الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

ثم اعلم أن طبقات العرب : ست شعب وقبائل وعمارة وبطون وأفخاذ وفصائل فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة ، وسميت شعوبا لأن القبائل تتشعب منها ، والشّعب ـ بفتح الشين ـ والعمارة ـ بفتح العين المهملة ـ وفى «معالم التنزيل» قيل : إن الشعوب من العجم والقبائل من العرب ، والأسباط من بنى إسرائيل انتهى. قال القرطبى فى «تفسيره» وقد نظمها بعضهم فقال :

قبيلة قبلها شعب وبعدهما

عمارة ثم بطن بعده فخذ

وليس يؤوى الفتى إلا فصيلته

ولا سداد لسهم ما له قذذ

انتهى. والقذذ بالذال المعجمة. قال فى «القاموس» : والفصائل هى العشائر واحدها عشيرة ، ومنه قوله تعالى : (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) أى عشيرته التى تضمه.

فرعان :

الأول : يعتبر التفاضل عندنا بين قريش فى حق الكفاءة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قريش بعضهم أكفاء لبعض حتى لو تزوجت هاشمية قرشيا غير هاشمى صح عقدها ، وإن تزوجت عربيا غير قرشى فللأولياء حق الرد إلا أن يكون الولى هو الأب أو الجد فإن لهما تزويج الصغيرة بغير كفء وبغبن فاحش فى المهر عند أبى حنيفة رضى الله عنه خلافا لصاحبيه ، والتعليل من الطرفين مقرر فى محله. ألا ترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوج بنته رقية وأم كلثوم من عثمان ولهذا لقب بذى النورين ، وكان أمويا لا هاشميا ، وزوج على ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب وكان عدويا لا هاشميا فثبت أن قريشا كلهم سواء فى حق الكفاءة.

الثانى : مذهب الإمام محمد بن الحسن من أصحابنا أن التفاضل إنما يعتبر فيما بين قريش إذا كان النسب مشهورا فى الحرمة كأهل بيت الخلافة ، حتى لو تزوجت قرشية من بنات الخلفاء قرشيا ليس من أولاد الخلفاء يكون للأولياء حق الرد ، وكأنه قال هذا لتسكين الفتنة وتعظيم أمر الخلافة لا لانعدام أصل الكفاءة كذا نقله الإتقانى فى «الغاية» والله تعالى أعلم.

٢٢١
٢٢٢

الباب التاسع

فى ذكر مبدأ بئر زمزم (١) وسبب حفر عبد المطلب لها

وفضل مائها وأفضليته وبركته وخواصه وما ورد فى ذلك

اعلم أن بئر زمزم تنسب إلى سيدنا إسماعيل صلوات الله عليه وسببه أن سيدنا إبراهيم الخليل عليه‌السلام لما هاجر بإسماعيل وأمه من الشام إلى مكة شرفها الله تعالى وكانت إذ ذاك ترضعه وضعهما تحت دوحة ، وهى شجرة كبيرة وليس معهما إلا شنة فيها قليل ماء ولم يكن بمكة يومئذ أحد ولا بها ماء ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ثم ذهب راجعا إلى الشام فتبعته أم إسماعيل فقالت له : يا إبراهيم ، إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادى الذى ليس به أنيس؟ وجعلت تردد ذلك مرارا وإبراهيم لا يلتفت إليها. فقالت له : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذا لا يضيعنا ، ثم رجعت عنه.

فانطلق إبراهيم عليه‌السلام حتى إذا غاب عن البصر وقف واستقبل البيت ورفع يديه ودعا بالآيات (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ) إلى قوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ثم مضى سائرا وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء ولبنها يدر على صبيها إلى أن نفد فعطشت وعطش ابنها وصار يتلوى ، وفى رواية يتلبط فانطلقت كراهة أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادى ورفعت طرف درعها ثم سعت أى جرت ـ سعى الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادى ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات فكان فعلها ذلك سبب السعى بين الصفا والمروة.

فلما أشرفت على المروة آخرا ولم يكن فى الوادى غيرها سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها ، ثم تسمعت ، فإذا الصوت فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هى

__________________

(١) انظر فى بئر زمزم : أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٣٩ وما بعدها ، شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩٧ وما بعدها.

٢٢٣

بالملك يعنى جبريل عليه‌السلام عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو بجناحه حتى ظهر الماء فصارت تحوطه بيدها وتغرف من الماء فى سقائها وهو يفور بعد أن تغرف.

قال ابن عباس رضى الله عنهما قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ولم تغرف من الماء لكانت عينا معينا. فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها جبريل : لا تخافى الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله كذا فى «صحيح البخارى».

فاستمرت زمزم كذلك إلى أن مرت رفقة من جرهم يريدون الشام فرأوا طائرا يحوم على جبل أبى قبيس عائفا فقالوا ، إن هذا الطير ليدور على ماء وعهدنا بهذا الوادى وما فيه ماء ، فأرسلوا رسولا فرأى الماء فأخبرهم فأقبلوا وأم اسماعيل عند الماء فقالوا لها : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم فى الماء ، قالوا : نعم. فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى صاروا أهل أبيات وأول سكان مكة ، وشب إسماعيل عليه بالسلام وتعلم العربية منهم وزوجوه امرأة من نسائهم ، ثم لم تلبث أم إسماعيل أن ماتت ولها من العمر تسعون سنة ولإسماعيل عشرون سنة ، فدفنها فى الحجر.

واسمها هاجر ، وقيل : آجر بالهمزة والمد القبطية وقيل الجرهمية ، وكانت للجبار الذى يسكن عين البحر التى بقرب بعلبك ، فوهبها لسارة امرأة إبراهيم فوهبتها لإبراهيم صلوات الله عليه.

فائدة استطرادية

قال فى «منهاج التائبين» : اختلف العلماء فى الذبيح هل هو إسماعيل أم إسحاق؟ فقال قوم : هو إسحاق عليه‌السلام وإليه ذهب من الصحابة عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعلى بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب رضى الله عنهم ومن التابعين وأتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبى بزّة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهرى والسدى ورواه عكرمة وابن جبير عن ابن عباس.

وقال آخرون : هو إسماعيل وإلى هذا ذهب عبد الله بن عمر ، وأبو الطفيل عامر بن واثلة وسعيد بن المسيب والشعبى ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن

٢٢٤

كعب القرظى والكلبى ورواه عطاء بن أبى رباح وأبو الجوزاء ويوسف بن ماهك عن ابن عباس ، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت.

واحتج القائلون بأنه إسحاق من القرآن بأن الله تعالى أخبر عن خليله عليه‌السلام حين فارق قومه مهاجرا إلى الشام بامرأته سارة وابن أخيه لوط عليه‌السلام : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (سورة الصافات : ٩٩) أنه دعا إذ ذاك فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (سورة الصافات : ١٠٠) وكان ذلك قبل أن يعرف هاجر وقبل أن تصير له ، ثم اتبع ذلك الخبر عن إجابته ودعوته وتبشيره إياه بغلام حليم ، ثم عن رؤيا إبراهيم أن يذبح ذلك الغلام الذى بشر به حين بلغ معه السعى ، وليس فى القرآن أنه بشر بولد إلا بإسحاق.

وأما حجة القائلين بأنه إسماعيل من القرآن فهو ما رواه محمد بن إسحاق عن محمد ابن كعب القرظى أنه كان يقول إن الذى أمر الخليل عليه‌السلام بذبحه هو إسماعيل لأن الله تعالى قال حين فرغ من قصة المذبوح (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (سورة الصافات : ١١٢) وقال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (سورة هود : ٧١) ابن وابن ابن ، ولم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله الموعود ، فلما لم يذكر الله تعالى إسحاق إلا بعد انقضاء الذبح ثم بشره بولد اسحاق علم أن الذبيح إسماعيل.

أقول : فذكرت ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كنت معه بالشام فقال لى عمر وإنى لأراه كما قلت ، ثم أرسل عمر إلى رجل كان يهوديا بالشام وقد أسلم وحسن إسلامه فسأله عن ذلك وأنا عنده فقال : الذبيح إسماعيل وإن اليهود لتعلم ذلك ، ولكنهم يحسدون العرب على ذلك لكون إسماعيل أباهم ويقولون : إنه إسحاق لأنه أبوهم انتهى قول صاحب «المنهاج».

(أقول) : احتجاج القرظى رحمه‌الله بهذه الآيات المذكورة فى كون الذبيح إسماعيلعليه‌السلام لا يتم إلا بأن تكون آية الذبح متقدمة تلاوة ونزولا ، أما لو تقدمت تلاوة وتأخرت عن آية البشرى فى النزول احتملت أن يكون إسحاق هو الذبيح أيضا وسقط الاستدلال بها. وأما قول القرظى : ولم يكن يأمره إلى آخره الذى فسر به الآية الأخرى من سورة هود لا ينافى كون الذبيح إسحاق ، لأنه لما سبق فى علم الله سبحانه أنه لا يذبح ،

٢٢٥

ثم أمر خليله بذلك علم أن الأمر للامتحان كما هو شأن الله تعالى فى أنبيائه وأحبائه. فلما مضى الخليل صلوات الله عليه لما أمر به منشرح الخاطر راضيا بما قضاه الله تعالى شكر الله له ذلك وسلم ابنه له من الذبح ببركة التسليم وفدى بالذبح العظيم. وصحت البشرى وتم الموعد فى هذه الآية التى لم يتقدم قبلها قصة ذبح. انتهى.

عدنا إلى المقصود : ولم تزل زمزم كذلك إلى أن دفنتها جرهم حين ظعنوا من مكة بين صنمى قريش إساف ـ بكسر الهمزة ـ ونائلة ، وقيل بل دفنتها السيول ، فاستمرت مدفونة إلى أن نبه عبد المطلب وأمر بحفرها (١). وله منقبتان عظيمتان : إهلاك أصحاب الفيل كما تقدم ، وحفر بئر زمزم.

ذكر ابن إسحاق وغيره أن عبد المطلب بينما هو نائم إذ أتاه آت فقال له : احفر طيبة ، فقال له : وما طيبة؟ فذهب عنه ثم جاءه مرة أخرى فقال له احفر المضنونة فقال له وما المضنونة؟ فذهب عنه ثم جاءه مرة ثالثة فقال له : احفر زمزم ، فقال له عبد المطلب وما زمزم؟ قال لا تنزف أبدا ولا تذمّ (٢) تسقى الحجيج الأعظم وهى بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل (٣).

وفى رواية احفر زمزم ، إنك إن حفرتها لم تندم ، وهى تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذمّ إلى آخر ما تقدم.

فلما بين له شأنها غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث وليس معه يومئذ غيره فحفرها ، فلما بدا له أعلى البئر كبّر فحسدته بطون قريش وهموا أن يمنعوه وقالوا له : أشركنا معك ، فقال لهم : ما أنا بفاعل شىء خصصت به دونكم ، فاجعلوا بينى وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه فقالوا : كاهنة بنى سعد (٤).

فخرجوا إليها فعطشوا فى الطريق حتى أيقنوا بالهلاك ، فقال عبد المطلب : والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماء فارتحلوا بنا (٥).

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩٨.

(٢) تحرف فى الأصلين إلى : «ولا تزم» وصوابه لدى ابن هشام ، ولا تذم : أى لا توجد قليلة الماء.

(٣) ابن هشام ج ١ ص ١٤٣.

(٤) منائح الكرم ج ١ ص ٤٠٤.

(٥) منائح الكرم ج ١ ص ٤٠٤.

٢٢٦

وقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت تحت خفها عين ماء عذب ، فكبّر عبد المطلب ، وكبّر أصحابه وشربوا جميعا ، وقالوا : قد قضى لك علينا الذى سقاك ، فوالله لا نخاصمك فيها أبدا (١).

فرجعوا وخلوا بينه وبين زمزم ، وكفاه الله شرهم ، فنذر عند ذلك لئن رزق عشرة من الذكور يمنعونه ليتقرب إلى الله بذبح أحدهم. فلما تم له عشرة من الذكور أعلمهم بنذره ،فقالوا له : أوف بنذرك واقض فينا أمرك ، فأسهم بينهم فخرج السهم على عبد الله أبى النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأراد أن يذبحه فمنعته قريش وأخواله من بنى مخزوم لئلا يكون ذلك فيهم سنة ، فتحاكموا إلى كاهن كان بالمدينة ، وقيل كاهنة ، فأفتاهم بأن يسهم على عبد الله وعلى عشرة من الإبل ، وكانت عندهم إذ ذاك دية الرجل ففعل عبد المطلب ذلك ، فخرج السهم على عبد الله أيضا ، فقال له الكاهن : زد عشرا أخرى فإن ربك لم يرض ، فزاد فخرج السهم على عبد الله فأمره الكاهن بزيادة عشرة أخرى فزاد ، وفى كل ذلك يخرج السهم على عبد الله حتى بلغ العدد مائة من الإبل فخرج السهم حينئذ على الإبل ، فقال له الكاهن : أعد القرعة ، فأعادها فخرج على الإبل ، ثم أعادها ثالثا ، فخرج على الإبل ، فقال له الكاهن : قد رضى ربك فانحرها فداء عن ابنك ، ففعل فاستمرت الدية فى قريش مائة من الإبل من يومئذ (٢).

ثم جاء الشرع فقررها دية لكل واحد من المسلمين ، واستمرت زمزم لا يصد عنها أحد ولا يمنع إلى يومنا هذا كما ترى.

ويروى أن عبد المطلب لما حفر زمزم وجد غزالين من ذهب يقال : إن جرهما دفنتهما حين خرجوا من مكة ، ووجد أسيافا وسلاحا ، فأرادت قريش أن يشاركوه فيها فامتنع وضرب بالقداح ، فخرج الغزالان للكعبة والسلاح لعبد المطلب ، ولم يخرج لقريش شىء بل تخلف قدحاها فضرب الأسياف التى خرجت له مع أحد الغزالين على باب الكعبة ، وجعل الغزال الآخر فى الجب الذى فى بطن الكعبة ، فكان ذلك أول حلية للكعبة. أخرجه الأزرقى(٣).

__________________

(١) منائح الكرم ج ١ ص ٤٠٥.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٤٧ وما بعدها.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٤٦.

٢٢٧

وأما فضل ماء زمزم وبركته ، فرورى عن جابر رضى الله عنه أنه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : من طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفرت له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت. أخرجه الواحدى فى «تفسيره» وغيره.

وروى الطبرانى وغيره أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء إلى زمزم فنزعوا له دلوا فشرب ثم مج فى الدلو ثم صبه فى زمزم ثم قال : لو لا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم.

وفى رواية أنه غسل وجهه وتمضمض منه ثم أعاده فيها. وروى أن الذى نزع له الدلو هو العباس بن عبد المطلب. وروى الواقدى أنه نزعه لنفسه ، وهو ضعيف جدا. وروى جابر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ماء زمزم لما شرب له ، وقال العلامة بركة المتأخرين شيخ الإسلام السيوطى : هذا الحديث أخرجه ابن ماجه بسند جيد. وأخرجه الخطيب فى «التاريخ» بسند صححه الدمياطى والمنذرى. وضعفه النووى وحسنه ابن حجر لوروده من طرق عن جابر. وورد من حديث ابن عباس وابن عمر مرفوعا.

وأخرج الديلمى : ماء زمزم شفاء من كل داء ، وسنده ضعيف جدا. انتهى.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم أخرجه الطبرانى فى «معجمه» بسند رجاله ثقات وصححه ابن حبان. وعنه أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن التضلع من ماء زمزم علامة ما بيننا وبين المنافقين. وعنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم. وعنه أيضا قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ماء زمزم لما شرب له إن شربته تستشفى به شفاك الله ، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه هى هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل (١). ويروى أن فى بعض كتب الله المنزلة : زمزم لا تنزف ولا تذم لا يعمد إليها امرؤ فيتضلع منها ريّا ابتغاء بركتها إلا أخرجت منه مثل ما شرب من الداء ، وأحدثت له شفاء ، وما امتلأ جوف عبد من زمزم إلا ملأه الله علما وبرّا(٢).

وعن وهب بن منبه أنه قال : والذى نفسى يده إن زمزم لفى كتاب الله عزوجل مضنونة ، وإنها لفى كتاب الله برة ، وإنها لفى كتاب الله شراب الأبرار ، وإنها لفى كتاب الله طعام طعم ، وشفاء سقم (٣).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٥٠.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٥٠.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٤٩.

٢٢٨

وعن على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال : خير واديين فى الناس : وادى مكة وواد بالهند الذى هبط به آدم عليه‌السلام ، ومنه يؤتى بهذا الطيب الذى يتطيب به الناس. وشر واديين فى الناس : واد بالأحقاف ، وواد بحضرموت يقال له برهوت. وخير بئر فى الناس زمزم ، وشر بئر فى الناس برهوت ، وإليها تجتمع أرواح الكفار (١). كما سيأتى.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الحمى من فيح جهنم فأبردوها بماء زمزم رواه أحمد وابن أبى شيبة وابن حبان ، ورواه البخارى فى صحيحه على الشك فقال : فأبردوها بالماء أو بماء زمزم (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : خمس من العبادة : النظر إلى المصحف ، والنظر إلى الكعبة ، والنظر إلى الوالدين ، والنظر فى زمزم وهى تحط الخطايا ، والنظر فى وجه العالم رواه الدارقطنى.

فصل فى فضائل ماء زمزم

اعلم أن لماء زمزم فضائل كثيرة وعجائب شهيرة ، فمن ذلك ما رواه ابن عباس رضى الله عنهما قال كان أهل مكة لا يسابقهم أحد إلا سبقوه ولا يصارعهم أحد إلا صرعوه حتى رغبوا عن ماء زمزم أخرجه أبو ذر.

ومنها ما أخرجه الأزرقى عن عكرمة بن خالد قال : بينما أنا ليلة فى جوف الليل عند زمزم جالس إذا نفر يطوفون عليهم ثياب لم أر بياضها لشىء قط ، فلما فرغوا صلوا قريبا منى فالتفت بعضهم لأصحابه فقال : اذهبوا بنا نشرب من شراب الأبرار ، فقاموا ودخلوا زمزم ، فقلت : لو دخلت على القوم فسألتهم ، فدخلت فإذا ليس فيها أحد من البشر (٣).

ومنها ما أخرجه أيضا أن أبا ذر الصحابى رضى الله عنه قال : لما قدمت مكة مكثت أربعة عشر يوما بلياليها وما لى طعام ولا شراب إلا زمزم حتى تكسرت عكن بطنى ، وما أجد على كبدى سخفة الجوع (٤) ، يعنى رقته وهزاله. وقيل : هى الخفة التى تعترى الإنسان إذا جاع.

ومنها ما أخرجه أيضا عن بعض الموالى أنه قال : كنت مع أهلى بالبادية فابتعت بمكة،

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٥٠.

(٢) القرى ص ٤٨٧.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٥١.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٥٣.

٢٢٩

ثم أعتقت فمكثت ثلاثة أيام لا أجد شيئا آكله ، فانطلقت إلى زمزم فبركت على ركبتى مخافة أن أستقى وأنا قائم فيرفعنى الدلو من الجهد ، فجعلت أنزع قليلا قليلا حتى أخرجت الدلو ، فشربت فإذا أنا بصريف اللبن فقلت : لعلّى ناعس ، فضربت بالماء على وجهى وانطلقت وأنا أجد قوة اللبن وشبعه (١). ومعنى صريف اللبن : ساعة يصرف عن الضرع.

ومنها ما أخرجه أيضا عن بعض الرعاة من العباد أنه كان إذا حصل له ظمأ وشرب من زمزم وجد الماء لبنا ، وإذا أراد أن يتوضأ وجده ماء (٢).

ومنها ما ذكره الفاسى عن الفاكهى أن رجلا شرب سويقا وكان فى السويق إبرة ، فنزلت فى حلق الرجل واعترضت ، وصار لا يقدر يطبق فمه ، فأتاه آت فقال له : اذهب إلى ماء زمزم ، فاشرب منه واسأل الله الشفاء. فدخل إلى زمزم فشرب منه شيئا وما أساغه إلا بعد جهد ومشقة من ألم تلك الإبرة ثم خرج وهو على تلك الحال ، فانتهى إلى أسطوانة من أساطين المسجد واستند إليها فغلبته عيناه فنام ثم انتبه من نومه ولم يجد من ذلك الألم شيئا (٣).

ومنها أن الشيخ العلامة المفتى أبا بكر عمر الشهير بالشنينى ـ بشين معجمة ونون ثم مثناة من تحت ونون وياء النسبة ـ أحد بنى العلماء المعتبرين ببلاد اليمن ، حصل له استسقاء عظيم واشتد به فذهب إلى طبيب فلما رآه أعرض عنه ، وقال لبعض أصحابه : هذا ما يمكث ثلاثة أيام فانكسر خاطره لذلك ، وألقى الله بباله أن يشرب من ماء زمزم بنية الشفاء عملا بالحديث ، فقصد زمزم وشرب منه حتى تضلع فأحس بانقطاع شىء فى جوفه ، فبادر حتى وصل إلى رباط السدرة الذى هو الآن مدرسة السلطان قايتباى رحمه‌الله فأسهل إسهالا كثيرا ثم عاد إلى زمزم وشرب منها ثانيا حتى امتلأ ريّا ، ثم أسهل إسهالا بليغا فشفاه الله من ذلك الاستسقاء. فبينما هو فى بعض الأيام برباط ربيع يغسل ثوبه وإذا بالطبيب الذى أعرض عن ملاطفته قد رآه ، فقال له : أنت صاحب تلك العلة؟ قال : نعم فقال له: بم تداويت؟ فقال : بماء زمزم ، فقال الطبيب : لطف بك (٤).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٥٣.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٥٤.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٤٠٩.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٠.

٢٣٠

ومنها أن أحمد بن عبد الله المعروف بالشريفى الفراش بالحرم الشريف المكى حصل له عمى ، فشرب من ماء زمزم بنية التداوى فشفى من ذلك العمى (١).

ومنها أن رجلا آخر عمى فشرب من ماء زمزم وصب فى عينيه منه بنية الشفاء فشفى فى أسرع وقت. وهذا من العجب فإن الأطباء ينهون عن إدخال الماء فى العين ويجعلونه من أسباب العمى.

ومنها ما ذكر الحافظ الذهبى فى «طبقات الحفاظ» أن الخطيب البغدادى لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث مرات وسأل الله ثلاث حاجات : الأولى أن يحدث بتاريخ بغداد بها ، الثانية أن يملى الحديث بجامع المنصور ، الثالثة أن يدفن عند بشر الحافى ، فقضى الله له ذلك (٢).

ومنها أن الحاكم أبا عبد الله شربه لحسن التصنيف وغيره فكان أحسن أهل عصره تصنيفا.

ومنها ما ذكره العلامة التاج السبكى فى «طبقاته» فى ترجمة محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنه قيل له : من أين أوتيت هذا العلم؟ فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ماء زمزم لما شرب له ، وإنى لما شربته سألت الله علما نافعا (٣).

ومنها ما ذكره العلامة الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر عن نفسه فقال : وأنا شربته مرة وسألت الله وأنا فى بداية طلب الحديث أن يرزقنى الله حالة الذهبى فى حفظ الحديث ، ثم حججت بعد مدّة تقرب من عشرين سنة ، وأنا أجد من نفسى المزيد على تلك المرتبة ، فسألت رتبة أعلى منها ، فأرجو الله أن أنال ذلك (٤).

ومنها ما نقل عن الإمام الشافعى رضى الله عنه ، أنه قال : شربت من ماء زمزم لثلاث : شربته للعلم ، وشربته للرمى فكنت أصيب عشرة عشرة ومن عشرة تسعة ، وشربته للجنة وأرجوها.

ومنها ما أخرجه أبو الفرج فى «مثير الغرام» عن الشيخ أبى عبد الله الهروى أنه قال

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٠.

(٢) تذكرة الحفاظ ج ٣ ص ١١٣٩.

(٣) طبقات الشافعية الكبرى ج ٣ ص ١١٠.

(٤) طبقات الحفاظ للسيوطى ص ٥٧٩.

٢٣١

لبعض أصحابه : دخلت المسجد فى السحر فجلست إلى زمزم وإذا بشيخ قد دخل إلى زمزم وثوبه مسدول على وجهه ، فأتى البئر فنزع الدلو فشرب فأخذت فضلته فشربتها ، فإذا سويق لوز لم أذق قط أطيب منه ، ثم التفت فإذا الشيخ قد ذهب ثم عدت فى الليلة الثانية عند السحر فجلست إلى زمزم ، فإذا الشيخ قد دخل إلى زمزم فنزع الدلو فشرب فشربت فضلته ، فإذا ماء مضروب بعسل لم أذق قط أطيب منه ، ثم ذهب الشيخ فعدت فى الليلة الثالثة عند السحر فجلست عند زمزم ، فإذا الشيخ قد أتى زمزم فنزع الدلو فشرب فأخذت فضلته فشربتها ، فإذا سكر مضروب بلبن لم أذق قط أطيب منه ، فأخذت ملحفته فلففتها على يدى ، وقلت : يا شيخ ، بحق هذه البنيّة عليك ، من أنت؟ قال : تكتم على حتى أموت؟ قلت : نعم ، قال أنا سفيان بن سعيد الثورى (١).

ومنها ما أخرجه أبو الفرج أيضا عن الحميدى أنه قال : كنا عند سفيان بن عيينة فحدثنا بحديث : ماء زمزم لما شرب له ، فقام رجل من المجلس ثم عاد فقال : يا أبا محمد ، أليس الحديث الذى حدثتنا به عن زمزم صحيحا؟ فقال سفيان : نعم قال : فإنى قد شربت الآن دلوا من زمزم على أنك تحدثنى بمائة حديث. فقال سفيان : اقعد فحدثه مائة حديث.

فهذه الأخبار مما تؤيد صحة حديث ماء زمزم لما شرب له مع أنه صحيح الإسناد كما سبق. ولم ينصف ابن الجوزى فى ذكره هذا الحديث فى كتاب الموضوعات لكونه إما صحيحا أو حسنا.

ومنها كما نقله القاضى جمال بن عبد الله الشافعى الظهيرى فى مؤلفه «الجواهر المكنونة فى فضائل المضنونة» عن علماء الشافعية وغيرهم أن الدعاء يستجاب عند زمزم وفضائل ماء زمزم كثيرة وفى هذا القدر كفاية.

وأما أفضليته فنقل الجد تغمده الله برحمته عن شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى أنه قال : ماء زمزم أفضل من ماء الكوثر ، لأن به غسل صدر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن يغسل إلا بأفضل المياه. انتهى.

قال الجد رحمه‌الله : وفيما استدل به وقفة ، فقد يقال قوله : ولم يكن يغسل إلا

__________________

(١) انظر فى ذلك : القرى ص ٤٨٩.

٢٣٢

بأفضل المياه مسلم. ولكن بأفضل مياه الدنيا. إذ ماء الكوثر من متعلقات دار البقاء فلا يستعمل فى دار الفناء ، ولا يشكل بكون الطست الذى غسل فيه صدره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجنة ، لأن استعمال هذا ليس فيه إذهاب عين بخلاف ذاك والله أعلم. انتهى.

وقد سئل شيخ الإسلام جلال الدين السيوطى تعاهده الله بالرحمة عن ذلك بما صورته:

يا غرة فى جبهة الدهر افتنا

لا زلت تفتى كل من جا (١) يسأل

فى زمزم أو ماء كوثر حشرنا

من منهما يا ذا المعالى أفضل

جوزيت بالإحسان عنا كلنا

وبجنة المأوى جزاؤك أكمل

فأجاب بما صورته :

لله حمدى والصلاة على النب

ى محمد من للبرية يفضل

ما جاءنا خبر بذلك ثابت

فالوقف عن خوض بذلك أجمل

هذا جواب ابن السيوطى راجيا

من ربه التثبيت لمّا يسأل

وقد ذكر العلماء رحمهم‌الله أن لماء زمزم وبئره خواص مباركة (٢) ، (ومنها) : أنه يبرد الحمى وقد تقدم فى الحديث. (ومنها) : أنه يذهب الصداع. (ومنها) : أن جميع المياه العذبة التى فى الأرض ترفع وتغور قبل يوم القيامة إلا زمزم قالهما الضحاك. (ومنها) : أنه يفضل مياه الأرض كلها طبّا وشرعا ذكر عن الإمام بدر الدين ابن الصاحب المصرى أنه قال: وازنت ماء زمزم بماء عين مكة فوجدت زمزم أثقل من العين بنحو الربع ، ثم اعتبرته

__________________

(١) فى المطبوع : «جاء» وهو غير صحيح عروضيا.

(٢) انظر فى ذلك : شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٣.

٢٣٣

بميزان الطب فوجدته يفضل مياه الأرض كلها. (ومنها) : أنه يحلو ليلة النصف من شعبان. ويطيب ويقال يقول أهل مكة إن عين السلوان تتصل بزمزم فى تلك الليلة. (ومنها) : أنه يكثر فى ليلة نصف شعبان فى كل عام بحيث يفيض الماء من البئر على ما نقل ، لكن لا يشاهد ذلك إلا العارفون. وممن شاهده كذلك الشيخ الصالح أبو الحسن المعروف بكرباج ، وكان ذلك فى عام ست وسبعمائة. (ومنها) : أن الاطلاع فى بئر زمزم يجلو البصر ويحط الخطايا.

(ومنها) : كما أخرجه الفاسى عن الفاكهى أن شيخا من أهل مكة أسر فى بلاد الروم ، فقال له الملك : من أى بلد أنت؟ قال : من مكة ، قال له : هل تعرف بمكة هزمة جبريل؟ قال نعم ، قال : فهل تعرف برة؟ قال : نعم ، قال فهل لها اسم غير هذا قال : نعم هى اليوم تعرف بزمزم قال : إنا نجد فى كتبنا أنه لا يحثو رجل على رأسه من مائها ثلاث حثيات فتصيبه ذلة أبدا (١).

(ومنها) : أنه لا يجتمع هو ونار جهنم فى جوف عبد أبدا كما نقله المحب الطبرى.

(ومنها) : أنه يقوى القلب ويسكن الروع ، ولهذا قال الحافظ زين الدين العراقى : إن الحكمة فى غسل صدر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بماء زمزم ليقوى به على رؤية ملكوت السموات والأرض والجنة والنار.

(ومنها) : اجتماع أرواح المؤمنين فى بئرها كما نقله فى «منهاج التائبين» قال روى عن مجاهد بن يحيى البلخى أنه قال كان عندنا بمكة رجل من أهل خراسان وكان كثير الطواف بالليل ويعكف على قراءة القرآن بالنهار وذلك منذ ستين سنة ، وكان الناس يودعونه ودائعهم فجاء رجل من الصالحين وكان بينه وبين الخراسانى صداقة ، فأودعه عشرة آلاف دينار ثم سافر ، فلما قدم من سفره وجد الخراسانى قد مات ، فسأل أهله وأولاده عن ماله ، فقالوا ما لنا به علم لا ندرى ما نقول فقص أمره على فقهاء مكة يومئذ وأخبرهم بما قال له أهله وأولاده ، فقالوا له : نحن نرجو أن يكون الخراسانى من أهل الجنة ، فإذا مضى ثلث الليل أو نصفه ائت زمزم فاطلع فيها وناد يا فلان بن فلان أنا صاحب الوديعة ، ففعل ذلك ثلاث ليال فلم يجبه أحد فأتى الفقهاء.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٣ و ٤١٤.

٢٣٤

فأخبرهم بذلك فقالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون. نخشى أن يكون صاحبك من أهل النار ، اذهب إلى اليمن فإن بها بئرا اسمها برهوت يجتمع فيها أرواح المعذبين ، وهى على فم جهنم فاطلع فيها إذا مضى ثلث الليل أو نصفه ، وناد يا فلان بن فلان أنا صاحب الوديعة قال : فمضيت إلى تلك البئر فاذا أنا بشخصين قد جاءا فنزل فيها وهما يبكيان ، فقال أحدهما للآخر. من أنت؟ قال : أنا روح رجل ظالم كنت أضمن المكوس وآكل الحرام ، فرمانى ملك الموت إلى هذه البئر أعذب فيها ، وقال الآخر : أنا روح عبد الملك بن مروان كنت عاصيا ظالما وأنا أعذب فى هذه البئر ثم سمعت لهما صراخا ، فقامت كل شعرة فى بدنى من الفزع.

ثم تطلعت فى البئر وناديت يا فلان ، فأجابنى من تحت العقوبة والضرب ، فقلت : ويحك يا أخى ، ما الذى أنزلك ها هنا؟ وبأى ذنب جئت إلى منازل الأشقياء ، وقد كنت صاحب خير؟ قال : بسبب أختى كانت صعلوكة ، وهى بأرض العجم فاشتغلت عنها بالمجاورة بمكة والعبادة وما كنت أفتقدها بشىء ولا أسأل عنها ، فلما مت حاسبنى الله عزوجل عنها ، وقال : نسيتها ، تعرى وأنت تكتسى ، وتجوع وأنت شبعان مكتفى. وعزتى وجلالى : إنى لا أرحم قاطع الرحم ، اذهبوا به إلى بئر برهوت. فأنا معذب مع قطاع الرحم فى هذه البئر ، فعساك يا أخى تذهب إليها وتشرف على حالها وتطلب لى منها أن تجعلنى فى حل ، فليس لى ذنب عند الله سوى هذا.

قال فقلت له : أين مالى الذى أودعته عندك؟ فقال : هو على حاله وإنى لم أثق عليه أولادى ولا غيرهم ، فدفنته فى بيتى تحت العتبة فى الموضع الفلانى فاذهب إلى أولادى وقل لهم يدخلوك دارى ، فاحفر فإنك ستجد مالك.

قال فمضيت إلى الموضع الذى قال لى عنه ، فحفرته فوجدت ذهبى على حاله كما ربطته ، فأخذته ومضيت إلى بلاد العجم ، فسألت عن أخته ، واجتمعت بها وحدثتها حديثه فبكت وجعلته فى حل ثم شكت إلىّ القلة والضرورة فوهبتها شيئا من الدنيا ، وانصرفت راجعا إلى مكة شرفها الله تعالى ، فلما كان نصف الليل جئت إلى زمزم ، وناديت : يا فلان ، فقال : لبيك ، جزاك الله عنى خيرا.

٢٣٥

فصل فيما لزمزم من الأسماء

نقل الفاسى عن الفاكهى رحمهما‌الله تعالى عن أشياخه من أهل مكة أن لزمزم عدة أسماء ، وهى : زمزم ، وهزمة جبريل ، وسقيا الله إسماعيل ، وبركة ، وسيدة ، ونافعة ، ومضنونة أى ضن بها لبنى إسماعيل ، لأنها أول ما أخرجت له عليه‌السلام ، أخرجه الأزرقى (١) عن كعب. وعونة ، وبشرى ، وصافية ، وبرّة ، وعصمة ، وسالمة ، وميمونة ، ومباركة ، وكافية ، وعافية ، ومغذّية بضم الميم والغين المعجمة من الغذاء ، وطاهرة ، وحرمية بالحاء المهملة لكونها والله أعلم بالحرم ، ومروية بضم الميم وتخفيف التحتية ، ومؤنسة ، وطعام طعم ، وشفاء سقم (١).

وذكر الفاكهى عن عثمان بن ساج أن من أسماء زمزم سابق. وذكر الفاسى رحمه‌الله أن لها أسماء أخر ، من ذلك : ظبية بالظاء المعجمة المشالة وبعدها باء موحدة ساكنة ثم مثناة من تحت مفتوحة.

قال القاضى جمال الدين عبد الله بن ظهيرة تغمده الله برحمته سميت بها تشبيها بالظبية التى هى الخريطة لجمعها ماء فيها. ومن ذلك : تكتم بتاءين مثناتين من فوق بينهما كاف ثم ميم فى الآخر وهو فعل مضارع بفتح التاء الأولى وسكون الكاف وضم التاء الثانية ، وشباعة العيال ، وشراب الأبرار ، وقرية النمل ، وهزمة إسماعيل ، وحفيرة العباس. وعزا هذا الأخير إلى «معجم البلدان» لياقوت ، ونقرة الغراب هذا ما ذكره. ثم قال : وقد ذكرنا معانى بعض هذه الأسماء فى أصل هذا الكتاب يريد بذلك أصل كتابه «شفاء الغرام» ولم يوجد ولا عثر عليه أحد مطلقا.

وأخرج الأزرقى رحمه‌الله أن معنى تسميتها بنقرة الغراب ، هو أن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم ونبه على ذلك وقيل له عند نقرة الغراب الأعصم كما تقدم ، جاء إلى المسجد ليتعرف موضع الحفر بما رأى من العلامات ، فبينما هو على ذلك إذ نحرت بقرة عند

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٤٠٤.

٢٣٦

الحزورة فانفلتت من الذابح تجرى حتى غلبها الموت فى موضع زمزم فجزرت فى ذلك الموضع. فأقبل غراب يهوى حتى وقع فى الفرث فبحث عن قرية النمل فقام عبد المطلب فحفر هناك(١) انتهى.

ولم أدر ما قرية النمل التى بحث عنها الغراب ولا وقفت على كلام فيها. والغراب الأعصم هو الذى فى جناحه ريشة بيضاء كذا فى «الصحاح» ومن أسماء زمزم على ما نقله السهيلى فى «روضه» همزة جبريل بتقديم الميم على الزاى وقال : لأن جبريل همز بعقبه فنبع الماء ، وزمازم حكاهما عن المطرز وفى بعض نسخ «الروض» ضبط زمزم بالشكل فجعل على الزاى الأولى ضمة وعلى الميم شدة وفتحة. وطيبة بالطاء المهملة بعدها ياء مثناة من تحت مشددة ثم باء موحدة كما يقتضيه كلام السهيلى.

ورأيت فى النسخة التى وقفت عليها من تاريخ الأزرقى كذلك بالطاء المهملة ويقال للماء زمزم وزمزوم وزمزام.

وقد اختلف فى سبب تسمية زمزم بزمزم فقيل : لكثرة مائها. قال ابن هشام : والزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع ، وقيل : لأنها زمت بالتراب حين نبع الماء لئلا يأخذ يمينا وشمالا ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شىء كذا نقل عن ابن عباس.

وقيل : سميت بذلك لزمزمة الماء وهى صوته ، قاله الحربى (٢). وقيل : لأن الفرس كانت تحج فى الزمن الأول فتزمزم عليها (٣).

قال المسعودى : والزمزمة صوت تخرجه الفرس من خياشمها عند شرب الماء. وروى أن عمر رضى الله عنه كتب إلى عماله بأن ينهوا الفرس عن الزمزمة وأنشد المسعودى البيت :

زمزمت الفرس على زمزم

وذاك فى سالفها الأقدم (٤)

وقيل : إن زمزم غير مشتقة (٥). والله تعالى أعلم

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٤٢.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٤٠٥.

(٣) مروج الذهب ج ١ ص ٢٤٢.

(٤) مروج الذهب ج ١ ص ٢٤٢ ، شفاء الغرام ج ١ ص ٤٠٥.

(٥) شفاء الغرام ج ١ ص ٤٠٥.

٢٣٧

فصل فى آداب الشرب من زمزم

وما ينبغى أن يقال عند ذلك

قال العلماء رحمهم‌الله : من أراد أن يشرب من ماء زمزم فينبغى له أن يأخذ السقاء بيده اليمنى ويستقبل الكعبة الشريفة ويقول : اللهم إنه بلغنى عن نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ماء زمزم لما شرب له ، اللهم إنى أشربه لكذا ويذكر ما يريد ثم يشرب ويتنفس ثلاثا ، ويسمى الله فى ابتداء كل مرة ويحمده عند فراغها لما روى أن محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر قال : كنت عند ابن عباس رضى الله عنهما فجاءه رجل ، فقال له : من أين جئت؟ قال : من زمزم قال : فشربت كما ينبغى؟ قال : وكيف ذلك؟ قال : إذا شربت منها استقبل الكعبة واذكر اسم الله عزوجل ثم تنفس ثلاثا وتضلع منها ، فإذا فرغت فاحمد الله تعالى فإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم. رواه البيهقى من طرق.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه كان إذا شرب من ماء زمزم قال : اللهم إنى أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء. قال العلماء : ولا يقتصر على هذا الدعاء بل يدعو بما أحب من أمور الدنيا والآخرة ويجتنب الدعاء بما فيه مأثمة (١).

وعن سويد بن سعيد قال : رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم واستقى منها ثم استقبل الكعبة فقال : اللهم إن ابن أبى الموالى حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ماء زمزم لما شرب له ، وأنا أشربه لعطش يوم القيامة ثم شرب.

فائدة : أخرج الأزرقى رحمه‌الله أن فى بئر زمزم ثلاث عيون : عين حذاء الركن الأسود ، وعين حذاء أبى قبيس والصفا ، وعين حذاء المروة.

ونقل الفاكهى عن العباس بن المطلب عن كعب الأحبار أن العين التى تجرى من جهة الحجر الأسود هى أغزر العيون الثلاثة : قال الجد رحمه‌الله : إنها من عيون الجنة ، والله أعلم.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٤.

٢٣٨

فروع :

الأول : يجوز الوضوء من ماء زمزم والغسل به عند الحاجة إليه (١) كما صرح به أئمتنا من غير كراهة ، وكذلك مذهب السادة الشافعية والمالكية والحنابلة. وفى «شرح المهذب» للنووى أن الجواز مذهب الجمهور.

الثانى : فى حكم الاستنجاء به أما عندنا فلم أقف على نقل فى ذلك والمنقول عن الماوردى والنووى من الشافعية أن ماء زمزم وان كان له حرمة فليست هى بحيث تمنع استعماله فى الاستنجاء. والمنقول عن الرويانى الكراهة فى ذلك.

قال ابن درياس من الشافعية : إن ماء زمزم وغيره فى ذلك سواء على المذهب ثم نقل فى «شرحه على المهذب» عن الصيمرى أنه قال : إن غيره من الماء أولى منه فى الاستنجاء. وجزم المحب الطبرى رحمه‌الله بتحريم إزالة النجاسة به وإن حصل به التطهير.

قال أكثرهم : وينبعى توقى إزالة النجاسة به لا سيما مع وجود غيره وخصوصا فى الاستنجاء ، فقد قيل إن بعض الناس استنجى به فحدث له الباسور.

وقال ابن شعبان من المالكية : لا يغسل بماء زمزم ميت ولا نجاسة (٢).

وأخرج الفاكهى أن أهل مكة كانوا يغسلون موتاهم بماء زمزم إذا فرغوا من غسل الميت وتنظيفه تبركا به ، وأن أسماء بنت الصديق رضى الله عنهما غسلت ابنها عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما بماء زمزم (٣).

الثالث : يجوز نقل ماء زمزم إلى البلدان للتبرك به باتفاق المذاهب الأربعة (٤). بل ذلك مستحب عند الشافعية والمالكية ، وكذلك يجوز عندنا إخراج اليسير من حجارة الحرم وترابه للتبرك ولم يجوزه الشافعى رحمه‌الله ، والفرق بين ذلك وماء زمزم عنده أن الماء إذا زال حدث غيره بخلاف حجارة الحرم. والدليل على جواز إخراج ماء زمزم إلى الحل أن عائشة

__________________

(١) انظر فى ذلك : شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٤.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٥.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٥.

(٤) انظر فى ذلك : شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٥.

٢٣٩

رضى الله عنها حملت من ماء زمزم فى قوارير وقالت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمله فى الأداوى والقرب أخرجه الترمذى فى جامعه (١).

وعن ابن عباس أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم فبعث له براويتين أخرجه الطبرانى بسند رجاله ثقات (٢).

وروى أن كعب الأحبار حمل من ماء زمزم اثنتى عشر راوية إلى الشام. وجاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يصبه على المرضى ويسقيهم منه. وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حنك به الحسن والحسين رضى الله عنهما مع تمر العجوة.

استطراد لطيف

فى ذكر ما ورد فى فضل السبطين وأنهما سيدا شباب أهل الجنة

وفضل الشيخين وأنهما سيدا كهول أهل الجنة

وفى معنى ذلك والمراد به

جاء فى الحديث عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله قال «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» رواه الترمذى وقال حديث حسن صحيح.

وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبى بكر وعمر رضى الله عنهما : هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين. رواه الترمذى وحسنه.

وتوفى أبو بكر وعمر والسبطان رضى الله عنهم وهم شيوخ كلهم. معنى الحديثين أن الحسن والحسين سيدا كل من مات شابا ودخل الجنة وإن أبا بكر وعمر سيدا كل من مات كهلا ودخل الجنة ، فكل أهل الجنة يكونون فى سن أبناء ثلاث وثلاثين ، ولكن لا يلزم كون السيد فى سن من يسودهم ، فقد يكون أكبر منهم سنا وقد يكون أصغر ، ولا يجوز أن يقال وقع الخطاب حين ماتا شابين أو كهلين ، فإن هذا جهل ظاهر وغلط فاحش ، لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى والحسن والحسين دون ثمان سنين فلا يسميان شابين ولأبى بكر فوق الستين سنة ولعمر فوق خمسين ، فكانا حال الخطاب شيخين فإن هذا الخطاب كان بالمدينة ، وإنما

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٥.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٤١٥.

٢٤٠