الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي

الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي


المحقق: حسين محمّد علي شكري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٣

سعيد يقول : سألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها ، فقلت : أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال : إلى العانة ، قلت : فإذا نقص قال : دون العورة.

قال أبو داود : قدّرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ، ثم ذرعته ، فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه ، هل غيّر بناؤه عما كان عليه؟ فقال : لا ، ورأيت فيها ماء متغير اللون.

قلت : وهذه البئر اليوم في بستان وماؤها عذب طيب ولونه صاف أبيض ، وريحه كذلك ، ويستقى منها كثيرا ، وذرعتها فكان طولها أحد عشرة ذراعا وشبرا ، منها : ذراعان راجحة ماء ، والباقي بناء ، وعرضها ستة أذرع ، كما ذكر أبو داود في «السنن».

بئر غرس

أخبرنا يحيى بن أسعد بخطه قال : أنبأنا أبو علي الحداد ، عن أبي نعيم الأصبهاني ، قال : كتب إليّ أبو محمد الخواص ، أن محمد بن عبد الرحمن أخبره ، قال : أخبرنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن قيس ، قال جاءنا أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه فقال : أين بئركم هذه ـ يعني بئر غرس ـ؟ فدللناه عليها ، قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءها وإنها لتسنى على حمار بسحر ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلو من مائها فتوضأ منه ، ثم سكبه فيها فما نزفت بعد (١).

وحدّثنا محمد بن الحسن ، عن القاسم بن محمد ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة ، فأصبح على بئر غرس ، فتوضأ منها وبصق فيها ، وغسّل منها حين توفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢).

وحدّثنا محمد بن الحسن ، عن سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن

__________________

(١) «دلائل النبوة» للبيهقي ٦ / ١٣٦ ، «البداية والنهاية» لابن كثير ٦ / ١٠٤.

(٢) رواه السمهودي في «وفاء الوفا» عن ابن النجار ، وقال : إنه مرسل. وفي «الطبقات» لابن سعد ١ / ٣٩١ عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو جالس على شفير بئر غرس : «رأيت الليلة أني جالس على عين من عيون الجنة» ؛ يعني هذه البئر.

٦١

محمد ، عن أبيه قال : غسّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بئر يقال لها : غرس ، وكان يشرب منها (١).

قلت : وهذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل ، وهي في وسط الشجر ، وقد خرّبها السيل وطمّها ، وفيها ماء أخضر إلا أنه عذب طيب ، وريحه الغالب عليه الأجون ، وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شافة ، منها ذراعان ماء ، وعرضها عشرة أذرع.

بئر البصّة

أنبأنا ذاكر الحذاء ، عن الحسن بن أحمد الأصبهاني ، عن أحمد بن عبد الله الحافظ ، عن جعفر بن محمد ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن ، حدّثنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن ، عن محمد بن موسى ، عن سعيد ابن أبي زيد ، عن ابن عبد الرحمن ، أن أبا سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي الشهداء وأبناءهم ويتعاهد عيالهم ، قال ؛ فجاء يوما أبا سعيد الخدري ، فقال : هل عندك من سدر أغسل به رأسي فإن اليوم الجمعة؟ قال : نعم ، فأخرج له سدرا وخرج معه إلى البصّة ، فغسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه وصب غسالة رأسه وراقة شعره في البصة.

قلت : وهذه البئر قريبة من البقيع ، على طريق المار إلى قباء وهي بين نخل ، وقد هدمها السيل وطمها ، وفيها ماء أخضر ، ووقفت على قفّها وذرعت طولها ، فكان أحد عشر ذراعا منها ذراعان ماء ، وعرضها تسعة أذرع ، وهي مبنية بالحجارة ، ولون مائها إذا انفصل منها أبيض ، وطعمه حلو إلا أن الأجون (٢) غلب عليه ، وذكر لي الثقة : أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمّها السيل.

بئر رومة

روى أهل السير ، أن تبّعا لما قدم المدينة نزل بقباء واحتفر البئر الذي

__________________

(١) «تاريخ المدينة» لابن شبة ١ / ١٦٢ ، وفي سنن ابن ماجه ١ / ٤٧١ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أنا متّ فاغسلوني بسبع قرب ، من بئري ، بئر غرس».

(٢) يعني الملوحة.

٦٢

يقال لها : بئر الملك ، وبه سميت ، فاستوبأ ماءها ، فدخلت عليه امرأة من بني زريق من اليهود اسمها فكيهة ، فشكا إليها وباء بئره ، فانطلقت فأخذت حمارين واستقت له من ماء رومة ، ثم جاءته فشربه ، فقال : زيدينا من هذا الماء.

وكتبت إليّ عفيفة الأصبهانية ، أن أبا علي الحداد أخبرها بخطه ، عن أبي نعيم ، قال : كتب إليّ جعفر الخلدي أن أبا يزيد المخزومي أخبره ، عن الزبير بن بكار ، عن محمد بن الحسن ، عن محمد بن طلحة ، عن إسحاق بن يحيى ، عن موسى بن طلحة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نعم الحفيرة حفيرة المزني» ؛ يعني رومة.

فلما سمع بذلك عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ابتاع نصفها بمائة بكرة وتصدق بها ، فجعل الناس يسقون منها. فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب عليها ، باع من عثمان رضي‌الله‌عنه النصف الثاني بشيء يسير فتصدق بها كلها.

وروى البخاري في «الصحيح» من حديث أبي عبد الرحمن السلمي ، أن عثمان حيث حوصر أشرف عليهم وقال : أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألستم تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من حفر رومة فله الجنة؟ فحفرتها ، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من جهز جيش العسرة فله الجنة؟ فجهزتهم ، قال : فصدّقوه (١).

قلت : وهذه البئر اليوم بعيدة عن المدينة جدا في براح واسع من الأرض وطيء ، وعندها بناء من حجارة خراب ، قيل : إنه كان ديرا ليهود ، والله أعلم.

وحولها مزارع وآبار ، وأرضها رملة وقد انتقضت خرزتها وأعلامها ، إلا أنها بئر مليحة جدا مبنية بالحجارة الموجهة ، وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعا ، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها ، وعرضها ثمانية أذرع وماؤها صاف وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الوصايا ، باب إذا وقف أرضا أو بئرا (٢٧٧٨).

٦٣

قلت : واعلم أن هذه الآبار قد يزيد ماؤها في بعض الأزمان عما ذكرنا وقد ينقص ، وربما بقي منها ما كان مطموما (١).

ذكر عين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أنبأنا يحيى بن أسعد ، عن الحسن بن أحمد ، عن أبي نعيم ، عن جعفر ابن محمد ، حدّثنا محمد بن عبد الرحمن ، حدّثنا الزبير ، حدّثنا محمد بن الحسن ، عن موسى بن إبراهيم بن بشير ، عن طلحة بن خراش ، قال : كانوا أيام الخندق يخرجون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخافون البيات ، فيدخلون به كهف بني حرام فيبيت فيه ، حتى إذا أصبح هبط.

قال : ونقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العينيّة التي عند الكهف ، فلم تزل تجري حتى اليوم.

قلت : وهذه العين في ظاهر المدينة وعليها بناء وهي مقابلة المصلى (٢).

__________________

(١) لمزيد معرفة الآبار التي شرب منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انظر «وفاء الوفا» للسمهودي ٣ / ٩٤١ وما بعدها.

(٢) قال المطري في «التعريف» : «فأما العين التي ذكرها الشيخ محب الدين المقابلة للمصلى ، فهي عين الأزرق ، وهو مروان بن الحكم التي أجراها بأمر معاوية رضي‌الله‌عنه وهو واليه على المدينة ، وأصلها من قباء (...) ، وأما عين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي ذكرها ابن النجار فليست تعرف اليوم ، وإن كانت كما قال عند الكهف المذكور فقد دثرت وعفا أثرها ، والله أعلم» اه منه.

وللسمهودي في هذه المسألة تفصيل ، انظر «وفاء الوفا» ٣ / ٩٨٥ وما بعدها.

٦٤

الباب الثّامن

في ذكر جبل أحد

وفضله وفضل الشهداء رضي‌الله‌عنهم

روى البخاري في «الصحيح» من حديث أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدا له أحد فقال : «هذا جبل يحبنا ونحبه» (١).

قال أبو عمر ابن عبد البر في معنى هذا الحديث : يحتمل أن الله خلق فيه الروح فأحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : يحمل على المجاز (٢).

أخبرنا أبو غالب محمد بن المبارك الكاتب ، وعبد العزيز بن أحمد الناقد قالا : أنبأنا محمد بن عمر الفقيه ، أنبأنا جابر بن ياسين ، أنبأنا عمر بن أحمد المقري ، حدّثنا عبد الله بن محمد البغوي ، حدّثنا إسحاق ، حدّثنا عبد الله ابن جعفر ، حدثني أبو حازم ، عن سهل ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحد ركن من أركان الجنة» (٣).

وكتب إليّ أبو محمد بن أبي القاسم الحافظ ، أن عبد الرحمن بن أبي الحسن ، أخبره قال : أنبأنا سهل بن بشر ، قال : أنبأنا أبو الحسن بن منير ، قال : أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الله الذهلي ، قال : حدّثنا موسى بن هارون ، قال : حدّثنا يعقوب ، قال : حدّثنا عبد العزيز بن محمد ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد والسير ، باب فضل الخدمة في الغزو (٢٨٨٩).

(٢) «التمهيد» ٢٢ / ٣٣١ ، وقد ذكر ابن النجار كلام ابن عبد البر مختصرا جدا. وقال ابن عبد البر في موضع آخر ٢٠ / ١٧٧ بعد إيراده للمعنيين السابقين ، قال : «وقد قيل معنى قوله : يحبنا ، أي يحبنا أهله ـ يعني الأنصار الساكنين قربه ـ وكانوا يحبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم آووه ونصروه ، وأقاموا دينه ، فخرج قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا التأويل مخرج قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) ، يريد أهل القرية ، وهذا معروف في لسان العرب» اه منه.

(٣) رواه أبو يعلى والطبراني في «الكبير» ٦ / ١٥١ (٥٨١٣) ، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٤ / ١٣ : «فيه عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني ، وهو ضعيف» اه.

٦٥

عن طلحة ابن خراش بن جابر بن عتيك ، عن جابر بن عتيك ، قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خرج موسى وهارون عليهما‌السلام حاجين أو معتمرين ، فلما كانا بالمدينة مرض هارون فثقل ، فخاف عليه موسى اليهود فدخل به أحدا ، فمات فدفنه فيه» (١).

وروي عن أنس رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما تجلى الله تعالى لجبل طور سيناء ، تشظى منه ست شظايا ، فنزلت مكة ، فكان حراء وثبير وثور ، وبالمدينة : أحد وورقان وعير» (٢).

قلت : فأحد معروف ، وعير مقابله والمدينة بينهما ، وورقان عند شعب علي رضي‌الله‌عنه.

قلت : وكانت قريش قد جاءت من مكة لحرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقوه في يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة عند جبل أحد ، وكان بينهم من القتال ما أكرم الله به من أكرم من المسلمين بالشهادة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخلص العدو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذبّ بالحجارة حتى وقع لشقه ، فانكسرت رباعيته ، وشج في وجهه وكلمت شفته ، وكان ذلك كرامة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأصحابه الذين استشهدوا بين يديه ، وكانوا سبعين رجلا : حمزة بن عبد المطلب ، وعبد الله بن جحش ، ومصعب بن عمير ، وشماس بن عثمان.

فهؤلاء الأربعة من المهاجرين.

ومن الأنصار : عمرو بن معاذ بن النعمان ، والحارث بن أنس بن رافع ، وعمارة بن زياد بن السكن ، وسلمة بن ثابت بن وقش ، وعمرو بن ثابت ابن وقش ، وأبو قيس ثابت ، ورفاعة بن وقش ، وحسيل بن ثابت ـ وهو اليمان أبو حذيفة ـ ، وصيفي بن قيظي ، وعباد بن سهل ، وحباب بن قيظي ، والحارث بن أوس بن معاذ ، وإياس بن أوس بن عتيك ، وعبيد بن

__________________

(١) «تاريخ المدينة» لابن شبة ١ / ٨٥ ، وقد عقب السمهودي بعد ذكره لرواية ابن شبة عن جابر ، فقال : «بأحد شعب يعرف بشعب هارون ، ويزعمون أن قبر هارون عليه‌السلام في أعلاه ، وهو بعيد حسا ومعنى ، وليس ثم ما يصلح للحفر وإخراج التراب» اه منه.

(٢) ابن شبة ١ / ٧٩ ، ووقع فيه : «رضوى» بدلا عن «عير» وكذا في «الوفاء» للسمهودي.

٦٦

التيهان ، ويقال : عتيك ، وحبيب بن زيد بن تيم ، ويزيد بن حاطب بن أمية ابن رافع ، وأبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد ، وأنيس بن قتادة ، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي ، وأبو حبة بن عمرو بن ثابت أخو سعيد ابن خيثمة لأمه ، وعبيد الله بن جبير بن النعمان ، وخيثمة أبو سعد بن خيثمة ، وعبد الله بن سلمة ، وسبيع بن حاطب بن الحارث ، وعمرو بن قيس بن زيد ، وابنه قيس ، وثابت بن عمرو بن زيد ، وعامر بن مخلد ، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة ، وعمرو بن مطرف بن علقمة ، وأوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت ، وأنس بن النضر ، وقيس بن مخلد ، وكيسان عبد لبني النجار ، وسليم بن الحارث ، ونعمان بن عبد عمرو ، وخارجة بن زيد ، وسعد بن الربيع ، وأنس بن الأرقم بن زيد ، ومالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري ، وسعيد بن سويد بن قيس ، وعتبة بن ربيع ابن رافع ، وثعلبة بن سعد بن مالك ، وثقب بن فروة ، وعبد الله بن عمرو ابن وهب ، وضمرة حليف لبني طريف من جهينة ، ونوفل بن عبد الله ، وعباس بن عبادة ، ونعمان بن مالك بن ثعلبة ، والمجذر بن زياد ، وعبادة بن الحسحاس ، ورفاعة بن عمرو ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، وعمرو بن الجموح ، وابنه خلاد ، وأبو أيمن مولاه ، وعنترة بن عمرو بن حديدة ، ومولاه عنترة ، وسهل بن قيس بن أبي كعب ، وذكوان بن عبد قيس ، وعبيد بن المعلى ابن لوذان ، ومالك بن نميلة ، والحارث بن عدي بن خرشة ، ومالك بن إياس ، وإياس بن عدي ، وعمرو بن إياس.

فهؤلاء الذين استشهدوا بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقاتلوا وقتلوا ، رضي‌الله‌عنهم وأرضاهم أجمعين.

فأما حمزة رضي‌الله‌عنه فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف عليه ، وقد مثّل به ؛ جدع أنفه وأذناه ، وبقر بطنه عن كبده.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أن تحزن صفية وتكون سنّة من بعدي ، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير! لن أصاب بمثلك أبدا ، ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا».

٦٧

ثم قال : «جاءني جبريل وأخبرني أن حمزة مكتوب في السموات السبع : حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله» (١).

فأقبلت صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة لأبيه ولأمه ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابنها الزبير بن العوام : «القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها ؛ فقال : يا أمّه ؛ رسول الله يأمرك أن ترجعي ، قالت : ولم؟ وقد بلغني أنه مثّل بأخي وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك ، لأحتسبن ولأصبرنّ إن شاء الله ، فجاء الزبير فأخبره بذلك ، فقال : خلّ سبيلها ، فأتته فنظرت إليه وصلّت عليه ، واسترجعت واستغفرت له ، فأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسجّي ببردة ، ثم صلي عليه فكبر عليه سبعين ودفنه» (٢).

ولما رجع إلى المدينة سمع البكاء والنواح على القتلى ، فذرفت عيناه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكى.

ثم قال : «لكن حمزة لا بواكي له»!!

فجاء نساء بني عبد الأشهل ، لما سمعوا ذلك فبكين على عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن على باب المسجد ، فلما سمعهن خرج إليهن فقال : «ارجعن يرحمكم الله فقد آيستن بأنفسكن» (٣)(٤).

وأما عمارة بن زياد بن السكن رضي‌الله‌عنه ، فإنه قاتل حتى أثبتته الجراحة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدنوه مني» ، فأدنوه منه ، فوسده قدمه ، فمات وخده على قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنه.

وأما عمرو بن ثابت بن وقش ، فإنه كان يأبى الإسلام ، فلما كان يوم

__________________

(١) انظر : «أسد الغابة» ٢ / ٥٣ ، «الإصابة» ١ / ٣٥٤ ، «الاستيعاب» ١ / ٢٧٥ ، «المستدرك» ٣ / ٢١٦ (٤٤٨٧) «ذخائر العقبى» للطبري ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٢) «مسند» الإمام أحمد ١ / ٤٦٣ (٤٤٠٠) ، قال الطبري في «ذخائر العقبى» ص ٣١٠ بعد ذكره ما روي عن أنس بن مالك أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ودفنوا بدمائهم ، ولم يصلّ عليهم. قال : «فيحمل أمر حمزة على التخصيص» اه.

(٣) «مسند» الإمام أحمد ٢ / ٢٠٧ (٥٥٣٨) ، سنن ابن ماجه ١ / ٥٠٧ (١٥٩١) ، «الاستيعاب» ١ / ٧٧٥.

(٤) انظر : «مناقب سيد الشهداء» للسيد جعفر بن حسن البرزنجي ، فقد استوفى أخباره.

٦٨

أحد ، بدا له في الإسلام فأسلم ، وأخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض المسلمين ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فرآه المسلمون بين القتلى فقالوا : ما جاء بك يا عمرو!! أحرب على قومك ، أم رغبة في الإسلام؟

قال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني. ثم مات في أيديهم فذكروه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنه لمن أهل الجنة».

وكان أبو هريرة رضي‌الله‌عنه يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصلّ قط؟! فإذا لم تعرفه الناس قال : هو عمرو بن ثابت.

وأما أبوه ثابت بن وقش ، والحسيل ـ وهو اليمان أبو حذيفة رضي‌الله‌عنهما ـ فإنهما كانا شيخين كبيرين ، ارتفعا في الآطام مع النساء والصبيان لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أحد.

فقال أحدهما لصاحبه : لا أبالك ما تنتظر؟ فو الله إن بقي لواحدنا من عمره إلا طمر حمار ، إنما نحن هامة اليوم أو غد ، أفلا نحمل أسيافنا ونلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعل الله يزرقنا الشهادة معه؟

فأخذا أسيافهما وخرجا حتى دخلا في الناس ، فقاتلا حتى قتلا.

وأما حنظلة بن أبي عامر رضي‌الله‌عنه ، فإنه لما قتله المشركون قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن صاحبكم لتغسله الملائكة ، فسألوا أهله ما شأنه».

فسئلت صاحبته عنه ، فقالت : خرج وهو جنب حين سمع النداء.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لذلك غسلته الملائكة» (١).

وأما أنس بن النضر رضي‌الله‌عنه ، فإنه جاء إلى المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم؟ ، قالوا : قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان الشيطان قد نادى بذلك ، وفقده المسلمون لاختلاطهم فلم يعرفوه.

فقال لهم أنس رضي‌الله‌عنه : فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه.

ثم قال : إني أجد ريح الجنة دون أحد ، فمضى فاستقبل المشركين

__________________

(١) «المستدرك» ٣ / ٢٠٤ (٤٩١٧).

٦٩

وقاتل حتى قتل ، ولما وجدوه في القتلى ما عرفوه حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانة ، وفيه بضع وثمانون طعنة وضربة ورمية بسهم.

وأما سعد بن الربيع رضي‌الله‌عنه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع ، أفي الأحياء هو أم الأموات؟».

فقال رجل من الأنصار : أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل ، فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق.

قال : فقلت له : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم الأموات.

قال : أنا في الأموات ، فبلّغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عني السلام وقل : إن سعد ابن الربيع يقول لك : جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته ، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.

قال : ثم لم أبرح حتى مات ، فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته (١).

وأما عبد الله بن عمرو بن حرام رضي‌الله‌عنه ، فإنه روى البخاري في «الصحيح» أن ابنه جابرا قال : لما قتل أبي ، جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه ، فجعل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهوني ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تبكه ، ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى رفعتموه» (٢).

وأما عمرو بن الجموح ، فإنه كان أعرج شديد العرج ، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشاهد ، فلما كان يوم أحد ، أرادوا حبسه وقالوا : إن الله قد عذرك ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه ، فو الله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة!

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أنت فقد عذرك الله ، فلا جهاد عليك ، وقال لبنيه : ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» (٣). فخرج معه فقتل بأحد.

__________________

(١) «أسد الغابة» ٢ / ٣٤٨ (١٩٩٣).

(٢) أخرجه البخاري في المغازي ، باب من قتل من المسلمين يوم أحد (٤٠٨٠).

(٣) «أسد الغابة» ٤ / ٢٠٨.

٧٠

وروى البخاري في «الصحيح» أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد : «أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال : في الجنة ، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل» (١).

وروى البخاري (٢) أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ، ثم يقول : «أيهم أكثر أخذا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحد قدّمه في اللحد ، وقال : «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» ، وأمر بدفنهم في دمائهم ، ولم يصلّ عليهم ، ولم يغسلوا.

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى ، اللون لون دم ، والريح ريح مسك».

وروى البخاري في «صحيحه» من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أريت في رؤياي أني هززت سيفي فانقطع صدره ، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد ، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان ، فإذا هو ما جاء الله به يوم الفتح واجتماع المؤمنين» (٣).

قال ابن إسحاق : وأنزل الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن في يوم أحد ستين آية من آل عمران ، فيها صفة ما كان من يومهم ذلك. وهي من قوله تعالى : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) [آل عمران : ١٢١] إلى قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [آل عمران : ١٧٩] إلى آخر الآية.

وروى ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأتي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم» ، قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا ، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يلتووا عن الحرب؟!.

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي ، باب غزوة أحد (٤٠٤٦) ، ومسلم في الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد (١٨٩٩).

(٢) أخرجه البخاري في المغازي ، باب من قتل من المسلمين يوم أحد (٤٠٧٩).

(٣) أخرجه البخاري في المغازي ، باب من قتل من المسلمين يوم أحد (٤٠٨١).

٧١

فقال الله تبارك وتعالى : فأنا أبلغهم ، فأنزل الله على رسوله (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ...) [آل عمران : ١٦٩] الآيات (١).

وروى البخاري في «الصحيح» عن عقبة بن عامر رضي‌الله‌عنه : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ، ثم طلع المنبر فقال : «إني بين أيديكم فرط ، وأنا عليكم شهيد ، وإن موعدكم الحوض ، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا ، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها» (٢).

قال : فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى أبو داود في «سننه» من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نريد قبور الشهداء ، حتى إذا أشرفنا على حرة واقم ، فلما تدلينا منها فإذا قبور بمنحيّة ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، أقبور إخواننا هذه؟ قال : «قبور أصحابنا» ، فلما جئنا قبور الشهداء قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه قبور إخواننا» (٣).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في قتلى أحد : «هؤلاء شهداء فأتوهم وسلموا عليهم ، ولن يسلم عليهم أحد ما قامت السموات والأرض إلا ردوا عليه» (٤).

وروى جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن جده رضي‌الله‌عنهم : أن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تختلف بين اليومين والثلاثة إلى قبور الشهداء بأحد ، فتصلي هناك ، وتدعو وتبكي حتى ماتت رضي‌الله‌عنها (٥).

وروى العطاف بن خالد قال : حدثتني خالة لي وكانت من العوابد ، قالت : ركبت يوما حتى جئت قبر حمزة بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه فصليت ما شاء الله ، والله ما في الوادي داع ولا مجيب وغلامي آخذ برأس دابتي ، فلما فرغت من صلاتي ، قمت فقلت : السلام عليكم ، وأشرت

__________________

(١) «سنن» أبي داود ٣ / ٣٢ (٢٥٢٠) ، «مسند» أحمد ١ / ٣٤٨ (٢٣٨٤).

(٢) أخرجه البخاري في المغازي ، باب غزوة أحد (٤٠٤٢) ، ومسلم في الفضائل ، باب إثبات حوض نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفاته (٢٢٩٦).

(٣) باب «زيارة القبور» ٢ / ٥٣٥ (٢٠٤٣).

(٤) «دلائل النبوة» للبيهقي ٣ / ٣٠٧ ، «تاريخ المدينة» لابن شبة ١ / ١٣٢.

(٥) «دلائل النبوة» للبيهقي ٣ / ٣٠٩ ، ابن شبة ١ / ١٣٢.

٧٢

بيدي ، فسمعت رد السلام من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله سبحانه خلقني ، فاقشعر جلدي وكل شعرة مني ، فدعوت الغلام وركبت (١).

وروى مالك في «الموطأ» (٢) : أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين رضي‌الله‌عنهما ، كان السيل قد حفر قبرهما ، وكانا في قبر واحد ، وهما ممن استشهد يوم أحد ، فحفر عنهما لينقلا من مكانهما ، فوجدا كأنهما ماتا بالأمس ، فكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه ، فدفن وهو كذلك ، فأميطت يده عن جرحه ، ثم أرسلت ، فرجعت كما كانت ، وكان بين أحد وبين يوم الحفر عنهما ست وأربعون سنة!

قلت : وقبور الشهداء اليوم لا يعرف منها إلا قبر حمزة رضي‌الله‌عنه ، فإنه قد بنت عليه أم الخليفة الناصر لدين الله ـ رحمها الله ـ مشهدا كبيرا ، وجعلت عليه بابا من ساج منقوش وحوله حصنا ، وعلى المشهد باب من حديد يفتح في كل يوم خميس ، وقريب منه مسجد يذكر أهل المدينة أنه موضع مقتله ، والله أعلم بصحة ذلك.

وأما بقية الشهداء فهناك حجارة موضوعة يذكر أنها قبورهم ، وفي جبل أحد غار يذكرون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى فيه ، وموضع في الجبل أيضا منقوب في صخرة منه على قدر رأس الإنسان ، يذكرون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قعد وأدخل رأسه هناك ، كل هذا لم يرد به نقل ، فلا يعتمد عليه.

__________________

(١) «دلائل النبوة» للبيهقي ٣ / ٣٠٨.

(٢) باب «الدفن في قبر واحد من الضرورة» حديث (١٠٢٣).

٧٣
٧٤

الباب التّاسع

في ذكر إجلاء

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير من المدينة

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عقد حلفا بين بني النضير من اليهود وبين بني عامر ، فعدا رجل من بني النضير على رجلين من بني عامر فقتلهما ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني النضير يستعين في دية ذينك القتيلين.

فقالوا له : نعم يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت.

ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، ـ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم ـ ، فمروا رجلا يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه ، وانتدب لذلك أحدهم ، فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي‌الله‌عنهم.

فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج راجعا إلى المدينة وأخبر أصحابه بما كانت اليهود همت به ، وأمرهم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم ، وسار حتى نزل بهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة ، فتحصنوا منه في الحصون ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع نخيلهم وتحريقها.

وكان رهط من الخزرج من المنافقين قد بعثوا إلى بني إسرائيل : أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن خرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك منهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب.

فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، ففعل ، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل يهدم بيته ويأخذ بابه فيضعه على البعير وينطلق به ، واستقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم ، والدفوف والمزامير

٧٥

والقيان تعزف خلفهم ، وخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام ، وخلوا الأموال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول الله.

ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان : يامين بن عمير بن كعب ، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالها فأحرزاهما. فأنزل الله في بني النضير سورة الحشر بأسرها ، يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته ، وما سلط عليهم به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما عمل فيهم (١).

__________________

(١) انظر في ذلك : «المغازي» للواقدي ١ / ٣٦٣ ، و «سيرة» ابن هشام ١ / ٥٦٣.

٧٦

الباب العاشر

في ذكر حفر

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخندق حول المدينة

كان نفر من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد خرجوا فقدموا مكة على قريش ، فدعوهم إلى حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فسرّهم ذلك واتّعدوا له وتجمعوا ، ثم جاءوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهم معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك ، وخرجت قريش وغطفان بمن جمعوا معهم.

فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب الخندق على المدينة ، فعمل فيه رسول الله والمسلمون معه ودأبوا فيه.

روى البخاري في «الصحيح» من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الخندق ، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال :

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة

فقالوا مجيبين له :

نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما بقينا أبدا (١)

وروى أيضا من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه ويقول :

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي ، باب «غزوة الخندق» (٤٠٩٩).

٧٧

ويرفع بها صوته : أبينا أبينا (١).

قال ابن إسحاق : وحكت ابنة بشير بن سعد قالت : دعتني أمي فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي ، ثم قالت : اذهبي إلى أبيك وخالك بغدائهما.

قالت : فأخذتها ، فانطلقت بها ، فمررت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي.

فقال : تعالي يا بنيّة ، ما هذا معك؟

قالت : قلت : يا رسول الله هذا تمر ، بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد ، وخالي عبد الله بن رواحة ، يتغديانه.

قال : هاتيه ؛ قالت : فصببته في كفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما ملأتهما ، ثم أمر بثوب فبسط له ، ثم دحا بالتمر عليه ، فتبدد فوق الثوب ، ثم قال لإنسان عنده : اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء!

فاجتمع أهل الخندق عليه ، فجعلوا يأكلون منه ، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق ، وإنه ليسقط من أطراف الثوب (٢).

وروى جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه أن صخرة اشتدت عليهم فشكوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ، ثم نضح ذلك على تلك الصخرة فانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة.

ولم يزل المسلمون يعملون فيه وينقلون التراب على أكتافهم ، حتى فرغوا منه وأحكموه ، وأقبلت قريش ومن تبعها في عشرة آلاف حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة ، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد.

وخرج رسول الله في ثلاثة آلاف حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع ، وضرب عسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فجعلوا

__________________

(١) أخرجه البخاري في «المغازي» ، باب «غزوة الخندق» (٤١٠٤).

(٢) «سيرة» ابن هشام ٢ / ٢١٨. وانظر ما رواه البخاري في «صحيحه» من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكثير الطعام في غزوة الخندق.

٧٨

في الآطام ، وخرج حييّ بن أخطب النّضريّ حتى أتى قريظة في دارها ، وسألهم أن يكونوا معهم على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فذكروا أن بينهم وبينه عقدا وحلفا ، فلم يزل بهم حتى نقضوه وأجابوه إلى حرب سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث سعد بن معاذ وجماعة معه إليه لينظروا صحة ذلك ، فأتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم عنهم ، فنالوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : لا عهد بيننا وبين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عقد ، فشاتمهم سعد وشاتموه.

ثم أقبل بمن معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه ، فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف ، وأتاهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق ، حتى قال معتّب بن قشير : كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة ، لم يكن بينهم حرب إلا النبل والرمي والحصار ، إلا فوارس من قريش ، فإنهم قاتلوا فقتلوا وقتلوا.

ولما وقفوا على الخندق قالوا : إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها ؛ ويقال : إن سلمان رضي الله تعالى عنه أشار به على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ورمي سعد بن معاذ رضي‌الله‌عنه بسهم ، فقطع أكحله ، فقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحبّ إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ؛ اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة.

واستشهد يومئذ من المسلمين ستة نفر من الأنصار ، هم : أنس بن أوس ابن عتيك ، وعبد الله بن سهل ، والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمة ، وكعب بن زيد أصابه سهم فقتله ، وسعد بن معاذ عاش حتى قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني قريظة بحكمه واستجاب دعاءه ثم قبض شهيدا ، وسيأتي ذكر وفاته.

وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف

٧٩

والشدة ، لتظاهر عدوهم عليهم ، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتى هدى الله نعيم بن مسعود أحد غطفان للإسلام لإنفاذ أمره سبحانه في نصر نبيه وإقامة دينه.

فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة.

فخرج حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديما في الجاهلية ، فقال : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودّي وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت ، لست عندنا بمتهم.

فقال لهم : إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحوّلوا عنه إلى غيره ، وإنّ قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك ، لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ، يكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه ، قالوا : لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم : قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا ، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم ، فاكتموه عني؟! قالوا : نفعل ، قال : تعلمون أن اليهود قد ندموا على ما صنعوه فيما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين ؛ قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقي حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم : نعم.

فإن بعثت إليكم يهود تطلب منكم رجلا واحدا فلا تدفعوه.

ثم خرج فأتى غطفان ، فقال لهم مثل ما قال لقريش ، فأرسلت قريش

٨٠