الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي

الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي


المحقق: حسين محمّد علي شكري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٣

إلى يهود أن اغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ، فقالوا : لسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فقالت قريش وغطفان : إن الذي حدثكم نعيم لحقّ ، ثم أرسلوا إلى قريظة : إنا لن ندفع إليكم أحدا ، فإن أردتم أن تقاتلوا فقاتلوا ، فقالت قريظة : إن الذي قال لكم نعيم لحقّ.

وخذل الله بينهم ، وبعث عليهم الريح في ليال باردة شديدة البرد ، فجعلت تكفئ قدورهم وتطرح أبنيتهم ، فرجعوا إلى بلادهم. وكان مجيئهم وذهابهم في شوال سنة خمس من الهجرة.

قلت : والخندق اليوم باق ، وفيه قناة تأتي من عين بقباء إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح ، وفي الخندق نخل قد انطم أكثره وتهدمت حيطانه (١).

__________________

(١) قال المطري في «التعريف» : «... وقد عفى أثر الخندق اليوم ولم يبق منه شيء يعرف إلا ناحيته ، لأن الوادي ـ وادي بطحان ـ استولى على موضع الخندق وصار مسيله في موضع الخندق». اه.

٨١
٨٢

الباب الحادي عشر

في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة

قال ابن إسحاق : ولما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون ، ووضعوا السلاح ، أتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتمّا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج ، فقال : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال : نعم ، فقال جبريل : ما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله عزوجل يأمرك بالسير إلى بني قريظة ، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس : من كان سامعا ومطيعا ، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة (١).

وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون فمر بنفر من أصحابه ، فقال : هل مرّ بكم أحد؟ فقالوا : مرّ بنا دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة من ديباج ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاك جبريل ، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم.

وأتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، ونزل عليهم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار وقذف في قلوبهم الرعب ، فنزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتواثبت الأوس وقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، فهبهم لنا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا : بلى ، قال : فذلك إلى سعد بن معاذ.

وكان سعد في خيمة في المسجد يداوي جرحه ، فأتاه الأوس فأركبوه وأتوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أحكم فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي ، باب مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب (٤١١٧ ـ ٤١١٩ ـ ٤١٢١) ، وانظر «سيرة» ابن هشام ٢ / ٢٣٩.

٨٣

الأموال ، وتسبى الذراري ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

ثم استنزلوا بني قريظة من حصونهم فحبسوا بالمدينة في دار امرأة من بني النّجار ، ثم خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم فجيء بهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وكانوا سبعمائة ، وفيهم حييّ بن أخطب النضري الذي حرضهم على نقض العهد وعلى محاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة ، فإنها كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد من الحصن ، فقتلته. فقتلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل منهم كل من أنبت ، ومن لم ينبت استحياه ، ثم قسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأنزل الله في بني قريظة وأمر الخندق الآيات من سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) إلى قوله : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ...).

ولما فرغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شأن بني قريظة ، انفجر جرح سعد بن معاذ فمات منه شهيدا.

وروي أن جبريل عليه‌السلام أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جوف الليل ، فقال : يا محمد ، من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتزّ له العرش؟ فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريعا يجرّ ثوبه إلى سعد ، فوجده قد مات ، رحمه‌الله ورضي عنه.

٨٤

الباب الثّاني عشر

في ذكر مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفضله

قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول ، فنزل في علو المدينة في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم ، فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، فأخذ مربد كلثوم فعمله مسجدا وأسسه ، وصلّى فيه إلى بيت المقدس.

وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع النهار ، فركب ناقته القصواء وحشد المسلمون ولبسوا السلاح عن يمينه وشماله ، وخلفه منهم الماشي والراكب ، واعترضه الأنصار فما يمر بدار من دورهم إلا قالوا : هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة ، فيقول لهم خيرا ويدعو لهم ، ويقول عن ناقته : إنها مأمورة خلوا سبيلها ، فمر ببني سالم فأتى مسجدهم الذي في الوادي ـ وادي رانوناء ـ وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك ، وكانوا مائة رجل ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.

ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها ، وسار حتى انتهت به إلى زقاق الحبشي ببني النجار ، فبركت على باب دار أبي أيوب الأنصاري ، فنزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ينزل عليه القرآن ويأتيه جبريل حتى ابتنى مسجده ومساكنه.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نزل سفل بيت أبي أيوب ، وذكر أبو أيوب أنه فوق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يزل ساهرا حتى أصبح ، فأتاه فقال : يا رسول الله إني أخشى أن أكون ظلمت نفسي أن أبيت فوق رأسك ، فقال عليه الصلاة والسلام : السّفل أرفق بنا وبمن يغشانا.

فلم يزل أبو أيوب رضي‌الله‌عنه يتضرع إليه حتى انتقل إلى العلو ، وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت أبي أيوب سبعة أشهر. وكان بنو مالك بن النجار يحملون كل يوم قصاع الثريد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتناوبون ذلك بينهم إلا سعد بن عبادة ، فإنه ما كان يقطع جفنته في كل ليلة إلى دار أبي أيوب ، فيدعو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فيأكلون.

٨٥

وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أخذ المربد من بني النجار ، كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنخل فقطع ، وبقبور المشركين فنبشت ، وبالخرب فسويت.

قال : فصفوا النخل قبلة له وجعلوا عضادتيه حجارة. قال : وكانوا يرتجزون ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم :

اللهم إن الخير خير الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة (١)

وجعلوا ينقلون الصخر ، وطفق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل اللّبن معهم في ثيابه ويقول :

هذا الحمال لا حمال خيبر

هذا أبر ربنا وأطهر (٢)

وبنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجده مربعا وجعل قبلته إلى بيت المقدس ، وطوله سبعون ذراعا أو يزيد ، وجعل له ثلاثة أبواب : بابا في مؤخره ، وباب عاتكة ـ وهو باب الرحمة ـ ، والباب الذي كان يدخل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو باب عثمان.

ولما صرفت القبلة إلى الكعبة سد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الباب الذي كان خلفه ، وفتح الباب الآخر حذاءه ، فكان المسجد له ثلاثة أبواب : باب خلفه ، وباب عن يمين المصلى ، وباب عن يساره ، وجعلوا أساس المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن.

وفي «الصحيحين» كان جدار المسجد عند المنبر ما كانت الشاة تجوزه (٣) ، وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كان طول جدار المسجد بسطة ، وكان عرض الحائط لبنة لبنة ، ثم إن المسلمين كثروا فبنوه لبنة ونصفا ، ثم قالوا : يا رسول الله ، لو أمرت فزيد فيه؟. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، فأمر به فزيد فيه

__________________

(١) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار ، باب مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة (٣٩٣١) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة ، باب ابتناء مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥٢٤).

(٢) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب «هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى المدينة» (٣٩٠٦).

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة (٤٩٧) ، ومسلم في الصلاة ، باب دنو المصلي من السترة (٥٠٩).

٨٦

وبنى جداره لبنتين مختلفتين ، ثم اشتد عليهم الحرّ فقالوا : يا رسول الله ، لو أمرت بالمسجد فظلل ، قال : نعم ، فأمر به فأقيم له سواري من جذوع النخل شقة ثم شقة ، ثم طرحت عليها العوارض والخصف والإذخر ، وجعل وسطه رحبة ، فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف عليهم فقالوا : يا رسول الله ، لو أمرت بالمسجد يعمر فطين ، فقال لهم : «عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات والأمر أعجل من ذلك».

فلم يزل كذلك حتى قبض صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويقال : إن عريش موسى عليه‌السلام كان إذا قام أصاب رأسه السقف.

قال أهل السير : بنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجده مرتين ، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة ، فلما فتح الله عليه خيبر ، بناه وزاد عليه في الدور مثله ، وصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه متوجها إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم أمر بالتحول إلى الكعبة ، فأقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله ، ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة ، ثم قال بيده هكذا ، فأماط كل جبل بينه وبينهما ، فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء ، فلما فرغ قال جبريل هكذا ، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها وصارت قبلته إلى الميزاب.

أخبرنا أبو القاسم المظفري والأزجي في كتابيهما عن أبي علي الأصفهاني ، عن أبي نعيم الحافظ ، عن أبي محمد الخلدي ، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن ، حدّثنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثني عبد العزيز بن أبي حازم ، عن هشام بن سعد بن أبي هلال ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : كانت قبلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشام ، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده موضع الأسطوانة المخلقة اليوم خلف ظهرك ، ثم تمشي إلى الشام ، حتى إذا كنت بيمنى باب آل عثمان ، كانت قبلته في ذلك الموضع (١).

__________________

(١) الأسطوانة المخلقة هي اليوم الملاصقة لمحراب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على يمين المصلي في هذا المحراب أمامه.

٨٧

فضيلة المسجد والصلاة فيه

أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن أحمد العطار ، أخبرنا أبو سعد عمار بن طاهر الهمذاني ، حدّثنا مكي بن عبد السلام الرميلي ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي ، أخبرنا محمد بن محمد الواسطي ، حدّثنا عمر بن الفضل بن مهاجر ، حدّثنا أبي ، حدّثنا الوليد بن حماد الرّملي ، حدّثنا عبد الرزاق ، حدّثنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى» ، أخرجه البخاري في «صحيحه» (١).

أنبأنا القاسم بن علي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن ، أخبرنا منهال بن بشر ، أخبرنا علي بن محمد الفارسي ، أنبأنا الذهلي ، حدّثنا أبو أحمد محمد بن عبدوس ، حدّثنا يعقوب بن حميد ، حدّثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من دخل مسجدي هذا يتعلم خيرا أو يعلمه ، كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله. ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس ، كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره» (٢).

أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الهمذاني في كتابه قال : أخبرنا القاضي أبو الحسين محمد بن محمد الفقيه ، قال أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي ، حدّثنا عمرو بن الفضل ابن مهاجر ، حدّثنا أبي ، حدّثنا الوليد ، أخبرنا محمد بن النعمان ، أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن ، أخبرنا أبو عبد الملك ، عن عبد الواحد بن زيد ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الله قال : سكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط وهو يصلي في كل جمعة في خمسة

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضل الصلاة ، باب «فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة» (١١٨٩) ، ومسلم في الحج ، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (١٣٩٤).

(٢) أخرجه الطبراني في «الكبير» ٦ / ١٧٥ (٥٩١١) ، وفيه «غيره» وهو تصحيف ، «مجمع الزوائد» للهيثمي ١ / ١٢٣.

٨٨

مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد بيت المقدس ، ومسجد قباء ، ويصلي كل ليلة جمعة في مسجد الطور ، ويأكل كل جمعة أكلتين من كمأة وكرفس ، ويشرب مرة من زمزم ومرة من جبّ سليمان الذي ببيت المقدس ، ويغتسل من عين سلوان.

أنبأنا أبو الفرج بن الجوزي قال : أنبأنا عباد بن أحمد الحسناباذي ، قال : أخبرنا الحسن بن عمر الأصبهاني ، أنبأنا الحسن بن علي البغدادي ، حدّثنا محمد بن علي الهمذاني ، حدّثنا محمد بن عمران ، حدّثنا يحيى بن نصير ، أخبرنا موسى بن عبيدة ، عن داود بن مدرك ، عن عروة ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا خاتم الأنبياء ، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ، أحق المساجد أن يزار وتركب إليه الرواحل ، وصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» (١).

وأخرج مسلم في «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (٢).

أخبرنا عبد الوهاب بن علي ، أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي ، أنبأنا أبو محمد الصّريفيني ، أنبأنا أبو بكر بن عبدان ، حدّثنا عبد الواحد بن المهتدي بالله ، حدّثنا أيوب بن سليمان الصعدي ، حدّثنا أبو اليمان ، حدّثنا العطاف بن خالد ، عن عبد الله بن عثمان بن الأرقم بن أبي الأرقم ، عن أبيه ، عن جده رضي‌الله‌عنه قال : قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أريد أن أخرج إلى بيت المقدس. قال : «فلم»! قلت : للصلاة فيه ، قال : «هاهنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة» (٣).

أنبأنا أبو القاسم النعال ، عن أبي علي الأصبهاني ، عن أبي نعيم الحافظ ، عن جعفر الخلدي ، قال : أنبأنا أبو يزيد المخزومي ، أخبرنا الزبير ابن بكار ، أخبرنا محمد بن الحسن ، حدثني إسماعيل بن المعلى ، عن يوسف ابن طهمان ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي‌الله‌عنه أن

__________________

(١) «كنز العمال» ١٢ / ٢٧٠ (٣٤٩٩٩).

(٢) أخرجه مسلم في الحج ، باب «فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة» (١٣٩٤).

(٣) رواه الحاكم في «المستدرك» ٣ / ٥٧٦ (٦١٣٠) ، وصححه ووافقه الذهبي.

٨٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه ، كان بمنزلة حجة».

وحدثني محمد بن الحسن ، حدثني حاتم بن إسماعيل ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة ، عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذئاب والضباع ، فيمر الرجل ببابه فيريد أن يصلي فيه فما يقدر عليه».

ذكر حجر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

لما بنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجده ، بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي‌الله‌عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل ، وكان لبيت عائشة رضي‌الله‌عنها مصراع واحد من عرعر أو ساج ، ولما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه بنى لهن حجرا ، وهي تسعة أبيات. وهي ما بين بيت عائشة رضي‌الله‌عنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أهل السير : ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشام ، ولم يضربها في غربيه ، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب ، وكانت أبوابها شارعة في المسجد.

قال عمران بن أبي أنس : كان منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد ، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها ، على أبوابها مسوح الشعر ، وذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع.

قال مالك بن أنس رضي‌الله‌عنه : وحدثني الثقة عندي أن الناس كانوا يدخلون حجرات أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته يصلون فيها يوم الجمعة.

قال مالك : وكان المسجد يضيق عن أهله ، وحجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست من المسجد ، ولكن أبوابها شارعة في المسجد.

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» (١).

أخبرنا صالح بن أبي الحسن الخريمي ، أنبأنا محمد بن عبد الباقي

__________________

(١) «الموطأ» باب «ذكر الاعتكاف» ، حديث ٦٩٣.

٩٠

الأنصاري قال : أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال : أنبأنا أبو عمرو بن حيوة ، قال : أخبرنا أبو الحسن بن معروف ، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة ، حدّثنا محمد بن سعد ، أخبرنا محمد بن عمرو ، حدّثنا عبد الله بن يزيد الهذلي ، قال : رأيت بيوت أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتا باللبن ولها حجر من جريد ، ورأيت بيت أم سلمة رضي‌الله‌عنها وحجرتها من لبن ، فسألت ابن ابنها فقال : لما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دومة ، بنت أم سلمة بلبن حجرتها ، فلما قدم نظر إلى اللبن فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا البناء»!! فقالت : أردت أن أكف أبصار الناس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان».

وقال عطاء الخراساني : أدركت حجر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود ، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجده ، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم.

وسمعت سعيد بن المسيب رضي‌الله‌عنه يقول يومئذ : والله لوددت أنهم لو تركوها على حالها ، ينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته ، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر.

وقال عمران بن أبي أنس : لقد رأيتني في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه نفر من أصحابه ؛ أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو أمامة بن سهل ، وخارجة ابن زيد ـ يعني لما نقضت حجر أزواجه عليه الصلاة والسلام ـ وهم يبكون حتى اخضلّت لحاهم من الدمع ، وقال يومئذ أبو أمامة : ليتها تركت حتى يقصر الناس من البنيان ويروا ما رضي الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومفاتيح الدنيا بيده.

ذكر بيت السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضي‌الله‌عنها

كان خلف بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يسار المصلي إلى الكعبة ، وكان فيه خوخة إلى بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من الليل إلى المخرج

٩١

اطلع منها يعلم خبرهم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي بابها كل صباح فيأخذ بعضادتيه ويقول : «الصلاة الصلاة ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا».

وقال محمد بن قيس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قدم من سفر أتى فاطمة رضي‌الله‌عنها ، فدخل عليها وأطال عندها المكث ، فخرج مرة في سفر فصنعت فاطمة رضي‌الله‌عنها مسكتين من ورق وقلادة وقرطين ، وسترا لباب بيتها لقدوم أبيها وزوجها ، فلما قدم عليه الصلاة والسلام ودخل إليها ، وقف أصحابه على الباب ، فخرج وقد عرف الغضب في وجهه ، ففطنت فاطمة رضي‌الله‌عنها إنما فعل ذلك لما رأى المسكتين والقلادتين والستر.

فنزعت قرطيها ، وقلادتيها ، ومسكتيها ، ونزعت الستر وأنفذت به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت للرسول : قل له : تقرأ عليك ابنتك السلام ، وتقول لك : اجعل هذا في سبيل الله.

فلما أتاه قال : «قد فعلت فداها أبوها ، (ثلاث مرات) ، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد ، ولو كانت الدنيا تعدل عنه الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» ، ثم قام فدخل عليها.

وقال محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : لما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الستر من فاطمة رضي‌الله‌عنها شقه لكل إنسان من أصحابه ذراعين ذراعين.

وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قدم من سفر قبّل رأس فاطمة رضي‌الله‌عنها.

أنبأنا أبو القاسم التاجر ، عن أبي علي الحداد ، عن أبي نعيم الحافظ ، عن أبي محمد الخواص قال : أخبرنا أبو يزيد المخزومي ، حدّثنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن ، حدثني عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله أن جعفر بن محمد ، كان يقول : قبر فاطمة رضي‌الله‌عنها في بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد (١).

__________________

(١) انظر : «تاريخ» ابن شبة ١ / ١٠٤ ، «وفاء الوفا» ٢ / ٩٠١.

٩٢

قلت : وبيتها اليوم حوله مقصورة وفيه محراب ، وهو خلف النبي عليه الصلاة والسلام.

ذكر مصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالليل

روى عيسى بن عبد الله عن أبيه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطرح حصيرا كل ليلة إذا انكفت الناس ، ورأيت عليا كرم الله وجهه ثمّ يصلي صلاة الليل.

قال عيسى : وذلك موضع الأسطوان الذي على طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلي الدور.

وروي عن سعيد بن عبد الله بن فضيل ، قال : مر بي محمد بن علي بن الحنفية رضي‌الله‌عنه وأنا أصلي إليها ، قال لي : أراك تلزم هذه الأسطوانة! هل جاءك فيها أثر؟ قلت : لا ، قال : فالزمها ، فإنها كانت مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالليل.

قلت : وهذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة رضي‌الله‌عنها وفيها محراب (١) ، إذا توجه الرجل كان يساره إلى باب عثمان رضي‌الله‌عنه.

ذكر الجذع الذي كان يخطب إليه النبي عليه الصلاة والسلام

أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر الجنابذي ، أخبرنا يحيى بن علي المديني ، أخبرنا أبو الحسين بن النقور ، أخبرنا أبو القاسم بن حبابة ، حدّثنا أبو القاسم البغوي ، حدّثنا هدبة بن خالد ، حدّثنا حماد بن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يخطب إلى جذع نخلة ، فلما اتخذ المنبر تحول إليه ، فحنّ الجذع وأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحتضنه فسكن ، فقال عليه الصلاة والسلام : «لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة» (٢).

__________________

(١) وهو ما يعرف اليوم بمحراب التهجد ، ويقع في البقعة المحاطة بالدرابزين أمام دكة أهل الصفة.

(٢) «مسند» الإمام أحمد ١ / ٤١٢ (٢٢٣٦) ، والطبراني في «الكبير» ١٢ / ١٤٥ (١٢٨٤١).

٩٣

أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال : أخبرنا يحيى بن علي قال : أخبرنا جابر بن ياسين ، أخبرنا المخلص ، قال : أنبأنا أبو حميد ، قال : حدّثنا شيبان بن فروخ ، حدّثنا المبارك بن فضالة ، حدّثنا الحسن عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة إلى خشبة مسندا ظهره إليها ، فلما كثر الناس قال : «ابنوا لي منبرا» ، فبنوا له منبرا له عتبتان ، فلما قام على المنبر يخطب حنّت الخشبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أنس : وأنا في المسجد ، فسمعت الخشبة ، تحنّ حنين الواله ، فما زالت تحنّ حتى نزل إليها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحتضنها فسكنت ، فكان الحسن رضي‌الله‌عنه إذا حدث بهذا الحديث بكى ، ثم قال : يا عباد الله! الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شوقا إليه ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه!!

وفي لفظ : فنزل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحتضنه وسارّه بشيء.

وفي لفظ : فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت تنشق.

وفي لفظ : فجعلت تئنّ أنين الصبي الذي يسكّت حتى استقرت.

وفي لفظ : كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر ، كل هذه الألفاظ في «الصحيح» (١).

وقال أبو سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه : لما سكن الجذع أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحفر له ويدفن (٢).

وقال أبو بريدة الأسلمي : لما سكن الجذع ، قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن شئت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه كما كنت ، فتنبت لك عروقك ويكمل خلقك ، ويجدد لك خوص وثمر ، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتأكل أولياء الله من ثمرك؟؟.

ثم أصغى إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع ما يقول ، قال : بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله ، وأكون في مكان لا أداس فيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم قد فعلت» ؛ وعاد إلى المنبر ، ثم أقبل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس فقال : «خيرته

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع ، باب النجار (٢٠٩٥).

(٢) انظر هذه الروايات في : «وفاء الوفا» ١ / ٣٨٨ وما بعدها ، سنن الدارمي ١ / ٢٠ و ٢٤.

٩٤

كما سمعتم فاختار أن أغرسه في الجنة ، اختار دار البقاء على دار الفناء» (١).

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : لما قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، غار الجذع فذهب.

وقال ابن أبي الزناد : لم يزل الجذع على حاله زمان رسول الله وأبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما ، فلما هدم عثمان رضي‌الله‌عنه المسجد اختلف في الجذع.

فمنهم من قال : أخذه أبيّ بن كعب فكان عنده حتى أكلته الأرضة ، ومنهم من قال : دفن في موضعه ، وكان الجذع في موضع الأسطوانة المخلقة التي عن يمين محراب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الصندوق (٢).

ذكر عمل المنبر

وروى البخاري في «الصحيح» من حديث أبي حازم أن نفرا جاؤوا إلى سهل بن سعد ، قد تحاروا في المنبر من أي عود هو؟ فقال : أما والله إني لأعرف من أي عود هو ، ومن عمله.

رأيت رسول الله أول يوم جلس عليه.

فقلت له : فحدّثنا ، فقال : أرسل عليه الصلاة والسلام إلى امرأة : انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها ، فعمل هذه الدرجات الثلاث ، ثم أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضعت بهذا الموضع وهي من طرفاء الغابة (٣).

وفي «صحيح البخاري» من حديث جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه ، فإن لي غلاما نجارا ، قال : «إن شئت» ، فعمل له المنبر (٤).

وروى أبو داود في «سننه» من حديث عبد الله بن عمر رضي الله

__________________

(١) «سنن» الدارمي ١ / ٢١ (٣٢) ، «وفاء الوفا» ١ / ٣٨٩.

(٢) «وفاء الوفا» للسمهودي ١ / ٣٩٤.

(٣) أخرجه البخاري في الجمعة ، باب الخطبة على المنبر (٩١٧) ، ومسلم في المساجد ، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة (٥٤٤).

(٤) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب الاستعانة بالنجار (٤٤٩).

٩٥

عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بدن قال له تميم الداري : ألا أتخذ لك منبرا يا رسول الله يجمع ، أو يحمل عظامك! قال : بلى. قال : فاتخذ له منبرا مرقاتين (١).

وروى عن أبي الزناد أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد ، فقال : إن القيام قد شق عليّ ، وشكا ضعفا في رجليه ، فقال له تميم الداري وكان من أهل فلسطين : يا رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام ، قال : فلما أجمع ذوو الرأي من أصحابه على اتخاذه ، قال العباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه : إن لي غلاما يقال له : كلاب ، أعمل الناس ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فمره يعمل ، فأرسل إلى أثلة بالغابة فقطعها ، ثم عملها درجتين ومجلسا ، ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضع المنبر اليوم ، ثم راح إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة ، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حن الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة ، حتى ارتاع الناس وقام بعضهم على رجليه ، فأقبل عليه الصلاة والسلام حتى مسه بيده فسكن ، فما سمع له صوت بعد ذلك ، ثم رجع إلى المنبر فقام عليه.

وقد روي أن اسم هذا الغلام الذي صنع المنبر : مينا ، وقال عمر بن عبد العزيز : عمله صباح ، غلام العباس بن عبد المطلب (٢).

قال الواقدي : وفي سنة ثمان من الهجرة اتخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منبره ، واتخذه درجتين ومقعدة.

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة رضي‌الله‌عنها قالت : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوائم منبري رواتب في الجنة ، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» (٣).

وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «منبري على حوضي» (٤).

__________________

(١) باب «اتخاذ المنبر» ١ / ٦٥٦٣ (١٠٨١).

(٢) انظر في ذلك : «وفاء الوفا» ١ / ٣٩٥ و ٣٩٧.

(٣) أخرجه أحمد في «المسند» ٧ / ٤١١ (٢٥٩٣٧) ، والبيهقي في «السنن» ٥ / ٤٠٦ (١٠٢٨٨).

(٤) أخرجه البخاري في فضائل المدينة (١٨٨٨) ، وفي فضل الصلاة ، باب فضل ما بين القبر والمنبر (١١٩٥) ، ومسلم في الحج ، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (١٣٩٠).

٩٦

قال الخطابي (١) : معناه من لزم عبادة الله عنده سقي من الحوض يوم القيامة.

قلت : الذي أراه أن المعنى هذا المنبر بعينه يعيده الله على حاله فينصبه عند حوضه ، كما تعود الخلائق أجمعون.

أخبرنا أبو طاهر المبارك بن المبارك العطار قال : أخبرنا أبو الغنائم محمد بن الخطيب ، (ح) وأخبرنا هبة الله بن الحسن بن السبط قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله العكبري قالا : أخبرنا أبو طالب العشاري ، أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين قال : حدّثنا علي بن محمد العسكري ، حدّثني دارم بن قبيصة ، حدّثني نعيم بن سالم قال : سمعت أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «منبري على ترعة من ترع الجنة» (٢).

قال أبو عبيد القاسم بن سلّام (٣) : في الترعة ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة.

والثاني : أنها الباب.

والثالث : أنها الدرجة.

وروى أبو داود في «السنن» من حديث جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنهما قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر ، إلا تبوأ مقعده من النار ، أو وجبت له النار» (٤).

وقال ابن أبي الزناد : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية ، فلما ولي أبو بكر رضي‌الله‌عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى ، فلما ولي عمر رضي‌الله‌عنه قام

__________________

(١) «أعلام الحديث» للخطابي ١ / ٦٤٩.

(٢) أخرجه أحمد في «المسند» ٦ / ٤٥٩ (٢٢٣٣٤).

(٣) «غريب الحديث» ١ / ٤.

(٤) ٣ / ٥٦٧ (٣٢٤٦).

٩٧

على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد ، فلما ولي عثمان رضي‌الله‌عنه فعل كذلك ست سنين ، ثم علا فجلس موضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكسى المنبر قبطية ، فلما حج معاوية رضي‌الله‌عنه كساه قبطية وزاد فيه ست درجات ، ثم كتب إلى مروان بن الحكم ، وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر على الأرض ، فدعا له النجارين وعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها وصار المنبر تسع درجات بالمجلس ، لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده.

قال : ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة قال لمالك بن أنس رضي‌الله‌عنه : إني أريد أن أعيد منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حاله! فقال له مالك : إنما هو من طرفاء وقد سمّر إلى هذه العيدان وشدّ ، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك ، فلا أرى أن تغيره.

قلت : وطول منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذراعان وشبر وثلاث أصابع ، وعرضه ذراع راجح ، وطول صدره وهو مستند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذراع ، وطول رمانتي المنبر اللتين يمسكهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس يخطب شبر واصبعان ، وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاث أصابع ، والدكة التي هو عليها طول شبر وعقدة ، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر.

وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل له باب يفتح يوم الجمعة ، ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوبا من الحرير الأسود وله علم ذهب يكسى به المنبر ، ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستورا على أبواب الحرم.

ذكر الروضة

أخبرنا أبو طاهر بن المعطوش قال : أخبرنا أبو الغنائم بن المهتدي ، (ح) وأخبرنا أبو القاسم الهمذاني ، أخبرنا أبو العز بن كادش ، قالا : أخبرنا محمد ابن علي بن الفتح الحربي ، قال : أخبرنا أبو الحفص بن شاهين ، حدّثنا علي بن محمد العسكري حدّثنا دارم بن قبيصة ، حدّثني نعيم بن سالم بن قنبر ، قال : سمعت أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة» ، أخرجه البخاري

٩٨

ومسلم في «الصحيحين» (١) من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه وقال : «بيتي» مكان «حجرتي».

وقال الخطابي (٢) : معناه من لزم طاعة الله تعالى في هذه البقعة ، آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة.

قلت : والذي هو عندي أن يكون هذا الموضع بعينه روضة في الجنة يوم القيامة.

وقال أبو عمر بن عبد البر (٣) : معناه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت الصحابة تقتبس منه العلم في ذلك الموضع ، فهو مثل الروضة.

قلت : ويؤيد قوله : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا». قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنة؟ قال : «حلق الذّكر» (٤).

ذكر سد الأبواب الشوارع في المسجد

روى البخاري في «الصحيح» من حديث أبي سعيد الخدري قال : خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عنده» ، فبكى أبو بكر ، فقلت في نفسي : ما يبكي هذا الشيخ أن يكون الله عزوجل خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال : «يا أبا بكر لا تبك ، إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر» (٥).

قال أهل السير : كان بابه في غربي المسجد.

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضل الصلاة ، باب فضل ما بين القبر والمنبر (١١٩٥) ، ومسلم في الحج ، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (١٣٩٠).

(٢) «أعلام الحديث» ١ / ٦٤٩.

(٣) «التمهيد» ٢ / ٢٨٧.

(٤) أخرجه الترمذي ٥ / ٤٩٨ (٣٥١٠) ، «مسند» الإمام أحمد ٣ / ٦١٩ (١٢١١٤) ، وهو في «مجمع الزوائد» ١ / ١٢٦.

(٥) أخرجه البخاري في المناقب ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سدّوا الأبواب ، إلا باب أبي بكر» (٣٦٥٤).

٩٩

وروى ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالأبواب كلها فسدت إلا باب علي رضي‌الله‌عنه (١).

ذكر تجميره

ذكر أهل السير : أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أتى بسفط من عود فلم يسع الناس ، فقال : اجمروا به المسجد لينتفع به المسلمون ، فبقيت سنّة في الخلفاء إلى اليوم ، يؤتى في كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة عند المنبر ، من خلفه إذا كان الإمام يخطب.

قالوا : وأتي عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بمجمرة من فضة فيها تماثيل من الشام ، فكان يجمّر بها المسجد ثم توضع بين يدي عمر (٢) ، فلما قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد واليا على المدينة ، غيّرها وجعلها ساذجا ، وهي في يومنا هذا منقوشة.

ذكر تخليقه

روي أن عثمان بن مظعون رضي‌الله‌عنه تفل في المسجد فأصبح مكتئبا ، فقالت له امرأته : مالي أراك مكتئبا؟ فقال : لا شيء ، إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي ، فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم خلّقتها ، فكانت أول من خلّق القبلة (٣).

وقال جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه كان أول من خلّق المسجد عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، ثم لما حجت الخيزران أم موسى وهارون في سنة سبعين ومائة أمرت بالمسجد أن يخلّق ، فتولى تخليقه جاريتها مؤنسة ، فخلّقته جميعه حتى الحجرة الشريفة جميعها.

__________________

(١) أخرجه أحمد في «المسند» ٥ / ٤٩٦ (١٨٨٠١).

(٢) انظر : «وفاء الوفا» ١ / ٦٦٣.

(٣) وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد ، فحكها بحصاة ، ثم نهى أن يبصق الرجل بين يديه أو عن يمينه ، وقال : «يبصق عن يساره ، أو تحت قدمه اليسرى» اه.

١٠٠