الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

لطيفة : إن قيل ما الحكمة فى تجريد الناس فى الإحرام؟ قيل : ليعلم أن باب الله جل وعلا على خلاف أبواب الملوك ، لأن العادة جرت أن يتزين الناس باللباس الفاخر إذا قصدوا باب المخلوق ففرق بين بابه وباب غيره.

(وأيضا) من أهدى إلى الملوك ما ليس فى خزائنهم يكون أرفع قدرا ، وليس شىء إلا وهو فى خزائن الله سوى الافتقار اللهم أغننا بالافتقار إليك ، ولا تفقرنا بالاستغناء عنك يا رب العالمين.

(ومنها) حديث أبى سلمة عن عبد الله بن عدى بن الحمراء قال رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته واقفا بالحزورة يقول : والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولو لا أنى أخرجت منك ما خرجت (١). وهو حديث حسن أخرجه أصحاب السنن وصححه جماعة منهم الترمذى ، وزاد الإمام أحمد واقف بالحزورة فى سوق مكة ، وقد دخل سوق مكة المذكور فى المسجد بعد ذلك.

وفى رواية أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف بالحزورة وقال : إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله عزوجل ، ولو تركت فيك ما خرجت منك. وفى أخرى عنه : والله لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى الله وأكرمها على الله ، ولو لا أن قومى أخرجونى الحديث.

وفى رواية ابن عباس ما سكنت غيرك. قال بعض العلماء : الظاهر أن هذه المقالة كانت منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عمرة القضية حين سألت قرش النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرج من مكة بعد الثلاثة الأيام التى أقامها كما وقع الشرط. ولا يظن أحد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك حال خروجه للهجرة إلى المدينة ، لأنه لم يكن بهذه الصفة حين هاجر ، وإنما كان خروجه إليها مستخفيا كما هو معلوم لا راكبا على راحلته ، إذا لو كان كذلك لأشعر بسفره.

وفى «تاريخ الأزرقى» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك عام الفتح ، فيحمل على أنه قاله مرتين إذ لا تنافى ، ويكون فيه من تعظيم مكة ما لا يخفى.

والحزورة ـ بحاء مهملة مفتوحة وزاء معجمة ـ وعوام مكة يصحفونها ويقولون عزورة بعين مهملة ـ والحزورة : هى الرابية الصغيرة جمعها حزاور ، وكان عندها سوق الحناطين

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٩.

١٤١

بمكة قديما ، وهى مخففة على وزن قسورة ، والمحدثون يشددون الحزورة والحديبية ، والصواب التخفيف كذا قال الشافعى والدارقطنى.

ومنها : حديث ابن الزبير رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام ، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فى مسجدى» رواه أحمد.

قال ابن عبد البر فى «التمهيد» إنه ثابت لا يطعن فيه أن مضاعفة الصلاة بالمسجد الحرام على مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمائة مذهب عامة أهل الأثر. انتهى.

وذهب الإمام مالك وجمهور أصحابه إلى تفضيل المدينة ، وهو مذهب عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكثير من الصحابة وأكثر أهل المدينة ، واستدلوا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة ، مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها.

قال ابن عبد البر : هذا استدلال بالخبر فى غير ما ورد فيه ولا يقاوم النص الوارد فى فضل مكة. ثم ساق حديث أبى سلمة عن ابن الحمراء المتقدم ، وقال هذا نص فى محل الخلاف فلا ينبغى العدول عنه.

وأما الحديث المروى : اللهم إنك تعلم أنهم أخرجونى من أحب البلاد إلى فأسكنى أحب البلاد إليك. لا يختلف أهل العلم فى نكارته ووضعه ، وسئل عنه الإمام مالك رضى الله عنه فقال لا يحل لأحد أن ينسب الكذب الباطل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى.

قال الطبرى : وعلى تقدير صحته فلا دلالة فيه لأن قوله فأسكنى فى أحب البلاد يدل سياقه فى العرف على أن المراد به بعد مكة ، فان الإنسان لا يسأل ما أخرج منه فإنه قال : أخرجونى فأسكنى فدل على إرادة غير المخرج منه فتكون مكة مسكوتا عنها انتهى.

وأما الحديث الذى فيه المدينة خير من مكة لا يرد ، لأنه ضعيف بل قيل موضوع. قال الجد رحمه‌الله : فإن قلت ورد فى الصحيحين عن أنس رضى الله عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال اللهم اجعل بالمدينة ضعفى ما بمكة من البركة ، ودعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجابة بلا شك، وفيهما أيضا أن الملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاعون ولا الدجال.

١٤٢

قلت : هذه الأحاديث ونحوها تدل على فضيلة المدينة لا أفضليتها على مكة كما لا يخفى ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، وفى رواية وأشد لا دلالة فيه أما على رواية أو أشد فظاهر لوجود الشك ، وأما على رواية وأشد بدون ألف أو بها وتكون بمعنى الواو فلأن سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصول أشدية الحب للمدينة بعد وجود المانع من سكناه مكة تسلية عنها لا يلزم منه تفضيل المدينة على مكة بعد استحضار ما تقدم من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى الله وأكرمها على الله بشهادة التأمل. انتهى.

فصل

(واعلم) أن جميع ما سبق من الفضل فيما قدمته محله فى غير الموضع الذى ضم أعضاء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما محل قبره فقد نقل القاضى عياض رحمه‌الله فى «شرح مسلم» الإجماع على أنه أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة وأن الخلاف فيما سواه ، ولقد أحسن وأبدع من قال فى المعنى :

جزم الجميع بأن خير الأرض ما

قد حاط ذات المصطفى وحواها

ونعم لقد صدقوا بساكنها علت

كالنفس حين زكت زكا مأواها

قال بعض المحققين وقياسه أن يقال : إن الكعبة الشريفة أفضل من سائر بقاع المدينة قطعا ما عدا موضع القبر الشريف.

تنبيه : روى ابن عبد البر فى «التمهيد» أن المرء يدفن فى البقعة التى أخذ منها ترابه عندما خلق. قال شيخ الإسلام ابن حجر : وعلى هذا فقد روى الزبير بن بكار أن جبريل أخذ التراب الذى خلق منه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تراب الكعبة فعلى هذا فالبقعة التى ضمت أعضاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تراب الكعبة فرجع الفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك والله أعلم. انتهى.

قال بعض العلماء : يؤخذ من قولهم المرء يدفن فى البقعة التى أخذ منها ترابه أفضلية سيدنا أبى بكر وسيدنا عمر على بقية الصحابة لدفنهما بالقرب من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقتضى لكون طينتهما التى خلقا منها من البقعة التى خلق منها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٤٣

فائدة : قال ابن حزم التفضيل المذكور لمكة ثابت لعرفة أيضا وان كانت من الحل.

فصل

واعلم أن لمكة أسماء كثيرة (١) قد ذكرها الله تعالى فى ثمانية مواضع من القرآن العزيز وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. قال النووى رحمه‌الله : لا يعلم بلد أكثر اسما من مكة والمدينة لكونهما أفضل بقاع الأرض وذلك لكثرة الصفات المقتضية للتسمية.

فالأول : مما فى التنزيل مكة ، وذلك فى سورة الفتح فى قوله (بِبَطْنِ مَكَّةَ.)

الثانى : بكة وذلك فى سورة آل عمران قوله تعالى (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) واختلف فى هذين الاسمين هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ، فعن الضحاك ومجاهد أنهما بمعنى واحد. وصححه ابن قتيبة محتجا بأن الباء تبدل من الميم كقولهم ضرب لازم ولازب وسبد رأسه وسمده إذا استأصله ، واختلف القائلون بالثانى فقيل بكة بالباء موضع البيت. قاله ابن عباس وإبراهيم النخعى ، وقيل ما بين الجبلين قال عكرمة وقيل الكعبة والمسجد قاله الجوهرى وزيد بن أسلم وأما بالميم فقيل القرية ، وقيل الحرم كله ، وقيل ذى طوى ، وقيل ما حوالى البيت واختلف فى اشتقاقها ، فقيل سميت مكة لأنها تمك الجبابرة أى تهلكهم وتذهب نخوتهم وأنشدوا فى معناه :

يا مكة الفاجر مكى مكا

ولا تمكى مذحجا وعكا

وقيل إنها تمك الفاجر عنها أى تخرجه ، وقيل إنها تجهد أهلها مأخوذ من قولهم تمككت العظم إذا أخرجت مخه ، والتمكك الاستقصاء. وقيل لأنها تجذب الناس إليها من قول العرب امتك الفصيل ضرع أمه : إذا امتصه ، ولم يبق فيه شيئا ، وقيل لقلة مائها ، وقيل لأنها تمك الذنوب أى تذهب بها ومكة لا تنصرف للعلمية والتأنيث. وأما بكة فقيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة أى تدقها ما قصدها جبار بسوء إلا قصمه الله وقيل لازدحام الناس فيها يبك بعضهم بعضا ، أى يزحمه فى الطواف قاله ابن عباس ، وقيل لأنها تضع من نخوة المتكبرين.

__________________

(١) انظر فى ذلك : شفاء الغرام ج ١ ص ٧٥ وما بعدها ، منائح الكرم ج ١ ص ٢١٣.

١٤٤

الثالث : البلدة وذلك فى سورة النمل.

الرابع : البلد ، وذلك فى سورة لا أقسم والتين.

الخامس : القرية ، وذلك فى سورة النحل ، وقد تقدم الكلام على هذه الآيات آنفا مستوفى.

السادس : أم القرى فى قوله تعالى فى سورة الشورى (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) الآية ، وفى تسميتها بذلك أربعة أقوال : أحدها أن الأرض دحيت من تحتها قاله الحبر ابن عباس ، وقال ابن قتيبة لأنها أقدم الأرض ، ثانيها : لأنها قبلة يؤمها الناس ، ثالثها : لأنها أعظم القرى شأنا. رابعها : لأن فيها بيت الله تعالى ، ولما جرت العادة بأن الملك وبلده مقدمان على جميع الأماكن سميت أما لأن الأم متقدمة كذا فى القرى.

السابع : معاد بفتح الميم فى قوله تعالى فى سورة القصص (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أى مكة كما فى «صحيح البخارى» عن ابن عباس.

(الثامن) الوادى فى قوله تعالى فى سورة إبراهيم (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) المراد به مكة كما تقدم آنفا فى تفسير الكواشى وأما ما ذكر من أسماء مكة (فى غير القرآن) فكثير (من ذلك) تسميتها بالنّاسة بالنون والسين المهملة المشددة ومعنى ذلك أنها تنس من ألحد فيها أى تطرده وتنفيه. ذكره النووى وغيره (ومن ذلك) النسّاسة بالنون وتشديد السين الأولى ـ والمعنى فى ذلك كالمعنى فى الناسة ، (ومن ذلك) الحاطمة لحطمها الملحدين ذكره الأزرقى ، (ومن ذلك) صلاح ـ بصاد مهملة مفتوحة وحاء مهملة ـ وسميت بذلك منها ، وقد جاء فى قول أبى سفيان بن حرب لابن الحضرمى (١) :

أبا مطر هلمّ إلى صلاح

فيكفيك الندامى من قريش

وتنزل بلدة عزت قديما

وتأمن أن يزورك رب جيش

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٠.

١٤٥

وهو مبنى على الكسر كحذام وقطام وما وازنهما ، وقد تصرف كما فى شعر أبى سفيان.

(ومن) أسمائها (العرش) بعين مهملة مفتوحة وراء مهملة ساكنة ذكره ابن جماعة (ومن) أسمائها (العريش) بزيادة ياء مثناة من تحت ذكره ابن جماعة أيضا وعزاه إلى قول ابن سيده (١).

(ومن) أسمائها (القادس) نقله الفاسى عن صاحب المطالع ، وهو مأخوذ من التقديس أى التطهير يعنى أنها تطهر من الذنوب (٢).

ومن أسمائها (المقدسة) ذكره النووى وغيره والمعنى فيه كما فى الذى قبله.

ومن أسمائها (القادسة) ذكره العز بن جماعة ولم يعزه (أقول) : ويكون المعنى والله أعلم الطاهرة ، على حد الاسمين المتقدمين لمادة الاشتقاق اللغوى. انتهى.

ومن أسمائها (كوثى) ذكره الأزرقى (٣) عن مجاهد. ونقله السهيلى أيضا فى روضه وكذا صاحب المطالع إلا أنه قال : باسم بقعة منها منزل بنى عبد الدار. وأفاد الفاسى عن الفاكهى أن كوثى فى ناحية قعيقعان. وقيل : إن كوثى جبل بمنى. وهى : بكاف مضمومة وثاء مثلثة (٤).

ومن أسمائها (الحرم) بحاء وراء مهملتين.

ومن أسمائها (برة).

ومن أسمائها (المسجد الحرام).

ومن أسمائها (المعطشة) ذكر هذه الأربعة العلامة ابن خليل فى «منسكه» فأما برة والمعطشة فلم يعزهما ولم يذكر لهما معنى. وفى القرآن العظيم ما يشهد لتسميتها بالمسجد الحرام كما نقله المرجانى عن ابن مسدى (أقول) : ولعله أراد قوله تعالى فى سورة الفتح (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) الآية (سورة الفتح : ٢٧) فإن المراد مكة كما ذكره المفسرون والله الموفق.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٠.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٠.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٨١.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٠.

١٤٦

ومن أسمائها (الرتاج) ـ براء مهملة وتاء مثناة من فوق وألف ثم جيم ـ نقله المحب الطبرى فى «شرح التنبيه» حسبما ذكره ابن جماعة.

ومن أسمائها (أم رحم) ـ براء مهملة مضمومة ـ كذا حكى عن مجاهد لأن الناس يتراحمون فيها ويتوادعون.

ومن أسمائها (أم زحم) بزاى معجمة من الازدحام. نقله الفاسى عن الرشاطىرحمهما‌الله (١).

ومن أسمائها (أم صبح (٢)) ومن أسمائها (أم روح) ذكرهما ابن الأثير فى كتابه «المرصع».

ومن أسمائها (بساق) ذكره ابن رشيق فى «العمدة» مستدلا بشعر لأميّة بن حرثان (٣). وقيل إن بساق بلدة بالحجاز وهو بباء موحدة وسين مهملة وألف وقاف.

ومن أسمائها (البيت العتيق) ذكره الأزرقى (٤) وغيره.

قال الفاسى : ولعل ذلك من تسمية الكل باسم البعض ، وهو مجاز شائع ، لكن يرد على ذلك تسمية مكة بأسماء الكعبة كلها إذا لحظ هذا المعنى (٥). انتهى.

(أقول) : على هذا يكون لمكة فى القرآن عشرة أسماء بل وأكثر عند التتبع والتدبير فتأمل والله الموفق.

ومن أسمائها (الرأس) ذكره النووى والسهيلى وغيرهما. والمعنى أنها أشرف الأرض كرأس الإنسان فإنه أشرف أعضائه.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٨١.

(٢) تحرف فى المطبوع إلى : «أم صح» وصوابه لدى الفاسى.

(٣) تحرف فى المطبوع إلى : «حرتاه» وصوابه لدى الفاسى ، والشعر هو :

سأستعدى على الفاروق ربّا

له عمد الحجيج إلى بساق

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٨٠.

(٥) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٢.

١٤٧

ومن أسمائها (المكتان) ذكره الفاسى عن شيخه بالإجازة برهان الدين القيراطى ثم قال : ولعله أخذ ذلك من قول ورقة بن نوقل الأسدى :

ببطن المكتين على رجائى

حديثك أن رأى منه خروجا (١)

قال السهيلى بعد أن ذكر هذا البيت : ثنى مكة وهى واحدة لأن لها بطاحا وظواهر ، وإنما مقصد العرب فى هذه الإشارة إلى جانبى كل بلدة ، أو الإشارة إلى أعلى البلد وأسفلها فيجعلونها اثنتين على هذا المعنى ، انتهى (٢).

ومن شعر عبد الله بن سعد بن أبى سرح القرشى فى حصار عثمان بن عفان رضى الله عنه :

أرى الأمر لا يزداد إلا تفاقما

وأنصارنا بالمكتين قليل

وأسلمنا أهل المدينة والهوى

إلى أهل مصر والذليل ذليل (٣)

ومن أسمائها (النابية) بالنون والموحدة ذكره الشيخ عماد الدين ابن كثير فى «تفسيره» (٤).

ومن أسمائها (أم الرحمن (٥)) ومن أسمائها (أم كوثى) ذكرهما المرجانى وعزا بالأول إلى ابن العربى ولم يعز الثانى ولم يذكر له معنى (٦).

ومن أسمائها (الباسة) ـ بالباء الموحدة والسين المهملة ـ لأنها تبس الملحد فيها أى تهلكه من قوله تعالى (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) ومن أسمائها (النساسة) لأنها تنس الملحد أى تطرده ، وقيل لقلة مائها والنس اليبس ذكرهما ابن جماعة.

ومن أسمائها (الناشة) (٧) بالنون والشين المعجمة.

(والبساسة) ـ بموحدة وسينين مهملتين بينهما ألف ـ والمعنى فيه ظاهر.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٢.

(٢) نقله الفاسى فى الشفاء ج ١ ص ٨٣.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٣.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٣.

(٥) فى المطبوع : «أم الرحمة» والمثبت رواية د ، والفاسى والسنجارى.

(٦) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٣.

(٧) تحرف فى المطبوع إلى : «الناشتة».

١٤٨

(وطيبة) لطيبها.

(وسبوحة والسلام والعذارء ونادرة والعرش) بضم العين والراء المهملتين بعدهما شين معجمة (والعروش) بزيادة واو (والحرمة) بضم الحاء المهملة (والحرمة) بكسرها (والعروض والسيل ومخرج صدق وقرية الحمس وأم راحم) والمعنى ما تقدم فى أم رحم (وقرية النمل ونقرة الغراب) والحمس : قريش فهذه ثمانية عشر اسما ذكرها العلامة مجد الدين الشيرازى مع ذكر غيرها أيضا مما تقدم ومما سأتى مما ذكره غيره (١).

ومن أراد الوقوف على اشتقاق كل اسم مع ذكر شواهده وفوائده فليراجع «شرح صحيح البخارى» للقاضى مجد الدين المذكور إن وجده.

قال الفاسى رحمه‌الله قلت : قرية النمل ونقرة الغراب علامتان لموضع زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها ، وعدّهما بعضهم اسمين مجازا. فإن كان شيخنا مجد الدين لحظ كونهما اسمين لزمزم وسمى بهما مكة من باب تسمية الكل باسم البعض وهو مجاز شائع فيصح على هذا أن يذكر فى أسماء مكة الصفا والمروة والحزورة وغير ذلك من المواضع المشهورة بمكة ، وقوله وقرية الحمس إن كان لحظ فى تسميته مكة بذلك أن الحمس كانوا سكان مكة فيصح على هذا أن يذكر فى أسماء مكة قرية العمالقة وقرية جرهم لكونهم كانوا سكان مكة قبل الحمس ، اللهم إلا أن تكون تسمية مكة بقرية النمل ونقرة الغراب وقرية الحمس منقولة عن أهل اللغة ، فلا يقاس عليه غيره ، والله أعلم. انتهى ما قاله الفاسى (٢).

أقول : وهو كلام عظيم وبحث عظيم مستقيم لكن فى تسمية مكة بقرية الحمس الذين هم قريش دون من ذكر من العمالقة وجرهم وغيرهم من سكانها قبلهم أوفى دليل على فضل قريش ومزيد شرفهم وذلك لتميزهم بكونهم أهل الله. وتسميتهم بذلك وهم فى حال الشرك لما ورد فى حقهم من الآيات والأحاديث والأخبار التى ستقف عليها فيما سيأتى مفصلا فى محله. إن شاء الله تعالى ، وكيف ومنهم سيد البشر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى.

ومن أسماء مكة أيضا : (البنيّة وفاران) ذكرهما ياقوت الحموى.

__________________

(١) انظر فى ذلك : شفاء الغرام ج ١ ص ٧٥ وما بعدها.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٧٦.

١٤٩

وقد نظم القاضى أبو البقاء ابن الضياء الحنفى رحمه‌الله سبعة أبيات جمع فيها من أسماء مكة نحو ثلاثين اسما وهى :

لمكة أسماء ثلاثون عدّدت

ومن بعد ذاك اثنان منها اسم مكة

صلاح وكوثى والحرام وقادس

وحاطمة البلد العريش بقرية

ومعطشة أم القرى رحم ناسّة

ونساسة رأس بفتح لهمزة

مقدسة والقادسة ناشة

ورأس وتاج أم كوثى كبرة

سبّوحة عرش أم رحمن عرشنا

كذا حرم البلد الأمين كبلدة

كذاك اسمها البلد الحرام لأمنها

وبالمسجد الأسنى الحرام تسمّت

وما كثرة الأسماء إلا لفضلها

حباها بها الرحمن من أجل كعبة (١)

وما أحسن ما أنشده بعض العلماء على لسان حال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مكة شرفها الله تعالى.

أحب بلاد الله ما بين منهج

إلى وسلمى أن تصوب سحابها

بلاد بها نيطت علىّ تمائمى

وأول أرض مسّ جلدى ترابها

ولبعضهم من قصيدة طويلة فى المفاخرة بين مكة والمدينة :

لمكة مجد باذخ الركن والقنن

وفضل منيف باسق الدوح والفنن

ومكة فيها كعبة الحسن كله

وزينها فى خدها خالها الحسن

ومكة للمختار مسقط رأسه

وكان له فيها احتضان لمن حضن

وفى مكة منشا أبيه وجده

وأعمامه والأصل والفرع والشجن

وفى مكة وافاه جبريل أولا

وكلمه بالوحى فى السر والعلن

__________________

(١) منائح الكرم ج ١ ص ٢١٤ و ٢١٥.

١٥٠

وفى مكة كانت مبادى كلامه

وإنزاله القرآن والخير فى قرن

وفى مكة أبدى الهدى نور وجهه

وكانت بها من قبل بشرى ابن ذى يزن

وفى مكة أسرى به الله ربه

وطاف به السبع السموات فى سنن

وفى مكة فتح مبين تنزلت

به سورة بانت بفضل لها أبن

وفى مكة كانت ولادة نسله

وما أنجبت منه خديجة فى الحجن

وفى مكة موطى الخليل وداره

وزمزمه والحجر والمنزل الأغن

وهى طويلة وهذا بعض منها يستدل به على المراد.

فائدة : إذا كتب بدم المرعوف على جبينه : مكة وسط الدنيا والله رءوف بالعباد انقطع الدم.

(ومن خصائص مكة شرفها الله تعالى) أن من واظب فيها على أكل اللحم وشرب الماء فقط لم يضر ذلك باطنه ، وفى غيرها يحصل منه الضرر. أخرجه الأزرقى.

(فرع) اختلف العلماء فى المجاورة بمكة المشرفة : فذهب إمامنا أبو حنيفة رضى الله عنه وطائفة من العلماء منهم ابن رشد من المالكية والقاضى أبو الطيب من الشافعية إلى كراهة المقام بها لأسباب ثلاثة :

أحدها : خوف التقصير فى حرمتها والتبرم إذ ملازمة المكان تفضى إلى قلة المهابة والتعظيم ولذلك كان عمر رضى الله عنه يأمر الحاج بالرجوع إلى أوطانهم.

الثانى : تهيج الشوق بالمفارقة لتنبعث داعية العود كما قال بعض العلماء لأن تكون فى بلد وقلبك مشتاق إلى مكة خير لك من أن تكون فيها وأنت متبرم بالمقام وقبلك فى بلد آخر.

الثالث : الخوف من ارتكاب الخطايا بها فإن ذلك محظور كبير. ومع ذلك فلا يظن أحد أن كراهة المقام بمكة يناقض فضل الكعبة لأن هذه كراهة سببها ضعف الخلق عن القيام بحقوق الله تعالى كذا قاله الغزالى.

١٥١

وعن عمر رضى الله عنه أنه قال : لخطيئة أصيبها بمكة أعز على من سبعين خطيئة بغيرها. وذهب الشافعى وأحمد وغيرهما من العلماء منهم أبو يوسف ومحمد من أصحابنا وابن القاسم من المالكية إلى استحباب المجاورة بها لما يحصل فيها من الطاعات التى لا تحصل فى غيرها وتضعيف الصلوات والحسنات وغير ذلك والفتوى عندنا على قول الصاحبين كما صرح به الفارسى فى منسكه عن المبسوط والدليل على الاستحباب ما تقدم من حديث أبى الحمراء وقول عائشة فلا نعيده.

فائدة : قال ابن الجوزى فى «مثير العزم» بلغ عدة من استوطن مكة من الصحابة أربعة وخمسين رجلا ومن التابعين جماعة كثيرة. وقد جاور بها عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله رضى الله عنه.

تنبيهان :

الأول : ما تقدم من الكلام محله فى المجاورة فقط من غير سكنى ، وأما السكنى والانقطاع فهو بالمدينة أفضل ، ويشهد له ما ثبت من حديث ابن عمر أن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة. وفى الصحيحين : اللهم حبب إلينا المدنية كحبنا مكة وأشد ، وصححها وبارك لنا فى صاعها ومدها وانقل حماها إلى الجحفة. وهى رابغ ، ولم يرد فى سكنى مكة شىء من ذلك بل كرهه جماعة من العلماء كما سبق.

الثانى : روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة. وفى الترمذى من حديث عمر مرفوعا : من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإنى أشفع لمن يموت بها. فالموت حينئذ بالمدينة الشريفة أفضل من الموت بمكة لهذه الأحاديث ، ولأنه من لازم أفضلية السكنى بها على السكنى بمكة المشرفة ، وإن كان قد ورد ما يقتضى أن الموت بمكة فيه فضل عظيم كذا فى «منسك» الجد نور الله ضريحه ، والله تعالى أعلم.

١٥٢

الباب السابع

فى فضل الحرم وحرمته والمسجد الحرام

وزيادة الثواب للعامل فيه على غيره وتضعيفه

وذكر شىء من خبر عمارته وتوسعته

قال الله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) الآية ، وقد تقدم الكلام على أول هذه الآية فى الباب الخامس.

لطيفة : قال النسفى : وإسناد الأمن المذكور إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم ومجاز ، وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعنى أهل مكة (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) الآية.

(واعلم) أن حرم مكة المذكور هو ما أحاط بها من جوانبه ، وقد جعل الله حكمه حكم مكة تشريفا لها ، (وفى سبب) كون هذا القدر المخصوص حرما. أقوال : فقيل : إن آدم عليه‌السلام لما أهبط إلى الأرض خاف على نفسه من سكان الأرض ، وهم يومئذ الجن والشياطين ، فبعث الله ملائكة يحرسونه فوقفوا فى موضع أنصاب الحرم من كل جانب ، فصار ما بينه وبين موقف الملائكة حرما ، وقيل : إن الحجر الأسود لما وضعه الخليل عليه‌السلام فى الكعبة حين بناها أضاء يمينا وشمالا وشرقا وغربا فحرم الله عزوجل من حيث انتهى النور. وقيل : أهبط الله البيت إلى آدم ، وهو من ياقوتة حمراء تلتهب التهابا ، وله بابان شرقى وغربى ، فأضاء نوره ما بين المشرق والمغرب ففزع لذلك سكان الأرض ورقوا فى الجو ينظرون من أين ذلك النور ، فلما رأوه من مكة أقبلوا إليه فأرسل الله حينئذ الملائكة فقاموا فى مكان الأنصاب فمنعتهم ، فمن ثم ابتدأ اسم الحرم ، وقيل غير ذلك.

(وأول) من نصب أنصاب الحرم إبراهيم الخليل بتوقيف جبريل عليه‌السلام ، ثم جددها قصىّ بن كلاب بعد ذلك. وقيل بل جددها إسماعيل عليه‌السلام بعد أبيه ثم قصى بعده. وقيل : إن أول من نصبها عدنان بن أد حين خاف أن يدرس الحرم ثم نزعتها قريش بعد ذلك والنبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ذاك بمكة قبل هجرته فاشتد ذلك عليه ، فجاءه جبريل عليه‌السلام وأخبره أنهم سيعيدونها فرأى عدة من قريش فى المنام كأن قائلا يقول : حرم أعزكم

١٥٣

الله به ومنعكم ، نزعتم أنصابه! الآن تتخطفكم العرب فأعادوها ، فأخبر جبريل عليه‌السلام النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل أصابوا فى ذلك ، فقال جبريل عليه‌السلام : ما وضعوا نصبا إلا بيد ملك ، ثم جددت عام الفتح بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجددت أيضا فى زمن عمر وعثمان ومعاوية وعبد الملك بن مروان والمهدى العباسى (١).

واختلف العلماء فى مكة وحرمها هل صار آمنا بسؤال الخليل عليه‌السلام؟ أم كان ذلك منذ خلق الله السموات والأرض. الصحيح الثانى ، ويشهد له ما رواه ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوم فتح مكة فقال : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى ، ولم يحل لى إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ، ولا يختلى خلاه إلى آخر ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر (٢) ، فإنه لقينهم ولبيوتهم (٣) ، فقال : إلا الإذخر (٤). متفق عليه ، وورد فى لفظ فى الصحيحين ولا يعضد شجرها ، يعنى مكة والمراد الحرم.

سؤال : إن قيل قد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن إبراهيم حرم مكة وإنى حرمت المدينة فهذا تصريح بتحريم الخليل عليه‌السلام. أجيب عنه بأن إبراهيم عليه‌السلام إنما أظهر حكم التحريم بعد أن كان مهجورا وسببه أن الطوفان لما وقع اندرس البيت الشريف ونسى ذلك الحكم وهجر ، والذى تجدد بسؤال إبراهيم هو أن يجعله آمنا من الجدب والقحط وأن يرزق أهله من الثمرات. والعضد فيما تقدم القطع ، والمراد من تنفير صيده أن لا يصاح عليه فينفر.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٨٦.

(٢) الإذخر : نبات عشبى ، من فصيلة النجيليات ، وله رائحة ليمونية عطرة ، وأزهاره تستعمل منقوعا كالشاى ، ويقال له أيضا : طيب العرب ، والإذخر المكى من الفصيلة نفسها ، جذوره من الأفاويه ، ينبت فى السهول وفى المواضع الجافة الحارة ، ويقال له أيضا : حلفاء مكة.

(٣) لقينهم ولبيوتهم : القين : هو الحداد والصائغ ، ومعناه يحتاج إليه القين فى وقود النار ، ويحتاج إليه فى القبور لتسدّ به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات ، ويحتاج إليه فى سقوف البيت ، يجعل فوق الخشب.

(٤) أخرجه مسلم : كتاب الحج : باب تحريم مكة وصيدها وخلاها ... ج ٢ ص ٤٢٣ وانظر لذلك أيضا : شفاء الغرام ج ١ ص ١٠٨.

١٥٤

أقول : إذا كان المراد من التنفير ما ذكر فمن باب أولى أن لا يضرب بعصا وحجر ونحوهما كما يفعله كثير من الناس لتأذيه بذلك أكثر ويستفاد من ذكر الصيد العموم ، سواء كان من الحمام القاطن بمكة أو من غيره مما يدخل من الحل إليها ، لأنه بالدخول استفاد الأمن كما صرح به علماؤنا فى فروعهم. انتهى.

وعن عكرمة ، تنفير الصيد : أن تنحيه من الظل وتنزل مكانه. والخلا ـ بفتح الخاء والقصر : الحشيش إذا كان رطبا فإذا يبس فهو حشيش وهشيم ، والاختلاء القطع أيضا ، والإذخر نبت طيب الريح معروف عند أهل مكة. وفى حكم الإذخر : السنا ونحوه مما يحتاج إليه.

أقول : لقائل أن يقول : هذا إذا كان ما يحتاج إليه من الإذخر ونحوه لا ينبت إلا فى الحرم فقط ، وأما إذا نبت فيه وفى الحل فينبغى أن يترك ما فى الحرم ويؤخذ مما فى الحل امتثالا للحديث وعملا بمقتضاه ، وإن كان فى ذلك مشقة ، لأنه حينئذ يكون أخذا بالعزيمة والاسثناء فى الحديث للرخصة. انتهى.

والقين : الحداد لأنه يحتاج إليه فى عمل النار واحتياج البيوت لأجل السقوف واستثناؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الفور. تمسك به من الأصوليين من يقول بجواز الاجتهاد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تفويض الحكم إليه. ثم قيل إن السبب فى سؤال العباس رضى الله عنه كونه من أهل مكة ، وقد علم أنه لا بد لهم منه.

أقول : غير العباس من قريش من أهل مكة أيضا ولم يسأل ، فإما لكونه لم يعلم أنهم لم يستغنوا عنه أو يكون ترك ذلك تأدبا مع العباس لمكانته وفضله وقربه منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأمل انتهى.

قال شيخ الاسلام ابن حجر رحمه‌الله فى «فتح البارى» ناقلا عن ابن التين : والحق أن سؤال العباس كان على وجه الضراعة ، وترخيص النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان تبليغا عن الله إما بطريق الوحى أو الإلهام ، ومن ادعى أن نزول الوحى يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم. انتهى.

١٥٥

فصل

واعلم أن لهذا الحرم الشريف فضائل كثيرة وخصائص حميدة شهيرة تدل على شرفه وفضله وخيره ويمتاز بها على كثير من البلاد غيره.

فمن فضائله : ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : كانت الأنبياء عليهم‌السلام يدخلون الحرم مشاة حفاة وعنه أيضا أنه قال : حج الحواريون فلما بلغوا الحرم ، مشوا تعظيما له.

وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لما عقر ثمود الناقة وأخذتهم الصيحة لم يبق منهم أحد إلا رجلا واحدا كان فى حرم الله عزوجل فمنعه الحرم ، فقالوا : من هو يا رسول الله؟ فقال : أبو رغال أبو ثقيف. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه (١). رواه مسلم.

ورغال ـ بالغين المعجمة ـ وقوله : أبو ثقيف يعنى جدهم ، ونقل الزمخشرى أن النبى صالحا عليه‌السلام وجه أبا رغال على صدقات فأساء السيرة فقتله ثقيف ، وهو الذى يرجم قبره بمكة. وقيل : إنه دليل أبرهة إلى البيت. انتهى.

ويقال : إن قبره بالمغمس باق إلى الآن والله أعلم. وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان بمكة إذا أراد قضاء حاجته يخرج إلى المغمس.

ونقل عن الشيخ أبى عمرو الزّجاجىّ أحد مشايخ الصوفية المشهورين ، أنه أقام أربعين سنة بمكة لم يبل ولم يتغوط فى الحرم (٢). وأما خصائص الحرم المطهر فتجل عن الحصر.

ومنها : أنه لا يدخله أحد إلا بإحرام. وهل ذلك واجب أو مستحب؟ فيه خلاف بين الأئمة رضى الله عنهم. والوجوب مذهبنا.

ومنها : تحريم صيده على جميع الناس ، سواء فى ذلك أهل الحرم وغيرهم وسواء

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ١١٦.

(٢) طبقات الصوفية للسلمى ص ٤٣١.

١٥٦

المحرم منهم والحلال. بل يجب عندنا إرسال صيد الحل إذا دخل الحرم لاستفادته الأمن بدخوله ، وإن ذبح حرم أكله.

ومنها : تحريم قطع شجره وحشيشه كما تقدم فى خطبة الفتح.

ومنها : أن من دان بغير دين الإسلام منع من دخوله مقيما كان أو مارا كما هو مذهب الشافعى رحمه‌الله تعالى وجمهور الفقهاء ، ما عدا إمامنا أبا حنيفة رضى الله عنه ورحمه فإنه جوز ذلك لمن لم يستوطن.

ومنها : أن لقطته لا تحل لتملك ، وإنما تحل لمنشد وهذا مذهب الشافعى رضى الله عنه وأرضاه وعند الأئمة الثلاثة أن حكم لقطة الحرم كغيره من البلاد. والمذهب عندنا أنها تحل للمعرف بعد سنة. والمراد بالمنشد عندنا : المعرف. وعند الشافعى المالك.

ومنها : تحريم دفن المشرك فيه ولو دفن ينبش ما لم يعلم تفسخه.

ومنها : تغليظ الدية بالقتل فيه بزيادة ثلثها سواء كان القتل عمدا أو خطأ عند الشافعية والحنابلة كما نقله ابن جماعة فى «منسكه». قال الفاسى : وفيما نقله عن الشافعية نظر ، لأن الصحيح عندهم أن التغليظ باعتبار التثليث بأن يكون ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ، وهذا لا يفهم مما نقله ابن جماعة (١). والله أعلم.

ومنها : تحريم إخراج أحجاره وترابه إلى الحل سواء قل أو كثر كما هو مذهب الشافعى وعندنا إنما يحرم إخراج الكثير من ذلك المؤدى إلى التخريب ، وأما إخراج القدر اليسير للتبرك فلا بأس به. ويكره إدخال ذلك من الحل إليه لئلا يحدث لها حرمة لم تكن له.

ومنها : أن ذبح دماء الهدايا والجبرانات مختص به ولا يجوز فى غيره.

ومنها : أن المتمتع والقارن إذا كانا من أهله لا دم عليهما عند مالك والشافعى وأكثر العلماء ، لكونهما من حاضرى المسجد الحرام ، وهذا بناء على جواز ذلك من أهل الحرم خلافا لمذهبنا.

ومنها : أن الصلاة النافلة التى لا سبب لها لا تكره فى وقت من الأوقات سواء فى ذلك مكة وسائر الحرم ، بخلاف خارج الحرم فإنها هناك مكروهة وهو مذهب الشافعى ، وخالف

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ١١٢.

١٥٧

أصحابنا فى ذلك وأطلقوا الكراهة. واستدل الشافعى رحمه‌الله بما رواه جبير بن مطعم عن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحد يصلى عند هذا البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار (١). أخرجه الدارقطنى.

وجوز البيهقى فى المراد بالصلاة احتمالين : أحدهما أن يكون المراد بالصلاة صلاة الطواف خاصة قال : وهو الأشبه بالآثار. والاحتمال الآخر أن يكون المراد جميع الصلوات. قال ابن جماعة : ولفظ حديث الدارقطنى يرد الاحتمال الأول الذى ذكره البيهقى وفيه بعد. ومنع بعضهم الاستدلال بهذا الحديث لعموم النهى كما هو مذهبنا. ومذهب المالكية والله أعلم أنه أشبه بالآثار وتأول بعضهم الصلاة على الدعاء.

ومنها : أن الإنسان إذا نذر قصده لزمه الذهاب إليه بحج أو عمرة كما هو مذهب الشافعى والإمامين أبى يوسف ومحمد من أصحابنا ، بخلاف غيره من المساجد فإنه لا يجب الذهاب إليه إذا نذره إلا مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمسجد الأقصى على الأصح عند النووى ، وفيه خلاف بين العلماء.

ومنها : تضعيف الأجر فى الصلاة بمكة وكذا سائر الحرم كما رجحه جماعة من أهل العلم ، وحكم سائر أنواع الطاعات فى التضعيف حكم الصلاة وستقف عليه قريبا إن شاء الله تعالى.

ومنها : إذا نذر أن ينحر بمكة لزمه النحر بها والتصدق باللحم على مساكين الحرم فقط عند الشافعى. وعندنا يجوز على غيرهم أيضا ، وقد تقدم. ولو نذر ذلك فى بلد آخر لم يصح نذره على الراجح.

ومنها : تضاعف السيئة به كما نقله المحب الطبرى فى «القرى» عن مجاهد وأحمد بن حنبل ، وكذلك نقل عن غيرهما من العلماء. والصحيح من مذاهب العلماء أن السيئة بالحرم كغيره.

ومنها : أن المقيم بالحرم لا يجوز له إحرام الحج إلا منه.

ومنها : أن المستحب لأهل مكة أن يصلوا العيد فى المسجد الحرام لا فى الصحراء

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ١١٠.

١٥٨

بخلاف غيرهم ، وذلك لفضيلة البقعة ومشاهدة الكعبة. وذهب جماعة من العلماء منهم الغزالى إلى أن حكم المسجد الأقصى فى ذلك كمسجد مكة. ومال النووى إلى خلاف ذلك. قال لم يتعرض الجمهور له وظاهر إطلاقهم أنه كغيره.

ومنها : أن الإنسان يؤاخذ بهمه بالسيئة بالحرم وإن كان بعيدا عنه كما يروى من حديث عبد الله بن مسعود فى قوله عزوجل (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) الآية ، أنه قال : لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عزوجل عذابا أليما ، ووجه اختصاص الحرم بهذا الحكم أن غيره من البلاد إذا هم الإنسان فيه بسيئة لا يؤاخذ بها إلا إذا عملها كما هو موجب حديث ابن عباس رضى الله عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل فى كتابة الحسنات والسيئات ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ، وهذا الحديث فى الصحيحين وظاهره يقتضى عموم البلاد فى حق هذا الحكم فيدخل الحرم فى ذلك لكن حديث ابن مسعود المتقدم آنفا يخص الحرم والله أعلم.

ومنها : وجوب قصده فى كل سنة على طائفة من الناس لإقامة فريضة الحج.

ومنها : اختصاص حمام مكة فى الجزاء بشاة من غير حكم إذا أصيب فى الحرم كما هو مذهب مالك والشافعى رحمهما‌الله تعالى.

ومنها : أن الجارح يتبع الصيد فإذا دخل الحرم تركه. كذا نقله ابن الحاج عن بعض المفسرين.

ومنها : أن أهل الحرم لا يقاتلون إذا بغوا فيه عند بعض العلماء لكن يضيق عليهم حتى يكفوا عن ذلك وقال القفال من الشافعية أنه يمتنع أيضا قتال الكفار بالحرم إذا تحصنوا فيه وهو مقتضى مذهب مالك رحمه‌الله نص عليه ابن الحاجب فى مختصره وذهب أكثر العلماء إلى جواز قتال الكفار والبغاة بمكة تقديما لحق الله تعالى كما صححه النووى ، وأجابوا عن الأحاديث الصحيحة الواردة فى تحريم القتال بمكة بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم بما يعم كالمنجنيق وشبهه إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك ، بخلاف ما إذا

١٥٩

تحصن كفار فى بلد آخر ، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه بكل شىء. وذكر أن الشافعى رحمه‌الله نص على هذا التأويل.

ومنها : عند إمامنا أبى حنيفة أن القاتل عمدا والزانى المحصن والحربى الذى بغير أمان إذا لجأوا إلى الحرم لا يقتل الأول ، والثالث ولا يقام الحد على الثانى ما داموا فى الحرم ، بل يضيق عليهن حتى يخرجوا منه ويستوفى من كل ما وجب عليه. وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ومذهب مالك والشافعى أن الحرم لا يمنع من استيفاء القصاص والحد.

ومنها : على ما قال ابن الصلاح من الشافعية لا يجوز أخذ شىء من مساويك الحرم. وذكر ابن الحاج من المالكية أنه يجوز.

ومنها : أن المستنجى بحجارة الحرم مسىء ويجزئه ذلك قاله الماوردى.

ومنها : أنه لا يحل حمل السلاح بالحرم لغير ضرورة عند مالك والشافعى لما رواه جابر فى الصحيحين.

ومنها : أن الله تبارك وتعالى أوجب على أهلها التوسعة على الحجيج إذا قدموا مكة وأن لا يأخذوا منهم أجرا على نزولهم فى مساكنها كما هو مفهوم كلام ابن عساكر فى فضل منى. وفى كلام السهيلى ما يقويه أيضا.

ومنها : أنه يمتنع على المهاجر منها الإقامة بها إلا ثلاثة أيام بعد الصدر كما هو معنى ما رواه ابن الحضرمى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنها : أن الطاعون والدجال لا يدخلان الحرم ولا المدينة الشريفة كما ذكره الحافظ عمر بن شبة فى «أخبار مكة» واستدل بحديث ورد فى ذلك نقله العلامة ابن حجر فى فتح البارى. وذكر أن رجاله رجال الصحيح ثم قال : وعلى هذا فالذى نقل أنه وجد فى سنة تسع وأربعين وسبعمائة ليس كما ظن من نقل ذلك أو يجاب إن تحقق ذلك بجواب القرطبى وهو أن لا يدخلها من الطاعون مثل الذى فى غيرها كطاعون عمواس والجارف ، وهو جواب صالح على تقدير التنزل أن لو وقع شىء من ذلك بها. انتهى.

ومنها : أن سيل الحل لا يدخل الحرم وإنما يخرج من الحرم إلى الحل ، وإذا انتهى سيل الحل إلى الحرم وقف.

١٦٠