الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

وأما باب إبراهيم فقد أدركته وهو واطئ جدا وإنما رفع وعمل له هذه الدرجة فى حدود سنة خمسة عشر أو ستة عشر وتسعمائة فى دولة الأشرف الغورى على يد الأمير خاير بك المعروف بالمعمار. وقد شاهدت عمارته وأنا إذ ذاك فى المكتب وكانت السيول إذا دخلت المسجد إنما تخرج منه ، والآن كذلك إنما يخرج السيل من القبو الذى تحته لأنه لما رفع جعل تحته العقود بالحجارة المنحوتة لمصرف السيل. انتهى.

فصل فى ذكر الزيادتين وخبر عمارتهما

وذرعهما وذرع المسجد الحرام وعدد منائره وأبوابه

اعلم أنه لم يزد فى المسجد الحرام بعد عمارة المهدى رحمه‌الله سوى هاتين الزيادين دار الندوة التى فى الجانب الشامى من المسجد ، وزيادة باب إبراهيم فى الجانب الغربى منه.

أما زيادة دار الندوة فسببها كما نقله الفاسى عن إسحاق الخزاعى أن بعض أهل الخير كتب إلى وزير الخليفة المعتضد العباسى يحثه (١) على جعل ما بقى من دار الندوة مسجدا ويقول : إن هذه مكرمة لم تتهيأ لأحد من الخلفاء بعد المهدى. فلما بلغ ذلك المعتضد عظمت رغبته وأخرج لذلك مالا عظيما فأخرجت القمائم من دار الندوة وجعلت مسجدا ووصلت بالمسجد الكبير ، وعمره بأساطين وطاقات وأروقة مسقفة بالساج المزخرف ثم فتح لها فى جدار المسجد الكبير اثنى عشر بابا بعقود ستة كبار وبينهم ستة صغار ، وجعل فى هذه الزيادة ثلاثة أبواب بابان طاقان طاقان : وباب طاق واحد شارعة إلى الطريق التى حولها ، وجعل سقفها مسامتا لسقف المسجد الكبير ، وبنى فيها منارة وشرفا وفرغ من ذلك فى ثلاث سنين (٢).

قال الفاسى رحمه‌الله : ولم يبيّن إسحاق الخزاعى السنة التى فرغ فها من عمارة هذه الزيادة ، ولعل ذلك كان فى سنة أربع وثمانين ومائتين على مقتضى ما ذكره إسحاق ، من أن الكتابة إلى المعتضد بسبب إنشائها كانت فى سنة إحدى وثمانين (٣) ومائتين.

ثم ذكر أن القاضى محمد بن موسى لما كان إليه أمر البلد غيّر الطاقات التى كانت فى

__________________

(١) تحرف فى المطبوع إلى : «تحية».

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٦٣.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٦٣.

١٨١

جدار المسجد الكبير وجعل ذلك بأساطين حجارة مدورة عليها ملابن ساج بعقود من الآجر والجص الأبيض ، ووصله بالمسجد الكبير وصولا أحسن من الأول ، حتى صار من فى دار الندوة من مصلّ ومستقبل يرى القبلة كلها ، وكان ذلك فى سنة ست وثلاثمائة (١).

وأما الزيادة التى بالجانب الغربى المعروفة بزيادة باب إبراهيم ، فنقل الفاسى رحمه‌الله أنه لما كانت أيام جعفر المقتدر بالله أمير المؤمنين أمر أن يجعل هذا المحل مسجدا ويوصل بالمسجد بالكبير ، فعمل على ما هو عليه اليوم فاتسع (٢) الناس به وصلّوا فيه ، وذلك فى سنة ست أو سبع وثلاثمائة. انتهى.

والسبيل الذى بالزيادة المذكورة من عمل الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاون ، أنشأه فى حدود سنة تسع وخمسين وسبعمائة أو فى التى بعدها (٣).

وأما ما وقع فى المسجد من العمارة والتجديد فكثير ، منها العمارة الكبيرة التى كانت فى سنة أربع وثمانمائة ، وإنما ذكرتها دون ما كان قبلها وبعدها من العمائر لكونها أعظم من غيرها مما عمر بعد الخلفاء ، ولما ظهر من همة الأمير المباشر لذلك وقوة العزم. وسبب ذلك أن فى ليلة السبت الثامن والعشرين من شوال سنة اثنتين وثمانمائة ظهرت نار من رباط رامشت المعروف الآن برباط ناظر الخاص عند باب الحزورة المصحف بباب عزورة بالجانب الغربى من المسجد الحرام ، فلم يكن غير لحظة حتى تعلقت بسقف المسجد وعم الحريق الجانب الغربى وبعض الرواقين المقدمين من الجانب الشامى بما فى ذلك من السقوف والأساطين الرخام وصارت قطعا ، وانتهى الحريق إلى محاذاة باب العجلة ، فصار ما احترق أكواما عظيمة تمنع من الصلاة فى موضعها ومن رؤية البيت الشريف. ثم من الله تعالى بعمارة ذلك فى مدة يسيرة على يد الأمير بيسق الظاهرى وكان قدومه لذلك فى موسم سنة ثلاث وثمانمائة ، فلما رحل الحاج من مكة شرع فى رفع تلك الأكوام حتى فرغت ، ثم ابتدأ فى العمارة حتى عاد ذلك كما كان ، وكان الفراغ من عمارة ذلك فى أواخر شعبان سنة أربع وثمانمائة (٤).

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٦٤.

(٢) لدى الفاسى : «فانتفع».

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٦٤.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٦٥.

١٨٢

وعجب الناس كثيرا من سرعة العمارة فى هذه المدة لأن من رأى ذلك قبل العمارة كان يقطع بأن هذه العمارة إنما تتم فى مدة سنين باعتبار العادة فى العمارة ، فسهل الله فراغها فى تلك المدة ، وجعلت الأساطين التى فى الجانب الغربى كلها من حجارة منحوتة وكذلك الجانب الشامى ما خلا أساطين يسيرة فى مقدمه ، فإنها رخام مكسر ملصق بالحديد ، وهذا كله ظاهر بين ولم يبق من ذلك إلا سقف الجانب الغربى لتعذر خشب الساج. ثم عمل ذلك من خشب العرعر فى أوائل سنة سبع وثمانمائة ـ بتقديم السين ـ على يد الأمير بيسق المذكور ، وكانت العمارة المذكورة فى أيام السلطان الناصر فرج بن برقوق (١).

ذكر منائر المسجد الحرام

فى المسجد الحرام الآن ست منائر : أربعة فى الأركان ، والخامسة فى زيادة دار الندوة ، والسادسة بمدرسة السلطان الأشرف قايتباى رحمه‌الله تعالى المجاورة لباب السلام على يسار الداخل إلى المسجد عمرت فى حدود الثمانين والثمانمائة. والخمس المنائر قديمة ، أما منارة زيادة دار الندوة فعمرت مع الزيادة المذكورة من قبل المعتضد العباسى كما تقدم وأما الأربعة التى بالأركان ، فالأولى تعرف بمنارة عزورة لأنها على باب عزورة ، والثانية على باب على وتعرف بمنارة على ، والثالثة على باب العمرة وتعرف بمنارة باب العمرة ، والرابعة تسمى بمنارة باب السلام لأنها على باب السلام ، ولم أقف على من أنشأ هذه الأربع المنائر (٢). غير أن الفاسى رحمه‌الله ذكر أن المنصور عمر منارة باب العمرة ، وعمر ابنه المهدى المنائر الثلاث التى على باب السلام والتى على باب علىّ ، والتى على باب الحزورة. (أقول) المفهوم من كلام الفاسى بقوله عمر المنصور منارة باب العمرة ، وعمّر ابنه المهدى إلى آخره (٣) ، أن مراده بذلك الترميم والتجديد لا الإنشاء بدليل قوله بعد ذلك : وعمر الجواد جمال الدين محمد بن على الأصفهانى وزير صاحب الموصل منائر المسجد. وكذا قوله : وعمّرت منارة باب الحزورة فى زمن الأشرف شعبان صاحب مصر ، وكانت سقطت فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وكذا قوله : وعمرت منارة باب بنى شيبة

__________________

(١) شفاء الغرام ج ٢ ص ٣٦٦ ، إخبار الكرام ص ١٨٧.

(٢) إخبار الكرام ص ١٨٨.

(٣) شفاد الغرام ج ١ ص ٣٨٦.

١٨٣

فى زمن الناصر فرج ، وذلك بعد أن سقطت فى سنة تسع وثمانمائة لأن السقوط يستدعى تقدم البناء قبل ذلك (١).

ولو وقف الفاسى على من أنشأ ذلك لذكره كما هو دأبه فى استيفاء الكلام وتبيين الأمور على أحسن الوجوه وأكملها. انتهى.

وكانت منائر أخر فى غير المسجد الحرام على رءوس الجبال يؤذن فيها ، نقله الفاسى عن الفاكهى. فمن ذلك على جبل أبى قبيس أربع منائر ، وعلى رأس الجبل (٢) الأحمر المقابل له منارة ، وعلى الجبل المشرف على شعب ابن عامر منارة ومن ذلك منارة تشرف على المجزرة ، ومنارة على جبل تفاحة ، ومنارة على جبل خليفة بن عمر البكرى ، ومنارة على كدىّ بضم الكاف تشرف على وادى مكة. (فهذه المنائر) كلها تنسب إلى عبد الله بن مالك الخزاعى من خدام أمير المؤمنين هارون الرشيد. ولبغا مولى أمير المؤمنين عدة منائر أيضا من ذلك منارة على رأس الفلق ، ومنارة على الأحمر ، ومنارة على جبل خليفة كما لعبد الله ، ومنارة على جبل المقبرة ، ومنارة على جبل الحزورة ، ومنارتان على جبل عمر بن الخطاب ولعله المسمى بالنوبى ، ومنارة على جبل الأنصار الذى يلى أجياد ، ومنارة على ثنية أم الحارث المشرف على الحصحاص ، وسيأتى تعريفه وموضعه فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ومنارة على الجبل المشرف على الخرمانية ، ومنارة مشرفة على الخضير أو بئر ميمون ، ومنارة بمنى عند مسجد الكبش ، فهذه كلها لبغا وكان لهذه المنائر فيما مضى أناس يؤذنون للصلاة تجرى عليهم الأرزاق فى كل شهر. ثم قطع ذلك لتغيير الأحوال وتطاول الأزمان. والله أعلم (٣).

ذكر ذرع المسجد الحرام والزيادتين

نقل الأزرقى أن ذرع المسجد الحرام مكسرا مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع (٤). وأما طول المسجد الحرام وعرضه فقد حرره الفاسى رحمه‌الله بذارع الحديد ، فكان طوله من وسط جداره الغربى الذى هو جدار رباط الخوزى ـ بضم الخاء المعجمة وبعدها واو ثم زاء معجمة ـ إلى وسط جداره الشرقى الذى عند باب الجنائز مع المرور فى نفس الحجر

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٨٦.

(٢) سقطت من المطبوع.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٨٧ و ٣٨٨.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٨١.

١٨٤

ـ بكسر الحاء ـ واللصوق بجدار الكعبة الشامى ثلاثمائة ذراع وستة وخمسين ذراعا وثمن ذراع بالذراع المذكور ، ويكون ذلك بذراع اليد أربعمائة ذراع وسبعة أذرع. وكان عرضه من وسط جداره القديم الذى يدخل منه إلى زيادة دار الندوة إلى وسط جدار المسجد اليمانى فيما بين بابى المسجد باب الصفا وباب أجياد مارا كذلك فيما بين مقام إبراهيم والكعبة وأنت إلى المقام أقرب مائتى ذراع وستة وستين ذراعا بذراع الحديد ، ويكون ذلك بذراع اليد ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع ، وكان تحريره لذلك فى ليلة الخميس السابع والعشرين من ربيع الأول سنة أربع عشرة وثمانمائة (١).

فائدة : أخرج الأزرقى بسنده إلى أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال : إنا لنجد فى كتاب الله تعالى أن حد المسجد الحرام من الحزورة إلى المسعى. وأخرج أيضا بسنده إلى عمرو بن العاص رضى الله عنه أنه قال : أساس المسجد الحرام الذى وضعه إبراهيم عليه‌السلام من الحزورة إلى المسعى إلى مخرج سيل أجياد. ثم قال : والمهدىّ وضع المسجد على المسعى انتهى (٢).

ذكر ذرع زيادة دار الندوة

أما ذرعها طولا وذلك من جدار المسجد الكبير إلى الجدار المقابل له الشامى الذى عنده باب المنارة أربعة وسبعون ذراعا ـ بتقديم السين ـ إلا ربع ذراع بذراع الحديد ، وذرع عرضها من وسط جدارها الشرقى إلى وسط جدارها الغربى سبعون ذراعا ونصف ـ بتقديم السين ـ وهذا ذرع الأروقة مع الصحن ، وأما ذرع الصحن وحده فطوله من الأساطين التى فى مقدم الجانب الجنوبى مما يلى المسجد الكبير إلى الاساطين التى فى مقدم الجانب الشمالى سبعة وثلاثون ذراعا ـ بتقديم السين ـ وعرضه كذلك بزيادة سدس ذراع بذراع الحديد (٣).

__________________

(١) تحرف فى المطبوع إلى : «وثلاثمائة» وصوابه من د ، والفاسى ، وانظر الخبر لديه ج ١ ص ٣٦٩ و ٣٧٠.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٦٢.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٧٢.

١٨٥

ذكر ذرع زيادة باب إبراهيم

أما طولها وذلك من الأساطين التى تلى المسجد الكبير إلى العتبة التى فيها باب هذه الزيادة فسبعة وخمسون ذراعا إلا سدس ذراع ـ بتقديم السين ـ وأما عرضها من جدار رباط الخوزى ـ بضم الخاء وكسر الزاى المعجمتين بينهما واو ـ إلى جدار رباط رامشت المقابل له فاثنان وخمسون ذراعا وربع وذلك ذرع الأروقة من الصحن ، وذرع الوسط وحده طولا من الأساطين الشرقية التى تلى المسجد الكبير إلى باب إبراهيم ستة وثلاثون ذراعا وربع وثمن. وذرعه عرضا ثلاثة وثلاثون ذراعا ونصف بالحديد. هذا تحرير الفاسى رحمه‌الله

أقول (١) : كان ذرع زيادة باب إبراهيم كما ذكره الفاسى ، وأما فى وقتنا هذا فينقص ذرع هذه الزيادة بعض أذرع يسيرة ، بمقتضى تغيير الباب ورفعه ، وما أحدثه الأمير خاير بك المعروف بالمعمار الجركسى من البلاط والدرج البارزة إلى نفس المسجد وزوال تلك العتبة الأولى كما قدمته آنفا. انتهى والله الموفق.

ذكر كيفية المقامات

التى هى الآن فى زمننا موجودة بالمسجد الحرام

وبيان مواضعها وكيفية الصلاة فيها وما فى المسجد من القبب

والسقايات وغيرها

أما المقامات فأربع : مقام الشافعى ، وصفته بترتان (٢) عليهما عقد لطيف مشرف من أعلاه مبيض بالنورة وخشبة معترضة للقناديل ، وهو خلف مقام الخليل عليه‌السلام. وأما مقام الحنفى فكان قديما أربع أساطين من حجارة عليها سقف مدهون مزخرف وأعلاه مما يلى السماء مطلى بالنورة ، وبين الأسطوانتين المقدمتين محراب مرخّم ، وكان ابتداء عمله على هذه الصفة فى أواخر سنة إحدى وثمانمائة ، وانتهى فى أوائل سنة اثنين وثمانمائة كذا ذكره الفاسى (٣).

__________________

(١) سقطت من المطبوع.

(٢) البتر : القوائم.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩١.

١٨٦

ثم قال وأنكر عمله على هذه الصفة جماعة من العلماء منهم الشيخ العلامة زين الدين الفارسكورى الشافعى ، وألف فى ذلك تأليفا حسنا ، والشيخ سراج الدين البلقينى وولده الإمام العلامة قاضى القضاء بالديار المصرية شيخ الإسلام جلال الدين ، وكان إذ ذاك متوليا وباقى القضاة ، وأفتوا بهدم هذا المقام وتعزير من أفتى بجوار بنائه على هذه الصفة ، ورسم ولى الأمر بهدمه ، فعارض فى ذلك بعض ذوى الهوى فلم يتم الأمر (١).

وسبب الإنكار ما حصل من شغل الأرض بالبناء وقلة الانتفاع بموضعه وما يتوقع من إفساد أهل اللهو فيه لأجل سترته لهم انتهى (٢).

وسبب المعارضة أن جماعة من علماء الحنفية إذ ذاك أفتوا بجواز بقائه على هذه الصفة لما فيه من النفع لعامة المسلمين من الاستظلال من حر الشمس والتوقى من البرد والمطر ، وأن حكمه حكم الأروقة والأساطين الكائنة بالمسجد الحرام. ثم فى سنة ست وثلاثين وثمانمائة كشف الأمير سودون المحمدى سقف المقام المذكور وعمره وزخرفه أحسن مما كان ، ووضع عليه من أعلاه قبة من خشب مبيضة تظهر من فوق ولا أثر لها من داخل المقام ، وفرش فيه حجارة حمرا تقرب من حجر الماء ، ولم يكن هذا فيه قبل ذلك ، ثم جدّد بعد ذلك مرارا آخرها فى حدود عام سبعة عشر وتسعمائة ، وقد أدركته ، وهو على هذه الصفة ، واستمر كذلك إلى عام أربعة وعشرين وتسعمائة.

فلما حج الأمير مصلح الدين الرومى فى موسم سنة ثلاث وعشرين فى أول ولاية مولانا السلطان سليم بدا له أن يهدمه ، فهدمه فى أول عام أربعة وعشرين وجعله قبة كبيرة شامخة على أربع بتر عراض جدا بأربع عقود كل ذلك من حجر يعرف عند أهل مكة بحجر الماء ، يؤتى به من جهة الحديبية أحمر وأصفر منحوت ، وزاد فى طوله وعرضه ، وأراد إيصاله بالمطاف فعرف بأن ذلك يؤدى إلى قطع الصف الأول الذى يصلى خلف إمام الشافعية ، فاقتصر وانتهى بمحرابه إلى إفريز حاشية المطاف ، واستمر الأول متصلا ، واستمرت هذه القبة كذلك نحو خمس وعشرين سنة فلما كان فى عام تسعة وأربعين وتسعمائة برز أمر مولانا سلطان الإسلام بهدم هذه القبة لما أنهى إليه من شموخها وأخذها جانبا كبيرا من المسجد.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩٢.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩٢.

١٨٧

وكان هدمها من كرامات الشيخ محمد بن عراق رحمه‌الله ، فإنى سمعت من غير واحد عن الشيخ المذكور أنه كان يقول : لا بد أن تهدم هذه القبة ، وكان كذلك وكرامات الولى حق. فلما برز الأمر بذلك بادر إلى هدمها الأمير خشقلدى ، صاحب الهمم العالية ، مزيل المنكرات ، وموسع الطرقات ، نقمة الله على أهل المفاسد ، نائب جدة المحروسة ومباشر العمائر السلطانية المأنوسة. أعزه الله تعالى ، وكان له وأحسن إليه. فبادر إلى امتثال الأمر وحضر بنفسه على جارى عادته فى علو الهمة وهدم القبة المذكورة وذلك فى أوائل شهر رجب أحد شهور عام تسعة وأربعين وتسعمائة.

ثم شرع فى بناء مقام عظيم فى الشهر المذكور وصفته أربع بتر لطاف فى الأركان من أنقاض القبة الأولى من حجر الماء وستة أعمدة من حجر الصوان مثمنة كل عمود قطعة واحدة. فمن ذلك عمودان بين البترتين المقدمتين إلى جهة القبلة ، وعمودان بين البترتين المؤخرتين ، وعمود بين البترتين من ناحية باب العمرة ، وعمود بين البترتين من جهة باب السلام مقابل له ، وعلى ذلك عشرة عقود لطاف وشقة ثلاثة منها إلى جهة القبلة وثلاثة منها إلى جهة آخر المقام مقابلة للثلاثة الأولى وعقدان إلى جهة باب العمرة عن يمين من كان جالسا فى المقام مستقبل القبلة وعقدان مقابلان لهما إلى جهة باب السلام وفوق ذلك سقف مزخرف من خشب الساج بصناعة ظريفة وكان تركيب هذا السقف فى يوم الخميس غرة شعبان أحد شهور العام المذكور آنفا.

ثم جعل فوق هذا السقف ظلة للمبلغين بأربع بتر وستة أعمدة ألطف من الأعمدة التحتانية على حكم ما جعل أسفل ، عليها سقف مزخرف بعمل محكم وفوق هذا السقف جملون عليه رصاص إلى جهة السماء لدفع المطر ، وفى أرض السقف الأول طاقة فى وسطه يرى المبلغ منها الإمام وجعلت درجة لطيفة يصعد منها المبلغ إلى الظلة فى وقت المكتوبات.

وكان ابتداء تركيب سقف الظلة فى يوم الثلاثاء رابع شهر رمضان وانتهى بعد الترصيص فى ثالث عشر رمضان من العام المذكور (١).

وأما مقام المالكى والحنبلى فكان قديما كمقام الشافعى المتقدم بترتان عليهما عقد ،

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٩٥ و ١٩٦.

١٨٨

وفى أعلاه نحو ثلاث شراريف غير أن بين البترتين من أسفل جدارا لطيفا فيه محراب فى هذين المقامين فقط.

ونقل الفاسى رحمه‌الله فى كتابه «شفاء الغرام» أن ابتداء عمارة هذه الثلاث المقامات على هذه الصفة المذكورة كان فى سنة سبع وثمانمائة ، ثم قال : وقد ذكرنا صفتها القديمة فى أصل هذا الكتاب يعنى به أصل «شفاء الغرام» ولم يوجد هذا الأصل بعد الفاسى ولا عثر عليه مطلقا. فما كان من مقام الشافعى فهو كذلك إلى يومنا هذا.

وأمام مقام المالكى والحنبلى فقد أدركتهما كذلك ثم غيرا بعد الثلاثين وتسعمائة قبل تأليفنا لهذا الكتاب بأحسن مما كانا عليه فى أيام مولانلا الخنكار (١) الأعظم سلطان الإسلام خان أدام الله أيامه ، ورفع بالنصر والتأييد أعلامه ، وصفتهما الآن كل مقام بأربع أساطين مثمنة الشكل كل أسطوانة قطعة واحدة من الحجر الصوان المكى ، وتحت كل أسطوانة قاعدة منحوتة بتربيع وتثمين وفوقها أخرى كذلك من الحجر الصوان وفوق ذلك سقف من الخشب المدهون المزخرف وفوقه إلى جهة السماء أخشاب هيئة جملون عليها صفائح الرصاص لأجل المطر ، وفى كل مقام محراب فيما بين الأسطوانتين المقدمتين إلى جهة القبلة وهما كذلك إلى هذا التاريخ ، وكان المباشر لذلك عبد الكريم اليازجى الرومى والله أعلم.

ذكر كيفية صلاة الأئمة

بهذه المقامات وبيان مواضعها من المسجد الحرام

أما كيفية الصلاة فإنهم فى زماننا هذا يصلون مرتبين ، الشافعى فى مقام الخليلعليه‌السلام ثم الحنفى إمام الحنفية بعده فى مقام الحنفية ، ثم إمام المالكية بعده فى مقامه المتعين له ، ثم إمام الحنابلة بعده فى مقامه ، وهذا فى الأربع الفروض الفجر والظهر والعصر والعشاء وأما صلاة المغرب فكان فيما أدركناه قريبا يصلى الحنفى والشافعى معا فى وقت واحد ، فحصل بذلك التخليط والتشويش على المصلين من الطائفتين بسبب اشتباه أصوات المبلغين فأنهى ذلك إلى مولانا السلطان سليمان ، فبرز أمره بالنظر فى ذلك وإزالة هذا التخليط.

__________________

(١) الخنكار : بمعنى الموفق ، وهى لقب لسلاطين الدولة العثمانية.

١٨٩

فاجتمع القضاة والأمير على بك نائب جدة فى الحطيم واقتضى رأيهم أن الحنفى يتقدم فى صلاة المغرب وعند التشهد يدخل إمام الشافعى وكان هذا فى حدود إحدى وثلاثين وتسعمائة ، واستمر ذلك إلى وقتنا هذا عام تسعة وأربعين وتسعمائة فجزى الله الساعى فى ذلك خيرا ، وأما المالكى والحنبلى فلا يصلون المغرب فيما أدركناه.

وأما كيفية الصلاة فيما تقدم من الزمان فكانوا يصلون مرتبين كما فى الأربع الفروض المتقدمة إلا أن المالكى كان يصلى قبل الحنفى مدة ، ثم تقدم عليه الحنفى بعد التسعين ـ بتقديم التاء على السين ـ وسبعمائة ونقل الفاسى عن ابن جبير ما يقتضى أن كلا من الحنفى والحنبلى كان يصلى قبل الآخر ، أما صلاة المغرب فكانوا يصلونها جميعا أعنى الأربعة الأئمة فى وقت واحد فيحصل للمصلين بسبب ذلك لبس كثير من اشتباه أصوات المبلغين واختلاف حركات المصلين ، فأنكر العلماء ذلك وسعى جماعة من أهل الخير عند ولى الأمر إذ ذاك وهو الناصر فرج بن برقوق الجركسى صاحب مصر فبرز أمره فى موسم سنة إحدى عشرة وثمانمائة بأن الإمام الشافعى بالمسجد الحرام يصلى المغرب بمفرده فنفذ أمره بذلك (١).

واستمر الحال كذلك إلى أن تولى الملك المؤيد شيخ صاحب مصر ، فرسم بأن الأئمة الثلاثة يصلون المغرب كما كانوا قبل ذلك ، فابتدأوا بذلك فى ليلة السادس من ذى الحجة عام ستة عشر وثمانمائة (٢) واستمروا يصلون كذلك إلى ... (٣).

وأما وقت حدوث صلاة الأئمة المذكورين على الكيفية المتقدمة ، فقال الفاسى رحمه‌الله : لم أعرفه تحقيقا ، ثم نقل ما يدل على أن الحنفى والمالكى كانا موجودين مع الشافعى فى سنة سبع وتسعين ـ بتقديم السين ، فى الكلمة الأولى والتاء فى الثانية ـ وأربعمائة وأن الحنبلى لم يكن موجودا فى ذلك الوقت ، وإنما كان إمام الزيدية. ثم قال : ووجدت ما يدل على أن إمام الحنابلة كان موجودا فى عشر الأربعين وخمسمائة (٤) والله تعالى أعلم.

وأما بيان محل المقامات المذكورة من المسجد الحرام :

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩٣.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩٤.

(٣) بياض بالأصلين.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩٥.

١٩٠

فإن مقام الشافعى خلف مقام الخليل ولكن ما يصلى إمام الشافعية إلا فى مقام الخليل قديما وحديثا ، ومقام الحنفى بين الركنين الشامى ويسمى العراقى أيضا ، والغربى عن يمين مقام الخليل فى جهة الشام تجاه جدار الكعبة الذى فيه الميزاب قريب من حاشية المطاف ، ومقام المالكى بين الركنين الغربى ، واليمانى قريب من الحاشية ، ومقام الحنبلى تجاه الحجر الأسود وقربه من المطاف كقرب مقام الحنفى.

ذكر ما فى المسجد الحرام من القبب وغيرها

فيه الآن قبتان كبيرتان متقاربتان جدا إلى جانب بئر زمزم من جهة المشرق : إحداهما وهى التى تلى زمزم معدة لمصالح المسجد كالمصاحف والربعات الموقوفة وحفظ الفوانيس والشمع والشمعدانات النحاس والمسارج النحاس والكراسى الخشب التى ترفع عليها الرباع ، وما أشبه ذلك من الأشياء الموقوفة لمصالح المسجد الحرام. ولم أقف على ابتداء عمارتها متى كانت (وقد) جددها الناصر العباسى ، وكانت موجودة قبله (١).

وذكر الفاسى رحمه‌الله ما يدل على أنها قديمة لأنه نقل عن ابن عبد ربه أنه ذكرها فى «العقد» (٢) وأن ابن عبد ربه توفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ونقل أيضا عن ابن جبير أنه ذكر هذه القبة فى أخبار «رحلته» (٣) وذكر أنها تنسب لليهودية ولم يبين سبب هذه النسبة.

(والقبة الثانية) هى سقاية العباس عمرت فى سنة ٨٠٧ ، وخلف سقاية العباس ملاصقا لجداره محل لطيف مسقوف فيه آلات الوقادة كالعيدان التى ينزل بها القناديل ويسرج بها ، وكالقصب المجوف الذى يطفأ به المصابيح ، وبعض شىء من الزيت الذى يحتاج إليه لوقيد الشهر ، وبعض شىء من القناديل الزجاج والحراريق التى توقد على المقامات فى الليالى المباركة كليلة أول المحرم وليلة العشر منه وليلة النصف من شعبان وليلة أوائل الشهور وغير هذا.

ومنها : فى المسجد الحرام بئر زمزم ، ومحلها تجاه الحجر الأسود فى محل مرخم عليه سقف وفوقه ظلة مسقفة بالخشب المزخرف ، وفوقه جمالون بقبة فى الوسط مصفح بالرصاص وقد جدد ذلك فى عام ثمانية وأربعين وتسعمائة ، على يد الأمير خشقلدى كان

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٨٩ وما بين حاصرتين منه.

(٢) العقد الفريد ج ٦ ص ٢٥٨.

(٣) رحلة ابن جبير ص ٧٦.

١٩١

الله له ، تجديدا حسنا ، وفى هذه الظلة خزانة لطيفة فيها مناكيب زجاج لمعرفة أوقات الصلاة ، وإلى جانبها مزولة يعلم بها الماضى والباقى من النهار ، وفى الظلة يؤذن رئيس المؤذنين ويبلغ خلف إمام الشافعية فى الصلوات الخمس.

هذا وفى زيادة باب إبراهيم حاصلان مسقوفان باباهما فى نفس الزيادة معدان لحفظ أخشاب المسجد المنكسرة والمنائر الدائرة والرصاص المتقلع وغير ذلك من الأنقاض ، عمرا فى حدود عام سبعة عشر وتسعمائة أو فى الذى قبله فى زمن السلطان الغورى على يد الأمير خاير بك العلائى المعروف بالمعمار. هذا ما فى المسجد الحرام مما أعد لمصالحه.

ومما أحدث لمصالح المسجد الحرام حاصلان كبيران فى زيادة دار الندوة على يسار النازل من باب سويقة أحد أبواب المسجد الحرام أحدثهما الجناب الكريم ذو الهمة العظيمة والرأى المستقيم الأمير خشقلدى أعز الله جنابه وأجزل أجره وثوابه ، وكان مبدأ عمارتهما فى شهر رجب أيضا عام تسعة وأربعين وتسعمائة ، وكانت عمارتهما فى هذا المحل فى غاية الصواب لأن محلهما كان به دكة عالية وربما يحصل فيها أو قد حصل من المفاسد ما الله أعلم به ، فانصان ذلك المحل بعمارة هذين الحاصلين وزال ما يتوقع من المفاسد ونقل الزيت المتعلق بالمسجد من محله الأول الذى كان خارج المسجد إلى أحد هذين الحاصلين ، وصار ذلك أحفظ له كل هذا بهمة الأمير المذكور وحسن رأيه جزاه الله تعالى خيرا والله أعلم.

ذكر عدد أبواب المسجد الحرام (١)

وأسمائها وبيان محلها من المسجد

للمسجد الحرام الآن من الأبواب تسعة عشر بابا بثمانية وثلاثين منفذا ، فمن ذلك بالجانب الشرقى أربعة أبواب بأحد عشر منفذا :

الأول : باب السلام ويعرف قديما بباب بنى شيبة وهو ثلاثة منافذ.

الثانى : باب الجنائز ، وسمى بذلك لأن الجنائز قديما كان يخرج بها منه وهو منفذان.

__________________

(١) انظر فى عدد أبواب المسجد الحرام : شفاء الغرام ج ١ ص ٣٨١ ، إخبار الكرام ص ١٩٨.

١٩٢

وعرفه الأزرقى بباب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان يخرج منه إلى منزله دار خديجة زوجته ويدخل منه.

الثالث : باب العباس بن عبد المطلب لأنه يقابل داره التى بالمسعى وهو ثلاثة منافذ.

الرابع : باب علىّ وهو ثلاثة منافذ أيضا ، وعرفه الأزرقى بباب بنى هاشم وبباب البطحاء أيضا.

(ومن ذلك) بالجانب الشامى خمسة أبواب بسته منافذ :

الأول : باب الدريبة منفذ واحد على يمين الداخل إلى المسجد من باب السلام.

الثانى : باب سويقة فى صدر زيادة دار الندوة منفذان.

الثالث : باب الزيادة غربى الزيادة المذكورة على يمين الداخل إلى المسجد الحرام من باب سويقة وهو منفذ واحد.

الرابع : باب العجلة وسمى بذلك لكونه عند دار كانت تسمى قديما دار العجلة ولم أدر ما هذه العجلة وهو منفذ واحد.

الخامس : باب السدة لكونه سد ثم فتح. وعرفه الأزرقى بباب عمرو بن العاص رضى الله عنه ، وسكن مؤلف هذا الجامع على يسار النازل من هذا الباب إلى المسجد الحرام بجوار المسجد فلله الحمد على اختصاصى بجوارين وهو منفذ واحد.

(ومن ذلك) بالجانب الغربى ثلاثة أبواب بأربعة منافذ :

الأول : باب العمرة لأن المعتمرين من جهة التنعيم يخرجون منه ويدخلون منه فى الغالب وسماه الأزرقى باب بنى سهم وهو منفذ واحد.

الثانى : باب إبراهيم منفذ واحد كبير أكبر أبواب المسجد فى الزيادة التى بهذا الجانب.

قال الفاسى : وإبراهيم المنسوب إليه هذا الباب كان خياطا عنده على ما قيل كما ذكره البكرى فى كتاب «المسالك والممالك» وأن العوام نسبوه إليه ، ووقع للحافظ أبى القاسم ابن عساكر وابن جبير وغيرهما من العلماء ما يقتضى أنه الخليل عليه‌السلام ، وهو بعيد لا وجه له. والله أعلم. انتهى.

١٩٣

الثالث : باب الحزورة المصحف الآن بعزورة ـ بالعين المهملة ـ وهو منفذان وعرفه الأزرقى بباب بنى حكيم بن حزام ـ بالحاء المهملة المكسورة والزاى المعجمة ـ وبباب بنى الزبير بن العوام أيضا ثم قال : والغالب عليه باب الحزامية لانه يلى خط الحزامية.

(ومن ذلك) بالجانب الجنوبى سبعة أبواب بسبعة عشر منفذا :

الأول : باب أم هانئ بنت أبى طالب وبذلك عرفه الأزرقى وهو منفذان.

وذكر الفاسى أنه يسمى بباب الملاعبة ، لأنه بحذاء دار تنسب للقواد الملاعبة يعنى فى زمنه. وعرفه الآقشهرى بباب الفرج ونسبته إلى أم هانئ هو الأشهر إلى يومنا هذا ، لأن ما يليه من المسجد كان دارا لأم هانئ وكان عندها بئر جاهلية فدخلت الدار والبئر فى المسجد فى زيادة المهدى الثانية. فحفر المهدى عوضا بئر على باب البقالين فى حد ركن المسجد الحرام نبه عليه الأزرقى.

أقول : لعل هذه البئر التى هى عند باب الحزورة على يسار الخارج من المسجد الحرام يغسل منها الأموات الطرحاء الفقراء الآن ، فإنى لا أعلم هنا بئرا غيرها. وفى هذا دلالة على أن باب البقالين هو باب الحزورة كما سبق التنبيه عليه. انتهى.

الثانى : باب مدرسة الشريف عجلان لأنها بجانبه ، كذا عرفه الفاسى. وعرفه الأزرقى بباب بنى تيم (١) وهو منفذان.

الثالث : باب المجاهدية لأن عنده مدرسة المالك المجاهد صاحب اليمن ، كذا عرفه الفاسى ويقال له باب الرحمة. وما عرفت سبب هذه التسمية. وذكر الأزرقى أنه من أبواب بنى مخزوم وهو منفذان.

الرابع : باب أجياد الصغير منفذان كذا عرفه ابن جبير. وعرفه أيضا بباب الخلقيين(٢)ولم أعرف ما المراد بذلك. وعرفه الأزرقى بباب بنى مخزوم.

الخامس : باب الصفا خمسة منافذ. وعرفه الفقهاء فى المناسك بباب بنى مخزوم وكذا

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٩٠.

(٢) فى المطبوع : «الحلقيين» وفى د : «الخليفتين» والمثبت رواية ابن جبير ، والخبر لديه ص ٨١.

١٩٤

عرفه الأزرقى أيضا وسبب تعريف هذه الأبواب ببنى مخزوم كونهم كانوا ساكنين فى تلك الجهة.

السادس : باب البغلة ـ بباء موحدة وغين معجمة ـ وهو منفذان كذا عرفه الفاسى ولم أدر ما سبب هذه الشهرة. وعرفه الأزرقى بباب بنى سفيان.

السابع : باب بازان كذا سماه الفاسى ، وقال : لأن عين مكة المعروفة ببازان عنده وعرفه الأزرقى بباب بنى عائد وهو منفذان.

أقول : فى عبارة الفاسى بعض تسامح ، لأن بازان هو المحل الذى تمر فيه عين مكة ينزل إليه بدرج لا نفس العين الجارية ، وكل محل ينزل إليه بدرج ويكون مستطيلا يسمى بازان فى عرف أهل هذا الزمان. وفى مكة الآن ثلاثة أماكن الثالث بغير درج والظاهر أن درجة أزيلت فيحتمل أن عين مكة كانت تسمى فى ذلك الوقت بازان. وسمى هذا المحل باسم العين ويحتمل أن يكون من باب تسمية الحال باسم المحل. انتهى. فهذه عدة أبواب المسجد الحرام الموجودة الآن والله أعلم.

١٩٥
١٩٦

الباب الثامن

فى فضل أهل مكة واحترامهم

ومزيد شرفهم وإكرامهم وذكر شىء من فضل قريش

ونسبة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه العشرة

روى الأزرقى فى «تاريخه» عن وهب بن منبه ، أن آدم عليه‌السلام لما أهبط إلى الأرض استوحش لما رأى من سعتها ولم ير فيها أحدا غيره ، فقال : يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيرى؟ فقال له : سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدى ويقدس لى ، وسأجعل فيها بيوتا لذكرى ويسبحنى فيها خلقى ، وسأبوئك فيها بيتا أختاره لنفسى وأختصه بكرامتى ، وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمى فأسميه بيتى وأنطقه بعظمتى وأجوزه بحرماتى ، وأجعله أحق بيوت الأرض كلها وأولاها بذكرى ، وأجعله فى البقعة التى اخترت لنفسى ، فإنى اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض ، وأجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما وأمنا ، أحرّم بحرماته ما فوقه وما تحته وما حوله ، فمن حرمه بحرمتى فقد عظم حرماتى ، ومن أحله فقد أباح حرماتى ، ومن آمن أهله فقد استوجب بذلك أمانى ، ومن أخافهم فقد أخفرنى فى ذمتى ، ومن عظم شأنه عظم فى عينى ، ومن تهاون به فقد صغر فى عينى ، ولكل ملك حيازة مما حواليه ، وبطن مكه خيرتى وحيازتى وجيران بيتى وعمارها وفدى وأضيافى فى كنفى ضامنون على فى ذمتى وجوارى ، فأجعله أول بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتون أفواجا شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجا ويرجون بالتلبية رجيجا ، وينتحبون بالبكاء نحيبا.

فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارنى ووفد إلى ونزل بى ، ومن نزل بى فحقيق على أن أتحفه بكرامتى وحق على الكريم أن يكوم وفده وأضيافه وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته.

تعمره يا آدم ما كنت حيا ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء أمة بعد أمة وقرن

١٩٧

بعد قرن ونبى بعد نبى حتى ينتهى ذلك إلى نبى من ولدك وهو خاتم النبيين ، فأجعله من عماره وسكانه وحماته وولاته وسقاته ، يكون أمينى عليه ما كان حيا.

وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه لنبى من ولدك قبل هذا النبى وهو أبوه يقال له إبراهيم ، أرفع له قواعده وأقضى على يديه عمارته ، وأنيط له سقايته ، وأريه حله وحرمه ومواقفه ، وأعلمه مشاعره ومناسكه وأجعله أمة واحدة قانتا لى قائما بأمرى أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم ، أستجيب له فى ولده وذريته من بعده.

وأشفعه فيهم فأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدامه وخزانه وحجابه حتى يبتدعوا ويغيروا.

فإذا فعلوا ذلك فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء أجعل إبراهيم إمام أهل ذلك البيت وأهل تلك الشريعة ، يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن يطئون فيها آثاره ويتبعون فيها سنته ويقتدون فيها بهديه.

فمن فعل ذلك منهم أو فى نذره واستكمل نسكه ومن لم يفعل ذلك منهم ضيع نسكه وأخطأ بغيته ، فمن سأل عنى يومئذ فى تلك المواطن أين أنا؟ فأنا مع الشعث الغبر الموفين بنذرهم المستكملين مناسكهم المبتهلين إلى ربهم الذى يعلم ما يبدون وما يكتمون.

وليس هذا الخلق وهذا الأمر الذى قصصت عليك شأنه يا آدم بزائد فى ملكى ولا عظمتى ولا سلطانى ولا شىء مما عندى إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت فى سبعة أبحر ، تمدها من بعدها سبعة أبحر لا تحصى بل القطرة أزيد فى البحر من هذا الأمر فى شىء مما عندى ولو لم أخلقه لم ينتقص شىء من ملكى ولا عظمتى ولا مما عندى من الغنى والسعة إلا كما نقصت الأرض ذرة وقعت فى جبالها وترابها وحصاها ورمالها وأشجارها ، بل الذرة أنقص للأرض من هذا الأمر لو لم أخلقه لشىء مما عندى وبعد هذا من هذا مثلا للعزيز الحكيم. انتهى (١) بنصه.

وجاء فى الحديث أن سفهاء مكة حشو الجنة ، كذا نقل عن أبى العباس الميورقى. ووقع بين عالمين منازعة فى الحرم المكى فى تأويل هذا الحديث وسنده فكابر أحدهما

__________________

(١) الخبر بطوله لدى الأزرقى ج ١ ص ٤٦ ـ ٤٨.

١٩٨

وطعن فى سند الحديث ومعناه ، فأصبح وقد طعن أنفه واعوجّ ، وقيل له : إى والله سفهاء مكة من أهل الجنة ، سفهاء مكة من أهل الجنة ، سفهاء مكة من أهل الجنة ثلاثا. فأدركه روع وخرج إلى الذى كان يكابره فى الحديث من علماء عصره ، وأقر على نفسه بالكلام فيما لا يعنيه وفيما لم يحط به خبرا (١).

قال القاضى تقى الدين الفاسى رحمه‌الله : بلغنى أن الرجل المنكر للحديث هو الإمام تقى الدين محمد بن اسماعيل بن أبى الصيف اليمنى الشافعى نزيل مكة ومفتيها ، وأنه كان يقول : إنما الحديث أسفاء مكة أى المحزونون فيها على تقصيرهم ، والله أعلم. انتهى (٢).

وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمقبرة مكة : نعم المقبرة هذه. وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المقبرة يعنى مقبرة مكة وليس فيها يومئذ مقبرة قال : يبعث الله عزوجل من هذه البقعة أو من هذا الحرم سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم فى سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر ، فقال أبو بكر رضى الله عنه ومن هم يا رسول الله؟ قال : هم الغرباء. قال الجد رحمه‌الله بعد أن ذكر هذا الحديث فى «منسكه» : وإنما ذكرت هذا الحديث فى فضل أهل الحرم ، لأن الغرباء المدفونين فى الحرم صاروا من أهل الحرم فى الجملة ، ويروى أن أهل مكة كانوا يلقبون فيما مضى بأهل الله ، وهذا من أهل الله ، ذكره الأزرقى وغيره.

أقول : المراد بأهل مكة قريش وبما مضى حال شركهم وكفرهم كما ذكره أهل السير ، فبالأولى أن يقال لهم بعد أن أكرمهم الله بدين الإسلام وأعزهم بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطوبى لأهل مكة ثم طوبى. انتهى.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه سأل الله عما لأهل بقيع الغرقد؟ فقال لهم الجنة ، فقال يا رب ما لأهل المعلاة؟ قال : يا محمد سألتنى عن جوارك فلا تسألنى عن جوارى ، والغرقد ـ بالغين المعجمة ـ.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتاب بن أسيد

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ١٣٩.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ١٣٩.

١٩٩

على مكة قال له : هل تدرى إلى من أبعثك؟ أبعثك إلى أهل الله. زاد الأزرقى : فاستوص بهم خيرا. يقولها ثلاثا (١).

وأخرج الأزرقى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عزل عامله رافع بن حارث الخزاعى لاستعماله على أهل مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزى ، واشتد غضبه عليه لذلك ، ولم يسكن غضبه عن رافع إلا حين أخبر أن ابن أبزى قارئ لكتاب الله تعالى عالم بالفرائض ، وتواضع حينئذ عمر رضى الله عنه ، وقال : لئن كان كذلك فقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله يرفع بهذا الدين أقواما ويضع به آخرين ، وفى رواية بهذا القرآن (٢).

أقول : ما تقرر من الفضل المذكور لأهل مكة ، فهو على سبيل العموم للصالح منهم والطالح كما دل عليه سياق الكلام الذى هو فى مقام الامتنان. ويشهد لذلك الحديث المتقدم آنفا سفهاء مكة حشو الجنة. وهذا مما لا يخفى على من له أدنى تأمل ، وهذا الفضل لا يشاركهم فيه أحد بل تميزوا به وشاركوا غيرهم فى أعظم الأمور ، وهو الإسلام ، وكذلك الحج. فإن الواحد منهم منذ سقط رأسه وإلى حين وفاته يحج هذا البيت إذا كان مقيما فإن أحرم عنه وليه فى كل عام إلى حين بلوغه ، فلا ريب فى تسميته حاجّا وحصول ثواب الحج النفل ، وإلا فقد شهد المشاعر العظام ولا يتهيأ هذا لغيرهم ، وهذا حال أكثرهم فلله الحمد والمنة على ذلك.

فلو خصص الله أحدا منهم بزيادة خلة ـ بفتح الخاء ـ وهى الخصلة من خصال الخير ، إما علم أو ورع أو زهد أو تقوى أو صلاح ، فلا ريب حينئذ فى زيادة فضله وشرفه وعلو مقامه.

وأما من جمع الله فيه هذه الخصال فبخ بخ له ، وأين ذاك ، فإن كان من قريش واجتمع فيه ما تقدم من النعوت فلا كلام حينئذ فى زيادة شرفه لما أن كثرة الخصال الحميدة والأوصاف المجيدة مما يدل على شرف القائم بها وزيادة فضله ، لا سيما إذا كان ثابت التوالد بمكة هو وأبوه وأجداده جاهلية وإسلاما ، وذلك لفضل قريش مطلقا على جميع العرب ولما خصهم الله به من سنى المجد ورفيع النسب. انتهى والله الموفق.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ١٥١.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ١٥٢.

٢٠٠