأحاديث والآثار فأكثر من أن تحصى ، من ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا البيت دعامة الاسلام ومن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر زائرا كان مضمونا على الله إن رده رده بأجر وغنيمة ، وإن قبضه أن يدخله الجنة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خرج فى هذا الوجه لحج أو عمرة فمات لم يعرض ولم يحاسب وقيل له ادخل الجنة» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها» يعنى الكعبة والحرم «فإذا ضيعوا ذلك هلكوا» أخرجه ابن ماجه وسنده حسن .. إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار كما ستأتى مفرقة فى الأبواب الآتية فى مظانها إن شاء الله تعالى مع مزيد بيان وإيضاح. والله أعلم.

٣٤

الباب الثانى

فيما ورد من الآيات الشريفة والعجائب الباهرة المنيفة

فى زيادة تعظيم هذا البيت الشريف وما جاء فى فضله

وما ورد فى فضل المقام وما السبب فى تسميته بالمقام

وفيه فصلان :

الأول : فى ذكر الحجر الأسود وما ورد فى فضله وشرفه وما سبب تسميته بالأسود. والفصل الثانى فى فضل الملتزم.

اعلم أن لهذا البيت المعظم زاده الله تشريفا وتعظيما آيات كثيرة وعجائب غزيرة تدل على شرفه وفضله ، منها : مقام ابراهيم صلوات الله عليه ، وهو لغة موضع قدم القائم ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذى وقف عليه الخليل ، وفى سبب وقوفه عليه أقوال :

الأول : أنه وقف عليه لبناء البيت ، قاله سعيد بن جبير.

الثانى : أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل عليهما‌السلام فلم يجده ، فقالت زوجته انزل ، فأبى ، فقالت : دعنى أغسل رأسك فأتته بحجر فوضع رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته وقد غابت رجله فيه فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته فغابت رجله الثانية فيه فجعله الله من الشعائر. وهذا القول منسوب إلى ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما.

الثالث : أنه وقف عليه للأذان للحج. وذكر الأزرقى فى «تاريخه» أنه لما فرغ من التأذين جعل المقام قبلة فكان يصلى إليه مستقبل الباب. وذكر أيضا أن ذرع المقام ذراع وأن القدمين داخلان فيه سبعة أصابع.

وذكر القاضى عز الدين بن جماعة فى «منسكه» أنه حرر مقدار ارتفاعه من الأرض فكان نصف ذراع وربع وثمن بذراع القماش المستعمل بمصر فى زمنه.

وذكر أن أعلى المقام مربع من كل جهة نصف ذراع وربع وموضع غوص القدمين فى المقام ملبس بفضة وعمقه من فوق الفضة سبع قراريط ونصف قيراط بالذراع المتقدم.

٣٥

أقول : لا مناقضة بين ما ذكره الأزرقى والقاضى عز الدين فى ذرع المقام ، ويمكن الجمع بأن ذرع الأزرقى كان باليد وذرع القاضى عز الدين بالذراع الحديد حسبما تقدم ، وبين ذراع اليد والحديد فرق نحو ثمن أو قريب منه بحسب الأشخاص فتأمل. انتهى.

وأخرج الأزرقى أيضا أن السيول كانت تدخل المسجد الحرام فربما رفعت المقام عن موضعه حتى جاء سيل أم نهشل الذى ماتت فيه فاحتمل المقام فذهب به فوجد بأسفل مكة فأتى به فربط إلى أستار الكعبة فى وجهها ، وكتب بذلك إلى عمر فأقبل فزعا فدخل معتمرا فى رمضان وقد عفا السيل موضع المقام فدعا الناس وسألهم عن موضعه ، فقال المطلب ابن أبى وداعة : عندى علم ذلك ، كنت أخشى عليه هذا فأخذت قدره من موضعه إلى الركن وإلى باب الحجر وإلى زمزم بميقاط وهو عندى فى البيت ، فقال له عمر : اجلس عندى وأرسل إليها فأرسل المطلب فأتى بها فوجدها عمر كما قال ، فشاور الناس عمر واستثبت فقالوا : هذا موضعه فأمر بإحكام ربطه تحته ثم حوله فهو فى مكانه إلى هذا اليوم (١) انتهى بمعناه.

ومكانه هذا هو مكانه فى زمن الخليل عليه‌السلام كما نقله الإمام مالك فى «المدونة» ثم قال : وكانت قريش فى الجاهلية ألصقته بالبيت خوفا عليه من السيول ، واستمر كذلك فى عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهد أبى بكر رضى الله عنه ، فلما ولى عمر رضى الله عنه رده إلى موضعه الآن كما سمعت. انتهى.

وأخرج الأزرقى عن ابن أبى مليكة أنه قال : موضع المقام هذا الذى هو فيه اليوم هو موضعه فى الجاهلية وفى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر وعمر رضى الله عنهما إلا أن السيل ذهب به فى خلافة عمر ثم رد وجعل فى وجهة الكعبة حتى قدم عمر فرده (٢). وفى هذا مناقضة لما قاله مالك رضى الله عنه فى «المدونة» والله أعلم بالحقائق.

وصحح ابن جماعة ما قاله مالك. ويروى أن رجلا يهوديّا أو نصرانيّا كان بمكة يقال له جريج فأسلم ، ففقد المقام ذات ليلة فوجد عنده ، أراد أن يخرجه إلى ملك الروم ، فأخذ منه ثم قتل (٣).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٣٣.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٣٥.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٣٨.

٣٦

ونقل العلامة ابن خليل فى «منسكه الكبير» أن الحجرين الكبيرين المفروشين خلف المقام اللذين يقف المصلى عليها قد صلى عليهما بعض الصحابة.

مطلب : تقبيل المقام واستلامه ليس بسنة

وقال أيضا إن مسح المقام ومسه وتقبيله ليس سنة ، إنما أمرنا بالصلاة عنده ، وروى أن ابن الزبير رأى قوما يمسحون المقام ، فقال : لم تؤمروا بالمسح ، إنما أمرتم بالصلاة عنده. انتهى.

مطلب مهم

بحث : كون المسح والتقبيل ليس سنة لا يمنع من الإتيان بهما على وجه التبرك ، فمن فعل ذلك تبركا فالظاهر أنه لا بأس به فتأمل. والله الموفق.

وروى أن عمر رضى الله عنه قال : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم أومر بذلك. فلم تغب الشمس حتى نزل قوله : (وَاتَّخِذُوا) (سورة البقرة: ١٢٥) الآية. وهذا أحد المواطن التى وافق فيها عمر ربه.

مطلب : فيما يتعلق بالحجر الاسود

(ومنها) الحجر الاسود وحفظه وهو يمين الله فى الأرض ، يشهد لمن استلمه بحق وأنه من الجنة. وسيأتى معنى كونه يمين الله.

وروى عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال «استقبل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكى طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكى فقال : يا عمر ها هنا تسكب العبرات» رواه ابن ماجه والحاكم (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من أحد يدعو عند هذا الركن الأسود إلا استجاب الله له» أخرجه القاضى عياض فى «الشفاء» (٢).

__________________

(١) أخرجه الحاكم فى المستدرك برقم ١٦٧٠.

(٢) الشفاء للقاضى عياض ج ٢ ص ٥٩.

٣٧

مطلب الحجر الأسود والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة

وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال : من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمة. ومعنى فاوض : لابس ، كذا ذكره العلامة ابن جماعة.

وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو مسند ظهره إلى الكعبة «الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ، ولو لا أن الله طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب» (١).

وقد فضّل الله بعض الأحجار على بعض كما فضل بعض البقاع والأيام والبلدان على بعض. وفى رواية : «ولو لا ما مسهما من خطايا بنى آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب». وفى رواية لابن أبى شيبة : «ما بين السماء والأرض ، وما مسهما من ذى عاهة ولا سقيم إلا شفى». وعن ابن عباس رضى الله عنهما عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم» حديث حسن صحيح ، وفى رواية خطايا أهل الشرك» وفى رواية لابن أبى شيبة «من الثلج» وفى رواية «كأنه لؤلؤة بيضاء» وفى رواية : «كأنه ياقوتة بيضاء» وفى رواية للأزرقى : «وإنه لأشد بياضا من الفضة».

وقال القاضى عز الدين بن جماعة : وقد رأيته أول حجاتى سنة ثمان وسبعمائة وبه نقطة بيضاء ظاهرة لكل أحد ، ثم رأيت البياض بعد ذلك قد نقص نقصا بينا. انتهى.

وقال العلامة ابن خليل فى «منسكه الكبير» : وقد أدركت فى الحجر الاسود ثلاثة مواضع بيضاء نقية ، فى الناحية التى إلى باب الكعبة المعظمة : إحداها وهى أكبرهن قدر حبة الذرة الكبيرة ، والأخرى إلى جنبها وهى أصغر منها ، والثالثة إلى جنب الثانية وهى أصغر من الثانية تأتى قدر حبة الدخن. ثم إنى أتلمح تلك النقط فإذا هى كل وقت فى نقص. انتهى بنصه.

لطيفة : أحسن ما ذكر فى تسويده بالخطايا أنه للاعتبار ، ليعلم أن الخطايا إذا أثرت فى الحجر فتأثيرها فى القلوب أعظم وأوقع ، فوجب لذلك أن تجتنب ، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٣٨.

٣٨

قال : «الحجر الأسود يمين الله فى أرضه. فمن لم يدرك بيعة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمسح الحجر فقد بايع الله ورسوله» (١) ومعنى كونه يمين الله فى أرضه أن من صافحه كان له عند لله عهد ، وجرت العادة بأن العهد الذى يعقده الملك لمن يريد موالاته والاختصاص به إنما هو بالمصافحة فخاطبهم بما يعهدونه. قاله الخطابى.

ونقل عن المحب الطبرى أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبّل يمينه ، فنزل الحجر منزلة يمين الملك ، ولله المثل الأعلى (٢).

وروى الشيخان عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قبّل الحجر ثم إنه قال : والله لقد علمت أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، قال بعض الفضلاء : إلا بإذن ، ولو لا أنى رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبلك ما قبلتك ، وقرأ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (سورة الأحزاب : ٢١) وروى أنه لما قال ذلك قال له أبى بن كعب : إنه يضر وينفع ، إنه يأتى يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن قبله واستلمه فهذه منقبة. وفى رواية أيضا أن على بن أبى طالب كرم الله وجهه قال لعمر : بلى يا أمير المؤمنين ، إنه يضر وينفع ، وإن الله لما أخذ المواثيق على آدم كتب ذلك فى رق وألقمه الحجر. وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : يؤتى بالحجر الأسود يوم القيامة وله لسان يشهد لمن قبله بالتوحيد ، فقال عمر رضى الله عنه : لا خير فى عيش قوم لست فيهم يا أبا الحسن. وفى رواية : لا أحيانى الله لمعضلة لا يكون فيها ابن أبى طالب حيّا. وفى أخرى للأزرقى : أعوذ بالله أن أعيش فى قوم لست فيهم يا أبا الحسن.

فوائد :

الأولى : إنما قال عمر رضى الله عنه ذلك لأن الناس كانوا حديثى عهد بعبادة الأصنام ، فخشى أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعله فى الجاهلية ، فأراد عمر رضى الله عنه أن يعرف الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أن الحجر يضر وينفع بذاته كما اعتقدته الجاهلية فى الأوثان ، كذا نقله الجد عن المحب الطبرى.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٧٨.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٧٨.

٣٩

الثانية : أن قول عمر هذا فيه التسليم للشارع فى أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها وهى قاعدة عظيمة فى اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما فعله ولو لم تعلم الحكمة فيه ، قال الشيخ زين الدين العراقى فى «شرح الترمذى» وفى قول عمر رضى الله عنه دليل على كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله ، وأما قول الشافعى وأيما قبل من البيت فحسن فلم يرد به الاستحباب ، لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين. انتهى.

وأجيب عن الشافعى بأن معنى قوله : فحسن ، أن ذلك غير مكروه ولا مستحب. كذا قاله الجد رحمه‌الله.

الثالثة : قال السهيلى : الحكمة فى كون خطايا بنى آدم سودته دون غيره من حجارة الكعبة ، أن العهد الذى فيه هى الفطرة التى فطر الناس عليها فى توحيد الله ، فكل مولود يولد على الفطرة ، وعلى ذلك فلو لا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يسود قلبه بالشرك لما حال من العهد ، فقد صار قلب ابن آدم محلا لذلك العهد والميثاق ، وصار الحجر محلا لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق فتناسبا ، فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما كان أبيض لما ولد عليه من ذلك العهد ، واسود الحجر بعد بياضه. وكانت الخطايا سببا فى ذلك حكمة من الله تعالى. انتهى.

الرابعة : قد اعترض بعض الملحدين على الحديث المتقدم آنفا فقال : إذا سودته الخطايا ينبغى أن تبيضه الطاعات ، أجاب ابن قتيبة عن ذلك بأنه لو شاء الله لكان ، ثم قال : أما علمت أيها المعترض أن السواد يصبغ به ولا ينصبغ ، والبياض ينصبغ ولا يصبغ به.

مطلب : الحكمة فى تغيير الحجر الأسود إلى السواد

الخامسة : روى عن ابن عباس أنه قال : إنما غير بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة. قال المحب الطبرى : إن ثبت هذا فهو الجواب ، قال ابن حجر : أخرجه الجندى فى «فضائل مكة» بإسناد ضعيف ، وقيل : إن شدة سواده أن الحريق أصابه مرتين فى الجاهلية والإسلام ، وسيأتى الكلام فى سبب الحريق فيما بعد إن شاء الله تعالى.

٤٠