الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي

الدّرّة الثّمينة في أخبار المدينة

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي


المحقق: حسين محمّد علي شكري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٣

منع آكل الثوم من دخوله

روى البخاري في «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزل مسجدنا» (١).

وفي لفظ آخر : «فلا يقربنّ مسجدنا» (٢).

النهي عن رفع الصوت فيه

روى البخاري في «الصحيح» أن السائب بن يزيد رضي‌الله‌عنه قال : كنت نائما في المسجد ، فحصبني رجل فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقال : اذهب فائتني بهذين فجئته بهما ، فقال : ممن أنتما؟ أو من أين أنتما؟ فقالا : من الطائف ، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! (٣).

جواز النوم فيه

روى البخاري في «الصحيح» أن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له (٤).

وروى أيضا من حديث سهل بن سعد رضي‌الله‌عنه قال : «جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت فاطمة رضي‌الله‌عنها فلم يجد عليا رضي‌الله‌عنه في البيت ، فقال : أين ابن عمك ، فقالت : كان بيني وبينه شيء فغاضبني ، فخرج فلم يقل عندي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإنسان : انظر أين هو فأخبره ، فجاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مضطجع قد سقط رداءه عن شقه ، وأصابه تراب ، فقال له :

قم أبا تراب» (٥).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأطعمة ، باب ما يكره من الثوم والبقول (٥٤٥١ ـ ٥٤٥٢) ، ومسلم في المساجد ، باب نهي من أكل ثوما أو بصلا (٥٦٣).

(٢) أخرجه البخاري في الأذان ، باب ما جاء في الثوم النيء (٨٥٣) ، ومسلم في المساجد ، باب نهي من أكل ثوما أو بصلا (٥٦١).

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب رفع الصوت في المساجد (٤٧٠).

(٤) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب نوم الرجال في المسجد (٤٤٠).

(٥) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب نوم الرجال في المسجد (٤٤١) ، ومسلم في فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب (٢٤٠٩).

١٠١

جواز الصلاة على الجنائز فيه

روى أبو داود في «السنن» (١) من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : والله لقد صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه.

وروى أيضا من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلّى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه» (٢).

النهي عن إخراج الحصى منه

روى أبو داود في «السنن» (٣) من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد».

ذكر مواضع تأذين بلال

روى ابن إسحاق : أن امرأة من بني النجار قالت : كان بيتي أطول بيت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة ، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر ، فإذا رآه تمطى ثم قال : اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك ، قالت : ثم يؤذن (٤).

وذكر أهل السير : أن بلالا كان يؤذن على أسطوانة في قبلة المسجد يرقى إليها بأقتاب ، وهي قائمة إلى اليوم في منزل عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

وروى نافع عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : كان بلال يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر التي تلي المسجد.

قال : فكان يرقى على أقتاب فيها ، وكانت خارجة من مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم تكن فيه ، وليست فيه اليوم.

__________________

(١) باب «الصلاة على الجنازة في المسجد» ٣ / ٥٣١ (٣١٩٠) ، ورواه مسلم من حديث أبي سلمة ٢ / ٦٦٩ (١٠١).

(٢) الباب السابق ٣ / ٥٣١ (٣١٩١).

(٣) باب «في حصى المسجد» ١ / ٣١٦ (٤٦٠).

(٤) أخرجه أبو داود ١ / ٣٥٧ «باب الأذان فوق المنارة» حديث (٥١٩).

١٠٢

ذكر أهل الصفة رضي‌الله‌عنهم

روى البخاري في «الصحيح» (١) أن أصحاب الصفة كانوا فقراء.

وروى أيضا من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار وإما كساء ، قد ربطوه في أعناقهم ، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته (٢).

وروى أيضا من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنه كان يقول : «والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع ، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه ، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني ، فمر ولم يفعل ، ثمّ مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني ، فمرّ ولم يفعل ، ثمّ مر بي أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ، ثم قال : يا أبا هر! قلت : لبيك يا رسول الله! قال : الحق ، ومضى ، فاتبعته فدخل فاستأذن ، فأذن لي ، فدخلت فوجدت لبنا في قدح ، فقال : من أين هذا اللبن؟ قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة ، قال : يا أبا هر! قلت : لبيك رسول الله ، قال : الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم إليّ ، وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد ، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولا يتناول منها شيئا ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها ، فساءني ذلك فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى بها ، فإذا جاؤوا أمرني ، فكنت أنا أعطيهم ، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بدّ ، فأتيتهم فدعوتهم ، فأقبلوا ، فاستأذنوا فأذن لهم ، وأخذوا مجالسهم من البيت.

قال : يا أبا هر! قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : خذ فأعطهم ، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل ، فيشرب حتى يروى ، حتى انتهيت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روي القوم كلّهم ، وأخذ القدح فوضعه على يده ، فنظر إلي فتبسم وقال : يا أبا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب «نوم الرجال في المسجد» (٤٤١).

(٢) الباب السابق برقم (٤٤٢).

١٠٣

هر! قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : بقيت أنا وأنت ، قلت : صدقت يا رسول الله ، قال : اقعد فاشرب ، فقعدت فشربت ، فقال : اشرب ، فشربت فما زال يقول اشرب حتى قلت : والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا ، قال : فأرني ، فأعطيته القدح ، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة» (١).

وروى أهل السير : أن محمد بن مسلمة رضي‌الله‌عنه رأى أضيافا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ، فقال : ألا تفرق هذه الأضياف في دور الأنصار ، ونجعل لك من كل حائط قنوا ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى ، فلما جدّ ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين ، فجعل الناس يفعلون ذلك ، وكان معاذ بن جبل رضي‌الله‌عنه يقوم عليه ، وكان يجعل عليه حبلا بين الساريتين ، ثم يعلق الأقناء على الحبل ، ويجمع العشرين أو أكثر ، فيهش عليهم بعصاه من الأقناء فيأكلون حتى يشبعوا ، ثم ينصرفون ويأتي غيرهم ، فيفعل لهم مثل ذلك ، فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك.

ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة

روى أهل السير : عن مصعب بن ثابت قال : طلبنا علم العود الذي في مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم نجد أحدا يذكر لنا منه شيئا ، حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة أنه جلس إلى جنبه أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه فقال : تدري لم صنع هذا العود؟ قلت : لا أدري! قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضع عليه يمينه ، ثم يلتفت إلينا فيقول : «استووا وعدلوا صفوفكم» (٢).

فلما توفي رسول الله سرق العود ، فطلبه أبو بكر رضي‌الله‌عنه فلم يجده ، حتى وجده عمر رضي‌الله‌عنه عند رجل من الأنصار بقباء وقد دفن في الأرض فأكلته الأرضة ، فأخذ له عودا فشقه ، ثم أدخله فيه ، ثم شعبه ورده إلى الجدار. وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة ، وهو الذي في المحراب اليوم باق.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق ، باب «فضل الفقر» (٦٤٥٢).

(٢) أخرجه أبو داود في «سننه» ١ / ٤٣٤ (٦٦٩).

١٠٤

وقال مسلم بن خباب : كان ذلك العود من طرفاء الغابة.

ذكر موضع اعتكاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

روى أهل السير : أن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير عند أسطوانة التوبة (١).

ذكر أسطوانة التوبة

قال ابن إسحاق : لما حاصر رسول الله بني قريظة ، بعثوا إليه : أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ـ وكانوا حلفاء الأوس ـ نستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرقّ لهم ، فقالوا له : يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح.

قال أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت ، ـ وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا ـ فلا تراني ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.

فلما بلغ رسول الله خبره وأبطأ عليه ، وكان قد استبطأه ، قال : «أما لو جاءني لاستغفرت الله له ، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ، فأنزل الله توبته على رسول الله وهو في بيت أم سلمة».

قالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها : فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السحر يضحك ، فقلت : ممّ تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنّك ، قال : تيب على أبي لبابة. فقلت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال : «بلى إن شئت» ، قال : فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب الحجاب ، فقالت : يا أبا لبابة! أبشر فقد تاب الله عليك. قال : فثار الناس ليطلقوه ، قال : لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده ، فلما مرّ عليه

__________________

(١) قال السمهودي في «وفاء الوفا» ١ / ٤٤٧ رواه البيهقي بسند حسن.

١٠٥

خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه وأنزل الله فيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال : ٢٧].

قال إبراهيم بن جعفر : السارية التي ارتبط إليها ثمامة بن أثال الحنفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة.

وروى خالد بن أنس ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم : أن أبا لبابة رضي الله تعالى عنه ارتبط بسلسلة ربوض ـ والربوض : الثقيلة ـ ، بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه ، فما يكاد يسمع وكاد بصره يذهب.

وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة وإذا أراد أن يذهب لحاجته حتى يفرغ ، ثم تأتي به فترده في الرباط كما كان ، وكان ارتباطه ذلك إلى جذع في موضع الأسطوانة التي يقال لها : أسطوانة التوبة.

وروى عن محمد بن كعب القرظي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي أكثر نوافله إلى أسطوانة التوبة.

قلت : وهذه الأسطوانة الثانية عن يمين حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كان يصلي إليها ، في الصف الأول خلف أمام الروضة ، وهي معروفة.

ذكر أسطوانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كان يصلي إليها

روى الزبير بن حبيب أن الأسطوانة التي بعد أسطوانة التوبة إلى الروضة ، وهي الثالثة من المنبر ومن القبر ومن رحبة المسجد ومن القبلة ، وهي متوسطة في الروضة ، صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها المكتوبة بضع عشرة ، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم ، وكان يجعلها خلف ظهره ، وأن أبا بكر وعمر والزبير وابنه عبد الله وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها ، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها ؛ وكان يقال لها : مجلس المهاجرين.

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها فيها : لو عرفها الناس لا ضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان ، فسألوها عنها ؛ فأبت أن تسميها ، فأصغى إليها ابن الزبير فسارّته بشيء ، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها : أسطوانة عائشة.

قال : فظن من معه أن عائشة رضي‌الله‌عنها أخبرته أنها تلك الأسطوانة وسميت أسطوانة عائشة.

١٠٦

وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال : رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر رضي‌الله‌عنهما.

ويقال : إن الدعاء عندها مستجاب.

ذكر أسطوانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

التي كان يجلس إليها إذا جاءه الوفود

روى ابن أبي فديك عن غير واحد من مشايخه : أن الأسطوانة الثالثة من قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي التي تلي الرحبة ، وهي خلف أسطوانة علي بن أبي طالب التي خلف أسطوانة التوبة ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته.

قلت : إذا عددت الأسطوان الذي فيه مقام جبريل ، كانت الثالثة (١).

ذكر أسطوانة علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه

وروى أهل السير : أن الأسطوانة التي خلف أسطوانة التوبة ، هي مصلى علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه (٢).

ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين المسجد

روى البخاري في «الصحيح» من حديث يزيد بن أبي عبيد قال : «كنت آتي سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف ، فقلت : يا أبا مسلم! أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة ، قال : فإني رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى الصلاة عندها» (٣).

__________________

(١) وهي اليوم ملاصقة لشباك الحجرة الشريفة من جهة الروضة المطهرة ، ومكتوب عليها : «أسطوانة الوفود».

(٢) وهي الملاصقة لشباك الحجرة الشريفة أيضا من جهة الروضة المطهرة ، ومكتوب عليها : «أسطوانة الحرس».

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب الصلاة على الأسطوانة (٥٠٢) ، ومسلم في الصلاة ، باب دنو المصلي من السترة (٥٠٩).

١٠٧

وروى أيضا من حديث أنس رضي‌الله‌عنه قال : «لقد أدركت أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبتدرون السواري عند المغرب» (١).

قلت : فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستحب الصلاة عندها لأنها لا تخلو من أن كبار الصحابة صلوا إليها.

ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في المسجد

عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : زاد عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في المسجد من شاميه ، ثم قال : لو زدنا فيه حتى نبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى البخاري في «الصحيح» من حديث عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما أن المسجد كان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد ، وعمده خشب النخل ، فلم يزد فيه أبو بكر رضي‌الله‌عنه شيئا ، وزاد فيه عمر رضي‌الله‌عنه وبناه على بنائه في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللبن والجريد ، وأعاد عمده خشبا (٢).

وروى أهل السير : أن عمر رضي‌الله‌عنه قال : لو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إني أزيد في المسجد» ما زدت فيه.

أنبأنا أبو القاسم الحذاء ، عن أبي علي المقري ، عن أبي نعيم الأصبهاني ، عن أبي محمد الخلدي ، أخبرنا أبو يزيد المخزومي ، حدّثنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن بن زبالة ، حدّثني محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن مصعب بن ثابت ، عن مسلم بن خباب رضي‌الله‌عنه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما وهو في مصلاه : «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة.

فلما توفي عليه الصلاة والسلام ، وولي عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : إن رسول الله قال : «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة ، فأجلسوا رجلا في موضع مصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها

__________________

(١) الباب السابق برقم (٥٠٣).

(٢) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب بنيان المسجد (٤٤٦).

١٠٨

حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع يده وخفضها ، ثم مد ووضعوا طرفه بيد الرجل ، ثم مدوه.

فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه بما أشار رسول الله من الزيادة ، فقدم عمر رضي‌الله‌عنه القبلة ، فكان موضع جدار عمر رضي‌الله‌عنه في موضع عيدان المقصورة.

قال أهل السير : كان بين المنبر وبين الجدار الذي كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدر ما تمر شاة ، فأخذ عمر رضي‌الله‌عنه إلى موضع المقصورة اليوم وزاد فيه ، وزاد في يمين القبلة فصار طوله أربعين ومائة ذراع وسقفه جريد ذراعان ، وبنى فوق ظهر المسجد سترة ثلاثة أذرع ، وبنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة ، وجعل له ستة أبواب : بابين عن يمين القبلة ، وبابين عن يسارها ، ولم يغير باب عاتكة ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفتح بابا عند دار مروان بن الحكم ، وفتح بابين في مؤخر المسجد.

وروى عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي» (١).

وروى غيره مرفوعا أنه قال : «هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه ، ولو بلغ صنعاء كان مسجدي».

وكان أبو هريرة رضي‌الله‌عنه يقول : ظهر المسجد كقعره.

وأدخل عمر رضي‌الله‌عنه في هذه الزيادة دارا للعباس بن عبد المطلب وهبها للمسلمين.

وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أراد هدم دار كانت للعباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه ليزيدها في المسجد وقال : بعنيها ، فأبى العباس أن يبيعه إياها ، فأراد عمر رضي‌الله‌عنه أخذها منه وإدخالها في المسجد وقال : ذلك أرفق بالمسلمين ، فقال له العباس : حكم بيني وبينك في ذلك ، فجعلا بينهما أبي بن كعب فقال : إني

__________________

(١) «كنز العمال» ١٢ / ٢٣٧ (٣٤٨٣٢).

١٠٩

أحدثكما حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن داود النبيّ أراد بنيان بيت المقدس ، وكانت أرضه لرجل فاشتراها سليمان منه ، فلما باعه الرجل إياه قال الرجل : ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ فقال : بل ما أخذت منك ، قال : إني لا أجيز ، فناقضه البيع ، ثم اشتراها الثالثة فصنع مثل ذلك ، فقال له سليمان : أشتريها منك بحكمك على أن لا تسألني ، قال : فاشتراها بحكمه ، فاحتكم شيئا كثيرا اثني عشر قنطارا ذهبا ، فاستعظمه سليمان ، فأوحى الله إليه : إن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى ، وإن كنت تعطيه من عندك فذلك لك ، وعم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس إن شاء باعها وإن شاء تركها.

قال العباس رضي‌الله‌عنه : أما إذا قضيت فيّ ، فقد جعلتها للمسلمين.

وفي رواية : كانت للعباس رضي‌الله‌عنه دار إلى جنب المسجد فقال له عمر رضي‌الله‌عنه : بعنيها ، فقال له العباس رضي‌الله‌عنه : لا أبيعك ، فقال عمر : إذا آخذها ، فقال العباس : لا تأخذها ، فقال : اجعل بيني وبينك من شئت ، فجعلا بينهما أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه فأخبروه الخبر ، فقال : أوحى الله إلى سليمان عليه‌السلام أن ابن بيت المقدس ، وكان بيتا لعجوز ، فأراد أخذه منها ، فأبت أن تبيعه إياه ، فعزم على أخذه منها وإدخاله في المسجد ، فأوحى الله إليه : أن بيتي أحق المواضع أن لا يدخل فيه شيء من الظلم ، فكف عن أخذه.

فقال : عمر رضي‌الله‌عنه : وأنا أشهدكم أني قد كففت عن دار العباس ، فقال له العباس رضي‌الله‌عنه : أما إن كان هذا وحكم لي عليك ، فإني أشهدكم أني قد جعلتها صدقة على المسلمين. فهدمها عمر رضي‌الله‌عنه وأدخلها في المسجد ، واشترى نصف موضع كان خطه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة دارا بمائة ألف فزاده في المسجد.

أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن الحسن بن أحمد ، عن أحمد بن عبد الله ، عن جعفر بن محمد بن الحسن قال : حدّثني عبد العزيز بن أبي حازم ، عن الضحاك بن عثمان ، عن أبي النضر ، عن بشر بن

١١٠

سعيد أو سليمان بن يسار ـ شك الضحاك ـ أنه حدثه أن المسجد كان يرش زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزمان أبي بكر وعامة زمان عمر رضي‌الله‌عنهما ، وكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقا ، حتى قدم ابن مسعود الثقفي وقال لعمر : أليس قربكم واد؟ قال : بلى ، قال : فمر بحصباء تطرح فيه ، فهو أكف للمخاط والنخامة ، فأمر بها عمر رضي‌الله‌عنه.

وذكر محمد بن سعد : أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ألقى الحصا في مسجد رسول الله ، وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا أيديهم ، فأمر بالحصباء فجيء به من العقيق فبسط في المسجد.

ذكر زيادة عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه فيه

روى البخاري في «الصحيح» أن عثمان رضي‌الله‌عنه زاد في المسجد زيادة كبيرة ، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة ، وجعل عمده من حجارة منقوشة ، وسقفه بالساج (١).

وذكر أهل السير : أن عثمان رضي‌الله‌عنه لما ولي الخلافة سنة أربع وعشرين ، سأله الناس أن يزيد في مسجدهم ، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون في الرحاب ، فشاور فيه عثمان رضي‌الله‌عنه أهل الرأي من أصحاب رسول الله ، فاجتمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه ، فصلى الظهر بالناس ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه.

ثم قال : أيها الناس! إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزيد فيه ، وأشهد أني لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من بنى مسجدا ، بنى الله تعالى له بيتا في الجنة» (٢).

وقد كان لي فيه سلف وإمام عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، زاد فيه وبناه ، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هدمه وبنائه وتوسعته ، فحسّن الناس ذلك ودعوا له.

فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه ، وكان رجلا يصوم النهار

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة ، باب «بنيان المسجد» (٤٤٦).

(٢) «مجمع الزوائد» ٢ / ٧.

١١١

ويقوم الليل ، وكان لا يخرج من المسجد ، فهدمه وأمر بالقصّة المنخولة ، وكان عمله في أول ربيع الأول سنة تسع وعشرين ، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين. فكان عمله عشرة أشهر.

وزاد من القبلة إلى موضع الجدار اليوم ، وزاد فيه من المغرب أسطوانا بعد المربعة ، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا ، ولم يزد فيه من الشرق شيئا.

وبناه بالحجارة المنقوشة والقصّة وخشب النخل والجريد ، وبيضه بالقصّة. وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل ، وجعل فيه طاقات مما يلي المشرق والمغرب ، وبنى المقصورة بلبن وجعل فيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام ، وكان يصلي فيها خوفا من الذي أصاب عمر رضي‌الله‌عنه وكانت صغيرة ، وجعل أعمدة المسجد حجارة منقوشة فيها أعمدة الحديد وفيها الرصاص ، وسقفه بالساج فجعل طوله ستين ومائة ذراع ، وعرضه خمسين ومائة ذراع ، وجعل أبوابه على ما كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : باب عاتكة ، والباب الذي يليه ، وباب مروان ، والباب الذي يقال له : باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبابين في مؤخره.

وقال عبد الرحمن بن سفينة : رأيت القصّة تحمل إلى عثمان رضي‌الله‌عنه وهو يبني المسجد من بطن نخل ، ورأيته يقوم على رجليه والعمال يعملون فيه حتى تأتي الصلاة ، فيصلي بهم ، ثم ربما نام في المسجد ، واشترى من مروان بن الحكم داره وكان بعضها لآل النجار وبعضها دار العباس ، لها باب إلى المسجد ، وهي اليوم باقية على حالها وفيها تسكن الأمراء.

ذكر زيادة الوليد بن عبد الملك فيه

ذكر أهل السير : أن الوليد بن عبد الملك لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد ، وبنيانه ، فاشترى ما حوله من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبى أن يبيع عليه ، ووضع الثمن له ، فلما صار إلى القبلة قال له عبد الله بن عبد الله بن عمر : لسنا نبيع هذا ، هو من حق حفصة رضي‌الله‌عنها ، وقد كان رسول

١١٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسكنها! فقال له عمر : ما أنا بتارككم ، أنا أدخلها المسجد.

فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر : أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه ، وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق ، وما بقي من الدار فهو لكم ، ففعلوا ، فأخرج بابهم في المسجد وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة ، وأعطاهم دار الرقيق ، وقدم الجدار في موضعه اليوم ، وزاد من الشرق ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد ، ومعه عشر أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام.

ومد في المغرب أسطوانتين وأدخل فيه حجرات أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي كان يقال لها : القرائن ، اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط :

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا

بقيع المصلى أم كعمد القرائن

ودار عبد الله بن مسعود.

وأدخل فيه من المغرب دار طلحة بن عبيد الله ودار أبي سبرة بن أبي رهم ، ودار عمار بن ياسر ، وبعض دار العباس بن عبد المطلب ، وأعلى ما أدخل منها ، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف أعظم من غيرها من سواري المسجد.

قالوا : وبعث الوليد إلى ملك الروم : إنا نريد أن نعمل مسجد نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعنّا فيه بعمال وفسيفساء.

فبعث إليه بأربعين من الروم ، وبأربعين من القبط ، وبأربعين ألف مثقال عونا له ، وبأجمال من فسيفساء ، وبعث هذه السلاسل التي فيها القناديل.

فهدم عمر المسجد وأخمر النورة التي يعمل بها الفسيفساء سنة ، وحملوا القصّة من النخل منخولة ، وعمل الأساس من الحجارة ، والجدار بالحجارة المنقوشة المطابقة والقصّة ، وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص ، وجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمه مائتي ذراع ، وفي مؤخره مائة وثمانين وعمله بالفسيفساء والمرمر ، وعمل سقفه بالساج وموهه بالذهب.

١١٣

وهدم حجرات أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأدخلها فيه ، وأدخل القبر فيه أيضا ، ونقل لبن حجرات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولبن المسجد ، فبنى به داره بالحرة ، وهو فيها اليوم له بياض على اللبن.

وقال بعض الذين عملوا الفسيفساء : إنا عملناه على ما وجدناه من صور شجر الجنة وقصورها ، وكان عمر إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء وأحسن عملها نقده ثلاثين درهما.

قالوا : وكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة أساطين ، وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة إلى القبر أربع عشرة أسطوانة ، منها عشرة في الرحبة ، وأربع في السقايف الأول التي كانت قبل ، وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين.

وأدخل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ، وبقي ثلاث أساطين في السقايف ، وجعل للمسجد أربع منارات في كل زاوية منارة ، وكانت المنارة الرابعة مطلة على دار مروان.

فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن فأطل عليه ، فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد.

قالوا : وأمر عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد بأسفل الأساطين فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها ، وقدر مجلس اثنين يستندان إليها.

قالوا : ولما صار عمر إلى جدار القبلة ، دعا مشايخه من أهل المدينة من قريش والأنصار والموالي والعرب ، فقال لهم : تعالوا احضروا بنيان قبلتكم ، لا تقولوا : عمر غيّر قبلتنا ، فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع حجرا.

قالوا : ومات عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه وليس للمسجد شرافات ولا محراب ، فأول من أحدث الشرافات والمحراب عمر بن عبد العزيز.

قال : وكتب عمر بن عبد العزيز الكتاب الذي في القبلة عن يمين الداخل من الباب الذي يلي دار مروان بن الحكم حتى انتهى إلى باب علي رضي‌الله‌عنه ، كتبه مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه سعد.

والكتاب : «أم القرآن» ومن أول سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] إلى خاتمة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس : ١] ، وعمل الميازيب من

١١٤

رصاص ، ولم يبق منها إلا ميزابان أحدهما في موضع الجنائز ، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق ، يقال له : باب عاتكة ، وعمل المقصورة من ساج.

وهدم بيت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأدخله في المسجد ، وكان ذلك في سنة إحدى وتسعين ، ومكث في بنيانه ثلاث سنين.

وكتب عمر في القبلة في صحن المسجد في الفسيفساء ما نسخته : «بسم الله الرحمن الرحيم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أمر عبد الله أمير المؤمنين الوليد بتقوى الله وطاعته ، والعمل بكتاب الله عزوجل وسنة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبصلة الرحم ، وتعظيم ما صغّر الجبابرة من حق الله سبحانه ، وتصغير ما عظموا من الباطل ، وإحياء ما أماتوا من الحقوق ، وإماتة ما أحيوا من العدوان والجور ، وأن يطاع الله سبحانه ويعصى العباد في طاعة الله ، فالطاعة لله سبحانه ولأهل طاعته ، لا طاعة لأحد في معصية الله ، يدعو إلى كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى العدل في أحكام المسلمين والقسم بالسوية في فيئهم ، ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله سبحانه بها لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل».

قالوا : ولما قدم الوليد بن عبد الملك حاجا بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد ، جعل يطوف فيه وينظر إلى بنائه.

فقال لعمر حين رأى سقف المقصورة : ألا عملت السقف كله مثل هذا ، فقال : يا أمير المؤمنين إذا تعظم النفقة جدا ، أتدري كم أنفقت على عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال : وكم؟ قال : خمسة وأربعين ألف دينار ، وقال بعضهم : أربعين ألف دينار ، وقال : والله لكأنك أنفقتها من مالك ، وقيل : كانت النفقة أربعين ألف مثقال.

قالوا : وكان معه أبان بن عثمان بن عفان ، فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان ، فقال : أين بنياننا من بنيانكم؟ فقال أبان : إنا بنيناه بناء المسجد وبنيتموه بناء الكنائس!

قالوا : وبينا أولئك القوم يعملون في المسجد ، إذ خلا لهم ، فقال

١١٥

بعضهم : لأبولنّ على قبر نبيهم ، فتهيأ لذلك ونهاه أصحابه ، فلما همّ أن يعمل ، اقتلع وألقي على رأسه فانتثر دماغه فأسلم بعض أولئك النصارى ، وعمل أحدهم على رأس خمس طاقات من جدار القبلة ، وفي صحن المسجد صورة خنزير ، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز ، فأمر به فضربت عنقه.

قالوا : وكان عمل القبط مقدم المسجد ، وكانت الروم تعمل ما خرج من السقف من جوانبه ومؤخره.

قال أهل السير : ولما فرغ عمر من بنيان المسجد أراد أن يجعل في أبوابه في كل باب سلسلة تمنع الدواب من الدخول ، فعمل واحدة وجعلها في باب مروان ، ثم بدا له عن البواقي.

قلت : فهي باقية إلى اليوم ، وأقام الحرس فيه يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز فيه ومن أن يحترفوا فيه ، والسنّة في الجنائز باقية إلى يومنا هذا ، إلا في حق العلويين ومن أراد من الأمراء وغيرهم من الأعيان ، والباقون يصلى عليهم خلف الحائط الشرقي من المسجد ، إذا وقف الإمام على الجنازة ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يمينه.

ذكر زيادة المهدي فيه

قال أهل السير : لم يزل المسجد على ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولّي أبو جعفر المنصور ، فهمّ بالزيادة وشاور فيها ، وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز ويقول : إن زيد في المسجد من الناحية الشرقية توسط قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ، فكتب إليه أبو جعفر : إني قد عرفت الذي أردت ، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه.

قالوا : وتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا.

ثم حج المهدي بن أبي جعفر سنة إحدى وستين ومائة ، فقدم منصرفه من الحج إلى المدينة ، واستعمل عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس سنة إحدى وستين ومائة ، وأمره بالزيادة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان ،

١١٦

وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام ، فزيد في المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم ، وكانت زيادته مائة ذراع ولم يزد فيه من الشرق ولا الغرب ولا القبلة شيئا ، ثم خفض المقصورة وكانت مرتفعة ذراعين من الأرض ، فوضعها في الأرض على حالها اليوم ، وسد على آل عمر خوختهم التي في دار حفصة حتى كثر الكلام فيها ، ثم صالحهم على أن خفض المقصورة وزاد في المسجد تلك الخوخة ثلاث درجات وحفرت الخوخة حتى صارت تحت أرض المقصورة ، وجعل عليها في جدار القبلة شباك ، فهو عليها اليوم.

وكان المهدي قبل بنائه المسجد قد أمر به ، فقدر ما حوله من الدور فابتيع ، وكان مما أدخل فيه من الدور ، دار عبد الرحمن بن عوف التي يقال لها : دار مليكة ، ودار شرحبيل بن حسنة ، وبقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القرّاء ، ودار المسور بن مخرمة الزهري ، وفرغ من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة.

قالوا : وكتب على أثر الكتاب الذي كتبه عمر بن عبد العزيز في صحن المسجد ما نسخته : «أمر عبد الله المهدي أمير المؤمنين ، أكرمه الله وأعز نصره ، بالزيادة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإحكام عمله ابتغاء وجه الله عزوجل والدار الآخرة ، أحسن الله ثوابه بأحسن الثواب والتوسعة لمن صلّى فيه من أهله وأبنائه من جميع المسلمين ، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين فيما نوى من حسنته في ذلك وأحسن ثوابه ، بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم كتب «أم القرآن» كلها ، ثم كتب على أثرها (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٨] ، ثم كتب : وكان مبتدأ ما أمر به عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين أكرمه الله من الزيادة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سنة اثنتين وستين ومائة ، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائة ، فأمير المؤمنين أصلحه الله يحمد الله على ما أذن له واختصه به من عمارة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوسعته حمدا كثيرا ، والحمد رب العالمين على كل حال».

قالوا : وعرض منقبة جداري المسجد مما يلي المغرب ينقصان شيئا ، وعرض منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربع أصابع ، وإنما زيد فيها لأنها من ناحية السيل ، وفي صحن المسجد أربع وستون بلاعة لماء المطر ، عليها أرحاء ، ولها صمائم من حجارة يدخل الماء من أنقابها.

١١٧

قالوا : وكان أبو البختري وهب بن وهب القاضي على المدينة واليا لهارون أمير المؤمنين ، فكشف سقف المسجد في سنة ثلاث وسبعين ومائة ، فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأدخل مكانها خشبا صحاحا.

وكان ماء المطر يغشى قبلة المسجد ، فجعل بين القبلة والصحن حجارة مربعة لا صقة من غربي المسجد إلى الحجارة المربعة التي في شرقيه تلي القبر ، فمنع الماء من الصحن ، ومنع حصباء القبلة أن يصل إلى الصحن.

ذكر الستارة التي كانت على صحن المسجد

قال أهل السير : لما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة ، أمر بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رؤوس كقريات الفساطيط وجعلت في الطيقان ، فكانت الريح تدخل فيها ، فلا يزال العمود يسقط على الإنسان ، فغيرها وأمر بستور هي أكثف من تلك الستور وبحبال ، فأتي بها من جدّة من حبال السفن المتينة ، وجعلت على تشبيك حباله اليوم ، وكانت تجعل على الناس كل جمعة.

فلم تزل كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة ، فأمر بها فقطعت ذرائع لمن كان يقاتل معه ، فتركت حتى كان زمن هارون أمير المؤمنين ، فأحدث هذه الأستار ولم تكن تستر في زمن بني أمية.

أنبأنا ذاكر بن كامل ، عن الحسن بن أحمد بن محمد الحداد ، عن أبي نعيم الحافظ ، عن أبي جعفر الخلدي ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي ، قال : حدّثنا الزبير بن بكار ، قال : حدّثني محمد بن الحسن بن زبالة ، قال : حدّثني حسين بن مصعب ، قال : أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل أن تصل إلى مكة ، فتنشر على الرضراض في المسجد ، ثم يخرج بها إلى مكة ، وذلك في سنة إحدى وثلاثين ، أو اثنتين وثلاثين ومائة.

ذكر المصاحف التي كانت بالمسجد

قال مالك بن أنس رضي‌الله‌عنه : أرسل الحجاج بن يوسف إلى

١١٨

أمهات القرى بمصاحف ، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير ، وكان في صندوق عن يمين الأسطوان التي عملت علما على مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يفتح يوم الخميس والجمعة فيقرأ فيه بعد صلاة الصبح.

وبعث المهدي بمصاحف لها أثمان ، فجعلت في صندوق عن يسار السارية ، ووضعت منابر لها كانت تقرأ عليها ، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه فجعل عند الأسطوان التي عن يمين المنبر ، وإلى الأسطوان الأخرى التي تليها صندوق آخر فيه مصحف بعث به المهدي يقرأ فيه الناس.

ثم إلى التي تليها في الغرب صندوق فيه مصاحف بعث بها المهدي ليقرأ فيها الناس على طبقة منبر صحيح.

وفي القبلة صندوق لاصق بالمقصورة فيه مصاحف يقرأ الناس فيها تصدقت بها حسنة أم ولد المهدي.

ووضع رجل من أهل البصرة يقال له : أبو يحيى صندوقا وجمع فيه مصاحف يتعلم فيها الأميون والأعاجم.

قلت : وأكثر هذه المصاحف المذكورة ضاعت على طول الزمان وتفرقت أوراقها ، فهو مجموع في يومنا هذا في خلال المقصورة إلى جانب باب مروان.

وفي الحرم عدة مصاحف موقوفة بخطوط ملاح مخزونة في خزانتين من ساج بين يدي المقصورة خلف مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهناك كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه أنفذ به من مصر ، وهو عند الأسطوانة التي في صف مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، محاذي الحجرة الشريفة ، وإلى جانبه مصحفان على كرسيين يقرأ الناس فيهما ، وليس في المسجد ظاهر سواهما.

ذكر السقايات التي كانت في المسجد

قال محمد بن الحسن بن زبالة : كان في صحن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسع عشرة سقاية إلى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة تسع وتسعين ومائة.

منها : ثلاثة عشر أحدثتها خالصة ، وهي أول من أحدث ذلك.

ومنها : ثلاث سقايات ليزيد البربري مولى أمير المؤمنين.

١١٩

ومنها : سقاية لأبي البختري وهب بن وهب ، وسقاية لسحر أم ولد هارون أمير المؤمنين ، وسقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر.

قلت : وأما الآن ، فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه وفيه بركة كبيرة مبنية بالآجر والخشب ، ينزل الناس إليها بدرج أربع في جوانبها والماء ينبع من فوّارة في وسطها يأتي من العين ، ولا يكون الماء فيها إلا في أيام الموسم إذا جاء الحاج ، وبقية السنة تكون فارغة ، عملها بعض أمراء الشام واسمه شامة.

وعملت الجهمة أم الخليفة الناصر لدين الله ـ وفقها الله توفيقا سديدا ـ في مؤخر المسجد سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت ، وحفرت لها بئرا ، وفتحت لها بابا إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام ، وهي تفتح في أيام الموسم أيضا.

ذكر ذرع المسجد اليوم

وعدد أساطينه وطيقانه وأبوابه وذكر تجديد

عمارته وما يتعلق به من الرسوم

اعلم أن طول المسجد اليوم من قبلته إلى الشام ، مائتا ذراع وأربع وخمسون ذراعا وأربع أصابع ، ومن شرقيه إلى غربيه مائة ذراع وسبعون ذراعا شافة ، وطول رحبته من القبلة إلى الشام مائة ذراع وتسع وخمسون ذراعا وثلاث أصابع ، ومن شرقيه إلى غربيه سبع وتسعون ذراعا راجحة ، وطول المسجد في السماء خمس وعشرون ذراعا ، هذا ما ذرعته أنا بخيط.

وذكر محمد بن الحسن بن زبالة : أن طول مناراته خمس وخمسون ذراعا ، وعرضهن ثمانية أذرع في ثمانية أذرع.

وأما طيقانه : ففي القبلة إحدى عشرة طاقة ، وفي الشام مثلها ، وفي المشرق والمغرب تسع عشرة طاقة ، وبين كل طاقتين أسطوان ، ورؤوس الطاقات مسددة بشبابيك من خشب.

وأما عدد أساطينه غير التي في الطيقان : ففي القبلة ثمان وستون أسطوانة ، منها في القبر صلّى الله على ساكنه وسلّم أربع ، وفي الشام مثلها ،

١٢٠