الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي

الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي


المحقق: حسين محمّد علي شكري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٣

الباب الرّابع

في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها

أخبرنا عبد الرحمن بن علي الحافظ في كتابه قال : حدّثنا معمر بن عبد الواحد إملاء ، قال : أنبأنا شكر بن أحمد ، أنبأنا أبو سعيد الرازي الحافظ في كتابه ، قال : قرأت على علي بن عمر بن أحمد ، قال : حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، حدّثنا سليمان بن داود ، حدّثنا أبو غزية ، حدّثنا عبد العزيز بن عمران ، عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن ثابت بن قيس ابن شماس ، عن أبيه قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غبار المدينة شفاء من الجذام» (١).

أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن أبي علي المقري ، عن أبي نعيم الحافظ ، عن أبي محمد بن الخواص ، قال : أخبرنا أبو يزيد المخزومي ، حدّثنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن عن محمد بن فضالة ، عن إبراهيم ابن الجهم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بني الحارث فرآهم روبا (٢).

فقال : «ما لكم يا بني الحارث روبا؟» ، قالوا : نعم يا رسول الله ، أصابتنا هذه الحمى ، قال : «فأين أنتم عن صعيب»؟ قالوا : يا رسول الله ما نصنع به؟ قال : «تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ، ثم يتفل عليه أحدكم

__________________

(١) رواه الديلمي في «الفردوس» ٣ / ١٠١ (٤٢٨١) ، والسيوطي في «الجامع الصغير» وعزاه لابن السني وأبي نعيم. وقال المناوي : «جاء ذلك عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما مرفوعا» ، وروى رزين عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنه قال : لما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك ، تلقاه رجال من المخلفين ، فأثاروا غبارا فخمروا ، فغطى بعض من كان معه أنفه. فأزال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللثام عن وجهه وقال : «أما علمتم أن عجوة المدينة شفاء من السم ، وغبارها شفاء من الجذام»!

(٢) روبا : يعني أصابهم الفتور بسبب الحمى.

٤١

ويقول : باسم الله تراب أرضنا بريق بعضنا شفاء لمرضنا بإذن ربّنا» ، ففعلوا فتركتهم الحمى (١).

قال أبو القاسم طاهر بن يحيى العلوي : «صعيب» وادي بطحان دون الماجشونية (٢) ، وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه وهو اليوم إذا ربا إنسان أخذ منه.

قلت : ورأيت هذه الحفرة اليوم والناس يأخذون منها وذكروا أنهم جربوه فوجدوه صحيحا ، وأخذت أنا منها أيضا.

وحدّثنا ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي سلمة : أن رجلا أتي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبرجله قرحة ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرف الحصير ، ثم وضع أصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعد ما مسها بريقه.

فقال : «باسم الله ريق بعضنا ، بتربة أرضنا ، يشفى سقيمنا بإذن ربّنا».

ثم وضع أصبعه على القرحة فكأنما حل من عقال (٣).

ما جاء في ثمرها

روى مسلم في «الصحيح» من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح ، لم يضره شيء حتى يمسي» (٤).

وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث سعد أيضا عن

__________________

(١) في البخاري (٥٧٤٥) عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول للمريض ـ وفي رواية : يقول في الرقية ـ : «تربة أرضنا ، وريقة بعضنا ، يشفى سقيمنا بإذن ربنا».

(٢) تعرف اليوم ب «المدشونية» ، وتقع على يمين القادم من قربان ، وتربة صعيب تقع في الركن الشرقي من ذلك البستان ، ولا يزال يؤخذ من هذه التربة للاستشفاء وتعرف لذلك ب «تربة الشفاء».

(٣) روى مسلم في «صحيحيه» (٢١٩٤) (٥٤) عن عائشة رضي‌الله‌عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه ، أو كانت به قرحة أو جرح ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصبعه هكذا ـ ووضع سفيان سبابته بالأرض ـ ثم رفعها : «باسم الله ، تربة أرضنا ، بريقة بعضنا ، ليشفي به سقيمنا بإذن ربنا».

(٤) أخرجه مسلم في الأطعمة ، باب فضل ثمر المدينة (٢٠٤٧).

٤٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تصبّح كلّ يوم سبع تمرات عجوة ، لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر» (١).

ما جاء في انقباض الإيمان إليها

روى البخاري في «صحيحه» من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها» (٢).

قلت : أي ينقبض إليها.

ما جاء في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها بالبركة

أخبرنا أبو محمد بن علي الحافظ في كتابه ، قال : أنبأنا يحيى بن علي القرشي ، أنبأنا حيدرة بن علي الأنطاكي ، أنبأنا أبو محمد بن أبي نصر ، أنبأنا أحمد بن سليمان بن أيوب ، حدّثنا عبد الرحمن بن عمرو ، حدّثنا عبيد بن حسان ، حدّثنا الليث بن سعد ، حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن عمرو بن سليم الزرقي ، عن عاصم بن عمرو ، عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كنا بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ائتوني بوضوء».

فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ، ثم كبر ثم قال : «اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة ، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين» (٣).

أنبأنا عبد الرحمن بن علي الفقيه ، قال : أخبرنا علي بن أبي محمد ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأطعمة ، باب العجوة (٥٤٤٥) ، ومسلم في الأطعمة ، باب فضل ثمر المدينة (٢٠٤٧ / ١٥٥).

(٢) أخرجه البخاري في فضائل المدينة ، باب الإيمان يأزر إلى المدينة (١٨٧٦) ، ومسلم في الإيمان ، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا (١٤٧).

(٣) أخرجه أحمد في «المسند» ٥ / ٣٠٩ (٢٢١٢٤) ، وأبو داود في «السنن» ٢ / ٤٨٤ (٤٢٧٠) ، والترمذي باب «فضل المدينة» ٥ / ٦٧٤ (٣٩١٤) ، وقال : «هذا حديث حسن صحيح».

٤٣

أخبرنا أحمد بن محمد البزار ، أخبرنا ابن مدرك ، حدّثنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا محمد بن عزيز ، حدثني سلامة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة».

أخرجاه في «الصحيحين» (١).

وأخرج مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : كان الناس إذا رأوا الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا أخذه قال :

«اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا ، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعاك لأهل مكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» (٢).

قال : ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك الثمر.

ما جاء في الصبر على لأوائها وشدتها

روى مسلم في «صحيحه» من حديث سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» (٣).

أنبأنا أبو محمد الشافعي قال : أخبرنا محمد بن الخليل بن فارس ، حدّثنا أبو القاسم بن أبي العلاء ، أنبأنا محمد بن عبد الله الدوري ، حدّثنا محمد ابن موسى بن إبراهيم بن فضالة ، حدّثنا أبو بكر محمد بن زبان بن حبيب ، أخبرنا محمد بن رمح ، أنبأنا الليث ، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سعيد مولى المهريّ ، أنه جاء أبا سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء من المدينة ، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل المدينة ، باب المدينة تنفي الخبث (١٨٨٥) ، ومسلم في الحج ، باب فضل المدينة (١٣٦٩).

(٢) أخرجه مسلم في الحج ، باب فضل المدينة (١٣٧٣).

(٣) في الحج ، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها (١٣٧٧ / ٤٨٣).

٤٤

وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ، فقال له : ويحك! لا آمرك بذلك ، إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«لا يصبر أحد على جهد المدينة ولأوائها فيموت ، إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما» (١).

ما جاء في ذم من رغب عنها

خرّج مسلم في «الصحيح» (٢) من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه : هلمّ إلى الرخاء! ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، والذي نفسي بيده ، لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه ، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث ، لا تقوم السّاعة حتّى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد».

ما جاء في ذم من أخاف المدينة وأهلها

أنبأنا أبو الفرج بن علي ، قال أنبأنا عبد الوهاب الحافظ ، أنبأنا أبو الحسين العاصمي ، حدّثنا أبو عمر بن مهدي ، حدّثنا عثمان بن أحمد السماك ، حدّثنا أحمد بن الخليل ، والحسن بن موسى ، قالا : حدّثنا سعيد ابن زيد ، حدّثنا عمرو بن دينار ، قال : حدّثنا سالم بن عبد الله ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يقول : اشتد الجهد بالمدينة وغلا السعر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اصبروا يا أهل المدينة وأبشروا ، فإني قد باركت على صاعكم ومدّكم ، كلوا جميعا ولا تفرقوا ، فإن طعام الرجل يكفي الاثنين ، فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا وكنت له شهيدا يوم القيامة. ومن خرج عنها رغبة عما فيها أبدل الله عزوجل فيها من هو خير منه ، ومن بغاها أو كادها بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء» (٣).

__________________

(١) في الحج ، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها (١٣٧٤ / ٤٧٧).

(٢) في الحج ، باب المدينة تنفي شرارها (١٣٨١).

(٣) في «مجمع الزوائد» للهيثمي ٣ / ٣٠٥ وعزاه للبزار ، وقال : ورجاله رجال الصحيح.

٤٥

أنبأنا أبو طاهر لاحق بن علي (قندرة) الصوفي ، أنبأنا أبو القاسم الكاتب ، أنبأنا أبو علي بن المذهب ، أنبأنا أبو بكر القطيعي قال : أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، حدثني أنس بن عياض ، حدثني يزيد بن خصيفة ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن عطاء ابن يسار ، عن السائب بن خلاد رضي‌الله‌عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» (١).

أنبأنا أبو محمد بن الشافعي ، عن أبي محمد بن طاووس ، حدّثنا سليمان ابن إبراهيم ، حدّثنا أبو عبد الله اليزدي ، حدّثنا محمد بن الحسن ، حدّثنا حامد بن محمود ، حدّثنا مكي بن إبراهيم ، حدّثنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن نسطاس ، عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أخاف أهل المدينة ؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، ومن أخاف أهلها فقد أخاف ما بين هذين ووضع يديه على جنبيه تحت ثدييه» (٢).

وخرج البخاري في «صحيحه» من حديث سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يكيد أهل المدينة أحد إلّا انماع كما ينماع الملح في الماء» (٣).

أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في كتابه قال : أنبأنا أبو البركات بن المبارك ، أنبأنا عاصم بن الحسن ، أنبأنا عبد الواحد بن محمد ، حدّثنا ابن السماك ، حدّثنا إسحاق بن يعقوب ، حدّثنا محمد بن عبادة ، حدّثنا أبو ضمرة ، عن عبد السلام بن أبي الجنوب ، عن

__________________

انتهى. قال الدكتور خليل ملا خاطر في كتابه : «فضائل المدينة» ١ / ٢١١ عقب ذكره لكلام الهيثمي ، قلت : «لا ، بل فيه ـ عندهما ـ عمرو بن دينار ، وهو ضعيف (...) ، فهو حسن. (...) ، لذا قال الحافظ في «مختصر الترغيب والترهيب» بسند جيد» انتهى منه بتصرف.

(١) أخرجه أحمد في «المسند» ٤ / ٥٥ (١٦١٢٢).

(٢) رواه الطبراني في «الكبير» ٧ / ١٤٣ (٢١٤) ، «مسند» الإمام أحمد ٣ / ٣٥٤ (١٤٤٠٤) ، «مجمع الزوائد» ٣ / ٣٠٦.

(٣) أخرجه البخاري في فضائل المدينة ، باب إثم من كاد أهل المدينة (١٨٧٧) ، ومسلم في الحج باب من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله (١٣٨٧).

٤٦

عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار رضي‌الله‌عنه.

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة مهاجري ، فيها مضجعي وفيها مبعثي ، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر ، من حفظهم كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال».

قيل للمزني : ما طينة الخبال؟ قال : عصارة أهل النار (١).

ما جاء في منع الطاعون والدجال من دخولها

وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «على أنقاب المدينة ملائكة ، لا يدخلها الطّاعون ولا الدّجّال» (٢).

وفيهما من حديث أنس رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس من بلد إلّا سيطؤه الدّجّال ، إلا مكّة والمدينة ، ليس له نقب من أنقابها إلّا عليه الملائكة صافّين يحرسونها ، فينزل السّبخة ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فيخرج إليه كلّ كافر ومنافق» (٣).

وأخرج البخاري من حديث أبي بكرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل المدينة رعب المسيح الدّجّال ، لها يومئذ سبعة أبواب على كلّ باب ملكان» (٤).

ذكر ما يؤول إليه أمرها

أنبأنا القاسم بن علي ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن ،

__________________

(١) رواه الطبراني في «الكبير» ٢٠ / ٢٠٥ (٤٧٠) ببعض اختلاف في ألفاظه ، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٣ / ٣١٠ : فيه عبد السلام بن أبي الجنوب وهو متروك ، والله أعلم. انتهى منه. والمزني : هو معقل بن يسار راوي الحديث.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل المدينة ، باب لا يدخل الدجال المدينة (١٨٨٠) ، ومسلم في الحج ، باب صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها (١٣٧٩).

(٣) أخرجه البخاري في فضائل المدينة ، باب لا يدخل الدجال المدينة (١٨٨١) ، ومسلم في الفتن ، باب قصة الجساسة (٢٩٤٣).

(٤) أخرجه البخاري في فضائل المدينة ، باب لا يدخل الدجال المدينة (١٨٧٩) ، وقع في «المطبوعتين» (في كل باب ملك) وما أثبت من «صحيح البخاري»!

٤٧

أنبأنا سهل بن بشر ، أنبأنا محمد بن الحسين ، أنبأنا أبو طاهر الذّهلي قال : حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدّثنا هشام بن عمار ، أنبأنا يحيى بن حمزة ، حدّثنا الزّبيدي ، حدّثنا الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لتتركن المدينة على خير ما كانت مدلاة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي ـ يريد عوافي السباع والطير ـ وآخر من يحشر منها راعيان من مزينة يردان المدينة ينعقان بغنمها فيجدانها وحشا ، حتى إذا بلغا ثنيّة الوداع ، خرّا على وجوههما» ، أخرجه البخاري في «صحيحه» (١).

تضعيف الأعمال بها

أخبرنا عبد العزيز بن محمود بن الأخضر ، قال : أخبرنا عبد الأول بن عيسى بن شعيب السّجزيّ ، قال ، أخبرنا محمد بن عبد العزيز الفارسي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، حدّثنا ابن صاعد ، حدّثنا هارون بن موسى ، حدّثنا عمر بن أبي بكر الموصلي ، عن القاسم بن عبد الله ، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها».

وبالإسناد عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها» (٢).

فضيلة الموت بها

أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال : أنبأنا يحيى بن علي بن الطّراح ، قال : أنبأنا محمد بن أحمد المعدل ، حدّثنا محمد بن عبد الله الدقاق ، حدّثنا الصلت بن مسعود ، حدّثنا سفيان بن موسى ،

__________________

(١) في فضائل المدينة ، باب من رغب عن المدينة (١٨٧٤) ، ومسلم في الحج ، باب في المدينة حين يتركها أهلها (١٣٨٩).

(٢) «الشعب» للبيهقي ٣ / ٤٨٧ (٤١٤٨) ، الطبراني في «الكبير» ١ / ٣٧٢ (١١٤٤) ، «مجمع الزوائد» للهيثمي ٣ / ٣٠١.

٤٨

حدّثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت ، فإنه من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة» (١).

__________________

(١) «الشعب» للبيهقي ٣ / ٤٩٨ (٤١٨٦) ، وابن حبان في «صحيحه» ٩ / ٥٧ (٣٧٤١) ، والترمذي ٥ / ٦٧٦ (٣٩١٧) وقال : هذا حديث حسن من حديث أيوب. اه.

٤٩
٥٠

الباب الخامس

في ذكر تحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

للمدينة وذكر حدود حرمها

في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن إبراهيم حرّم مكّة ودعا لأهلها ، وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة ، وإنّي دعوت في صاعها ومدّها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» (١).

وذكر أبو داود السجستاني في «السنن» من حديث علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور ، فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، لا يختلى خلاها ، ولا ينفّر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أنشد بها ، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلّا أن يعلف رجل بعيره» (٢).

وفي «الصحيحين» من حديث علي رضي‌الله‌عنه أيضا ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» (٣).

قال أبو عبيد القاسم بن سلام : عير وثور جبلان ، وأهل المدينة لا

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع ، باب بركة صاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومدهم (٢١٢٩) ، ومسلم في الحج ، باب فضل المدينة (١٣٦٠).

(٢) باب «في تحريم المدينة» ٢ / ٥٢٩ (٢٠٣٤) / ٥٣٢ (٢٠٥).

(٣) أخرجه البخاري في فضائل المدينة ، باب حرم المدينة (١٨٧٠) ، ومسلم في الحج ، باب فضل المدينة (١٣٦٦).

٥١

يعرفون بها جبلا يقال له : ثور ، إنما ثور بمكة ، فنرى أن الحديث أصله ما بين عير إلى أحد (١).

قلت : بل يعرف أهل المدينة جبل ثور ، وهو جبل صغير وراء أحد ولا ينكرونه.

وفي «السنن» (٢) لأبي داود من حديث عدي بن زيد قال : حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا ، لا يخبط شجرها ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل.

وفيها : أن سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلبه ثيابه ، فجاءوا إليه فكلموه فيه.

فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم هذا الحرم ، وقال : «من أخذ الصيد فيه فليسلبه ثيابه» ، فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه (٣).

وفيها : عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يخبط شجرها ولا يعضد ولكن يهشّ هشا رفيقا» (٤).

أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الفقيه ، أخبرنا عبد الله بن رفاعة ، أنبأنا علي بن الحسن الشافعي ، أخبرنا شعيب بن عبد الله ، حدّثنا أحمد بن الحسن الرازي ، حدّثنا أبو الزنباع ، حدّثنا عمرو بن خالد ، حدّثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمر ، عن

__________________

(١) قال الفيروز آبادي في «المغانم المطابة» ١٤٢ / ب : «ولا أدري كيف وقعت المسارعة من هؤلاء الأعلام إلى إثبات وهم في الحديث الصحيح المتفق على صحته بمجرد دعوى أن أهل المدينة لا يعرفون بها جبلا يسمى «ثورا» ، وغاية مثال هؤلاء القائلين أنهم سألوا جماعة من أهل المدينة ، ـ ولا يلزم أن يكون كلهم ـ بعد مضي أعصار متطاولة وسنين متكاثرة ، فلم يعرفوه. والعلم القطعي حاصل من طريق العيان المشاهد بطروق التغير والاختلاف والنسيان على أسماء الأمكنة والبلدان ... الخ». اه منه.

وانظر بيان ذلك في «وفاء الوفا» ١ / ٩٢ وما بعدها.

(٢) باب «تحريم المدينة» ٢ / ٥٣٢ (٢٠٣٦).

(٣) باب : «تحريم المدينة» ٢ / ٥٣٢ (٢٠٣٧) وفيه اختلاف بعض الألفاظ.

(٤) باب «تحريم المدينة» ٢ / ٥٣٣ (٢٠٣٩) ، وفيه : «لا يخبط حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...».

٥٢

رافع بن خديج رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : وذكر مكّة.

فقال : «إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لا بتيها ـ يريد المدينة ـ».

وفي «صحيح البخاري» في حديث الهجرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمسلمين : «إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان» (١).

أنبأنا القاسم بن علي ، قال : أنبأنا محمد بن إبراهيم ، أنبأنا سهل بن بشر ، أنبأنا علي بن منير ، أنبأنا الذهلي ، أنبأنا موسى بن هارون ، حدّثنا إبراهيم بن المنذر ، حدّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت ، حدثني أبو بكر بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، عن جده ، عن كعب بن مالك رضي‌الله‌عنه.

قال : حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشجر بالمدينة بريدا في بريد ، وأرسلني فأعلمت على الحرم على شرف ذات الجيش ، وعلى مشيرب ، وعلى أشراف المجتهر ، وعلى تيم (٢).

قلت : واختلف العلماء في صيد حرم المدينة وشجره؟ فقال مالك والشافعي وأحمد رضي‌الله‌عنهم : إنه إنه محرم. وقال أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه : ليس بمحرم.

واختلفت الرواية عن أحمد رضي‌الله‌عنه ، هل يضمن صيدها وشجرها بالجزاء؟ فروي عنه أنه لا جزاء فيه ، وبه قال مالك رضي‌الله‌عنه. وروي أنه يضمن ، وللشافعي رضي‌الله‌عنه قولان كالروايتين.

وإذا قلنا بضمانه ؛ فجزاؤه سلب القاتل يتملكه الذي يسلبه. ومن أدخل إليها صيدا لم يجب عليه رفع يديه عنه ، ويجوز له ذبحه وأكله ، ويجوز أن يؤخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للرحل والوسائد ، ومن حشيشها ما يحتاج إليه للعلف ، بخلاف مكة!

__________________

(١) في المناقب ، باب هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٩٠٥) ، ورواية الحديث هنا بالمعنى.

(٢) «مجمع الزوائد» ٣ / ٣٠٢ ، وعزاه للطبراني في «الأوسط» ، وقال : وفي طرقه عبد العزيز بن عمران ، وهو ضعيف. اه.

٥٣
٥٤

الباب السّادس

في ذكر وادي العقيق وفضله

روى البخاري في «الصحيح» من حديث عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي العقيق يقول : «أتاني الليلة آت من ربي عزوجل ، فقال : صلّ في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجّة» (١).

وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ينيخ بالوادي يتحرّى معرّس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول : هو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي ، بينه وبين الطريق ، وسط من ذلك (٢).

أنبأنا يحيى بن أسعد الخباز قال : كتب إليّ أبو علي المقري ، عن أحمد ابن عبد الله الأصبهاني قال : أنبأنا جعفر بن محمد الزاهد إجازة ، قال : أنبأنا أبو يزيد المخزومي ، حدّثنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن ، عن عمر بن عثمان بن عمر ، حدّثنا موسى ، عن أيوب بن سلمة ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العقيق ، ثم رجع فقال : «يا عائشة ، جئنا من هذا العقيق فما ألين موطئه وأعذب ماءه» قالت : يا رسول الله أفلا ننقل إليه؟ فقال : «كيف وقد ابتنى الناس؟!».

قالت : ووجد على قبر آدمي عند جمّاء أم خالد بالعقيق حجر مكتوب : أنا عبد الله ورسول رسول الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب.

ووجد حجر آخر على قبر أيضا عليه مكتوب : أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل هذه القرية (٣).

قلت : وابتنى بعض الصحابة بالعقيق ونزلوه ، وكذلك جماعة من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الحج ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العقيق واد مبارك (١٥٣٤).

(٢) أخرجه البخاري في الحج ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العقيق واد مبارك (١٥٣٥) ، ومسلم في الحج ، باب التعريس بذي الحلفة والصلاة بها (١٣٤٦).

(٣) «تاريخ المدينة» لابن شبة ١ / ١٤٩ ، «وفاء الوفا» ٣ / ١٠٦٤.

٥٥

التابعين ومن بعدهم ، وكانت فيه القصور المشيدة والآبار العذبة.

ولأهلها أخبار مستحسنة في الكتب ، وأشعار رائقة (١).

ولما بنى عروة بن الزبير رضي‌الله‌عنه قصره بالعقيق ونزله قيل له : جفوت عن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!! فقال : إني رأيت مساجدهم لاهية ، وأسواقهم لاغية ، والفاحشة في فجاجهم عالية ، فكان بعدي مما هنالك عما هم فيه عافية (٢).

قال أهل السير : كانت بنو أمية تجري في الديوان رزقا على من يقوم على حوض مروان بن الحكم بالعقيق في مصلحته ، وفيما يصلح بئر المغيرة من علقها ودلائها.

قالوا : ومرّ هشام بن عبد الملك وهو يريد المدينة بجرر هشام بن إسماعيل بالرابغ ، فقيل له : يا أمير المؤمنين هذه جرر جدك هشام ، فأمر بإصلاحها وما يقيمها من بيت المال ، فكانت توضع هناك جرار أربع يسقى منهن الناس.

قالوا : وولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العقيق لرجل اسمه هيصم المزني ، ولم تزل الولاة على المدينة يولون واليا من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى كان زمان داود ابن عيسى ، فتركه في سنة ثمان وتسعين ومائة.

قالوا : ومات سعيد بن زيد ، وسعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنهما ، وهما من العشرة بالعقيق ، وحملا إلى المدينة فدفنا بها.

قلت : ووادي العقيق اليوم ليس به ساكن ، وفيه بقايا بنيان خراب ، وآثار تجد النفس برؤيتها أنسا كما قال أبو تمام :

ما ربع ميّة معمورا يطيف به

غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب

ولا الخدود وإن أدمين من خجل

أشهى إلى ناظري من خدّها التّرب

__________________

(١) انظر ذلك في : «أخبار الوادي المبارك» للأستاذ الفاضل محمد محمد حسن شراب.

(٢) انظر : «سير أعلام النبلاء» ٤ / ٤٢٧.

٥٦

الباب السّابع

في ذكر آبار المدينة وفضلها

اعلم أنه قد نقل أهل السير أسماء آبار بالمدينة شرب منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصق فيها ، إلا أن أكثرها لا يعرف اليوم فلا حاجة إلى ذكرها ، ونحن نذكر الآبار التي هي اليوم موجودة معروفة على ما يذكر أهل المدينة والعهدة عليهم في ذلك ، ونذكر ما جاء في فضلها :

بئر حاء

روى البخاري في «الصحيح» من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بئر حاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب.

قال أنس : فلما نزلت هذه الآية : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! إن الله عزوجل يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، وإنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حاء ، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرّها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بخ ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» ، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (١).

قلت : وهذه البئر اليوم وسط حديقة صغيرة جدا وعندها نخلات ويزرع حولها ، وعندها بيت مبني على علو من الأرض ، وهي قريبة من

__________________

(١) أخرجه البخاري في التفسير ، باب (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٤٥٥٤) ، ومسلم في الزكاة ، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد (٩٩٨).

٥٧

سور المدينة ، وهي ملك لبعض أهل المدينة من النويريين (١) وماؤها عذب حلو ، وذرعتها فكان طولها عشرة أذرع ونصف ماء ، والباقي بنيان ، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر ، وهي مقابلة المسجد كما ذكرت في الحديث.

بئر أريس

روى مسلم في «صحيحه» (٢) من حديث أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه ؛ أنه توضأ في بيته ثمّ خرج ، فقال : لألزمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأكوننّ معه يومي هذا. قال : فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : خرج وجه هاهنا ، قال : فخرجت على أثره أسأل عنه ، حتى دخل بئر أريس.

قال : فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاجته وتوضأ ، فقمت إليه ، فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قفّها ، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر ، قال : فسلمت عليه ، ثم انصرفت فجلست عند الباب ، فقلت : لأكوننّ بواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم.

فجاء أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه فدفع الباب ، فقلت : من هذا؟ فقال : أبو بكر. فقلت : على رسلك ، قال : ثم ذهبت فقلت : يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن ، فقال : «ائذن له وبشّره بالجنة» ، قال : فأقبلت حتى قلت لأبي بكر : ادخل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبشّرك بالجنّة ، قال : فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه في القفّ ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكشف عن ساقيه.

ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني ، فقلت : إن يرد الله بفلان خيرا ـ يريد أخاه ـ يأت به ، فإذا إنسان يحرك الباب فقلت : من هذا؟ فقال : عمر بن الخطاب ، فقلت : على رسلك ، ثم جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلمت عليه وقلت : هذا عمر بن الخطاب يستأذن فقال : «ائذن له وبشّره بالجنة» ، فجئت عمر فقلت : ادخل ويبشّرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة ، قال : فدخل فجلس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القفّ عن يساره ودلى رجليه في البئر.

__________________

(١) قال المطري في «التعريف» : «وتعرف الآن بالنويرية ، اشتراها بعض النساء النويريين ...» اه.

(٢) في فضائل الصحابة ، باب «من فضائل عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه» (٢٤٠٣).

٥٨

ثم رجعت فجلست ، فقلت : إن يرد الله بفلان خيرا ـ يعني أخاه ـ يأت به ، فجاء إنسان فحرك الباب ، فقلت : من هذا؟ فقال : عثمان بن عفان ، فقلت : على رسلك ، قال : وجئت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : «ائذن له وبشّره بالجنة مع بلوى تصيبه» ، قال : فجئت وقلت : ادخل ويبشرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك ، قال : فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاههم من الشق الآخر.

وقد أخرج البخاري في «صحيحه» (١) هذا الحديث ، فزاد فيه ألفاظا ونقص ، وقال : فدخل عثمان فلم يجد معهم مجلسا فتحول حتى جاء مقابلهم عن شقة البئر ، فكشف عن ساقيه ثم دلاهما في البئر.

وقال مسلم (٢) : قال سعيد بن المسيب : فتأولت ذلك قبورهم اجتمعت هاهنا وانفرد عثمان (٣).

وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما أن رسول الله عليه‌السلام اتخذ خاتما من ورق ـ أي فضة ـ وكان في يده ، ثم كان في يد أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، ثم كان بعد في يد عمر رضي‌الله‌عنه ، ثم كان في يد عثمان رضي‌الله‌عنه حتى وقع منه في بئر أريس (٤).

وروى البخاري في «الصحيح» من حديث أنس رضي‌الله‌عنه قال : «كان خاتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يده ، وفي يد أبي بكر بعده ، وفي يد عمر بعد أبي بكر. فلما كان عثمان جلس على بئر أريس فأخرج الخاتم ، فجعل يعبث به فسقط ، قال : فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ننزح البئر ، فلم نجده» (٥).

قلت : وهذه البئر مقابلة مسجد قباء ، وعندها مزارع ويستقى منها ، وماؤها عذب ، وذرعتها فكان طولها : أربعة عشر ذراعا وشبرا ، منها

__________________

(١) في فضائل الصحابة باب «مناقب عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه» (٣٦٩٥).

(٢) في المطبوعتين : «البخاري» ، والصواب ما أثبت.

(٣) صحيح مسلم (٢٤٠٣).

(٤) أخرجه البخاري في اللباس ، باب نقش الخاتم (٥٨٧٣) ، ومسلم في اللباس والزينة ، باب تحريم خاتم الذهب على الرجال (٢٠٩١).

(٥) أخرجه البخاري في اللباس ، باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر (٥٨٧٩).

٥٩

ذراعان ونصف ماء ، وعرضها خمسة أذرع ، وطول قفّها الذي جلس عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحباه ثلاثة أذرع تشفّ كفّا ، والبئر تحت أطم عال خراب من حجارة.

بئر بضاعة

روى أبو داود في «السنن» (١) من حديث أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقال له : إنه يستقى لك من بئر بضاعة ، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعذر الناس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الماء طهور لا ينجسه شيء».

أنبأنا أبو القاسم الصموت ، عن الحسن بن أحمد ، عن أحمد بن عبد الله ، عن جعفر بن محمد ، قال : أنبأنا أبو يزيد المخزومي ، حدّثنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن ، عن حاتم بن إسماعيل ، عن محمد بن أبي يحيى ، عن أمه ، قالت : دخلنا على سهل بن سعد في نسوة ، فقال : لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهتن ذلك ، وقد والله سقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي منها (٢).

وحدّثنا محمد بن الحسن ، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصق في بئر بضاعة (٣).

وحدّثنا محمد بن الحسن ، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، عن مالك ابن حمزة بن أبي أسيد ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لبئر بضاعة (٤).

قال أبو داود السجستاني في «السنن» (٥) : سمعت ـ والله ـ قتيبة بن

__________________

(١) باب «ما جاء في بئر بضاعة» ١ / ٥٤ (٦٧) ، ورواه الترمذي ١ / ٩٥ (٦٦) ، وأحمد في «المسند» ٣ / ٨٦ (١١٤٠٦).

(٢) «تاريخ المدينة» لابن شبة ١ / ١٥٧ ، «مجمع الزوائد» ٤ / ١٢ وعزاه لأحمد وأبي يعلى والطبراني في «الكبير» وقال : ورجاله ثقات. اه.

(٣) «تاريخ المدينة» لابن شبة ١ / ١٥٧ ، الطبراني «الكبير» ٦ / ١٢٢ (٥٧٠٤) ، «مجمع الزوائد» ٤ / ١٢ ، وقال : وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل ، وهو ضعيف.

(٤) «مجمع الزوائد» ٤ / ١٢ ، وعزاه للطبراني في «الكبير» وقال : رجاله ثقات.

(٥) باب «ما جاء في بئر بضاعة» ١ / ٥٤ (٦٧).

٦٠