الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة التحقيق

ابن ظهيرة (١) : محمد بن محمد بن أبى بكر بن ظهيرة القرشى المخزومى.

ولد بمكة ، وذكر معاصرون أنه كان شيخ الفتيا والتدريس ومرجع العلماء وصفوة الفقهاء بمكة المشرفة ، كما كان مفرد زمانه فى العلم والفضل والدين والتقوى.

من آثاره التاريخية : الجامع اللطيف فى فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف ، وهو هذا الذى نقدم له اليوم.

وقد عبّر فى مقدمته عن رغبته فى وضع تأليف متوسط بين الإطالة والاختصار ، ورتبه على مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة ، وجعل المقدمة فى فضل العلم ، أما الأبواب فخصصها بما يتعلق بالكعبة المشرفة وفضلها وعمارتها ووصف ما بداخلها وما ورد فى فضل المقام والحجر الأسود والملتزم وماء زمزم وفضل المسجد الحرام وعمارته ، وفضل مكة وذكر أمرائها ، والخاتمة فى ذكر الأماكن والمشاهد بمكة المكرمة.

وقد اعتمد ابن ظهيرة على مصادر متنوعة من كتب التاريخ والسيرة والمناسك والتفسير وغيرها (٢).

هذا وقد استندت فى تحقيق نص ابن ظهيرة إلى :

النسخة التى طبعت بمطبعة عيسى الحلبى بالقاهرة سنة ١٩٣٨ م.

كما استعنت بمخطوطة دار الكتب المصرية برقم ٢٩٤٦ تاريخ. وقد رمزت إليها بالحرف (د).

__________________

(١) كذا قيّده صاحب تاج العروس بفتح الظاء وكسر الهاء.

(٢) التاريخ والمؤرخون بمكة لمحمد الحبيب الهيلة ص ٢٣٦ ، ٢٣٧.

٥

وقد أشرت إليهما معا فى تعليقاتى (بالأصلين).

وكان حرصى على سلامة النص أكثر من حرصى على التعريف بالأعلام والبلاد والإسراف فى الشرح والتعليق ، إذ كان ذلك أهم ما يحتاج إليه العلماء والباحثون عند الرجوع إلى الكتب المحققة.

كما قمت فى آخر الكتاب بعمل الفهارس المتنوعة التى تقرب نفعة ، وتدنى جناه.

القاهرة فى ذى الحجة سنة ١٤٢٢ ه

مارس سنة ٢٠٠٢ م

د / على عمر

٦

٧

٨

٩
١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذى أسبغ على أهل مكة بمجاورة بيته الأمين مواد الفضل والنعمة. وجعلهم أهله وخاصته فخرا لهم وتنويها بشأنهم لما اقتضته الحكمة. وخص من شاء منهم بباهر العز والجلال ودفع عنه كل بؤس ونقمة. وحباه بمزيد العناية والشرف فصار له جارا وجار الله جدير بوافر الإنعام والحرمة.

أحمده على انتظامى فى هذا السلك ، وأشكره على تفضلاته الجمة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذى أكرمنا بخير نبى كنّا به خير أمة. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث فى هذه البقعة المطهرة لكشف غياهب الشك والظلمة ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الأئمة ، الذين ناصروه وظاهروه على عدوه وقاموا فى مصالحه على همة ، صلاة وسلاما دائمين مقرونين بعظيم البركة والرحمة.

أما بعد : فيقول الفقير إلى عفو الله ولطفه الخفى ، محمد جار الله بن ظهيرة القرشى المكى الحنفى : اعلم أنه لا يخفى على كل عاقل من ذوى الألباب السليمة ، والأفكار الرائقة الحسنة المستقيمة ، أن الكعبة الشريفة هى أفضل مساجد الأرض وأنها بيت الله الحرام ، وقبلة لجميع الأنام. وأن مكة المشرفة هى البلد الأمين ، ومسقط رأس سيد المرسلين. وأهلها هم خاصة الله من البشر. الحائزون نهاية الشرف والفخر والظفر. والمسجد الحرام فضله لا ينكر. وما طوى من فضائله لم يزل ينشر. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى ، وأعظم من أن تستقصى ، وقد تصدى لتأليف فضائل مكة وأخبارها جمع كثير من فضلاء المتقدمين أجلهم الإمام المتقن أبو الوليد الأزرقى تغمده الله برحمته.

ومن المتأخرين السيد العلامة المحرر القاضى تقى الدين الفاسى المكى بوأه الله دار كرامته ، وهو المعول عليه ، فإنه رحمه‌الله قد أغرب وأبدع ، وأتى فى مؤلفه «شفاء الغرام» ومختصراته بما يشفى وينفع ، وأظهر فى ذلك جملا من المحاسن والمفاخر ، وإن كان

١١

للمتقدم عليه فضل السبق والتأسيس فكم ترك الأول للآخر ، غير أن الجميع رحمهم‌الله قد أطالوا الكلام وبالغوا فى الإسهاب ، ونشروا العبارة وبسطوها فى جميع الكتاب ، بحيث من أراد الإحاطة بذلك يحتاج إلى استيعاب جميع المؤلف مع كبر الحجم ليقف على ما هنالك. وربما قدم بعضهم ما يحسن تأخيره ، وأخر ما يحسن تقديمه وتقريره.

وممن جنح أيضا إلى هذا الغرض وذكره ضمنا أرباب كتب المناسك فى أوائل مناسكهم ، فمنهم من أوسع العبارة وأطال بما يمكن أن يدرك بأدنى إشارة ، ومنهم من مال إلى الإيجاز والاختصار ، ومع ذلك فلم تسلم عبارته من التكرار ، وبعضهم ضيق العبارة جدا ، بحيث إنه ذكر ذلك فى نحو ست ورقات عدا ، فأخل حينئذ بما تعين أن يذكر ، وأضرب صفحا عن أمور وجب أن تثبت وتشهر.

فلما وجدتها على ما وصفت ولم أقف على مؤلف متوسط فى ذلك يدل على المقصود ، ولا ظفرت بتعلق مفرد يكون جامعا لما هو فى أسفار علماء هذا الفن موجود.

أحببت أن أجعل بعد الاستخارة تعليقا لطيفا غير مختصر مخل ، ولا مطول ممل.

يكون عدة للقصاد ، سالكا إن شاء الله تعالى سبيل التوسط والاقتصاد لقصور الهمم فى هذا الزمان عن مطالعة المطولات ، ومراجعة المبسوطات.

أجمع فيه ما تفرق من منثور الكلام ، وأضم كل لفظ إلى مناسبه ليحصل كمال الالتئام ، ولما أن التأليف فى هذا الوقت ليس هو إلا كما قال بعضهم : جمع ما تشتت ، ورم ما تفتت مع زيادة فروع فقهية ، وأحاديث نبوية. وآثار ضوية. وفوائد كثيرة. ولطائف غزيرة. مع تحرير عبارة وتقرير وإشارة.

مثبتا ذلك على قدر الفتوح. حسبما هو موجود فى الأسفار مشروح ، عازيا كل قول غالبا إلى قائله ، ومبينه لطالعه وسائله ، ليكون للواقف عليه عمدة ، وأخرج بذلك من الدرك والعهدة.

وما فتح الله به فى كلامى على سبيل البحث ميزته بقولى فى أوله بما صورته أقول أو بحث ، وفى آخره انتهى ، أو والله الموفق بالقلم الأحمر (١) ، وشرطت أن لا يخل الناسخ

__________________

(١) فى هامش المطبوع : «اكتفينا بجعله بين قوسين» وقد أبقينا عليه كما ورد فى المطبوع.

١٢

بذلك ليتميز عن كلام الغير ، هذا مع اعترافى بكساد البضاعة وعدم التقدم فى هذه الصناعة ، فشرعت مجتهدا فى ذلك ، طالبا من الله تيسير تلك المسألة ، وسميته :

«الجامع اللطيف فى فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف»

ورتبته على مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة.

المقدمة فى فضل العلم.

الباب الأول : فى مبدأ أمر الكعبة الشريفة وبيان فضلها وشرفها وما ورد فى ذلك من الآيات والأحاديث والآثار ، وما سبب تسميتها الكعبة وتسميتها بالبيت العتيق.

الباب الثانى : فى زيادة تعظيم هذا البيت الشريف وما جاء فى فضله من الآيات الشريفة ، والعجائب الباهرة المنيفة ، وما ورد فى فضل المقام وما سبب تسميته بالمقام وفيه فصلان : (الأول) فى ذكر الحجر الأسود وما ورد فى فضله وشرفه (والثانى) فى فضل الملتزم والدعاء فيه وذكر الفيل وخبر تبع.

الباب الثالث : فيما يتعلق ببناء الكعبة الشريفة وعدد مرات بنائها وفيه أربعة فصول: (الأول) فى الكلام على البيت المعمور وذكر شىء من فضل جدة على سبيل الاستطراد (والثانى) فى ذكر كنز الكعبة والكلام فيه (والثالث) فى الكلام على دخول الكعبة الشريفة وما ورد فى ذلك (والرابع) فى ثواب دخوله.

الباب الرابع : فى الكلام على كسوة الكعبة الشريفة وتطييبها وتحليتها ومعاليقها ، وفيه فصل فى الكلام على سدانة البيت.

الباب الخامس : فى فضل الطواف بالبيت والطائفين به ، وفيه ثلاثة فصول : (الأول) فى النظر إلى البيت (الثانى) فى بيان المواضع التى صلى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول الكعبة (الثالث) فى بيان وجهة المصلين إلى القبلة من سائر الآفاق.

الباب السادس : فى فضل مكة شرفها الله تعالى وحكم المجاورة بها ، وفيه ثلاثة فصول: (الأول) فى أفضليتها على المدينة (الثانى) فى أفضلية قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر البقاع (الثالث) فى ذكر أسماء مكة المشرفة.

١٣

الباب السابع : فى فضل الحرم وحرمته وفضل المسجد الحرام وخبر عمارته ، وفيه خمسة فصول : (الأول) فى ذكر الآيات المختصة بالحرم (الثانى) فى الكلام على تعريف المسجد الحرام ، وفيه ذكر شىء من خبر الإسراء على سبيل الاستطراد (الثالث) فى ذكر عمارة المسجد الحرام (الرابع) فى خبر عمارة الزيادتين اللتين به وذرعه وذكر المنابر (الخامس) فى كيفية المقامات التى بالمسجد الحرام وبيان مواضعها وحكم الصلاة فيها وما فى المسجد من القباب والأبنية وعدد أبواب المسجد الحرام.

الباب الثامن : فى فضل أهل مكة وشرفهم وما ورد فى ذلك ، وفيه فصل واحد يتعلق بذكر نسب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسب أصحابه العشرة ، وذكر شىء من مناقب قريش.

الباب التاسع : فى ذكر مبدأ بئر زمزم وفضل مائها وأفضليته وخواصه ، وفيه فصلان (الأول) فى ذكر أسمائها (الثانى) فى آداب الشرب منها.

الباب العاشر : فى عدد أمراء مكة من لدن عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومنا هذا.

الخاتمة : فى ذكر الأماكن المباركة التى يستحب زيارتها بمكة وحرمها وخارجها من المواليد والدور والمساجد والجبال والمقابر ، سائلا من كرم الله ولطفه أن يهدينى إلى الطريق السواء ويجعلنى ممن أخلص النية فى العمل ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، مستعينا به فيما أردت ، مؤملا من فضله إتمامه حسبما قصدت ، وهو الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب.

١٤

المقدمة

فى فضل العلم الشريف وأهله وطالبيه

وما ورد فيه من الآيات العظيمة

والأخبار الكريمة والآثار الجسيمة

اعلم أن العلم شرف الإنسان. وفخر له فى جميع الأزمان. وهو العز الذى لا يبلى جديده. والكنز الذى لا يغنى مزيده. وقدره عظيم. وفضله جسيم. قال الله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (سورة فاطر : ٢٨) برفع العلماء على الفاعلية. أى إنما يخاف الله من عرفه حق معرفته وهم العلماء. وقرئ فى الشواذ برفع الاسم الشريف على الفاعلية ونصب العلماء على المفعولية. وهذا مروى عن جماعة من العلماء منهم إمامنا أبو حنيفة رضى الله عنه. كان الأستاذ الكمال ابن الهمام فى مجلس تدريسه فأورد عليه سائل قراءة أبى حنيفة المذكورة فأجاب بقول الشاعر :

أهابك إجلالا وما بك قدرة

علىّ ولكن ملء عين حبيبها

وحينئذ فالمراد بالخشية الإجلال. فيكون المعنى على هذا إنما يجل الله من عباده العلماء، وقال تعالى (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) (سورة آل عمران : ١٨) الآية. فقرنهم بالملائكة ثم عطف شهادتهم على شهادته وميزهم من بين سائر الخلق وفضلهم على جميع الناس لقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (سورة العنكبوت : ٤٣) ومنّ على سيد البشر بقوله تعالى : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (سورة النساء : ١١٣) قال تعالى تنويها بشأن العلماء : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) (سورة الأنعام : ٩١) وقال تعالى : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (سورة العلق : ٥) وقال تعالى فى جواب الكفار حين سألوا وما الرحمن : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (سورة الرحمن : ١ : ٤) وقال تعالى فى حق العلماء : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (سورة الزمر : ٩) وقال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ

١٥

آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (سورة المجادلة : ١١) قال بعض المفسرين : يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم. قال بعض العلماء : رفعتهم تشمل المعنوية فى الدنيا بحسن الصيت وعلوّ المنزلة ، والحسية فى والآخرة بعلوّ المنزلة فى الجنة ، وقال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (سورة طه : ١١٤) وجه الدلالة أن الله تعالى لم يأمر نبيه بطلب الازدياد من شىء إلا من العلم. ومثل هذا كثير فى كتاب الله ، وفى بعض الكتب المنزلة (يقول الله : أنا الذى خلقت الخلق والقلم وعلمت الناس البيان).

وأما ما جاءت به بالسنة فأكثر من أن يحاط به. فمن ذلك ما روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم ، وطالب العلم يستغفر له كل شىء حتى الحوت فى البحر».

وروى عطية العوفى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من غدا ليطلب العلم صلت عليه الملائكة وبورك له فى معيشته».

وعن أبى الدرداء رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة».

وفى رواية : (سهل الله له به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضاها بما يصنع). قال بعض العلماء المراد بوضع الأجنحة التواضع على جهة التشريف. وقيل على الحقيقة تضع أجنحتها لهم فيمشون عليها ولا يدركون ذلك للطافة أجسادهم.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم ، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر».

وعن أبى إسحاق المزنى يرفعه إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقال للعابد يوم القيامة ادخل الجنة ، ويقال للعالم : قف فاشفع لمن شئت».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العالم والمتعلم كهذه من هذه» وجمع بين المسبحة والتى تليها «شريكان فى الأجر ، ولا خير فى سائر الناس بعد».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا لذلك ، ولا تكن الخامس فتهلك».

١٦

وعن أبى أيوب الانصارى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مسألة واحدة يتعلمها المؤمن خير له من عبادة سنة وخير له من عتق رقبة من ولد إسماعيل».

لطيفة : تخصيص اولاد اسماعيل بالذكر: تخصيص أولاد إسماعيل بالذكر دون غيرهم قيل : لكونهم أفضل أصناف الأمم ، فإن العرب أفضل الأمم ، ثم أفضلهم أولاد إسماعيل. وقيل : لأن أولاد إسماعيل لم يجز عليهم رق قبل الإسلام.

وعن أبى أمامة رضى الله عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته» رواه مسلم.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم».

وفى الترمذى : «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يشفع الله يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» قال بعض الفضلاء : أكرم بمرتبة هى متوسطة بين النبوة والشهادة.

أقول : فى العطف ب «ثم» أدل دليل بعلى أفضلية العلماء على الشهداء كما لا يخفى على من عرف الحكم النحوى فى ثم. انتهى.

وفى «الفائق» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلموا العلم وعلموه الناس» وفيه أيضا : «تعلموا العلم واعملوا به» وفيه : «تعلموا العلم قبل أن يرفع» وفيه : «تعلموا العلم وكونوا من أهله» وفيه : «إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء فى الجنة كما يحتاجون إليهم فى الدنيا».

لطيفة : من الاحتياج الى العلماء فى الجنة : من الاحتياج إلى العلماء فى الجنة أنه إذا دخل أهل الجنة إليها يعطيهم الله جميع ما يتمنونه ولا يزالون يتمنون بإذن ربهم حتى تعجز عقولهم وتدبيراتهم عن الأمانى ، لأنهم نالوا كل ما أرادوا من النعيم ، فيقول الله سبحانه بعد ذلك كله : تمنوا فلا يعرفون ما يتمنون ، فيرجعون إلى العلماء فيسألونهم ما يتمنون فيستنبطون لهم أشياء من أسرار الله تبارك وتعالى فيتمنونها. كذا فى «حاوى القلوب إلى لقاء المحبوب» لابن الميلق الشافعى رحمه‌الله.

والأحاديث فى ذلك كثيرة جدا. وهذا بعض من كل ، وقال بعض الفضلاء : العلم أمان من كيد الشيطان ، وحرز من كيد الحسود ودليل العقل ، ولقد أحسن من قال :

١٧

ما أحسن العقل والمحمود من عقلا

وأقبح الجهل والمذموم من جهلا

فليس يصلح نطق المرء فى جدل

والجهل يفسده يوما إذا سئلا

والعلم أشرف شىء ناله رجل

من لم يكن فيه علم لم يكن رجلا

تعلم العلم واعمل يا أخى به

فالعلم زين لمن بالعلم قد عملا

وعن بعض الحكماء أنه قال : العلم خليل المؤمن ، والحلم وزيره ، والعقل دليله ، والعمل قائده ، والرفق والده ، والبر أخوه ، والصبر أمير جنوده.

وقال بعض الحكماء : لمثقال ذرة من العلم أفضل من جهاد الجاهل ألف عام ، وقال الإمام الشافعى رضى الله عنه وأعاد علينا من بركاته : الاشتغال بالعلم أفضل من صلاة النافلة ، وقال ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.

وقال بعض العلماء : العلم نور يهتدى به الحائر ، وفى معناه أنشدوا :

بالعلم تحيا نفوس قط ما عرفت

من قبل ما الفرق بين الصدق والمين

العلم للنفس نور تستدل به

على الحقائق مثل النور للعين

وقال آخر :

كفى شرفا بالعلم دعواه جاهل

ويفرح إن أمسى إلى العلم ينسب

ويكفى خمولا بالجهالة أننى

أراع متى أنسب إليها وأغضب

١٨

وقال ابن الزبير : إن أبا بكر كتب إلىّ وأنا بالعراق : يا بنى عليك بالعلم فإنك إذا افتقرت إليه كان مالا ، وإن استغنيت به كان جمالا ، وأنشد فى معناه :

العلم بلغ قوما ذروة الشرف

وصاحب العلم محفوظ من التلف

يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه

بالموبقات فما للعلم من خلف

العلم يرفع بيتا لا عماد له

والجهل يهدم بيت العز والشرف

وقال بعض الفضلاء : ينبغى لكل عاقل أن يبالغ فى تعظيم العلماء ما أمكن ولا يعد غيرهم من الأحياء ، وقد أجاد من قال :

ومن الجهالة أن تعظم جهلا

لصقال ملبسه ورونق نقشه

واعلم بأن التبر فى بطن الثرى

خاف إلى أن يستبين بنبشه

وفضيلة الدينار يظهر سرها

من حكه لا من ملاحة نقشه

وقال أبو طالب المكى فى «قوت القلوب» جاء فى الخبر أن الله تعالى لا يعذر على الجهل ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله ولا يحل للعالم أن يسكت عن علمه ، وقد قال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (سورة الأنبياء : ٧).

وقال سيدى الشيخ سهل بن عبد الله التسترى رضى الله عنه وأعاد علينا من بركاته : ما عصى الله بمعصية أعظم من الجهل ، وما أطيع الله بمثل العلم.

وقال بعضهم رضى الله عنه : قسوة القلب بالجهل أشد من قسوته بالمعاصى. قال الشيخ محمد ابن على المنهاجى رحمه‌الله : قلت : والله أعلم ولهذا نجد الجاهل يبغض كل من كان طالبا للعلم ويعد ذلك عيبا ، وقيل فى معنى ذلك :

١٩

عاب التعلم قوم لا عقول لهم

وما عليه إذا عابوه من ضرر

ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة

أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

وقال على بن أبى طالب كرم الله وجهه : العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم حاكم والمال محكوم عليه. والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالنفقة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : خير سليمان بن داود صلوات الله عليهما بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطى الملك والمال معه. وقال الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه : ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يجعله الله فى قلب من يشاء.

وقال بعض الحكماء : ليت شعرى أى شىء أدرك من فاته العلم وأى شىء فات من أدرك العلم. وما أحسن ما قيل :

مع العلم فاسلك حيثما سلك العلم

وعنه فكاشف كل من عنده فهم

ففيه جلاء للقلوب من العمى

وعون على الدين الذى أمره حتم

فخالط رواة العلم واصحب خيارهم

فصحبتهم زين وخلطتهم غنم

ولا تعدونّ عيناك عنهم فإنهم

نجوم هدى إن غاب نجم بدا نجم

فو الله لو لا العلم ما اتضح الهدى

ولا لاح من غيب الأمور لنا رسم

وعن ابن المبارك أنه قال : لا يزال المرء عالما ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.

وعن عثمان بن أبى شيبة قال : سمعت وكيعا يقول : لا يكون الرجل عالما حتى يسمع

٢٠