الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي

الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي


المحقق: حسين محمّد علي شكري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٣

ترجمة المؤلف (١)

اسمه : محمد بن محمود بن حسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي ، أبو عبد الله.

لقبه وكنيته : محب الدين ابن النجار.

نشأته وتعلمه : ولد ـ رحمه‌الله ـ سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ، وأول سماعه وهو ابن عشر سنين ، وطلب بنفسه وهو ابن خمس عشرة سنة ، فسمع من أبي الفرج عبد المنعم بن كليب ، ويحيى بن بوش ، وذاكر بن كامل ، والمبارك بن المعطوش ، وأبي الفرج بن الجوزي. وهؤلاء غالب من يروي عنهم في مؤلفه هذا.

كما سمع بالشام ومصر والحجاز وأصبهان وحران ومرو وهراة ونيسابور في رحلة استغرقت سبعة وعشرين عاما ، فكتب عمن دب ودرج من عال ونازل ، ومرفوع وأثر ، ونظم ونثر حتى صار المشار إليه ببلده وحصل وجمع.

وقد اشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ وأربعمائة امرأة.

قال عن نفسه : «قرأت المطولات ، ورأيت الحفاظ ، وكنت كثير التتبع لأخبار فضلاء بغداد ومن دخلها» ، ولعل ذلك مما جعله يذيل على كتاب الخطيب البغدادي «تاريخ بغداد».

مؤلفاته :

القمر المنير في المسند الكبير.

كنز الإمام في السنن والأحكام.

__________________

(١) مصادر الترجمة : «سير أعلام النبلاء» ٢٣ / ١٣١ ، «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة ١ / ٤٥٤ (٤٢٤) ، «طبقات الشافعية» للسبكي ٨ / ٩٨ (١٠٩٣) ، «طبقات الشافعية» للإسنوي ٢ / ٥٠٢ (١١٩٩).

٢١

ـ المؤتلف والمختلف.

المتفق والمفترق.

انتساب المحدثين إلى الآباء والبلدان.

جنة الناظرين في معرفة التابعين.

العقد الفائق.

وفاته : توفي ـ رحمه‌الله ـ في خامس شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

٢٢

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أخبرنا الفقيه الأجل الإمام العالم الشريف العدل ؛ تاج الدين علي بن أبي العباس أحمد بن الشيخ الأجل أبي محمد عبد المحسن بقراءتي عليه.

أخبرنا الشيخ الفقيه الأجل أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار بقراءة أبي عليه ، وقراءة ابن الوليد عليه وأنا أسمع ، قال :

الحمد لله حمدا يقتضي من إحسانه المزيد ، ويبلغنا من رضوانه ما نؤمل ونريد ، والصلاة والسلام على من هدانا إلى المنهج السديد ، محمد الذي هو على أمته شهيد ، وعلى آله وأصحابه ذوي المجد المشيد ، ما سار راكب في البيد.

وبعد ؛ فإني لما دخلت مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسعدت بزيارته أقمت بها ، واجتمعت بجماعة من أهل الصلاح والعلم والفضل من المجاورين بها ، وفقهم الله وإيانا لمرضاته ، فسألوني عن «فضائل المدينة وأخبارها» فأخبرتهم بما تعلق في خاطري من ذلك ، فسألوني إثباته في أوراق ، فاعتذرت إليهم بأن الحفظ قد يزيد وينقص ، ولو كانت كتبي حاضرة كنت أجمع كتابا في ذلك شافيا لما في النفس ، فألحوا عليّ في ذلك وقالوا : تحصيل اليسير ، خير من فوات الكثير! وهذه البلدة مع شرفها قد خلت ممن يعرف من أخبارها شيئا ، ونحن نحب أن يكون لك بها أثر صالح تذكر به!

فأجبتهم إلى ذلك رجاء بركتهم ، واغتناما لامتثال أمرهم ، وقضاء لحق جوارهم وصحبتهم ، وطلبا لما عند الله تعالى من الثواب بنشر فضائل دار الهجرة ومنبع الوحي ، وذكر أخبارها والترغيب في سكناها ، والحث على زيارة المدفون بها ، صلوات الله عليه وسلامه ، واستخرت الله سبحانه وتعالى ، وأثبت في هذا الكتاب ما تيسر من ذلك بعون الله تعالى وحسن توفيقه.

٢٣

ثم إني ذكرت أكثره بغير إسناد لتعذر حضور أصولي .. وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك لوجهه خالصا وإليه مقربا ، ولنا نافعا في الدنيا والآخرة ، إنه على ما يشاء قدير.

وقد قسمته ثمانية عشر بابا ، والله سبحانه الموفق للصواب :

الباب الأول : في ذكر أسماء المدينة وأول ساكنيها.

الباب الثاني : في ذكر فتح المدينة.

الباب الثالث : في ذكر هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إليها.

الباب الرابع : في ذكر فضائلها.

الباب الخامس : في ذكر تحريمها وحدود حرمها.

الباب السادس : في ذكر وادي العقيق وفضله.

الباب السابع : في ذكر آبار المدينة وفضلها.

الباب الثامن : في ذكر جبل أحد وفضله وفضائل الشهداء به.

الباب التاسع : في ذكر إجلاء بني النضير من المدينة.

الباب العاشر : في ذكر حفر الخندق حول المدينة.

الباب الحادي عشر : في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة.

الباب الثاني عشر : في ذكر مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفضله.

الباب الثالث عشر : في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها.

الباب الرابع عشر : في ذكر مسجد الضرار وهدمه.

الباب الخامس عشر : في ذكر وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه رضي‌الله‌عنهما.

الباب السادس عشر : في ذكر فضل زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الباب السابع عشر : في ذكر البقيع وفضله.

الباب الثامن عشر : في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين من بعدهم.

ومن الله نستمد الهداية والسداد ، إلى سبل الحق والرشاد.

٢٤

الباب الأول

في ذكر أسماء المدينة

وذكر أول ساكنيها

أنبأنا ذاكر بن كامل قال : كتب إليّ أبو علي الحداد أن أبا نعيم الحافظ أخبره إجازة ، عن أبي محمد الخلدي قال : أنبأنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي ، حدّثنا الزبير بن بكار ، قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن زبالة ، عن إبراهيم بن أبي يحيى.

قال : للمدينة في التوراة أحد عشر اسما : المدينة ، وطيبة ، وطابة ، والمسكينة ، وجابرة ، والمجبورة ، والمرحومة ، والعذراء ، والمحبة ، والمحبوبة ، والقاصمة.

وقال ابن زبالة : عن عبد العزيز بن محمد بن موسى بن عقبة ، عن عطاء بن مروان ، عن أبيه ، عن كعب.

قال : نجد في كتاب الله الذي نزل على موسى عليه‌السلام أن الله تعالى قال للمدينة : «يا طيبة ، يا طابة ، يا مسكينة ، لا تقبلي الكنوز ، ارفعي أجاجيرك على أجاجير القرى».

قال عبد العزيز بن محمد : وبلغني أن لها في التوراة أربعين اسما.

وفي «صحيح مسلم» من حديث جابر بن سمرة رضي‌الله‌عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى سمى المدينة طابة» (١).

وفي «صحيح مسلم» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هي المدينة يثرب» (٢).

__________________

(١) أخرجه مسلم في الحج ، باب المدينة تنفي شرارها (١٣٨٥).

(٢) أخرجه البخاري في المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام (٣٦٢٢) ، ومسلم في الرؤيا ، باب رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٢٧٢).

٢٥

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : يثرب اسم أرض ، ومدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ناحية منها.

وقال ابن زبالة : كانت يثرب أم قرى المدينة ، وهي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف ، وما بين المال الذي يقال له : البرني إلى زبالة.

وكانت زهرة من أعظم قرى المدينة ، قيل : وكان فيها ثلاثمائة صائغ من اليهود.

وقيل : إن تبّعا لما قدم المدينة بعث رائدا ينظر إلى مزارع المدينة ، فأتاه فقال : قد نظرت ؛ فأما قناة فحب ولا تبن ، وأما الحرار فلا حب ولا تبن ، وأما الجرف فالحب والتبن.

قال أهل السير : كان أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهم : صعل ، وفالج. فغزاهم داود النبي عليه‌السلام ، فأخذ منهم مائة ألف عذراء ، قال : وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا ، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل.

قالوا : وكانت العماليق قد انتشروا في البلاد ، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله ، وعتوا عتوا كبيرا ، فبعث إليهم موسى ـ عليه‌السلام ـ جندا من بني إسرائيل فقتلوهم بالحجاز وأفنوهم.

يروى عن زيد بن أسلم أنه قال : بلغني أن ضبعا رؤيت (١) هي وأولادها رابضة في حجاج (٢) عين رجل من العماليق.

وقال : لقد كان في ذلك الزمان تمضي أربعمائة سنة وما يسمع بجنازة!

ذكر سكنى اليهود الحجاز

قال : وإنما كان سبب سكنى اليهود بلاد الحجاز أن موسى عليه‌السلام لما أظهره الله على فرعون وأهلكه وجنوده ، وطئ الشام وأهلك من بها ، وبعث بعثا من اليهود إلى الحجاز وأمرهم ألا يستبقوا من العماليق

__________________

(١) كذا في «الوفاء» للسمهودي ، وفي «المغانم المطابة» للفيروز ابادي ، وفي الأصل «ربيت».

(٢) الحجاج ، بكسر أوله وفتحه : العظم الذي ينبت عليه الحاجب.

٢٦

أحدا بلغ الحلم ، فقدموا عليهم فقتلوهم وقتلوا ملكهم «نبنما». وكان يقال له : الأرقم بن أبي الأرقم ، وأصابوا ابنا له شابا من أحسن الناس ، فضنوا به عن القتل ، وقالوا : نستحييه حتى نقدم به على نبي الله موسى عليه‌السلام فيرى فيه رأيه ، فأقبلوا وهو معهم ، وقبض الله موسى قبل قدومهم.

فلما سمع الناس بقدومهم تلقوهم ، فسألوهم عن أمرهم ، فأخبروهم بما فتح الله عليهم وقالوا : لم نستبق منهم أحدا إلا هذا الفتى ، فإننا لم نر شابا أحسن منه فاستبقيناه حتى نقدم به على [نبي الله](١) موسى عليه‌السلام فيرى فيه رأيه.

فقالت لهم بنو إسرائيل : إن هذه لمعصية لمخالفتكم أمر نبيكم ، لا والله لا تدخلون علينا بلادنا ، وحالوا بينهم وبين الشام ، فقال الجيش : ما بلد إذ منعتم بلدكم خير من البلد الذي خرجتم منه.

وكانت الحجاز أشجر بلاد الله وأظهره ماء.

قال : وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق.

وقال آخرون : بل كان علماؤهم يجدون في التوراة أن نبيا يهاجر من العرب إلى بلد فيه نخل بين حرتين ، فأقبلوا من الشام يطلبون صفة البلد ؛ فنزل طائفة تيماء وتوطنوا نخلا ، ومضى طائفة فلما رأوا خيبر ظنوا أنها البلدة التي يهاجر إليها ، فأقام بعضهم بها ، ومضى أكثرهم وأشرفهم فلما رأوا يثرب سبخة وحرة ونخلا قالوا : هذا البلد الذي يكون له مهاجر النبي إليها ، فنزلوه ، فنزل النضير بمن معه بطحان فنزلوا منها حيث شاءوا وكان جميعهم بزهرة ، وهي محل بين الحرة والسافلة مما يلي القف ، وكانت لهم الأموال بالسافلة ، ونزل جمهورهم بمكان يقال له : يثرب بمجتمع السيول ـ سيل بطحان والعقيق ، وسيل قناة ـ مما يلي زغابة.

قال : وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هدل وعمرو أبناء الخزرج بن الصريح بن التومان بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوي بن خير بن النحام بن تنحوم بن عازر بن عذري بن هارون بن عمران عليه‌السلام.

والنضر بن النحام بن الخزرج بن الصريح بعد هؤلاء ، فتبعوا آثارهم

__________________

(١) ما بين المعكوفتين ، زيادة من «الوفاء» للسمهودي.

٢٧

فنزلوا العالية على واديين يقال لهما : مذينيب ومهزور ، فنزلت بنو النضير على مذينيب واتخذوا عليه الأموال ، ونزل قريظة وهدل على مهزور واتخذوا عليه الأموال. وكانوا أول من احتفر بها الآبار وغرس الأموال ، وابتنوا الآطام والمنازل ، قالوا : فجميع ما بنى اليهود بالمدينة تسعة وخمسون أطما.

قال عبد العزيز بن عمران : وقد نزل المدينة قبل الأوس والخزرج أحياء من العرب ، منهم أهل التهمة تفرقوا جانب بلقيز إلى المدينة ، فنزلت ما بين مسجد الفتح إلى يثرب في الوطاء ، وجعلت الجبل بينها وبين المدينة ، فأبرت بها الآبار والمزارع.

ذكر نزول أحياء من العرب على يهود

قالوا : وكان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل ، وكان قد نزلها عليهم أحياء من العرب فكانوا معهم ، وابتنوا الآطام والمنازل قبل نزول الأوس والخزرج ؛ وهم : بنو أنيف حي من بلي ، ويقال : إنهم من بقية العماليق ، وبنو مزيد حي من بلي ، وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان ، وبنو الجذماء حي من اليمن.

قالوا : وكانت الآطام عز أهل المدينة ومنعتهم التي يتحصنون فيها من عدوهم ، فكان منها ما يعرف اسمه ومنها ما لا يعرف اسمه ، ومنها ما يعرف باسم سيده ، ومنها ما لا يدرى لمن كان ، ومنها ما ذكر في الشعر ، ومنها ما لم يذكر ، فكان ما بني هناك من الآطام للعرب بالمدينة ثلاثة عشر أطما.

ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة

قالوا : فلم تزل اليهود الغالبة بها الظاهرة عليها حتى كان من أمر سيل العرم ما كان وما قص الله في كتابه ، وذلك أن أهل مأرب وهي أرض سبأ كانوا آمنين في بلادهم ، تخرج المرأة بمغزلها لا تتزود شيئا ، تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام.

فقالوا : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) [سبأ : ١٩].

٢٨

فسلط الله عليهم العرم وهو جرذ ، فنقب عليهم السد حتى دخل السيل عليهم فأهلكهم ، وتمزق من سلّم منهم في البلاد ، وكان السدّ فرسخا في فرسخ ، كان بناه لقمان الأكبر العادي ، بناه للدهر على زعمه ، وكان يجتمع إليه مياه أهل اليمن من مسيرة شهر.

قالوا : فكانوا في عيد لهم ، وكان فيهم هتام بن ربيعة بن عمرو بن عامر ، وكان كاهنا غيشوما فقالت له بنو عمرو : قل. قال : قولي لكم وعليكم! قالوا : نعم ، فقال :

يا رب من ورّث عاد

اجعل مأرب بيننا فانعما

صحا صحا غيرا وفجا اقتما

منها لأن الركب فيها أظلما

فأوحش عليه الليل أزرما

فكان تمزيقهم.

ويروى أن طريفة بنت ربيعة الكاهنة ، امرأة عمرو بن عامر بن ثعلبة ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث قالت له : إني أتيت في المنام فقيل لي : ربّ أمر ذاب ، شديد الذهاب ، بعيد الإياب ، من واد إلى واد ، وبلاد إلى بلاد ، كدأب ثمود وعاد! ثم مكثت.

ثم قالت : أتيت الليلة فقيل لي : شيخ هرم ، وجعل لزم ، ورجل قرم ، ودهر ازم ، وشر لزم ، يا ويح أهل العرم.

ثم قالت : أتيت الليلة ، فقيل لي : يا طريفة لكل اجتماع فراق ، فلا رجوع ولا تلاق ، من أفق إلى آفاق.

ثم قالت : أتيت الليلة في النوم ، فقيل لي : ربّ إلب موالب ، وصامت وخاطب ، بعد هلاك مارب.

قالت : ثم أتيت في النوم ، فقيل لي : لكل شيء سبب ، الأغبش ذو الذنب (١) ، الأشعر الأزب ، فنقب بين المقر والقرب ، ليس من كأس ذهب.

فخرج عمرو وامرأته طريفة فدخلا العرم ، فإذا هما بجرذ يحفر في أصله ، ويقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلا.

__________________

(١) في الخطبة : «الأيمن ذو الربب» ، وفي المطبوعة «ب» : «إلا عين ذي الريب».

٢٩

فقال : هذا والله البيان ، وكتم أمره وما يريده ، وقال لابن أخيه وداعة ابن عمرو : إني سأشتمك في المجلس فالطمني ، فلطمه ، فقال عمرو : والله لا أسكن بلدا لطمت فيه أبدا. من يشتري مني أموالي؟ قال : فوثبوا واغتنموا غضبته وتزايدوا في ماله فباعه.

فلما أراد الظعن قالت طريفة : من كان يريد خمرا وخميرا ، وبرا وشعيرا ، وذهبا وحريرا ؛ فلينزل بصرى وسديرا.

ومن أراد الراسيات في الوحل ، المطعمات في المحل ؛ فليلج يثرب ذات النخل.

ومن كان ذا جمل شديد ، وهم بعيد ؛ فليلحق بأرض عمان. فلحقت منهم فرقة بالشام بقود طمر بن عمرو وهو غسان ، ولحق عمران بن عامر وهم الأزد بأرض عمان وبها يومئذ شترن ، ولحقت خزاعة بتهامة ، ولحقت بنو عمرو بن ثعلبة وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بيثرب وهي المدينة.

قالوا : وكان ممن بقي بالمدينة من اليهود حين نزلت عليهم الأوس والخزرج ، بنو قريظة وبنو النضير وبنو محمحم وبنو زعوراء وبنو قينقاع وبنو حجر وبنو ثعلبة ، وأهل زهرة ، وأهل زبالة ، وأهل يثرب ، وبنو القصيص وبنو ناغصة وبنو ماسكة ، وبنو القمعة ، وبنو زيد اللات ، وهم رهط عبد الله ، وبنو عكوة وبنو مرانة.

قالوا : فأقامت الأوس والخزرج بالمدينة ، ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود ، ووجدوا العدد والقوة معهم فمكثت الأوس والخزرج معهم ما شاء الله.

ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم وبينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض ويمنعون به من سواهم ، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا. فلم يزالوا على ذلك زمنا طويلا وأثرت الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد.

فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم ، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم ، وكانت قريظة

٣٠

والنضير أعدوا وأكثروا ، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم وهم خائفون أن تحتلهم يهود حتى نجم منهم مالك بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج.

ذكر قتل يهود

واستيلاء الأوس والخزرج على المدينة

قالوا : ولما نجم مالك بن العجلان ، سوّده الحيان عليهما فبعث هو وجماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم حالهم ، ويشكون إليهم غلبة اليهود عليهم ، وكان رسولهم الرمق بن زيد بن امرئ القيس ، أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج وكان قبيحا دميما شاعرا بليغا ، فمضى حتى قدم الشام على ملك من ملوك غسان الذين ساروا من يثرب إلى الشام يقال له : أبو جبيلة ، من ولد جفنة بن عمرو بن عامر ، وقيل : كان أحد بني جشم بن الخزرج وكان قد أصاب ملكا بالشام وشرفا.

فشكى إليه الرمق حالهم وغلبة اليهود عليهم وما يتخوفون منهم ، وإنهم يخشون أن يخرجوهم. فأقبل أبو جبيلة في جمع كبير لنصرة الأوس والخزرج ، وعاهد الله لا يبرح حتى يخرج من بها من اليهود أو يذلهم ويصيرهم تحت يد الأوس والخزرج. فسار وأظهر أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة وهي يومئذ يثرب ، فلقيه الأوس والخزرج وأعلمهم ما جاء به.

فقالوا : إن علم القوم ما تريد تحصنوا في آطامهم فلم نقدر عليهم ، ولكن ادعهم للقائك وتلطف بهم حتى يأمنوك ويطمئنوا فتتمكن منهم.

فصنع لهم طعاما وأرسل إلى وجوههم ورؤسائهم ، فلم يبق من وجوههم أحد إلا أتاه ، وجعل الرجل منهم يأتي بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم الملك. وقد كان بنى لهم حيزا وجعل فيه قوما ، وأمرهم من دخل عليهم منهم أن يقتلوه حتى أتى على وجوههم ورؤسائهم ، فلما فعل ذلك عزت الأوس والخزرج في المدينة ، واتخذوا الديار والأموال ، وانصرف أبو جبيلة راجعا إلى الشام وتفرقت الأوس والخزرج في عالية المدينة وسافلتها ، وبعضهم جاء إلى عفا من الأرض لا ساكن فيه فنزله ، ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها واتخذوا الأموال والآطام ، فكان ما ابتنوا من الآطام

٣١

مائة وسبعة وعشرين أطما (١) وأقاموا وكلمتهم وأمرهم مجتمع ، ثم دخلت بينهم حروب عظام (٢).

وكانت لهم أيام (٣) ومواطن وأشعار ، فلم تزل الحروب بينهم إلى أن بعث الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكرمهم باتباعه.

__________________

(١) لمعرفة أسماء ومواقع هذه الأطم ، انظر «وفاء الوفا» ١ / ١٩٠ وما بعدها.

(٢) من الحروب التي وقعت بين الأوس والخزرج : حرب سمير ، ثم حرب كعب بن عمرو ، وحرب حضير بن الأسلت ، وحرب حاطب بن قيس. ونقل السمهودي عن ابن إسحاق أن الحرب بقيت مائة وعشرين سنة إلى الإسلام.

(٣) ومن أشهر هذه الأيام : يوم بعاث ، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس والخزرج. ولمزيد التفصيل انظر «وفاء الوفا» ١ / ٢١٥ وما بعدها.

٣٢

الباب الثّاني

في ذكر فتح المدينة

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كل البلاد افتتحت بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن.

قالت : وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرض نفسه في كل موسم على قبائل العرب ويقول : «ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإنّ قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربّي» ، فيأبونه ويقولون : قوم الرجل أعلم به.

حتى لقي في بعض السنين عند العقبة نفرا من الأوس والخزرج قدموا في المنافرة التي كانت بينهم.

فقال لهم : «من أنتم؟» قالوا : نفر من الأوس والخزرج! قال : «من موالي اليهود؟» قالوا : نعم ، قال : «أفلا تجلسون أكلمكم؟» ، قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن (١). وكانوا أهل شرك وأوثان ، وكان إذا كان بينهم وبين اليهود الذين معهم بالمدينة شيء ، قالت اليهود لهم ـ وكانوا أصحاب كتاب ـ : إن نبيا يبعث الآن قد أظل زمانه ، فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.

فلما كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله أنه للنبيّ الذي توعّدكم به اليهود ، فلا تسبقنكم إليه فاغتنموه وآمنوا به ، فأجابوه فيما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام.

وقالوا : إنّا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشرّ ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض

__________________

(١) «السيرة النبوية» لابن هشام ١ / ٤٢٨ ، «دلائل النبوة» لأبي نعيم ١ / ٢٩٨.

٣٣

عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.

ثم انصرفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.

وكانوا ستة : أسعد بن زرارة ، وعوف ابن عفراء ـ وهي أمه ـ وأبو الحارث بن رفاعة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وجابر بن عبد الله بن رئاب.

فلما قدموا المدينة إلى قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جرى لهم ودعوهم إلى الإسلام ، ففشا فيهم حتى لم يبق بيت ولا دار من دور الأنصار إلا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ذكر (١).

فلما كان العام المقبل ، وافى منهم اثنا عشر رجلا فلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوه ، فلما انصرفوا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم مصعب بن عمير إلى المدينة وأمره أن يقرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ويفقّههم في الدين ، وكان منزله على أسعد بن زرارة (٢).

ولقيه في الموسم الآخر سبعون رجلا من الأنصار ومعهم امرأتان فبايعوه ، وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه إلى المدينة ، ثم خرج إلى الغار بعد ذلك وتوجه هو وأبو بكر رضي‌الله‌عنه إلى المدينة.

__________________

(١) «السيرة النبوية» لابن هشام ١ / ٤٢٨ ، ٤٢٩.

(٢) المصدر السابق ١ / ٤٣٤.

٣٤

الباب الثّالث

في ذكر هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه

أخبرنا يحيى بن أسعد المهاجر ، وأبو القاسم بن كامل الحذاء وجماعة غيرهما فيما أذنوا لي في روايته عنهم قالوا : أنبأنا الحسن بن أحمد أبو علي الحداد ، عن أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ، قال : كتب إليّ جعفر بن محمد بن نصير ، أبو محمد الخلديّ ، قال : أنبأنا أبو شريك محمد بن عبد الرحمن المخزومي بمكة ، قال : حدّثنا الزبير بن بكار ، قال : حدّثنا محمد ابن الحسن بن زبالة ، عن جعفر بن صالح بن ثعلبة ، عن جده ، يعلى بن سلام ، عن محمد بن عبد الله بن خزيمة بن ثابت :

أن تبعا لما قدم المدينة وأراد إخرابها ، جاءه حبران من قريظة يقال لهما : تحيت ومنبه ، فقالا : أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة ، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج آخر الزمان ، فأعجبه ما سمع وصدقهما وكف عن أهل المدينة (١).

وفي «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رأيت في المنام أنّي مهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلي (٢) إلى اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب» (٣).

وذكر البخاري في «صحيحه» (٤) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر هذا المنام لأصحابه ، هاجر من هاجر منهم قبل المدينة ، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر رضي‌الله‌عنه قبل المدينة ، فقال

__________________

(١) «السيرة النبوية» لابن هشام ١ / ٢١ ، ٢٢.

(٢) كذا في «الصحيحين» : «وهلي» باللام ، وفي الأصل «وهمي» بالميم.

(٣) أخرجه البخاري في المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام (٣٦٢٢) ، ومسلم في الرؤيا ، باب رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٢٧٢).

(٤) أخرجه البخاري في اللباس ، باب التقنع (٥٨٠٧).

٣٥

له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على رسلك ، فإنّي أرجو أن يؤذن لي» ، فقال له أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال : «نعم» ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده الخبط أربعة أشهر.

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : بينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ، فقال قائل لأبي بكر رضي‌الله‌عنه : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : فدا له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.

قالت : فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذن ، فأذن له ، فدخل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : أخرج من عندك ، فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : إنما هم أهلك ـ بأبي أنت يا رسول الله ـ قال : فإني قد أذن لي في الخروج ، فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : فالصّحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» ، قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، خذ إحدى راحلتي هاتين ، قال رسول الله : «بالثمن».

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : فجهزناهما أحثّ الجهاز ، ووضعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لها به نطاقين في الجنّة» ، فبذلك سميت «ذات النطاقين».

قالت : ثم لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغار في جبل ثور ، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب لقن ثقف ، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت ، فلا يسمع أمرا يكادان به إلّا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من لبن ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل حتى ينعق بها عامر بغلس. يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.

واستأجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدّئل هاديا ماهرا بالهداية ـ وهو على دين كفار قريش ـ فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ، وانطلق معهما عامر بن

٣٦

فهيرة والدليل الدّيلي فأخذ بهم طريق السواحل أسفل من عسفان ، ثم عارض الطريق على أمج ، ثم لقي الطريق بناحية فنزل في خيام أم معبد بنت الأشقر الخزاعية بأسفل ثنية لفت ، ثم على الخرّار ، ثم على ثنية المرّة ، ثم سلك بهما لقفا ، ثم أجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة محاج ، ثم سلك بهما مرجح محاج ، ثم تبطن بهما مرجح من ذي الغضوين ، ثم بطن من ذي كشر ، ثم الأجرد ، ثم ذا سلّم ، ثم أعداء مدلجة تعهن ، ثم أجاز القاحة ، ثم هبط العرج ثنية العامر عن يمين ركوبة ، ويقال : بل ركوبة نفسها ، ثم بطن رئم حتى انتهى إلى بني عمرو بن عوف بظاهر قباء ، فنزل عليهم على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث وكان سيد الحي ، وقد اختلف في اليوم الذي نزل فيه!

وعن نجيح بن أفلح مولى بني ضمرة قال : سمعت بريدة بن الحصيب يخبر أنه بعث يسارا غلامه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر رضي‌الله‌عنه من الحروات ، قال : وهي موضع أسفل من ثنية هرشى ، يدلهما على العابرين ركوبة.

قال يسار : فخرجت حتى صعدت الثنية ورجزت به فقلت :

هذا أبو القاسم فاستقيمي

تعرّضي مدارجا وسومي

تعرّض الجوزاء للنجوم

قال : فلما علوا ظهر الظهيرة حضرت الصلاة ، فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبلة ، فقام أبو بكر رضي‌الله‌عنه عن يمينه ، وقمت عن يمين أبي بكر ودخلني الإسلام. فدفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدر أبي بكر فأخره ، وأخرني أبو بكر فصففنا خلفه فصلينا ، ثم خرجنا حتى قدمنا المدينة بكرة وكان يوم الاثنين ، ولقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام ، فكسا الزبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر رضي‌الله‌عنه ثياب بياض.

وسمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة ، فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم ، فلما أووا إلى بيوتهم ، رقى رجل من اليهود

٣٧

أطما من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مبيضين ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب! هذا جدّكم الذي تنتظرونه ، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ، فقام أبو بكر رضي‌الله‌عنه للناس وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحيّي أبا بكر رضي‌الله‌عنه حتى أصابت الشمس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك.

ولما أقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، كان مردفا لأبي بكر رضي‌الله‌عنه وأبو بكر شيخ يعرف ، ونبي الله شاب لا يعرف ، قال : فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر ، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول : هذا الرجل الذي يهديني السبيل ، فيحسب الحاسب أنه يعني الطريق ، وإنما يعني سبيل الخير.

ولبث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلّى فيه ، ثم ركب راحلته فصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين ، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بركت به راحلته : هذه إن شاء الله المنزل ، ثم دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغلامين ، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا.

فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا.

وعن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قال : لما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كلثوم بن الهدم ، وصاح كلثوم بغلام له ؛ يا نجيح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنجحت يا أبا بكر (١).

__________________

(١) في «الوفاء» للسمهودي ١ / ٢٤٥ ، ذكر بعد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنجحت يا أبا بكر» ، فقال :

٣٨

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقباء يوم الاثنين ، ويوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، ويوم الخميس ، وركب من قباء يوم الجمعة فجمع في بني سالم ، فكانت أول جمعة جمّعها في الإسلام.

وكان يمر بدور الأنصار دارا دارا ، فيدعونه إلى المنزل والمواساة ، فيقول لهم : خيرا ، ويقول : خلّوها فإنها مأمورة.

حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم ، وكان المسلمون قد بنوا مسجدا يصلون فيه ، فبركت ناقته ونزل ، وجاء أبو أيوب الأنصاري فأخذ رحله ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته.

فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسجد ، تعلقت به الأنصار ، فقال : المرء مع رحله ، فنزل على أبي أيوب الأنصاري خالد بن يزيد بن كليب ، ومنزله في بني غنم بن النجار.

وعن أبي عمرو بن جحاش قال : اختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنازل ، فنزل في منزله ، ومسجده ، فأراد أن يتوسط الأنصار كلها ، فأحدقت به الأنصار.

وقال البراء بن عازب : أول من قدم علينا مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، وكانا يقرئان الناس ، ثم قدم عمار بن ياسر وبلال ، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى جعل الإماء يقلن : قدم رسول الله فينا قدم ، فما قدم حتى قرأت : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] في سور من المفصل (١).

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : «لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وعك أبو بكر وبلال» ، قالت : فدخلت عليهما. فقلت : يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ فكان أبو بكر رضي‌الله‌عنه إذا أخذته الحمّى يقول :

كلّ امرئ مصبّح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

__________________

أطعمنا رطبا ، قال : فأتوا بقنو من أم جرذان فيه رطب منصف ، وفيه زهو. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما هذا؟ قال : عذق أم جرذان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم بارك في أم جرذان» اه.

(١) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار ، باب مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة (٣٩٢٥).

٣٩

قالت : وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى ، يرفع عقيرته فيقول :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجّنة

وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، وصححها ، وبارك لنا في صاعها ومدها ، وانقل حمّاها واجعلها بالجحفة» (١).

قال أهل السير : وأقام علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الودائع التي كانت عنده للناس ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل معه على كلثوم بن الهدم.

قالوا : ولم يبق بمكة من المهاجرين إلا من حبسه أهله أو فتنوه.

أنبأنا أبو القاسم الزندوزدي ، عن أبي علي المقري ، عن أبي نعيم الحافظ ، عن جعفر الخواص ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه في قول الله عزوجل : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) [الإسراء : ٨٠].

قال : جعل الله مدخل صدق المدينة ، ومخرج صدق مكة ، وسلطانا نصيرا الأنصار (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار ، باب مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة (٣٩٢٦).

(٢) وممن ذكر هذا القول أيضا ؛ الطبري في «تفسيره» ٨ / ١٣٥ ، ١٣٦ ، وابن كثير ، وقال عقب ذلك : «وهذا القول هو أشهر الأقوال ...» اه.

٤٠