الجامع اللطيف

ابن ظهيرة

الجامع اللطيف

المؤلف:

ابن ظهيرة


المحقق: الدكتور علي عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-085-4
الصفحات: ٣٤٦

وكساه أيضا من ملوك العجم السلطان شاه رخ صاحب شيزار بعد مراسلته واستئذانه لملوك مصر وإرسال الكسوة إلى مصر ، ثم وصلت إلى مكة صحبة الحاج وذلك سنة خمس وخمسين وثمانمائة (١).

وكساه أيضا السلطان محمود بن سبكتكين الديباج الأصفر ، وذلك فى سنة ست وستين (٢) وأربعمائة.

فوائد :

الأولى : كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ينزع ثياب الكعبة فى كل سنة فيقسمها على الحاج.

الثانية : ذكر بعض العلماء حكمة حسنة فى سواد كسوة الكعبة ، فقال : كأن البيت يشير إلى أنه فقد أناسا كانوا حوله فلبس السواد حزنا عيهم.

الثالثة : ممن كسا الكعبة من غير الملوك أم العباس بن عبد المطلب كستها الحرير ، وسبب ذلك أنها أضلت العباس وهو صغير فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة فوفت بذلك ، وهى أول عربية كستها الحرير (٣).

ومنهم الشيخ أبو القاسم رامشت صاحب الرباط بمكة كساها الحبرات وغيرها ، وكانت كسوته بثمانية عشر ألف دينار وقيل بأربعة آلاف دينار وذلك فى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة (٤). ورباطه المذكور يعرف الآن برباط ناظر الخاص على يمين الخارج من باب الحزورة أحد أبواب المسجد الحرام ، ويقال : إن عدنان كساها أيضا كذلك وخالد بن جعفر ابن كلاب.

__________________

(١) إخبار الكرام ص ١٦١.

(٢) كذا فى الأصلين ، ومثله لدى الأسدى ، وهو ينقل عن المؤلف. وفيه نظر ، لأن محمود بن سبكتكين مات سنة ٤٢١ ه‍.

أبو المحاسن موضحا : «وفى سنة ٤٦٦ ه‍ ، ورد إلى مكة إنسان عجمى يعرف بسلار من جهة جلال الدولة ملكشاه ، ومعه للبيت كسوة ديباج أصفر ، وعليها اسم محمود بن سبكتكين وهى من استعماله ، وكانت مودعة بنيسابور من عهد محمود بن سبكتكين عند إنسان يعرف بأبى القاسم الدهقان ، فأخذها الوزير نظام الملك وأنفذها مع المذكور» (النجوم الزاهرة ج ٥ ص ٩٥).

(٣) إخبار الكرام ص ١٥٩.

(٤) إخبار الكرام ص ١٦٢.

١٠١

الرابعة : نقل القاضى تقى الدين رحمه‌الله أن كسوة البيت فيما مضى كان يطلع بها أمير الحاج معه إلى الموقف بعرفة ، فإذا كان يوم النحر يأتى بها من منى إلى مكة لأجل اللبس ، ثم صار أمراء الحاج بعد ذلك يضعونها فى الكعبة قبل الصعود إلى الحج. وموجبه أن بعضها كان سرق فى بعض السنين من محلة أمير الحاج بمنى ثم عاد إليه بمال بذله (١). انتهى بمعناه.

الخامسة : أول من كسا الكعبة الديباج الأسود الناصر العباسى. فاستمر ذلك إلى يومنا هذا. ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر بن قلاوون قرية من قرى نواحى القاهرة يقال لها بيسوس (٢) ، وذلك فى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ، وكان الناصر العباسى كسا البيت ديباجا أخضر قبل الأسود (٣).

السادسة : نقل الفاسى رحمه‌الله ، أن أمراء مكة كانوا يأخذون من السّدنة ستارة باب الكعبة فى كل سنة ، مع جانب كبير من كسوتها ، أو ستة آلاف درهم كاملية عوضا عن ذلك إلى أن رفع ذلك عنهم السيد عنان بن مغامس (٤) لما ولى أمر مكة فى آخر سنة ثمان وثمانين وسبعمائة ، وتبعه أمراء مكة فى الغالب. ثم إن السيد حسن بن عجلان بعد سنين من ولايته صار يأخذ منهم الستارة وكسوة المقام ويهديهما لمن يريد من الملوك وغيرهم. انتهى(٥).

وقد استمر الأمر كذلك من أمراء مكة بعد السيد حسن مع الحجبة إلى يومنا هذا.

وأخرج الأزرقى رحمه‌الله عن شيبة بن عثمان أنه دخل على عائشة رضى الله عنها ، فقال: يا أم المؤمنين ، إن الكعبة تجتمع عليها الثياب فتكثر ، فنعمد إلى بئر فنحفرها وندفن فيها ثياب الكعبة لئلا يلبسها الجنب والحائض ، فقالت عائشة رضى الله عنها : ما أصبت ، وبئس ما صنعت ، إن ثياب الكعبة إذا نزعت عنها لا يضرها من لبسها من حائض أو جنب ، ولكن بعها وتصدق بثمنها (٦). ونقل جواز البيع عن ابن عباس أيضا.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ـ ص ٢٠٤.

(٢) تحرف فى المطبوع إلى : «يبسوس» وصوابه من د ، وإخبار الكرام.

(٣) إخبار الكرام ص ١٦٣.

(٤) تحرف فى المطبوع إلى : «مغاس» وصوابه من د ، وشفاء الغرام.

(٥) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٠٥.

(٦) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٦١.

١٠٢

فروع : الأول : يحوز بيع ثياب الكعبة عندنا إذا استغنت عنه وقال به جماعة من فقهاء الشافعية وغيرهم ، ويجوز الشراء من بنى شيبة لأن الأمر مفوض إليهم من قبل الإمام. نص عليه الطرسوسى من أصحابنا فى «شرح منظومته» ووافقه السبكى من الشافعية ، ثم قال : وعليه عمل الناس. والمنقول عن ابن الصلاح أن الأمر فيها إلى الإمام يصرفها فى بعض مصارف بيت المال بيعا وإعطاء ، واستدل بما تقدم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وفى «قواعد» صلاح الدين خليل بن كيكلدى (١) أنه لا يتردد فى جواز ذلك الآن لأجل وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها فى كسوة الكعبة والوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها فينزل لفظ الواقف عليها ، واستحسن النووى الجواز أيضا (٢).

قال الجد رحمه‌الله : هذا فى الستور الظاهرة ، وأما الستور الداخلة فلا تزال بل تبقى على ما هى عليه لأن الكلام إنما هو فى الستور التى جرت العادة أن تغير فى كل عام ، فلو قدر جريان العادة بمثل ذلك فى الستور الباطنة سلك بها مسلك الظاهرة. انتهى.

الثانى : لو نذر شخص أن يكسو البيت صح نذره وستره بالحرير أو بغيره لأن ذلك من القربات. ذكره النووى رحمه‌الله.

الثالث : لو سرق إنسان شيئا من ستر الكعبة أو من فضة بابها لا يقطع عندنا لعدم الجواز. والله أعلم.

ذكر تطييب الكعبة المشرفة

روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : طيّبوا البيت فإنّ ذلك من تطهيره ، ولأن أطيب الكعبة أحب إلى من أن أهدى لها ذهبا وفضة أخرجه الأزرقى.

وقد تقدم أن ابن الزبير لما فرغ من بناء الكعبة خلق باطنها وظاهرها بالعنبر والمسك من أعلاها إلى أسفلها ثم كساها وكان يجمرها فى كل يوم برطل من الطيب ، وفى يوم الجمعة برطلين. وأجرى لها معاوية الطيب لكل صلاة فكان يبعث به فى الموسم وفى رجب. وأخدمها عبيدا بعث بهم إليها ، ثم تبعه الولاة بعد ذلك (٣). وهو أول من أجرى الزيت لقناديل المسجد من بيت المال (٤).

__________________

(١) تحرف فى المطبوع إلى : «كليكلندى» وصوابه من د ، وشفاء الغرام.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٠٤.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٥٣ ، ٢٥٤.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٥٤.

١٠٣

ولما حج المهدى أمير المؤمنين سنة ستين ومائة رفع إليه أنه قد اجتمع على الكعبة ثياب كثيرة حتى أنها قد أثقلتها ، ويخشى على الجدران من ذلك ، فأمر بتجريدها ثم ضمخها من خارجها وداخلها بالغالية والمسك والعنبر ، ثم كساها ثلاثة ثياب قباطى وخز وديباج وهو جالس فى المسجد مما يلى دار الندوة ينظر إليها وهى تطلى. وقيل : إن ما فى أحجارها من السمرة إنما حصل من آثار تلك الغالية (١).

فرع : قال النووى رحمه‌الله : لا يجوز أخذ شىء من طيب الكعبة لا للتبرك ولا لغيره ، ومن أخذ شيئا من ذلك لزمه رده ، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به ثم أخذه (٢).

ذكر تحلية الكعبة شرفها الله تعالى

أخرج الأزرقى رحمه‌الله أن أول من حلى الكعبة فى الجاهلية عبد المطلب جد النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغزالين الذهب اللذين وجدهما فى زمزم حين حفرها وسيأتى الكلام على سبب حفر زمزم فى محله إن شاء الله تعالى (٣).

وأما فى الإسلام فالوليد بن عبد الملك بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القسرى بسنة وثلاثين ألف دينار فضرب منها على باب الكعبة صفائح الذهب ، وعلى ميزاب الكعبة وعلى الأساطين التى فى داخلها والأركان (٤).

ثم لما ولى الأمين بن الرشيد أرسل أيضا إلى عامله بمكة سالم بن الجراح بثمانية عشر ألف دينار ليحلى بها باب الكعبة فقلع ما كان على الباب من الصفائح (٥). وزاد عليها ما بعثه الأمين وضربه صفائح ومسامير وحلى به الباب ، وجعل له حلقتين ذهبا (٦).

وقيل أول من حلى البيت عبد الملك أبو الوليد (٧). وقيل ابن الزبير ثم حلاه الملوك وغيرهم بعد ذلك.

فرع : قال النووى والرافعى : تحرم تحلية الكعبة بالذهب والفضة وكذا سائر المساجد.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٦٣.

(٢) إخبار الكرام ص ١٦٥.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ١٨٥.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢١١.

(٥) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢١٢.

(٦) شفاء الغرام ج ١ ص ١٨٦.

(٧) إخبار الكرام ص ١٦٦.

١٠٤

وخالفهما السبكى وأفتى بالحل ، وقال : إن المنع لا سيما فى الكعبة بعيد وغريب فى المذاهب كلها ، قل من ذكره. فلا وجه له ولا دليل يعضده. وهذا فى التحلية بصفائح النقدين ، وأما التمويه فلا أمنع من جريان خلاف فيه لأن فى ذلك إفساد مالية. انتهى. ونقل الإمام أبو الليث السمرقندى من أئمتنا إباحة ذلك عن أبى حنيفة رضى الله عنه ، ثم قال : وعندى أنه لا بأس به إذا لم يكن من غلة المسجد.

ذكر معاليق البيت الشريف

وما أهدى إليه فى معنى الحلية (١)

أخرج الأزرقى رحمه‌الله فى «أخبار مكة» أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما فتح مدائن كسرى ، كان مما بعث إليه هلالان من الذهب ، فبعثهما عمر إلى الكعبة وعلقهما فى جوفها (٢).

وبعث عبد الملك بن مروان بشمستين وقدحين من قوارير. وبعث ابنه الوليد بقدحين أيضا. وبعث الوليد بن يزيد بن عبد الملك بهلالين أيضا وبالسرير الزينبى (٣). وبعث السفاح بصحفة خضراء ، وبعث المنصور بالقارورة الفرعونية. وبعث المأمون بياقوتة فاخرة. وبعث الخليفة المتوكل العباسى بشمسة من ذهب مكللة بالدر الفاخر والياقوت والزبرجد ، وسلسلة من ذهب (٤).

وبعث بعض الملوك لما أسلم بصنم من ذهب كان يعبده على صورة إنسان ، وبالتاج الذى كان على رأس الصنم ، وبالسرير الذى كان يوضع عليه. هذا ملخص ما ذكره الأزرقى(٥).

__________________

(١) فى المطبوع : «وما أهدى بعد مضى الجاهلية» والمثبت رواية : د ، وشفاء الغرام.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٢٤.

(٣) تحرف فى المطبوع إلى : «الرسى» والمثبت رواية د ، والأزرقى.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٢٤ و ٢٢٥.

(٥) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٢٥.

(٦) شفا الغرام ج ١ ص ١٩٠.

(٧) شفا الغرام ج ١ ص ١

١٠٥

وأهدى إلى الكعبة بعد ذلك أشياء أخر ذكرها الفاسى تقى الدين وغيره. ومن ذلك: قفل فيه ألف دينار بعثه إليها المعتصم العباسى فى سنة تسع عشرة ومائتين (٦). ومن ذلك طوق من ذهب مكلل بأنواع الجواهر الفاخرة مع ياقوتة خضراء كبيرة وزنها كما قيل أربعة وعشرون مثقالا ، بعث بذلك بعض ملوك السند لما أسلم (٧). ومن ذلك عدة قناديل كلها فضة ما عدا واحدا منها كان ذهبا زنته ستمائة مثقال بعث بها المطيع العباسى فى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة (١).

ومن ذلك قناديل محكمة الصناعة ومحاريب مبنية زنة كل محراب أزيد من قنطار ، بعثها عثمان صاحب عمان بعد العشرين والأربعمائة. ومن ذلك قناديل ذهب وفضة بعثها الملك المنصور عمر بن على بن رسول صاحب اليمن فى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة (٢).

ومن ذلك قفل ومفتاح بعث بهما الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر وركب القفل على باب الكعبة (٣).

ومن ذلك حلقتان من ذهب مرصعتان باللؤلؤ والبلخش كل حلقة وزنها ألف مثقال ، وفى كل حلقة ست لؤلؤات فاخرات ، وبينها ست قطع بلخش فاخرات أيضا ، بعث بذلك الوزير على شاه وزير السلطان أبى سعيد بن خدابنده (٤) ملك التتار فى سنة ثمان عشرة وسبعمائة ، فأراد الرسول تعليقهما على باب الكعبة كما أمر فمنعه أمير الركب المصرى فى السنة المذكورة ، وقال : لا يمكن ذلك إلا بإذن السلطان ، يريد صاحب مصر ، وهو إذ ذاك الناصر محمد بن قلاوون. فلوطف الأمير وعرفه الرسول بأن الوزير نذر أن يعلقهما على باب الكعبة فأذن له فى ذلك ، فعلقتا زمنا قليلا ثم أخذهما أمير مكة إذ ذاك وهو رميثة بن أبى نمىّ. ومن ذلك أربعة قناديل كبار كل قنديل منها على ما قيل قدر الدورق من دوارق مكة. اثنان ذهبا ، واثنان فضة. بعث بذلك السلطان شيخ أويس صاحب بغداد فى اثنى عشر لسبعين وسبعمائة ، فعلق ذلك فى الكعبة يسيرا ثم أخذه أمير مكة عجلان بن رميثة. هذا ملخص ما ذكره الفاسى (٥).

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ١٩٠.

(٢) شفاء الغرام ج ١ ص ١٩١.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ١٩٢.

(٤) شفاء الغرام ج ١ ص ١٩٢.

(٥) شفاء الغرام ج ١ ص ١٩٢.

١٠٦

ثم قال : وليس فى الكعبة الآن ـ يعنى فى زمنه ـ شىء من المعاليق التى ذكرها الأزرقى. ومما لم يذكره مما ذكرنا سوى ستة عشر قنديلا ، منها : ثلاثة فضة ، وواحد ذهب ، وواحد بلور ، واثنان نحاس ، والتسعة الباقية زجاج ، وسبب ذلك توالى الأيدى عليه من الولاة وغيرهم (١).

فمن ذلك ما وقع لأبى الفتوح الحسن بن جعفر العلوى حين خرج عن طاعة الحاكم ودعا لنفسه بالإمامة (٢) أنه أخذ من حلية الكعبة وضربها دنانير ودراهم ، وسميت بالفتحية ، وأخذ المحاريب التى أهداها صاحب عمان ، ومن ذلك ما وقع لمحمد بن جعفر المعروف بابن أبى هاشم الحسينى ، أنه فى سنة اثنتين وستين وأربعمائة أخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب لكون صاحب مصر المستنصر العبيدى لم يرسل له شيئا لاشتغاله بالقحط الذى كادت مصر أن تخرب بسببه (٣).

ومما أهدى للكعبة بعد الفاسى [نحو عشرين قنديلا ذهبا ، ونحو عشرة فضة وغير ذلك](٤).

فصل فى الكلام على سدانة البيت

وهى خدمته وتوالى أمره وفتح بابه وإغلاقه

وكانت السدانة قبل قريش لطسم قبيلة من عاد فاستخفوا بحقه أيضا فأهلكهم الله. ثم وليته خزاعة بعد جرهم دهرا طويلا حتى صار الأمر إلى أبى غبشان ، فباع مفتاح البيت من قصى بن كلاب بزق من خمر ، فقيل فى ذلك أخسر من صفقة أبى غبشان ، فذهبت مثلا(٥). وصارت حجابة الكعبة من بعد خزاعة لقصى ، وانتهى إليه أمر مكة بعد ذلك فأعطى ولده عبد الدار السدانة ، وهى الحجابة وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة ، ثم جعل عبد الدار الحجابة إلى ولده عثمان ، ولم تزل تنتقل فى أولاده إلى أن انتهت إلى عثمان بن طلحة ، ثم إلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبى طلحة وهى فى ولده إلى الآن.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ١ ص ١٩٣.

(٢) تحرف فى المطبوع إلى : «الأمانة» وصوابه من د ، والفاسى.

(٣) شفاء الغرام ج ١ ص ١٩٣.

(٤) بياض بالأصل ، وما بين حاصرتين عن إخبار الكرام ص ١٧٢.

(٥) شفاء الغرام ج ٢ ص ١١٤.

١٠٧

ويروى عن عثمان بن طلحة قال : فتحنا البيت يوما فى الجاهلية فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدخل مع الناس فتكلمت بشىء فحلم عنى. ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت ، فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال بل عزت ، ودخل الكعبة. ووقعت كلمته منى موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال فأردت السلام فخشيت من قومى فقدمت المدينة فبايعته وأقمت معه حتى خرج فى غزوة الفتح فلما دخل مكة قال يا عثمان : ائت بالمفتاح فأتيت به فأخذه منى ثم دفعه إلى وقال : خذوها يا بنى أبى طلحة خالدة تالدة إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وفى ذلك (١) نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (سورة النساء : ٥٨).

وفى «سنن سعيد بن منصور» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أخذ المفتاح من بنى شيبة أشفقوا أن ينزعه منهم ، ثم قال : يا بنى شيبة ، هاكم المفتاح وكلوا بالمعروف. قال العلماء : إن هذه ولاية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يجوز لأحد أن ينزعها منهم ، وأعظم من ذلك أن يشرك معهم غيرهم.

قال الشيخ محب الدين الطبرى فى «القرى» : لا يبعد أن يقال هذا إذا حافظوا على حرمته ولازموا الأدب فى خدمته ، أما إذا لم يحفظوا حرمته ، فلا يبعد أن يجعل عليهم مشرف يمنعهم من هتك حرمته. ثم قال أيضا : وربما تعلق الجاهل المعكوس الفهم بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : وكلوا بالمعروف. فاستباح أخذ الأجرة على دخول البيت ، ولا خلاف بين الأمة فى تحريم ذلك وأنه فى أشنع البدع وأقبح الفواحش ، وهذه اللفظة إن صحت فيستدل بها على إقامة الحرمة ، لأن أخذ الأجرة ليس من المعروف ، وإنما الإشارة والله أعلم إلى ما يتصدق به من البر والصلة على وجه التبرّر ، فلهم أخذه وذلك أكل بالمعروف لا محالة ، أو إلى ما يأخذونه من بيت المال على ما يتولونه من خدمته ، والقيام بمصالحه ، فلا يحل لهم الا قدر ما يستحقونه والله تعالى أعلم. انتهى كلام المحب (٢).

(وأما الرفادة) فأصلها خرج من قريش كانت تخرجه من أموالها إلى قصىّ يصنع به

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ٢٦٥ ، شفاء الغرام ج ٢ ص ١٣٩ ، ١٤٠.

(٢) القرى ص ٥٠٦.

١٠٨

طعاما للحاج ، يأكله من ليس له سعة ، وكان قصى ينحر على كل طريق من طرق مكة جزرا كثيرة ، ويطعم الناس وكان يحمل راجل الحاج ويكسو عاريهم. ثم صارت بعد عبد مناف ابن قصى إلى ابنه هاشم فكان يطعم الناس فى كل موسم إلى أن توفى. فقام بذلك بعده عبد المطلب. ثم بعده أبو طالب واستمر إلى أن جاء الإسلام. فقام به النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرسل بمال يعمل به الطعام مع أبى بكر رضى الله عنه حين حج بالناس سنة تسع ثم عمل سنة عشر فى حجة الوداع. ثم أقامه أبو بكر فى خلافته ، ثم عمر ، ثم الخلفاء بعده(١).

ثم لما ولى معاوية رضى الله عنه اشترى دارا بمكة وسماها دار المراحل وجعل فيها قدورا فكانت الجزر والغنم تطبخ فيها أيام الحج فى الموسم ، ثم يفعل ذلك فى شهر رمضان. ويروى أن أول من أطعم الحاج الفالوذج بمكة عبد الله بن جدعان وفد على كسرى فأكل عنده الفالوذج فسأل عنه فقالوا : لباب البر مع العسل ، فقال : ابغونى غلاما يصنعه فأتوه بغلام فاشتراه وقدم به مكة فصنع الفالوذج للحاج ، ووضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد ثم نادى مناديه ، ألا من أراد الفالوذج فليحضر ، فحضر الناس وما زال ذلك إطعامه للحاج فى الجاهلية.

(وأما السقاية) : فكان أصلها حياضا من أدم ، توضع على عهد قصى بفناء الكعبة ، وتملأ ماء للحاج ، وكان قصى يسقى اللبن المخيض ويسقى الماء المنبوذ بالزبيب أيضا ، وما زال ذلك فعله حتى هلك. فقام به هاشم بعده. ثم أخوه المطلب بعده. ثم عبد المطلب ، وكان يسقى لبنا وعسلا فى حوض من أدم عند زمزم ، ثم قام به العباس رضى الله عنه بتولية النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم تزل فى ولده من بعده.

أقول : إلى يومنا هذا.

(تتميم بذكر شىء من خبر قصى) : روى الأزرقى رحمه‌الله أن قصيا لما انتهت إليه رياسة مكة وقرب أجله قسم رياسته ومكارمه بين ولده ، فأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة ، وأعطى عبد الدار السدانة وهى حجابة البيت ودار الندوة واللواء (٢). وقد تقدم ذكر السدانة والسقاية والرفادة وتفسيرها مستوفى.

__________________

(١) شفاء الغرام ج ٢ ص ١٣٩ فما بعدها.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١١٠.

١٠٩

(وأما الندوة) : فهى دار بناها قصى حين صار أمر مكة إليه ليحكم فيها بين قريش ، وكانت أول دار بنيت بمكة ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصى إلا ابن أربعين سنة للمشورة ، وأما ولد قصى فيدخلونها كلهم وحلفاؤهم ، ولم تزل دار الندوة بيد عبد الدار ثم جعلها بعده لولده عبد مناف بن عبد الدار ، ثم صارت لبنيه من بعده دون ولد عبد الدار ، وإنما سميت دار الندوة لاجتماع الندى فيها لأنهم كانوا يندونها فيجلسون فيها لتشاورهم وإبرام أمرهم وعقد الألوية لحروبهم (١). وهذه الدار فى الرواق الشامى من المسجد الحرام بالزيادة ، وهى معروفة مشهورة.

(وأما اللواء) : فكان فى أيدى بنى عبد الدار يليه منهم ذو السن فى الجاهلية حتى كان يوم أحد فقتل عليه من قتل منهم (٢).

(وأما القيادة) : فوليها من بنى عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف ، ثم وليها بعده ابنه أمية ، ثم من بعده ابنه حرب ، فقاد الناس يوم عكاظ وغيره من حروب قريش ، ثم قاد الناس بعده أبو سفيان ابنه إلا يوم بدر ، قاد الناس عتبة بن ربيعة ، فلما كان يوم أحد والأحزاب قادهم أبو سفيان ، وكانت الأحزاب آخر وقعة لقريش ثم أيد الله الإسلام ومنّ بفتح مكة على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ملخص ما رواه الأزرقى من خبر قصى (٣). وذكر غيره فى قسمة قصى غير هذا والله أعلم.

فائدتان :

الأولى : روى الفاكهى رحمه‌الله أن الكعبة شرفها الله تعالى كانت تفتح فى الجاهلية يوم الاثنين ويوم الجمعة. وفى «تاريخ الأزرقى» أنها كانت يوم الاثنين ويوم الخميس يعنى فى الجاهلية (٤). قال الفاسى رحمه‌الله : وفتحها يوم الجمعة مستمر إلى الآن يعنى فى زمنه ، وفتحها يوم الاثنين متروك (٥).

(أقول) : قد أعيد فتحها يوم الاثنين بعد ذلك وصارت تفتح يوم الاثنين ويوم الجمعة إلى يومنا هذا. وفى هذا دلالة لصحة ما رواه الفاكهى. ومما يؤيده أيضا ما ذكره ابن جبير

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٠٩ ، ١١٠.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١١١.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١١٥.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ج ١ ص ١٧٤.

(٥) شفاء الغرام ج ١ ص ٢٠٩.

١١٠

فى خبر «رحلته» وكانت فى سنة تسع وسبعين وخمسمائة ، من أن الكعبة تفتح يوم الاثنين ويوم الجمعة إلا فى رجب تفتح كل يوم (١). وما يروى عن عثمان بن طلحة أنه قال : كنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الاثنين ويوم الجمعة ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما يريد أن يدخل مع الناس فتكلمت بشىء إلى آخر ما قدمته آنفا ، فيه تأييد لما ذكره الأزرقى أيضا ، على أن الجمع بين روايتى الأزرقى والفاكهى ممكن ، بأنه يحتمل أن كلا الأمرين وقع وأنها كانت تفتح يوم الخميس أولا ومكث ذلك مدة ، ثم تغير وصارت تفتح يوم الجمعة أو العكس. انتهى.

الثانية : روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل مكة يوم الفتح ، أمر بلالا فرقى على ظهر الكعبة فأذن بالصلاة وقام المسلمون وتجردوا فى الأزر وأخذوا الدلاء وارتجزوا على زمزم فغسلوا الكعبة ظهرها وبطنها فلم يدعوا أثرا من آثار المشركين إلا محوه وغسلوه. وهذا الخبر فى الجملة يصلح أن يكون شاهدا لما يفعله الحجبة من غسل باطن الكعبة فى كل عام والله أعلم.

__________________

(١) رحلة ابن جبير ص ٦٨.

١١١
١١٢

الباب الخامس

فى فضل الطواف بالبيت المشرف والطائفين به

وفضل النظر إليه وبيان المواضع التى فيها صلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

حول البيت وبيان جهة المصلين إليه من سائر الآفاق

وذكر وليطوفوا بالبيت العتيق

قال جل اسمه لخليله عليه‌السلام : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (سورة الحج : ٢٦) وقال تعالى وتقدس : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (سورة البقرة : ١٢٥) الآيات ، واختلف فى معنى التطهير ، فقيل طهره من الآفات والريب. وقيل من الأوثان فلا ينصب حوله وثن. وقال السدى. معنى طهرا بيتى : أمنا بيتى وقيل غير ذلك. وقد سبق بعض الكلام على ذلك فى أول الكتاب.

(وأما الأحاديث) فأكثر من أن تحصى (فمن ذلك) : ما روى عن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه ـ وفى رواية يحصيه ـ كان كعتق رقبة. ومعنى أحصاه أو يحصيه : قال بعض العلماء : يتحفظ فيه أن لا يغلط.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفرت له ذنوبه بالغة ما بلغت. أخرجه الواحدى فى «تفسيره».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إذا خرج المرء يريد الطواف بالبيت أقبل يخوض فى الرحمة ، فإذا دخل غمرته ، ثم لا يرفع قدما ولا يضعها إلا كتب الله له بكل قدم خمسمائة حسنة وحط عنه خمسمائة سيئة ورفعت له خمسمائة درجة ، فإذا فرغ من الطواف فصلى ركعتين دبر المقام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وكتب له أجر عشر رقاب من ولد إسماعيل ، واستقبله ملك على الركن ، وقال له : استأنف العمل فيما تستقبل فقد كفيت ما مضى وشفع فى سبعين من أهل بيته. أخرجه الأزرقى (١) وغيره.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٤.

١١٣

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : الكعبة محفوفة بسبعين ألفا من الملائكة يستغفرون الله تعالى لمن طاف بها.

أقول : وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل فى الركعتين قبل الطواف ثواب عتق رقبة.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من صلى خلف المقام ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وحشر يوم القيامة من الآمنين. ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : الطواف بالبيت خوض فى رحمة الله تعالى ذكره الحسن فى «رسالته» (٢).

وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. رواه الترمذى وقال : حديث غريب.

قال القاضى عز الدين بن جماعة رحمه‌الله : والمراد بخمسين مرة والله أعلم : خمسون أسبوعا ، لأن الشوط الواحد لا يتعبد به. ويدل لذلك أن جماعة رووه فقالوا : من طاف خمسين أسبوعا كان كما ولدته أمه. فهذه الرواية مفسرة للأولى. وليس المراد بأن يأتى بالخمسين فى آن واحد ، بل أن توجد فى صحيفة حسناته. انتهى ملخصا.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إن الله تعالى يباهى بالطائفين ملائكته.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : استكثروا من الطواف بالبيت فإنه أقل شىء تجدونه فى صحفكم وأغبط عمل تجدونه.

وعن ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلا خرج من ذنوبه كما ولدته أمه وغفرت له ذنوبه بالغة ما بلغت ، طواف بعد الصبح يكون فراغه عند طلوع الشمس ، وطواف بعد العصر يكون فراغه عند غروب الشمس (٣). فقال رجل : يا رسول الله لم يستحب هاتان الساعتان؟ قال : إنهما ساعتان لا تعدوهما الملائكة.

قال المحب : يحتمل أن يريد بالبعدية ما قبل الطلوع والغروب ولو بلحظة تسع

__________________

(١) الشفاء ج ٢ ص ٦٠.

(٢) فضائل مكة للحسن البصرى ورقة ٦.

(٣) اخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٢٢.

١١٤

أسبوعا. ويحتمل أن يريد استيعاب الزمنين بالعبادة ، ولعله الأظهر. وإلا لقال طواف قبل الطلوع وقبل الغروب ، وعلى هذا فيكون حجة على من كرهه فى الوقتين (١). انتهى.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أكرم سكان أهل السماء على الله الذين يطوفون حول عرشه ، وأكرم سكان أهل الأرض على الله الذين يطوفون حول بيته.

وعن أبى هريرة أيضا أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ، محيت عنه عشر سيئات وكتبت له عشر حسنات ورفع له عشر درجات. ومن طاف فتكلم فى الحل خاض فى الرحمة برجليه كخائض الماء برجليه.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو أن الملائكة صافحت أحدا لصافحت الغازى فى سبيل الله والبار بوالديه والطائف ببيت الله الحرام.

والأحاديث الواردة فى هذا المعنى كثيرة جدا ، وفيما ذكرته كفاية. وإذا كان الطائف بهذه المزية وثبت له هذا الفضل العظيم فينبغى له الإخلاص وليحذر من أن يكون كما قال بعض العلماء العارفين :

يا من يطوف ببيت الله بالجسد

والجسم فى بلد والروح فى بلد

ماذا فعلت وماذا أنت فاعله

مبهرجا فى التقى للواحد الصمد

إن الطواف بلا قلب ولا بصر

على الحقيقة لا يشفى من الكمد

(وأما الآثار) فروى عن ابن عمر أنه قال : كان أحب الأعمال إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قدم مكة الطواف.

وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه أنه قال : من حج البيت فطاف خمسين أسبوعا قبل أن يرجع كان كما ولدته أمه.

__________________

(١) القرى ص ٣٣٠.

١١٥

وعن ابن عمر أيضا أنه قال : من طاف وصلى ركعتين فهاتان يكفران ما أمامهما.

وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أنه طاف بالبيت وهو متكئ على غلام له يسمى طهمان ، وهو يقول : والله لأن أطوف بهذا البيت أسبوعا لا أقول فيه هجرا وأصلى ركعتين أحب إلى من أن أعتق طهمان (١). والهجر ـ بضم الهاء ـ هو الإفحاش فى المنطق ، قاله فى «الصحاح».

وفى «الإحياء للغزالى» لا تغرب الشمس من يوم إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدال ، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا وطاف واحد من الأوتاد ، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض.

وروى الأزرقى رحمه‌الله أن ابن عمر ، كان يطوف سبعة أسابيع بالليل وخمسة بالنهار وأن آدم عليه‌السلام كان يطوف كذلك.

وذكر غير الأزرقى أن آدم كان يقول فى طوافه : اللهم اجعل لهذا البيت عمارا يعمرونه من ذريتى.

وعن محمد بن فضيل أنه قال : رأيت ابن طارق فى الطواف ، وقد انفرج الطائفون له وفى رجليه نعلان ، فحزروا طوافه فى ذلك الزمان فإذا هو يطوف فى اليوم والليلة عشرة فراسخ(٢). والحزر ـ هو التقدير والخرص ـ يقال حزرت الشىء أحزره وأحزره بالضم والكسر كذا فى «الصحاح».

وذكر ابن الجوزى فى «الصفوة» أن محمد بن طارق كان يطوف كل يوم وليلة سبعين سبعا (٣).

فائدة : أعداد الطواف لها سبع مراتب (٤) ذكرها الإمام أبو عبد الله بن أبى الصيف اليمنى رحمه‌الله.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٣.

(٢) صفة الصفوة ج ٢ ص ٢١٧.

(٣) صفة الصفوة ج ٢ ص ٢١٧ ، وعبارته : «كان يطوف فى اليوم والليلة سبعين أسبوعا» وبهامشه :

«يقال : طاف بالبيت أسبوعا : أى سبع مرات ، والأسبوع من الطواف : سبعة أطواف.

(٤) انظر فى ذلك : شفاء الغرام ج ١ ص ٢٨٤.

١١٦

الأولى : أن من طاف خمسين أسبوعا فى اليوم والليلة يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه للحديث الذى قدمته آنفا.

الثانية : واحد وعشرين أسبوعا كل يوم فيكون بحجة وقد قيل سبعة أسابيع بعمرة. وقيل فى الحديث ثلاث عمر بحجة.

الثالثة : أربعة عشر أسبوعا فيكون بحجة أيضا لأنه ورد فى حديث آخر عمرتان بحجة ، وهذا فى غير عمرة رمضان لأن العمرة فيه كحجة مطلقة كما جاء فى الحديث ، وفى حديث آخر كحجة معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الرابعة : اثنا عشر أسبوعا خمسة بالنهار وسبعة بالليل لما سبق قريبا من فعل آدم وابن عمر ويستحب أن يكون ثلاثة أسابيع من الخمسة التى فى النهار قبيل طلوع الشمس بحيث تطلع وهو فى الطواف للحديث الذى رواه ابن عمر قاله الجد.

الخامسة : سبعة أسابيع فيكون بعمرة لما تقدم فى المرتبة الثانية.

السادسة : ثلاثة أسابيع ، قال الجد. يأتى فى الأول بأذكار الطواف ودعواته الخاصة ، وفى الثانى بالباقيات الصالحات ، ففى ذلك حديث ، وفى الثالث بما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد بيده الخير ، وهو على كل شىء قدير. ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

السابعة : أسبوع واحد كل يوم ، فقد جاء فى الحديث أن الأسبوع بعتق رقبة ، ويدخل بهذا الأسبوع فى جملة الطائفين الذين لهم ستون رحمة من المائة والعشرين كما سيأتى قريبا إن شاء الله تعالى ، والباقيات الصالحات هى : قولك سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

فائدة : المراد بحسنة الدنيا فيما تقدم العلم والعبادة قاله الحسن. وقيل : العافية ، وقيل: المال ، وقيل : المرأة الحسنة ، وقيل : العفة ، وقيل : الرزق الواسع. وبحسنة الآخرة الجنة بالإجماع كذا قاله الدميرى ، وقيل : الحور العين أو الجنة أو العفو والمعافاة.

(واعلم) أنه ينبغى المثابرة على الطواف فى أوقات. (منها) ما تقدم من الطواف بعد الصبح والعصر للحديث السابق.

١١٧

ومنها : فى وقت المطر لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من طاف بالكعبة فى يوم مطر كتب الله له بكل قطرة تصيبه حسنة ومحا عنه الأخرى سيئة.

وعن أبى عقال قال : طفت مع أنس بن مالك رضى الله عنه فى مطر. فلما قضينا الطواف أتينا المقام فصلينا ركعتين فقال لنا أنس : استأنفوا (١) العمل فقد غفر لكم. هكذا قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطفنا معه فى مطر (٢).

وعن مجاهد قال : كان كل شىء لا يطيقه الناس من العبادة يتكلفه ابن الزبير ، فجاء سيل فطبق البيت فامتنع الناس من الطواف ، فجعل ابن الزبير يطوف سباحة ، وذكر القاضى عز الدين بن جماعة عن جده أنه طاف بالبيت سباحة ، وكان كلما حاذى الحجر غطس لتقبيله. وذكر أن بعض المكيين أخبره أنه اتفق له مثل ذلك.

ومنها : فى شدة الحر ، فقد روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من طاف حول البيت أسبوعا فى يوم صائف شديد الحر واستلم الحجر فى كل طواف من غير أن يؤذى أحدا وأقل كلامه إلا بذكر الله تعالى كان له بكل قدم يرفعها ويضعها سبعون ألف حسنة ، ويمحى عنه سبعون ألف سيئة ، ويرفع له سبعون ألف درجة (٣).

وفى رواية عن ابن عباس بعد قوله : شديد الحر ، وحسر عن رأسه ، وقارب خطاه ، وأقل التفاته ، وغض بصره ثم ذكر بقية الحديث. وزاد يعتق عنه سبعين رقبة ، ثمن كل رقبة عشرة آلاف درهم ويعطيه الله سبعين شفاعة إن شاء فى أهل بيته من المسلمين ، وإن شاء فى العامة ، وإن شاء عجلت له فى الدنيا ، وإن شاء أخرت له فى الآخرة (٤).

أقول : فإن قيل : هل يستوى الطائف فى شدة الحر بغير خف أو نحوه بمن طاف لابسا لذلك أم غير اللابس أفضل وأكثر ثوابا لأنه حينئذ أكثر مشقة؟ (الجواب) : أن إطلاق الحديث يقتضى التسوية بين اللابس وغيره ، ولكن سياق الحديث يفهم منه أن غير اللابس أكثر ثوابا حيث علل بشدة الحر لأن المراد تجشم المشقة ، ولا شك أن غير اللابس أكثر

__________________

(١) فى المطبوع : «ائتنفوا» والمثبت رواية الأزرقى.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٢١.

(٣) أورده الفاسى فى شفاء الغرام ج ١ ص ٢٨٥ وقال : هذا حديث ضعيف الإسناد جدا.

١١٨

مشقة ، ويؤيده قوله فى رواية ابن عباس حاسرا عن رأسه ، إذ المراد المصابرة على ذلك ، وينبغى فى رواية حسر الرأس أن يحمل على الاستطاعة وعدم الضرر ، وأما من تضرر بكشف الرأس أو خشى الضرر فالأفضل له تغطية رأسه ، فإن الحرج مدفوع شرعا ، والله الموفق.

ومنها : عند خلو المطاف لأنه حينئذ يكون قائما بهذه العبادة العظيمة من غير مشارك له فى سائر أقطار الأرض ، وكذلك قال العلماء لو حلف ليعبدن الله بعبادة لا يشركه أحد فيها ، فالخلاص أن يخلى له المطاف فيطوف به وحده.

فوائد :

الأولى : إن قيل ما العلة فى جعل الكعبة على يسار المطاف دون يمينه ، وما الحكمة فى ذلك؟ (اعلم) أن العلة فى ذلك اجتماع القلبين فى جهة واحدة لأن القلب بيت الرب والقلب فى الجانب الأيسر. قال الجد رحمه‌الله : قلت : وقد يقال أيضا فى وجه المناسبة إن المستحب فى ابتداء الطواف استقبال الحجر الأسود الذى هو يمين الله فى الأرض ، وحينئذ فشقه الأيمن إلى جهة باب البيت ، وشقه الأيسر إلى جهة الركن اليمانى ، والانفتال إلى جهة اليمين أولى من الانفتال إلى جهة اليسار. ويستأنس لذلك بأن داخل المسجد يستحب له أن يبدأ برجله اليمنى والبداءة بجهة الشق الأيمن يبتدأ فيها بالرجل اليمنى حيث مشى على الأسلوب المعتاد ، وأيضا لإخفاء أن جهة الباب أفضل الجهات فجهة الركن اليمانى بالنسبة إليها مفضولة والمسارعة إلى الأفضل أفضل من المسارعة إلى المفضول. انتهى.

الثانية : قال بعض العلماء : إنما يجعل الطائف البيت على يساره ، ويبتدئ بالحجر الأسود لأن الحجر إذا استقبلت البيت من ثنية كداء من باب بنى شيبة يبقى فى ركن البيت على يسارك وهو يمين البيت ، لأنك إذا قابلت شخصا فيمينه يسارك ويسارك يمينه والذى يلاقيك من البيت هو وجهه لأن فيه بابه ، وباب البيت وجهه أى بيت كان ، والأدب أن لا يؤتى الأفاضل إلا من قبل وجوهم ولأجل ذلك كان الابتداء بثنية (١) كداء ، والأصل فى كل قربة يصح فعلها باليمين واليسار أن لا تفعل إلا باليمين كالوضوء وغيره.

__________________

(١) تحرف فى المطبوع إلى : «كان الابتدائية كدا».

١١٩

فإذا ابتدأ بالحجر وجعل البيت على يساره كان قد ابتدأ باليمين والوجه معا فيجمع بين الفاضلين ، ولو عكس ذلك فاته الجمع المذكور ، ويمين البيت جميع الحائط الذى بين الركنين الأسود واليمانى ويسار البيت الحائط الذى عند الحجر ـ بكسر الحاء ـ ودبر البيت الحائط الذى فيه الباب المسدود. وإنما سمى الشام لأنه على شمال البيت ، واليمن لأنه على يمين البيت. وسميت ريح الدبور لأنها تأتى من دبر البيت. وريح الشمال لأنها تأتى من شمال البيت.

الثالثة : كان النساء والرجال يطوفون معا مختلطين حتى ولى مكة خالد بن عبد الله القسرى لعبد الملك بن مروان ففرق بين الرجال والنساء وأجلس عند كل ركن حرسا معهم السياط ، وسببه أنه بلغه قول بعض الشعراء :

يا حبذا الموسم من موفد

وحبذا الكعبة من مشهد

وحبذا اللاتى يزاحمننا

عند استلام الحجر الأسود

فقال. أما إنهن لا يزاحمنك بعد ، فأمر بالتفريق (١).

الرابعة : أول من استصبح لأهل الطواف فى المسجد عقبة بن الأزرق بن عمرو ، وكانت داره لاصقة بالمسجد من ناحية وجه الكعبة ، فكان يضع فى جدار داره مصباحا كبيرا يضىء على وجه الكعبة أخرجهما الأزرقى (٢).

فروع : الأول : قال الجد : الآتى بأسبوع بسكينة ووقار وتؤدة بحيث يطوف غيره أسابيع فى زمن طوافه الأسبوع مع تساوى أوصافهما فى الحضور والخشوع هل يستويان؟ قال المحب الطبرى : هذا يبنى على أن طول القيام فى الصلاة أفضل أم تكثير الركعات وهو يقتضى أفضلية الأسبوع. قال النسائى : ونص عليه الشافعى.

أقول : وهو مقتضى مذهب محمد بن الحسن من أصحابنا حيث قال : طول القنوت أحب إلى من كثرة الركوع والسجود ، وهو محمول على المنفرد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أم قوما

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٢٠.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ج ٢ ص ٢٤٧.

١٢٠