الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

فليخفف فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة ، وإذا صلى منفردا فليطول ما شاء. انتهى.

واعتبر بعض المتأخرين الخطى فوجد كل طوفة مائة وعشر خطوات إذا كان بينه وبين البيت ذراع أو فوقه قليلا ، فتكون للطوافات السبع سبعمائة وسبعون خطوة. انتهى.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : أسعد الناس بهذا الطواف قريش وأهل مكة ، وذلك أنهم ألين الناس فيه مناكب وأنهم يمشون فيه التؤدة. أخرجه الأزرقى.

الثانى : الترتيب فى الطواف ليس بشرط عندنا حتى لو طاف منكوسا صح مع الكراهة ، وكذا لو طاف عاريا أو بغير طهر ، فإن أمكن إعادته فى طوافى الحج والعمرة أعاد وإلا جبر بالدم خلافا للثلاثة.

الثالث : اختلف العلماء هل الطواف بمكة أفضل أم الصلاة ، وهل الاعتمار أفضل أم الطواف. فمذهب الجمهور أن الصلاة أفضل فرضها ونفلها لأنها أفضل عبادات البدن ، وذكر جماعة من علمائنا أن الطواف أفضل فى حق الآفاقى ، والصلاة فى حق المكى أفضل. وهو مذهب المالكية ومتأخرى الشافعية. وذهب الماوردى إلى أن الطواف أفضل. ورجحه ابن عبد السلام واحتج بما سيأتى قريبا عن ابن عباس فيما ينزل من الرحمات حيث جعل للطائفين أكثر.

(وأما المفاضلة) بين الطواف والعمرة عن أنس بن مالك أنه سأل عن الطواف للغرباء أفضل أم العمرة؟ فقال : بل الطواف. أخرجه الأزرقى.

قال المحب الطبرى : مراد أنس والله أعلم أن تكرار الطواف أفضل من العمرة ولا يريد طواف أسبوع واحد ، فإنه موجود فى العمرة (١). انتهى.

وله فى هذا المعنى تأليف لطيف سماه «عواطف النصرة فى تفضيل الطواف على العمرة» ذهب فيه إلى أن الاشتغال بتكرار الطواف فى مثل مدة العمرة أفضل من الاشتغال بالعمرة ، واستدل رحمه‌الله على ذلك بجملة أدلة. وذهب جماعة من الشافعية منهم السبكى والبلقينى إلى تفضيل الاعتمار مطلقا على الطواف (٢).

__________________

(١) القرى ص ٣٣٢.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٨٩.

١٢١

الرابع : لا بأس عندنا للطائف أن يقرأ القرآن فى نفسه لأنه ذكر مشرف فى مكان مشرف. ويكره أن يرفع صوته بالقراءة فيه كى لا يقع فى الرياء والسمعة. ولفظة لا بأس ، تدل على أن الأولى الاشتغال بالدعاء دون القراءة ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتغل بالدعاء دون القراءة لكون اليطواف محلا لإجابة الدعاء وعند مالك لا يقرأ إلا قوله : (رَبَّنا آتِنا) إلى قوله : (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (سورة البقرة : ٢٠١) كذا نقله الكرمانى من أصحابنا. والصحيح من مذهب الشافعى أن الدعاء المأثور فى الطواف أفضل من القراءة للاتباع. واستدل أصحابه بأنه قد نهى عن القراءة فى الركوع والسجود لتعلق الدعاء الخاص بهما. قال الزركشى : وقد ينازع فى عبارتهم فى هذه المسألة ، إذ لا شىء من الذكر أفضل من القرآن ، فكيف يكون الاشتغال بالمأثور أفضل من الاشتغال بالقرآن؟ وأجيب بأن القراءة فعل القادر وهى حادثة والقرآن قديم. والتفضيل بين القراءة والذكر ، والصواب أن القرآن من حيث حقيقته أفضل. وقد ألف أبو بكر الآجرى تأليفا يتضمن الإنكار على الجاهر فى الطواف بذكر أو تلاوة ، وغلظ فى ذلك وشدد وينبغى أيضا لمن كان فى المسجد قريبا من الطواف أن لا يرفع صوته بتلاوة أو ذكر لئلا يشوش على الطائفين أو المصلين.

الخامس : من سنن الطواف للرجل القرب من البيت لينال الشرف والبركة ليكون أيسر فى الاستلام والتقبيل. وهذا إذا لم يؤذ أو يتأذ بزحمة أو غيرها واذا لم يفته الرمل أيضا بسبب الزحمة ، فإن خشى فوات الرمل فالبعد أولى للإتيان به لأن الرمل عندنا لا بدل له ، ولهذا إذا اشتدت الزحمة يقف وأيضا فى قرب الرجل من البيت بعده عن النساء فإن طوافهن غالبا من جهة حاشية المطاف لا سيما عند من يقول بنقضهن. والمستحب للمرأة البعد عن البيت لئلا تخالط الرجال إلا فى وقت خلو المطاف فالقرب أولى والخنثى كالمرأة.

السادس : التطوع بشوط واحد فى الطواف هل يسوغ ويؤجر عليه أم لا؟ فمذهب الشافعى أن من تطوع ابتداء بطوفة واحدة لا يجوز ولا يثاب على ذلك لما فيه من التلاعب بالعبادة. أما لو نوى أن يطوف أسبوعا ثم بدا له بعد أن طاف طوفة واحدة مثلا أنه لم يوف فله أجر الطوفة ولا يحبط ذلك ترك ما بقى من السبع.

أقول : مقتضى مذهبنا أيضا عدم جواز التطوع بالشوط الواحد قياسا على الركعة

١٢٢

الواحدة فى حق عدم المشروعية عندنا لا فى حق الحنث ، فإن حلف لا يصلى يحنث بأداء ركعة واحدة. انتهى.

السابع : يجوز الطواف عندنا على الشاذروان لأنه ليس من البيت نص على ذلك الأصحاب. ومذهب الشافعية والحنابلة وبعض متأخرى المالكية أنه يجب أن يكون الطائف بجميع بدنه خارجا عن البيت والحجر والشاذروان. وينبغى الاحتراز عند الشافعى لمن قبل واستلم من أن يمر وشىء من بدنه فى الشاذروان ، بل يقر قدميه إلى أن يعتدل بعد التقبيل أو الاستلام ، فإن لم يقرهما فليرجع إلى مكانه قبل الاستلام لئلا يقع بعض طوافه فى البيت لا بالبيت ، لأن الشاذروان عندهم جرء نقصته قريش من عرض جدار أساس الكعبة حين ظهر على الأرض.

قال الجد رحمه‌الله : لم ينقل وقوع هذا التحرز عن أحد من السلف الصالح ، ولو وقع لنقل ، ولكن القواعد المقررة اقتضت ذلك مع أنه لا يلزم من عدم الاطلاع على النقل أن لا يكون منقولا إذ لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود.

وعند الحنابلة أن الطائف لو كان يمس الجدار بيده فى موازاة الشاذروان صح طوافه ، لأن معظمه خارج البيت.

وأفاد الشيخ القدوة أبو عبد الله خليل إمام مقام المالكية بالمسجد الحرام بأنه لم يشترط أحد من متقدمى المالكية فيما علمه الطواف خارج الشاذروان ، وأن الشيخ أبا الطيب القابسى المالكى كان ينكر ذلك ولا يثبته فى مذهب مالك. قال الفاسى رحمه‌الله : ينبغى الاحتراز منه لأنه إن كان من البيت كما قيل فالاحتراز منه واجب وإلا فلا محذور فى ذلك. كيف والخروج من الخلاف مطلوب وهو هنا قوى والله أعلم.

نكتة : اعلم أن منشأ الخلاف بين الأئمة فى ذلك حديث عائشة المتقدم المصرح بأن قريشا اقتصروا على قواعد إبراهيم ، وقد صح أن ابن الزبير رضى الله عنه لما بلغه هذا الحديث قال : أنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس فهدم الكعبة كما قدمته وبناها على قواعد إبراهيم ، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابين على ما كان فى زمن قريش إلى آخر ما تقدم.

فإذا علمت هذا ظهر أن ما ذكره الشافعية من أنه ينبغى الاحتراز عن الشاذروان عند

١٢٣

التقبيل ليس بناهض. فينبغى حينئذ صحة الطواف على الشاذروان كما قال ابن الميلق من الشافعية وفيه تأييد لمذهبنا ولو وقع ما قاله الشافعية لنبه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحابة على ذلك لكونه مما تمس الحاجة إليه بقول أو فعل ولنقل ذلك ، هذا مع توفر الدواعى على النقل.

ونازع الفاسى فى ذلك فقال : وبعض الناس يعارض القول بأن الشاذروان من البيت بكون ابن الزبير بنى البيت على أساس إبراهيم عليه‌السلام كما فى خبر بنائه. وهذا المعارض لا يخلو من حالين : أحدهما أن يدعى أن ابن الزبير استوفى البناء على جميع أساس جدران البيت بعد ارتفاعها عن الأرض. والآخر أن يدعى أن البناء إذا نقص من عرض أساسه. بعد ارتفاعه عن الأرض لا يكون مبنيّا على أساسه.

والأول لا يقوم عليه دليل لأن ما ذكر من صفة بناء ابن الزبير للبيت لا يقتضى أن يكون بناؤه مستوفى على جميع أساس جدرانه بعد ارتفاعها من الأرض ولا ناقصا عن أساسها ، ووقوع هذا فى بنائه أقرب من الأول لأن العادة جرت بتقصير عرض أساس الجدار بعد ارتفاعه لمصلحة البناء. وإذا كان هذا مصلحة فلا مانع من فعله فى البيت لما بنى فى زمن ابن الزبير. نعم فى بناء ابن الزبير على أساس إبراهيم دليل واضح على أنه أدخل فى البيت ما أخرجته منه قريش من الحجر فإنه بنى ذلك على أساس إبراهيم لا أساس قريش.

والثانى غير مسلم لأن الجدار إذا اقتصر عن عرضه بعد ارتفاعه من الأرض لا يخرجه ذلك عن كونه مبنيّا على أساسه وهذا مما لا ريب فيه وإنكاره مكابرة والله أعلم. انتهى.

الثامن : يجب على الطائف عندنا أن يكون طوافه من وراء الحجر ، فلو طاف الطواف الواجب فى جوف الحجر بأن يدخل من إحدى الفتحتين ويخرج من الأخرى عليه الإعادة وتجزئ على الحجر خاصة ، والأفضل الإعادة على البيت كله.

وذكر قاضى خان فى شرح «الجامع الصغير» فى صفة الإعادة على الحجر صورتين:

الأولى : أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر حتى ينتهى إلى آخره ثم يدخل الحجر من الفرجة ويخرج من الجانب الآخر يفعل ذلك سبعا.

الثانية : أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر حتى ينتهى إلى آخره ثم يرجع ولا يدخل

١٢٤

الحجر ، ويبتدئ من أول الحجر من المكان الذى ابتدأ منه أولا ولا يعد رجوعه إلى ذلك شوطا يفعل ذلك سبعا ، فإن رجع إلى أهله ولم يعد لزمه دم كما قاله صاحب «الهداية».

وحكى ابن عبد البر إجماع العلماء على أن من طاف بالبيت يلزمه أن يطوف من وراء الحجر ، ولو لم يطف من ورائه لم يجزه.

التاسع : لو طافت المرأة متنقبة فى غير حالة الإحرام فمقتضى مذهب الشافعى الكراهة كما تكره صلاتها متنقبة ، قاله النووى وهو مذهب مالك.

قال الجد رحمه‌الله : محل هذا حيث أمنت من رؤية الرجال لوجهها ، أما حيث لم تأمن كما هو الغالب من حال الطواف فلا كراهة ، بل تنقبها حينئذ متعين ، وعندنا لا يكره لها ذلك فى الطواف. نص عليه السروجى فى غايته.

العاشر : قال ابن جماعة فى «منسكه» ومن البدع ما يفعله كثير من الجهلة من ملازمة البيت وتقبيله عند إرادة الطواف قبل استلام الحجر الأسود وتقبيله ، والذى سنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو الابتداء بالحجر لأنه يمين الله فلا يناسب البداءة بغيره والله أعلم.

فصل فى ثواب النظر إلى البيت زاده الله شرفا

وبيان مصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول البيت

وذكر ذرع أرض المطاف

روى الحسن البصرى رحمه‌الله فى «رسالته» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من جلس مستقبل القبلة ساعة واحدة محتسبا لله عزوجل ولرسوله تعظيما للبيت ، كان له كأجر الحاج والمعتمر والمرابط القائم ، وأول ما ينظر الله إلى أهل الحرم ، فمن رآه مصليا غفر له ، ومن رآه قائما غفر له ، ومن رآه جالسا مستقبل القبلة غفر له.

وروى ابن عباس رضى الله عنهما عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إن الله ينزل فى كل يوم وليلة مائة وعشرين رحمة على هذا البيت ، ستون للطائفين ، وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين(١).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٨ ، القرى ص ٣٢٥.

١٢٥

أقول : هذا الحديث وإن كان ضعيفا فقد نص النووى وغيره من الحفاظ على جواز رواية الضعيف فى الفضائل انتهى.

وفى رواية أخرى ينزل الله على أهل المسجد مسجد مكة كل يوم عشرين ومائة رحمة الحديث.

قال المحب الطبرى : ولا تضاد بين الروايتين ، بل يجوز أن يريد بمسجد مكة البيت ، ويطلق عليه مسجد بدليل قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (سورة البقرة : ١٤٤) ويجوز أن يريد مسجد الجماعة وهو الأظهر ، ويكون هو المراد بالتنزيل على أهل المسجد ، ولهذا انسحبت على أنواع العبادات الكائنة فى المسجد (١). انتهى.

ثم قال أيضا عند كلامه على هذا الحديث : يحتمل فى تأويل القسم بين كل فريق وجهان : الأول قسمة الرّحمات بينهم على المسمّى بالسّويّة ، لا على العمل بالنظر إلى قلته وكثرته وصفته ، وما زاد على المسمى فإنه ثواب من غير هذا الوجه ، ونظير هذا : أعط الداخلين بيتى مائة دينار ، فدخل واحد مرة ، وآخر مرارا فلا خلاف فى تساويهما فى القسم(٢).

الوجه الثانى : وهو الأظهر قسمتها بينهم على قدر العمل ، لأن الحديث ورد فى سياق الحثّ والتحضيض وما هذا سبيله لا يستوى فيه الآتى بالأقل والأكثر (٣).

ثم قال بعد أن استوفى الكلام فى كيفية قسمة الرحمات : إذا تقرر ذلك فالتفضيل فى الرحمات بين المتعبدين بأنواع العبادات الثلاث ، أدل دليل على أفضلية الطواف على الصلاة، والصلاة على النظر ، وإذا تساووا فى الوصف ، هذا هو المتبادر إلى الفهم عند سماع ذلك فيخص به وبما ورد من الأحاديث المتقدمة فى فضل الطواف [من] عموم قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة. أو تقول : الطواف نوع من الصلاة فيكون داخلا فى عموم حديث تفضيل الصلاة على سائر أعمال البدن ، ولا ينكر أن بعض الصلاة أفضل من بعض (٤).

__________________

(١) القرى ص ٣٢٥.

(٢) القرى ص ٣٢٥.

(٣) القرى ص ٣٢٦.

(٤) القرى ص ٣٢٦ وما بين حاصرتين منه.

١٢٦

ثم قال بعد كلام آخر : ووجه تفضيل هذا النوع من الصلاة وهو الطواف على غيره من الأنواع [ثبوت] الأخصية له بمتعلق الثلاثة ، وهو البيت الحرام ، ولا خفاء بذلك ، ولذلك بدأ به فى الذكر هنا وفى قوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) الآيتين (سورة الحج: ٢٦ ، ٢٧) ولما كانت الصلاة على تنوعها لم تشرع إلا عبادة ، والنظر قد يكون عبادة إذا قصد التعبد به وقد لا يكون ، وذلك إذا لم يقصد به التعبد تأخر فى الرتبة (١).

وقولنا : إذا تساووا فى الوصف نحترز مما إذا اختلف وصف المتعبّدين ، فكان الطائف ساهيا غافلا والمصلى والناظر خاشعا يعبد الله كأنه يراه ، كان المتصف بذلك أفضل ، إذ ذلك الوصف لا يعد له عمل جارحة خاليا عنه ، وهو المشار إليه والله أعلم فى قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (سورة الكهف : ٣٠) انتهى باختصار (٢).

وهو كلام عظيم كاف شاف حرى (٣) أن يكتب بماء الذهب فى بياض الحدق ، وقد ذكره فى كتابه «القرى» بأبسط من هذا ، واستدل بأمور معنوية قوية ظاهرة لا يحتمله هذا التعليق فليراجعه مريده فى محله ، فرحمه‌الله ولله دره من عالم محقق.

وفى «رسالة الحسن» أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من نظر إلى البيت إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وحشر يوم القيامة فى الآمنين. وفيها عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من نظر إلى البيت نظرة من غير طواف ولا صلاة كان عند الله عزوجل أفضل من عبادة سنة يعنى صائما وقائما وراكعا وساجدا.

وعن ابن عباس أنه قال : النظر إلى الكعبة محض الإيمان أخرجه الجندى. وعن سعيد ابن المسيب : من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وعن عطاء : النظر إلى البيت الحرام عبادة ، والناظر له بمنزلة الصائم القائم الدائم المخبت المجاهد فى سبيل الله عزوجل. وعن أبى السائب المدينى : من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا تحاتت عنه الذنوب كما يتحات الورق من الشجر. وعن زهير بن محمد قال : الجالس فى المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف به ولا يصلى أفضل من المصلى فى بيته لا ينظر إلى البيت. أخرجها الأزرقى (٤).

__________________

(١) القرى ص ٣٢٧ وما بين حاصرتين منه.

(٢) القرى ص ٣٢٧.

(٣) تحرف فى المطبوع إلى : «حر».

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٩.

١٢٧

فصل فى ذكر المواضع التى صلى فيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم

حول الكعبة وبيانها ملخصة كما نقله الفاسى (١) عن القرى

للمحب الطبرى (٢) مع زيادة أدلة

الأول : خلف مقام الخليل عليه‌السلام لما رواه جابر فى صفة حجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : ثم نفر إلى مقام إبراهيم فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (سورة البقرة : ١٢٥) وجعل المقام بينه وبين البيت ثم صلى الركعتين.

الثانى : تلقاء الحجر الأسود عند حاشية المطاف كما فى النسائى من حديث المطلب بن أبى وداعة.

الثالث : قريبا من الركن الشامى مما يلى الحجر ـ بسكون الجيم ـ كما فى «سنن أبى داود» من حديث عبد الله بن السائب.

الرابع : عند باب الكعبة كما فى «تاريخ الأزرقى» من حديث ابن عباس قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمنى جبريل عند باب الكعبة مرتين. قال الفاسى : ويحتمل ثلاثة وجوه. الأول : أن يكون صلى وجاه الباب. الثانى أن يكون فى الحفرة المرخمة التى عند باب الكعبة على يمينه. الثالث أن يكون فى الملتزم وهو بعيد. والوجه الأول أقرب لأنه عند الباب حقيقة ، وإنما نبهنا على ذلك لأن الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ أحمد بن موسى بن العجيل ذكرا أن مصلى جبريل بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحفرة المرخمة. ولم أقف على كلام ابن عجيل ، ولكن بلغنى أن الطبرى إمام المقام سأله عن ذلك فحققه له بطريق الكشف. وأما كلام ابن عبد السلام فنقله ابن جماعة انتهى. قال ابن جماعة بعد ذلك عن ابن عبد السلام : ولم أر ذلك لغيره ، وفيه بعد لأنه لو كان صحيحا لنبهوا عليه بالكتابة فى الحفرة ، ولما اقتصروا على من أمر بعمل المطاف والله أعلم. انتهى.

الخامس : تلقاء الركن الذى يلى الحجر من جهة المغرب جانحا إلى جهة الغرب قليلا بحيث يكون باب المسجد المعروف اليوم باب العمرة خلف ظهره. كما فى «مسند أحمد»

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٥١.

(٢) القرى لقاصد أم القرى ص ٣٤٨.

١٢٨

و «سنن أبى داود» وغيرهما من حديث المطلب بن أبى وداعة أنه رأى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى مما يلى باب بنى سهم ، والناس يمرون بين يديه. وباب بنى سهم هو باب العمرة المذكور.

والسادس : فى وجه الكعبة كما فى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضى الله عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من البيت صلى قبل البيت ركعتين ، وقال : هذه القبلة ، كما تقدم. قال المحب الطبرى : وجه الكعبة يطلق على بابها ولهذا قيل للمحاذى له خلفها دبر الكعبة ، ويطلق على جميع الجانب الذى فيه الباب وهو المتعارف. والظاهر أن هذا الموضع تلقاء المقام فى فناء الكعبة بحيث يكون المقام خلف ظهر المصلى فيه. ثم قال : ويحتمل على بعد أن يكون الموضع الرابع ـ يعنى المتقدم عند باب الكعبة ـ قال ابن جماعة : وقد ورد تفضيل وجه الكعبة على غيره من الجهات. فعن ابن عمر البيت كله قبلة وقبلته وجهه ، فإن فاتك ذلك فعليك بقبلة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الميزاب. ومثله عن عمرو بن العاص. والمراد بقبلة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلته بالمدينة الشريفة. انتهى.

لسابع) بين الركنين اليمانيين ذكره ابن إسحاق فى «سيرته» فى قصة طويلة. قال الفاسى : ولم يبينه المحب. ويحتمل أن يكون عليه‌السلام صلى إلى وسط الجدار كما نقله ابن سراقة ويكون عند الرخامة التى فى الشاذروان المكتوب فيها اسم الملك لاجين أنه عمل المطاف. ويحتمل أن يكون مائلا عن الوسط إلى جهة الحجر الأسود أو إلى جهة الركن اليمانى.

الثامن : فى الحجر للحديث الصحيح : بينما النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى فى حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه فى عنقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر وأخذ بمنكبه ودفعه عنه عليه‌السلام. وقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) (سورة غافر : ٢٨). الآية قال المحب الطبرى : ولا يبعد أن تكون صلاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الميزاب. فقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : صلوا فى مصلى الأخيار واشربوا من شراب الأبرار. فقيل له : ما مصلى الأخيار وما شراب الأبرار؟ فقال : تحت الميزاب وماء زمزم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد الأخيار ، ولا يبعد أن تكون الإشارة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٢٩

ذكر شىء من فضائل الحجر

روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : كنت أحب أن أدخل البيت فأصلى فيه ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدى فأدخلنى الحجر وقال : صلى فيه إن أردت دخول البيت ، فإنما هو قطعة من البيت (١). وفى هذا دلالة على أن جميع الحجر من البيت. وكذلك ما ورد أن عائشة رضى الله عنها سألت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحجر : هل هو من البيت؟ فقال : نعم. والصحيح أن القدر الذى فيه من البيت ستة أذرع أو ما يقارب السبعة (٢) كما جاء مصرحا به فى الحديث الآخر عن عائشة رضى الله عنها وهو : لو لا قومك إلى أن قالت ولزدت فيه ستة أذرع من الحجر تركتها قريش لقصر النفقة. وفى رواية فهلمى لأريك ما تركوه قومك فأراها قريبا من سبعة أذرع ، فحينئذ يحمل المطلق فيما تقدم على المقيد وإطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المستحسن أشار إليه المحب الطبرى.

وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبى هريرة رضى الله عنه : إن على باب الحجر ملكا يقول لمن دخله وصلى فيه ركعتين مغفورا لك ما مضى فاستأنف العمل ، وعلى بابه الآخر ملك منذ خلق الله الدنيا إلى يوم يرفع البيت يقول لمن صلى وخرج : مرحوما إن كنت من أمة محمد تقيّا (٣).

وفى «رسالة الحسن» أن إسماعيل عليه‌السلام شكا إلى ربه حرّ مكة فأوحى إليه أنى أفتح لك بابا من الجنة فى الحجر يخرج عليك الرّوح منه إلى يوم القيامة. والروح بفتح الراء نسيم الريح (٤).

وفيها عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أنه أقبل ذات يوم فقال لأصحابه : ألا تسألونى من أين جئت؟ فسألوه ، فقال : كنت قائما على باب الجنة ، وكان قائما تحت الميزاب يدعو الله عنده (٥).

__________________

(١) أخبار للأزرقى ج ص ٣١٢ ، إخبار الكرام ص ٨٦.

(٢) إخبار الكرام ص ٨٦.

(٣) إخبار الكرام ص ٨٦.

(٤) إخبار الكرام ص ٨٦.

(٥) إخبار الكرام ص ٨٧.

١٣٠

ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من أحد يدعو تحت الميزاب إلا استجيب له (١).

ونقل ابن جماعة عن بعض السلف أن من صلى تحت الميزاب ركعتين ثم دعا بشىء مائة مرة وهو ساجد استجيب له.

وعن عطاء بن أبى رباح أنه قال : من قام تحت مثعب الكعبة ودعا استجيب له وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. أخرجه الأزرقى (٢). والمثعب : مجرى الماء ومسيله. ومنه : يجىء الشهيد يوم القيامة وجرحه يثعب دما. كذا فى «النهاية» (٣).

ويروى عن أبى هريرة وسعيد بن جبير وزين العابدين أنهم كانوا يلتزمون ما تحت الميزاب من الكعبة.

(ومن فضائل الحجر) أن فيه قبر إسماعيل وأمه هاجر ، وكان عمره مائة وثلاثين سنة يوم مات وقيل مائة وسبع وثلاثين. ونقل القاضى أبو البقاء بن الضياء فى «منسكه البحر العميق» عن الفقيه إسماعيل الحضرمى (٤) نفع الله به أنه لما حج سأل المحب الطبرى عن ثلاث مسائل : عن الحفرة الملاصقة للكعبة. وعن البلاطة الخضراء التى فى الحجر ، وعن القبرين اللذين يرجمان بأسفل مكة عند جبل البكاء. فأجاب بأن الحفرة مصلى جبريلعليه‌السلام بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والبلاطة الخضراء قبر إسماعيل ويشبر من رأسها إلى ناحية الركن الغربى مما يلى باب بنى سهم ستة أشبار ، فعند انتهائها يكون رأس إسماعيل عليه‌السلام. والقبران المرجومان فهو أن البيت الشريف أصبح يوما فى دولة بنى العباس وقد لطخه رجلان بالعذرة فقبض عليهما أمير مكة واستأذن الخليفة فى أمرهما فأمر بصلبهما فرسم فى هذا الموضع وصارا يرجمان إلى الآن. انتهى.

وينبغى توقى النوم فيه والاحتراز مما أحدثه العوام من وقوفهم فى فتحتى الحجر بقصد السلام كما يزعمون على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن استدبارهما الكعبة فيهما للدعاء أيضا. والمعروف فى آداب الدعاء استقبال البيت قاله ابن جماعة.

__________________

(١) أخبار الكرام ص ٨٧.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٣١٨.

(٣) النهاية لابن الأثير (ثعب).

(٤) إخبار الكرام ص ٨٨.

١٣١

ذكر ذرع الحجر من داخله وصفته وخبر شىء من عمارته

أما ذرعه فمن جدر الكعبة الذى فيه الميزاب إلى جدر الحجر المقابل له خمسة عشر ذراعا. وسعة ما بين الفتحتين سبعة عشر ذراعا وقيراطان وعرض جداره ... (١).

وأما صفته فهو عرصة مرخمة عليها جدار مقوس صورته نصف دائرة وأول من رخمه المنصور العباسى فى سنة أربعين ومائة لما حج. وذلك أنه رأى حجارته بادية فدعا بعامله على مكة زياد بنت عبد الله وأمره بأنه لا يأتى الصباح إلا وقد ستر بالرخام ، فدعا زياد الصناع فعملوه على السّرج قبل أن يصبح (٢). ثم جدد بعد ذلك مرارا كثيرة. وآخر من عمره على ما هو عليه الآن فى زمن هذا التأليف من ملوك الشراكسة قانصوه الغورى على يد مباشر عمائره الأمير خاير بك العلائى المعروف عند أهل مكة بالمعمار ، وذلك فى سنة سبع عشرة وتسعمائة. وكانت عمارته فى هذه السنة مرتين ، الأولى : بحجارة منحوتة من جبل الشبيكة ، والثانية : بهذا الرخام الموجود كما ترى.

فرع : حكم الصلاة فى مقدار ما فى الحجر من البيت حكم الصلاة فى الكعبة يجرى فيه الخلاف المتقدم بين الأئمة الأربعة ، وقد علمته فلا نطول بإعادته لما فيه من تحصيل الحاصل ، والله أعلم.

(تتميم) أخرج الفاسى رحمه‌الله عن بعض مشايخ مكة المتقدمين أن للنبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم مصلى بين الحفرة المرخمة وبين الحجر ـ بسكون الجيم ـ عند الحجر المشوبر الذى يقال له المقام المحمدى ، وأن من دعا عنده بهذا الدعاء. يا واحد يا واحد ، يا ماجد يا ماجد ، يا برّ يا رحيم ، يا غنى يا كريم أتمم على نعمتك وألبسنى عافيتك استجيب له (٣).

ثم قال : والحجر المشوبر الذى هو علامة لهذا المصلى لا يعرف الآن (٤). والحفرة قد سبق ذكرها. وهذا المصلى هو الموضع الثالث الذى ذكره المحب ، لأنه ليس بين الحفرة المشار إليها والركن الشامى مصلى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيره ، والله أعلم. انتهى بمعناه.

__________________

(١) بياض بالأصلين.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٤٥.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٥٨.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٥٨.

١٣٢

(استطراد) فى بيان مصلى آدم عليه‌السلام عند البيت حين نزل قد تقدم فى الباب الأول فى فضل الملتزم عن الأزرقى رحمه‌الله أن آدم طاف بالبيت سبعا ، ثم صلى تجاه الكعبة ركعتين ثم أتى الملتزم إلى آخر ما قدمته عنه.

وأخرج الأزرقى أيضا فى رواية أخرى ، أن آدم عليه‌السلام حين نزل طاف بالبيت سبعا ثم صلى تجاه باب الكعبة ركعتين (١).

ونقل الفاسى رحمه‌الله فى «شفائه» من كلام ابن سراقة ، ما يقتضى زيادة بيان فى مصلى آدم عليه‌السلام ، فقال : ومن باب الكعبة إلى مصلى آدم حين فرغ من طوافه ، وأنزلت عليه التوبة وهو موضع الخلوق من إزار الكعبة أرجع من تسعة أذرع ، وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه‌السلام وصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنده ركعتى طوافه. وبين مصلى آدم والركن الشامى ثمانية أذرع. انتهى. قال الفاسى : وقد تحرر لى مما ذكره ابن سراقة فى ذرع ما بين الركن الشامى ومصلى آدم أن يكون مصلى آدم ظنا بقرب الحفرة المرخمة التى فى وجه الكعبة بحيث يكون منه إلى الحفرة ثلاثة أذرع إلا ثلث بالحديد (٢) انتهى.

وفى رواية لابن أبى الدنيا أن صلاة آدم إلى جانب الركن اليمانى.

وفى أخرى عن الفاكهى أن الموضع الذى تيب (٣) فيه على آدم دبر الكعبة عند الباب الذى فتحه ابن الزبير جانب الركن اليمانى ، والله أعلم.

فصل فى بيان جهات المصلين إلى القبلة من سائر الآفاق

ملخصا مما ذكره الشيخ عز الدين بن جماعة فى دائرته

بحذف الكواكب إذ ليس كل أحد يعرف الاستدلال بها

(فجهة) مصر وصعيدها الأعلى وسواحلها السفلى أسوان وإسنا وقوص والفسطاط والإسكندرية والاكيدم والمحلة ودمياط وبلبيس وبرقة وطرابلس وصفد ، وساحل المغرب ، والأندلس ، وما كان على سمته ما بين الغربى والميزاب.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٤٤.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٣٥.

(٣) فى المطبوع : «يثبت».

١٣٣

(وجهة) جانب الشام الغربى ووسط غزة والرملة وبيت المقدس والمدينة الشريفة ، ودمشق ، وفلسطين وعكا وصيدا ، وما والى ذلك من السواحل على سمته وهى من قبيل ميزاب الكعبة إلى دون الركن الغربى.

(وجهة) الشام كلها غير ما ذكر وهى حمص وحماة وسلمية وحلب ومنبج وحران وميافارقين وما والاها من البلاد وسواحل الروم ما بين الميزاب والركن الشامى ، موقفهم موقف أهل المدينة ودمشق ، لكنهم يتياسرون شيئا يسيرا والجهة شاملة للجميع إن شاء الله تعالى.

(وجهة) الرها والموصل وملطية وسميساط وسنجار والجزيرة وديار بكر وما كان على سمت ذلك إلى القبلة من الركن الشامى إلى مصلى آدم عليه‌السلام.

(وجهة) الكوفة وبغداد وحلوان والقادسية وهمذان والرى ونيسابور وخراسان ومرو وخوارزم وبخارى ونسا وفرغانة والشاش وما كان على سمت ذلك ، ما بين مصلى آدم عليه‌السلام إلى قرب باب الكعبة.

(وجهة) البصرة والأهواز وفارس وكرمان وأصبهان وسجستان وشمال بلاد الصين وما على سمت ذلك من باب الكعبة إلى الحجر الأسود.

(وجهة) وسط بلاد الصين والهند والمهرجان وكابل والمهديان والتتار والمغل والقندهار(١) وما والاها وما كان على سمتها ، من الركن الأسود إلى دون مصلى النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وجهة) بلاد الهند وجنوب بلاد الصين وأهل التهايم والسد والبحرين وما والاها وكان على سمتها ، من دون مصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ثلثى هذا الجدار.

(وجهة) اليمن بأسره ظفار وحضر موت وصنعاء وعمان وصعدة والشجر وسبأ وما والاها وكان على سمتها ، من دون الركن اليمانى بسبعة أذرع إلى الركن اليمانى.

(وجهة) الحبشة والزنج وزيلع وأكثر بلاد السودان وجزائر فرسان وما والاها من البلاد وكان على سمتها ، من الركن اليمانى إلى ثلثى الجدار وهو آخر الباب المسدود.

__________________

(١) تحرف فى المطبوع إلى : «والخدهار».

١٣٤

(وجهة) جنوب بلاد البجاة ودهلك وسواكن وبلاد البلين والنوبة إلى بلاد التكرورو ما وراء ذلك وما على سمته ، من بلاد السودان وغيرهم إلى البحر المحيط من دون الباب المسدود إلى ثلثى الجدار.

(وجهة) شمال بلاد البجاة والنوبة وأوسط المغرب من جنوب الواحات إلى بلاد إفريقية وأوسط بلاد بربر وبلاد الجريد إلى البحر المحيط وهى جهة جدة وعيذاب وجنوب أسوان من دون الركن الغربى بثلث الجدار إلى الركن الغربى. انتهى ما لخص من الدائرة وهذه الجهات المذكورة هى من حيث الجملة ، ومن أراد التحرير فى الاستقبال كما ينبغى فليراجع كتب الميقات وما وضع لذلك من الآلات يقف على المراد والله أعلم.

١٣٥
١٣٦

الباب السادس

فى فضل مكة زادها الله شرفا وتعظيما

وحكم المجاورة بها وذكر شىء مما ورد فى ذلك

قال الله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (سورة البقرة : ١٢٦) يعنى مكة. قال النسفى : أى اجعل هذا البلد أو المكان بلدا آمنا أى ذا أمن ، أو آمنا من فيه فهذا مفعول أول وبلدا مفعول ثان وآمنا صفة له.

وقال تعالى فى سورة إبراهيم أيضا : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (سورة إبراهيم : ٣٥) بصيغة التعريف والمراد مكة والفرق بين هذه وبين ما فى البقرة أنه سأل فى الآية الأولى أن يجعله من جملة البلاد التى يأمن أهلها وفى هذه الآية أن يخرجه من صفة الخوف إلى الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمنا. كذا فى «المدارك».

وفى «تفسير الكواشى» إنما عرف هنا ونكر فى البقرة لأن النكرة إذا عينت تعرفت. وقيل دعا مرتين فحكيتا. وقوله بواد غير ذى زرع هو مكة لأنه لم يكن بها يومئذ ماء ولا حرث فكانت هاجر ترضع إسماعيل وتأكل من التمر وتشرب من الماء اللذين جاءت بهما معها إلى أن نفدا وسيأتى الكلام على ذلك فى محله فى فضائل زمزم مستوفى إن شاء الله تعالى. وقال جل وعلا (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) (سورة النحل : ١١٢) الآية ، يعنى مكة شرفها الله تعالى. قال القرطبى : ضربها الله مثلا لغيرها من البلاد أى أنها مع جوار بيت الله وعمارة مسجده لما كفر أهلها أصابهم القحط ، فكيف بغيرها من البلاد. انتهى.

وكانت العرب قد قطعت على قريش وكفار مكة الميرة بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابتلاهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الميتة وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر الناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون كذا فى «المعالم».

وقيل فى تفسير قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (سورة الدخان : ١٠)

١٣٧

أنه دخان قريش هذا. والصحيح أنه دخان يأتى من السماء قبل يوم القيامة يدخل فى أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ. ويعترى المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ، كذا فى «المدارك» والحنيذ المشوى على حد قوله تعالى: (جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (سورة هود : ٦٩) والخصاص : الخلل. يقال للفرج التى بين الأثافى خصاص. كذا فى «الصحاح».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أول آيات الساعة الدخان وأنه يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين ليلة ، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام ، وأما الكافر فيخرج من منخريه وأذنيه ودبره.

وقوله : (كانَتْ آمِنَةً) أى من القتل والسبى ، وقوله : (مُطْمَئِنَّةً) لا يزعجها خوف ، لأن الطمأنينة مع الأمن والانزعاج والقلق مع الخوف ، وقوله : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) أى واسعا ، وقوله (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أى من كل بلد على حد قوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (سورة القصص : ٥٧) ومعنى الكلية : الكثرة. كقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (سورة النمل : ٢٣) وقال تعالى مخاطبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) (سورة النمل : ٩١) قال المفسرون : معناه قل يا محمد إنما أمرت أن أخص الله تعالى بعبادتى وتوحيدى الذى هو رب هذه البلدة يعنى مكة المشرفة. وخصها بالذكر دون غيرها لأنها مضافة إليه وأحب البلاد وأكرمها عليه ، وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن بيته ومهبط وحيه. ومعنى حرمها ، يعنى جعلها حراما آمنا لا يسفك فيه دم ولا يظلم فيه أحد ، وقال تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) (سورة البلد : ١ ، ٢) وقال تعالى : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (سورة التين : ٣) المراد مكة لأمن الناس فيها جاهلية وإسلاما.

ومعنى القسم به فى الموضعين التنويه بشأنه والإبانة عن شرفه لما أنه مكان البيت الذى هو هدى للعالمين ومولد سيد المرسلين ومبعث خاتم النبيين.

وقال تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) (سورة القصص : ٥٧) قال المفسرون : المراد مكة ، وسبب نزولها أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لنعلم أن ما تقوله حق ولكن نخشى إن اتبعناك على دينك أن تخرجنا العرب من أرضنا يعنى مكة.

١٣٨

وفى الصحيح أنه ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وليس نقب من نقابها إلا وعليه الملائكة صافين يحرسونها. والنقب ـ بفتح النون وضمها وسكون القاف ـ هو الباب وقيل الطريق وجمعه نقاب.

وفى رسالة «الحسن البصرى» رضى الله عنه التى كتبها لبعض إخوانه بمكة المشرفة يرغبه فى الإقامة بها حين بلغه أنه نوى التحول عنها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير بلدة على وجه الأرض وأحبها إلى الله عزوجل مكة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مات بمكة فكأنما مات فى السماء الدنيا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائة عام.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مرض يوما واحدا بمكة كتب له من العمل الصالح الذى كان يعمله فى غيرها عبادة ستين سنة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أحد يخرج منها إلا ندم وما من أحد يخرج منها ثم يعود إلا ولله عزوجل فيه حاجة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المقام بمكة سعادة والخروج منها شقاوة ، ثم ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدة يرفع منها الحسنات وأنواع البر كل واحد منها بمائة ألف ما يرفع من مكة (١) ، وما أعلم بلدة على وجه الأرض فيها شراب الأبرار ومصلى الأخيار غيرها.

(أقول) : قد علمتهما فيما سبق فلا يحتاج إلى تكرارهما. انتهى.

ثم ما أعلم بلدة على وجه الأرض يصلى فيها حيث أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بمكة قال الله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (سورة البقرة : ١٢٥).

ثم ما أعلم بلدة يصل فيها للانسان عن طاعات الله تعالى ما يصل إليه بمكة.

ثم ما أعلم بلدة على وجه الأرض إذا دعا أحد بدعاء أمنت الملائكة على دعائه إلا بمكة حول البيت الحرام. ثم ما أعلم بلدة يحشر منها من الأنبياء والصديقين والأبرار والفقهاء والزهاد والعباد والصالحين من الرجال والنساء ما يحشر من مكة ، إنهم يحشرون آمنين يوم القيامة من عذاب الله (٢).

__________________

(١) رسالة الحسن البصرى ورقة ٤.

(٢) رسالة الحسن البصرى ورقة ٤.

١٣٩

ثم ما أعلم بلدة ينزل فيها كل يوم من رائحة الجنة وروحها ما ينزل بمكة.

وإياك يا أخى ، ثم إياك أن تخرج من مكة ، فلو أنه لم يدخل عليك كل يوم غير فلسين حلالا لكان خيرا لك من ألفين فى غيرها. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. انتهى ما نقل من «الرسالة».

وعن عائشة رضى الله عنها قالت : لو لا الهجرة لسكنت مكة ، إنى لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة ، ولم يطمئن قلبى ببلد قط ما اطمأن بمكة ، ولم أر القمر بمكان قط أحسن منه بمكة أخرجه الأزرقى.

ويروى أن قريشا وجدوا فى الركن أو الكعبة كتابا بالسريانية فلم يدروا ما فيه حتى قرأه لهم رجل من اليهود فاذا فيه : أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى الماء واللبن ، وفى رواية أخرى فى الماء واللحم. والأخشبان هما جبلان : أبو قبيس والمقابل له ومكة بينهما.

فصل فيما يدل على أفضلية مكة على غيرها من البلاد

(اعلم) أن العلماء أجمعوا على أن مكة والمدينة زادهما الله شرفا وتعظيما أفضل بقاع الأرض ، ويليهما بيت المقدس ، ثم مكة أفضل من المدينة عندنا ، وعند الشافعية والحنابلة ووهب وابن حبيب من المالكية وهو قول الجمهور ، وروى عن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم ويستدل على ذلك بأمور (منها) ما تقدم من الآيات.

(ومنها) أن الله تعالى اختار من ولد آدم الأنبياء بجملتهم ثم اختار منهم الرسل ، ثم اختار منهم أولى العزم وفيهم أقوال وهم خمسة على الأكثر ذكرهم الله فى سورتى الأحزاب والشورى ، والمراد بالعزم الحزم والصبر كذا قاله المفسرون.

ثم اختار منهم خليله وحبيبه إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم واختار لهما من الأماكن خيرها وأشرفها وهى مكة جعلها الله مناسك لعباده مشاعر لوفده وقصاده ، وأوجب الإتيان إليها من القرب والبعد ودخولهم إليها متواضعين متخشعين متذللين كاشفين رءوسهم مجردين عن لباس أهل الدنيا فهى خير البلاد وأشرفها.

١٤٠