تاريخ اليمن

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني

تاريخ اليمن

المؤلف:

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني


المحقق: الدكتور حسن سليمان محمود
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

من النور شيء ، وإذا نظرت إلى تهامة ، رأيت عليها من الليل بقايا (١) وطحا (٢) ، يمنع الماشي أن يعرف صاحبه من قريب. وكنت أظن ذلك من السحاب أو البخار ، وإذا هو عقابيل (٣) الليل ، فأقسمت ألا أصلي الصبح إلا على مذهب الشافعي لأن أصحاب أبي حنيفة يؤخرون الصبح (٤) إلى أن تكاد الشمس أن تطلع على وهاد تهامة ، وما ذلك إلا لأن (٥) المشرق مكشوف لأشيح من الجبال وذروته عالية (٦).

وكانت حصون بني المظفر مطلة على تهامة ، مصاقبة لأعمال زبيد ، وهي أقرب إلى تهامة من جميع الجبال. ومن حصونهم : مقرو (٧) ووصاب (٨) وقوارير (٩) ، والظرف ، والشرف (١٠). ومن الشرف هذا ثار ابن مهدي (١١) وذو الرسة (١٢). وظفار (١٣) ، وريمة (١٤) ومخاليفها.

وبحكم مصاقبة أعمال سبأ لتهامة ، كان يساقي جياش سجال الحرب ، وذلك أن العرب كانوا إذا برد النسيم ، جمعوا ونزلوا إلى تهامة ، فلا يلبث جياش إلا أن يتنزح من البلاد ، ولكن غير بعيد ، ويقيم سبأ يجبي خراجها ،

__________________

(١) في ياقوت : ضبابا.

(٢) الطحا : المنبسط من الأرض والمعنى لا يستقيم بها ، ولعلها الطحية وهي القطعة من السحاب.

(٣) في الأصل : عقائل والتصحيح من ياقوت. العقابيل هي الشدائد ، وبقايا العلة أو العداوة ومفردها عقبول وعقبولة.

(٤) ياقوت : صلاة الصبح.

(٥) في الأصل : أن والتصحيح من ياقوت.

(٦) في ياقوت : لعلو ذروته.

(٧) صفة : ٦٨ ، ١٠٤.

(٨) صفة : ١٠٣.

(٩) ياقوت : ٧ / ١٧٩.

(١٠) صفة : ٦٩ ، ٧٢ ، ١٠٧.

(١١) سبق ذكره.

(١٢) نشوان : شمس العلوم ٤١.

(١٣) على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب.

(١٤) صفة : ٦٨ ، ٧١ ، ١٠٣.

٨١

ولا يؤذي أحدا من الرعايا بظلم ، ولا غيره. فكان يحتسب للعمال بما قبض منهم جياش في أشهر الصيف والخريف. فإذا خرج الشتاء والربيع ، ارتحلت العرب عن تهامة إلى الجبال وملكها جياش. فتارة يكون رحيل العرب عنها بالقتال ، وتارة (بغير قتال) (١). وإذا عاد جياش إلى زبيد نشرت المصاحف ، وابتهل له الرعايا بالدعاء ، وحفلت (٢) الفقهاء ، وتطاول العلماء : واحتسب جياش أيضا للعمال ، وجباة الأموال بما قبضه منهم سبأ في شهور الشتاء والربيع.

ولما طال ذلك من أمرهما ، أشار الوزير خلف بن أبي الطاهر على (٣) جياش بأن يعتقله (٤) ، ويقبض على أمواله وأملاكه ، ويقيم محمد بن الغفاري وزيرا له ، ففعل ذلك. ثم أن خلفا نقب الحبس ، وهرب إلى سبأ ، فحسن موضعه منه. فلم يزل يحسن لسبأ النزول إلى تهامة ، وضمن له من الحيل (٥) والمكائد ، ما يقطع به دابر (٦) جياش ... ، (٧) لسبأ ما لا يقوم به مقام النصف ، وأن يشترط على سبأ إبعاد الوزير خلف من عنده ، فلما فعل جياش ما أشار به الوزير ، واستحكمت أطماع العرب في البلاد واطمأنوا ، ثم أن القائد ريحان الكهلاني ، مولى سعيد بن نجاح ، بيت العرب ليلا ، وهم مرتبون على باب زبيد ، في عشرة آلاف. وكانوا ثلاثة آلاف فارس ، وعشرة آلاف راجل فلم ينجح منهم إلا صبابة يسيرة ، وهلك الجميع قتلا بالحراب ، وهرب سبأ في تلك الليلة ، راجلا في أغمار الناس ، حتى لقيه في آخر الليل من حمله ، فلم تعد العرب إلى تهامة (٨) بعدها [٣٩].

__________________

(١) في الأصل : بالوباء وأثبتنا رواية خ.

(٢) في الأصل : حلفت ، في خ : ظهرت.

(٣) في الأصل : ابن جياش.

(٤) أي يعتقل خلف (حاشية : ٣٩) (كاي).

(٥) في الأصل : الحيرة.

(٦) في الأصل : دابرة.

(٧) يظهر أنه توجد هنا عبارة ، لم تكتب في الأصل.

(٨) تعرف هذه بموقعة الكظائم : عيون : ٧ / ١٣٣ ؛ نزهة ١ / ٦١ ، [التعليق على الحاشية : ٣٩].

٨٢

ومن أخبار سبأ بن أحمد الداعي ما حدثني به الفقيه أبو عبد الله الحسين بن علي البجلي ، عن أبيه ، وكان يسكن بذي جبلة ، وهو من خواص الداعي سبأ بن أحمد قال : لما مات المكرم بن علي ، عن الحرة الملكة السيدة بنت أحمد ، خطبها الداعي سبأ بن أحمد ، فكرهت ذلك. فجمع العساكر ، وسار من أشيح ، يريد حربها بذي جبلة ، فجمعت هي أيضا جنودا أعظم من جنوده ، وتصاف العسكران ، وشب الحرب بينهما أياما. ثم قال له أخوها لأمها ، سليمان بن عامر الزواحي (١) والله لا أجابتك إلى ما تريد ، إلا بأمر الإمام المستنصر بالله ، أمير المؤمنين. فترك سبأ بن أحمد ، الداعي الأوحد المنصور قتالها ، ورجع إلى أشيح ، وسير إلى الإمام المستنصر بالله. رسولين هما : القاضي (أبو عبد الله) (٢) حسين بن إسماعيل الأصبهاني ، وأبو عبد الله الطيب. فكتب الإمام المستنصر بالله إليها في أثناء المكاتبات ثلاثة سطور يأمرها فيها بنكاح الداعي سبأ بن أحمد (وسير إليها) (٣) أستاذا له يعرف بحامل الدواة (٤) ، وينعت بيمين الدولة (٥) ، برسم الدخول على الحرة الملكة. قال البجلي : وكنت فيمن بعثه الداعي سبأ بن أحمد من حصن أشيح إلى ذي جبلة ، صحبة الرسولين والأستاذ ، الواصلين من القاهرة المعزية. فحين دخلنا على الحرة الملكة السيدة بنت أحمد ، وهي بدار العز من ذي جبلة ، تكلم الأستاذ وهو واقف بين وزرائها ، وكتابها ، وأهل دولتها قيام لقيامه فقال : أمير المؤمنين يرد (السلام) (٦) على الحرة الملكة ، السيدة الرضية الزكية وحيدة الزمن. سيدة ملوك (اليمن) (٧). عمدة الإسلام ذخيرة الدين. عصمة المسترشدين. كهف المستجيبين. ولية

__________________

(١) ذلك لأن الرداح أم السيدة كانت قد تزوجت من الداعي عامر بن سليمان الزواحي فأنجبت سليمان هذا ، فهو أخو الملكة لأمها.

(٢) الزيادة من خ.

(٣) خطط : ١ / ٤٤٩.

(٤) في الأصل : حامل المدية والتصحيح من أنباء / دار : ٤٣ ؛ عيون : ٧ / ١٤٣.

(٥) في الأصل : يمن الدعوة والتصحيح من نفس المصدرين السابقين.

(٦) زيادة من (كاي).

(٧) في الأصل : الزمن ، والتصحيح من أنباء / دار : ٤٣.

٨٣

أمير المؤمنين. وكافلة أوليائه الميامين [٤٠]. ويقول لها : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦) (١) وقد زوجك مولانا أمير المؤمنين من الداعي الأوحد ، المنصور ، المظفر ، عمدة الخلافة أمير الأمراء. أبي حمير سبأ بن أحمد بن المظفر (بن) ((٢)) علي الصليحي. على ما حضر من المال. وهو مائة ألف دينار عينا. وخمسون ألفا أصنافا. من تحف ، وألطاف وطيب ، وكساوي ، فقالت : أما كتاب مولانا فأقول فيه : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣٠) (٣). ولا أقول في أمر مولانا : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(٤). وأما أنت يا ابن الأصبهاني ، فو الله ما جئت إلى مولانا (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(٥) ، ولقد حرفتم القول عن موضعه. وسولت لكم أنفسكم أمرا (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(٦) [٤١].

ثم تقدم زريع بن أبي الفتح وزيرها ، والأصبهاني ونظراؤهما ، فلم يزالوا يلاطفونها (٧). حتى أجابتهم (٨). فعقدوا النكاح. ولم يلبث سبأ بن أحمد أن سار في أمم عظيمة إلى ذي جبلة ، فأقام بها شهرا ، والضيافات الواسعة (تخرج) (٩) إلى (١٠) مخيمه ، وأنفق على عساكره من ماله مثل (ما) (١١) قدمه إليها من المهر.

__________________

(١) سورة الأحزاب ؛ آية : ٣٦ ، وجاء في الأصل : ضلالا بعيدا.

(٢) الزيادة من خ.

(٣) سورة النمل ؛ آية : ٣٠.

(٤) سورة النمل : ٣٢.

(٥) سورة النمل : ٢٢.

(٦) سورة يوسف : ١٨.

(٧) في الأصل : يلاطفون بها.

(٨) قرة : ورقة : ٢٥.

(٩) زيادة اقتضاها السياق.

(١٠) في الأصل : علي.

(١١) زيادة اقتضاها السياق.

٨٤

ورأى (١) الداعي سبأ بن أحمد من علو همتها (٢) ، وشرف أفعالها (ما حقر نفسه معها) (٣) ، وإن أحدا من الناس لا يعدل بها أحدا ، وكل أحد يقول : مولاتنا ، مولاتنا. وأرسل الداعي سبأ بن أحمد إلى الحرة الملكة في السر ، يسألها أن تأذن له بالدخول إليها ، إلى دار العز. ليتوهم الناس أنه دخل بها ، ففعلت ذلك ، وزعم قوم من أهل ذي جبلة أنه اجتمع بها ليلة واحدة ، ثم ارتحل في صبيحتها ، وقوم يقولون : إنها بعثت إليه جاريتها فلانة ، وكانت شبيهة بها. ونمى ذلك إلى الداعي سبأ بن أحمد فباتت الجارية واقفة على رأسه ، وهو جالس لا يرفع طرفه إليها ، حتى إذا طلع الفجر ، صلى. وأمر بضرب الطبول ، وقال للجارية : أعلمي مولاتنا أنها نطفة شريفة لا توضع إلّا في مستحقها. ثم سار فلم يجتمعا [٤٢] بعد. ويقال : إن الداعي سبأ بن أحمد ، ما وطىء أمة قط ، ولا شرب مسكرا ، وكانت زوجته الجمانة بنت سويد بن يزيد (٤) الصليحي ، تقول : «أنا لا أغير على مولانا سبأ ، لأنه لا يطأ أمة قط». والعربيات تقول : ما أنسلت حواء مثل الجمانة ، غير أسماء بنت شهاب.

ودخل في هذه المدة شجاع الدولة ، وأغنوه ، ودفع له شمس المعالي ألوفا من المال ، وكان كريما ، وهو زوج فاطمة بنت المكرم ، من الحرة الملكة ، ثم تزوج عليها ، فكتبت إلى أمها ، تستنجدها ، فأمدتها بالمفضل (٥) بن أبي البركات في عساكر. ولبست فاطمة زي الرجال. وفصلت (٦) من حصن زوجها في عسكر المفضل ، فسيرها إلى أمها الملكة ، وأدام الحصار على شمس المعالي ، حتى أخرجه من مملكته بأمان على نفسه. فوصل إلى الأفضل مستنجدا ، فلم يلتفت الأفضل إليه ، ولم يكرمه

__________________

(١) في الأصل : وأني ، والتصحيح من خ.

(٢) في الأصل : من على ، التصحيح من (كاي). والأفضل أن نقول من عالي.

(٣) في الأصل : وخفي ذكره عنه ، والتصحيح من عيون.

(٤) في خ : زيد.

(٥) في الأصل : بالفضل.

(٦) يعني خرجت.

٨٥

[٤٣] ، وحمل إليه الأمير شجاع الدولة ، الذي كان قد أغناه في اليمن ، ثلاثين (١) أردبا من الشعير ، ولم يطعمه لقمة خبز ، ولا أحسن معه عشرة. وعاد علي بن سبأ ، وشمس المعالي إلى اليمن ، فملك حصون أبيه ، ودس عليه الأمير المفضل من قتله بالسم سنة خمس وتسعين وأربع مئة (١٠).

هذه أخبار الملك المفضل بن أبي البركات بن الوليد

الحميري ، صاحب التعكر :

لما اختط المكرم بن علي دار العز بذي جبلة ، وانتقل عن صنعاء إلى مخلاف جعفر ، قال عبد الله بن يعلى :

هب النسيم فبت كالحيران

شوقا إلى الأهلين والجيران

ما مصر ما بغداد ما طبرية

كمدينة حفها نهران

خدد لها شام وحب مشرق

والتعكر السامي الرفيع يمان

وكان التعكر يومئذ في يد السلطان أسعد بن عبد الله بن محمد الصليحي ، ابن عم الملك المكرم ، الذي قتل مع الداعي علي بن محمد ، أخيه في المهجم فساءت سيرة (٢) هذا ، أسعد بن عبد الله بن محمد ، ابن عم الملك المكرم ، فنقله عن مجاورته ، وعن التعكر وعوضه حصون ريمة وأعماله (وجعل أبا البركات بن الوليد واليافي التعكر وأعمالها) (٣) وولى (٤) أخاه أبا الفتوح (٥) بن الوليد حصن تعز [٤٤]. والمفضل يتوصف للملك المكرم بذي جبلة ، وهو من صغار الدار ، الذين يدخلون على الحرة الملكة ، في رسائل الملك المكرم والحوائج بينهما.

__________________

(١) في الأصل : ثلاثون.

(٢) في الأصل : عشرة.

(٣) الزيادة من خ.

(٤) في الأصل : وولاه.

(٥) في الأصل : الفتح.

٨٦

لما مات أبو البركات والد الأمير المفضل ، بعد الملك المكرم ، جعلت الحرة ولاية التعكر ، إلى المفضل بن أبي البركات ، بعد أبيه ، وكان التعكر مقر ذخائر بني الصليحي التي صارت إليهم من ملوك اليمن ، والحرة تطلع من ذي جبلة في أيام الصيف ، فتقيم به. وإذا برد الوقت سكنت بذي جبلة. والمفضل يتصرف عن أوامرها ، ويدخل عليها مع خواص وزرائها. والأمراء والأكابر من عبيدها ، وهو رجل الدولة ومدبرها ، والمرجوع إلى رأيه وسيفه ، والحرة لا تقطع أمرا إلا به ، فعظم بذلك شأنه ، وعلت كلمته ، وغزا تهامة مرارا (فتارة) له و (تارة) (١) عليه ، وهبط عدن مرارا ، ولم يبق باليمن من يساميه (٢) ، ثم قال للحرة يوما. وهو في التعكر : انظري يا مولاتنا إلى ما كان في هذا الحصن من ذخائرك ، فانزلي به إلى دار العز ، أو فاعزليه في بعض هذه القصور. وأما هذا الجحر ـ يعني التعكر ـ فاتركيه لي ، فلا طاعة لك عليّ فيه بعد اليوم. فقالت له (٣) : لو لم تقل هذا القول ما أخوجتك إليه (٤) ، الحصن حصنك ، وأنت رجل البيت ، ولا حرج عليك مني ، فيما عاد لسمو قدرك ، وعلو أمرك. فخجل منها وأطرق ، ونزلت الحرة الملكة إلى ذي جبلة ، ولم تغير من الأحوال شيئا ، فكان ينزل إليها ثم يترضاها في طلوع الحصن كعادتها ، فلا تفعل.

وهي مع (٥) ذلك تواصل بره بما يحسن عنده موقعه ، من الجواري المغاني ، والكساوي ، والطيب ، والعبيد ، والأستاذين وغير ذلك. ومن لامها فيه ، وحذرها منه لم تسمع كلامه. وله في نصرتها والذب عن أعمال دولتها مواطن حميدة ، منها : أنه حارب الداعي سبأ بن أحمد ، حين خطب الحرة فلم تفعل ، فسار إلى سبأ في جيوش عديدة ، وحارب علي بن سبأ صاحب

__________________

(١) الزيادة من خ.

(٢) يماثله ويجاريه.

(٣) في الأصل : قالت.

(٤) في الأصل : ما أخرجتك ، في خ : أحوجتك.

(٥) في الأصل : في والتصحيح من خ.

٨٧

قيضان (١) [٤٥]. وأخرجه منه ، وحارب عمرو بن عرفطة (٢) الجنبي (٣) ، وغيره من سنحان ، وعنس ، وزبيد ، واسترجع لها نصف عدن من آل الزريع بمائة ألف دينار كل سنة.

وحدثني الشيخ أبو الطاهر القابوني قال : أذكر يوما وأنا عند المفضل بن أبي البركات ، وقد أتاه ارتفاع نصف عدن ، خمسين ألف دينار ، فسيرها من وقته إلى الحرة الملكة ، إلى ذي جبلة ، ولم يتعلق منها بشيء ، فعاتبته على ذلك ، فقال : ليس ينفعني إلا ما حصل [لي](٤) عندها. فلما وصل المال إليها أعادته إليه ، وقالت : أبقيه عندك ، فأنت أحوج إليه منا. قال أبو الطاهر : ففرق المفضل على الحاضرين عشرة أكياس ، فنالني منها كيس ، فيه ألف دينار.

وكان المفضل يحتجب حتى لا يرجى لقاؤه ، ثم يظهر فيغني من اجتمع ببابه من الوفود ، ويصل إليه الضعيف والقوي ، فينظر في أحوال الأعمال والعمال ، ويجيب عن كل كتاب وصل إلى الباب. ثم يغيب فلا يظهر ، ولا يوصل إليه ، وهذه عادته منذ عظم أمره.

ولما أخرج المنصور (بن فاتك) (٥) بن جياش ، بعمه ، عبد الواحد بن جياش ، هاجر هو وعبيده إلى الملك المفضل ، والتزموا على النصرة ربع البلاد ، فسار المفضل معهم ، فأخرج عبد الواحد وملكهم (٦) ، ثم هم أن يغدر بهم ، ويملك زبيد عليهم ، فحين خلا التعكر من المفضل وطالت إقامته بتهامة (٧) ، وفي التعكر نائب يقال له الحمل ، وكان هذا الحمل متقمصا (٨) ،

__________________

(١) في خ : قبطان ، في ياقوت ٦ / ١٩٧ : قبظان.

(٢) عيون : ٧ / ١٨٤.

(٣) في الأصل : الجبني ، والتصحيح من عيون : ٧ / ١٨٤.

(٤) زيادة من (كاي).

(٥) زيادة من (كاي) ، انظر أيضا لوحة النجاحيين في التعليق على الحاشية [١٣٠].

(٦) ثغر عدن : ٢ / ٨٦.

(٧) وكان ذلك في سنة ٥٠٣ ه‍.

(٨) قمص : لبس القميص ، ويقال تقمص الولاية ، وتقمص لباس العز ، ولعل المراد على سبيل الاستعارة ، تقمص لباس التقى.

٨٨

متمسكا بالدين فصعد إليه إلى التعكر ، سبعة من إخوانه الفقهاء ، منهم محمد بن قيس (١) الوحاظي ، ومنهم عبد الله بن يحيى ، ومنهم إبراهيم بن محمد بن زيدان ، وله كانت البيعة ، وهو عمي (٢) ، أخو والدي لأبيه وأمه [٤٦] ، وأخذوا الحصن من الحمل (٣).

وكانت الرعايا من السنة قد قالوا للفقهاء : إذا حصلتم في رأس الحصن فأوقدوا النار ، ففعلوا ذلك ليلا ، فأصبح عندهم على باب الحصن عشرون ألفا ، واستولت الفقهاء على ملك لم يعهد. ووصل الخبر إلى الأمير المفضل بتهامة فسار لا يلوي على أحد ، حتى وصل إلى التعكر (فطلع عزان التعكر ، وصار محاصرا للتعكر) (٤) ، وحصر الفقهاء ، فقامت خولان (٥) في نصرة الفقهاء ، وأقام الحصار عليهم ، ثم رأوا أن خولان خاذليهم ، فقال لهم إبراهيم بن زيدان : لن أموت حتى أقتل المفضل ، ثم أهلا بالموت. فعمد إلى حظاياه من السراري فأخرجهن ، في أكمل زي وأحسنه ، وجعل بأيديهن الطارات ، وأطلعهن على سقوف القصور. بحيث يشاهدهن (٦).

وكان المفضل أكثر الناس غيرة وأنفة ، فقيل : إنه مات في تلك الليلة ، وقال آخرون : امتص خاتما كان في يده ، معدا عنده ، فأصبح ميتا ، والخاتم في فيه ، فكان موته في رمضان سنة أربع وخمس مئة (٧).

ولما مات المفضل طلعت الحرة الملكة من ذي جبلة ، وخيمت بالربادي (٨) على باب التعكر ، وكاتبت الفقهاء ولاطفتهم ، إلى أن كتبت لهم

__________________

(١) في الأصل : قبس.

(٢) أي عم عمارة اليمني.

(٣) انظر حاشية : ٤٦ (كاي).

(٤) زيادة من سلوك ؛ خ.

(٥) عيون : ٧ / ١٧٩ ؛ ياقوت : ٢ / ٤٩٩ ؛ صفة : ٨ ، ٧٤. والمراد بها هنا طائفة من خولان العليا (الصليحيون : ١٦٥ ـ هامش ٢).

(٦) في الأصل : يشاهن.

(٧) والأفضل أن نقول : إنه مات كمدا لشدة غيرته وأنفته (الصليحيون : ١٦٥).

(٨) في الأصل : الريادي. والربادي اسم (للمنطقة التي منها التعكر) الصليحيون : ١٦٥ هامش ٦.

٨٩

بخطها ، بما اقترحوه من أمان وأموال ، واشترط عليها أن ترحل هي وجميع الحشود ، ويصل إليهم من يرضونه واليا ، ويقيمون مع الوالي ، إلى أن تصل غنائمهم مأمنهم ، فوفت لهم بذلك. وولت التعكر مولاها فتح بن مفتاح. وحدثني السلطان ناصر بن منصور قال : حدثني عمك إبراهيم بن زيدان ، بعد نزوله من التعكر أن نصيبه من العين كان خمسة وعشرين ألفا (١). وكانت خولان قد دخلت منها إلى مخلاف جعفر ، قبل موت الملك المفضل ، ستة آلاف برمي الشعر (٢) ، وأكثرها بنو بحر ، وبنو ضنة ، ومران ، ورواح ، ورازح ، وشعب حي ، وبنو جماعة [٤٧] ، ففرقهم المفضل في الحصون ، واستحلفهم للملكة.

فلما مات المفضل وثب من مران ، رجل يقال له مسلم بن الزر (٣) ، على حصن خدد (٤) ، فأخرج منه السلطان عبد الله بن يعلى الصليحي ، الشاعر الأديب ، الفاضل الكامل ، وملكه. وكان عبد الله بن يعلى هذا كثير الأموال ، فانتقلت أمواله إلى مسلم (٥) بن الزر. فقويت شوكته ، واتصل بالحرة الملكة ، وبحواشيها ، ورجا أن تقيمه الحرة عوضا عن المفضل من أبي [٤٨] البركات (٦) ، وبعث إليها بولديه : عمران وسليمان ، فحسن موقعهما من قبله ، وأمرت بهما فعلما الخط على كبر. فلما كان بعد ذلك زوجت سليمان وعمران بعض ربائبها عندها ، وصارا يختلفان إلى أبيهما بخدد ، وخولان مستظهرة ، ولهم صولة وكلمة.

فلما مات مسلم ملك ولده سليمان حصن خدد ، وبقي عمران عندها ، ثم أن عمران حسنت حاله عندها. وكان فتح بن مفتاح بعد موت مسلم بن الزر خالف على الملكة مولاته بحصن التعكر ، واستبد به دونها ، فتلطف

__________________

(١) المقصود هو ٢٥ ألف دينار.

(٢) لم نتبين وجه الصواب في معنى (برمي الشعر) وترجمها (كاي) : نسمة.

(٣) صفة ٥٧ : يقول إنه من قبيلة خولان.

(٤) حصن من حصون مخلاف جعفر ، وهو في الجيش شمال التعكر (صفة ٧٨).

(٥) في الأصل : المسلم.

(٦) حاشية : ٤٨ (كاي) والتعليق عليها.

٩٠

عمران حتى خطب إلى القائد فتح بن مفتاح ابنته ، بعد خلافه وعصيانه عليها بالتعكر. فلما كانت ليلة الدخول بها ، دبر سليمان وعمران على فتح حتى غدرا به ، وملك عليه التعكر ، فأجاره عمران ، واشترط عليهما فتح أشياء ، وفيا له بها ، منها (١) : أنهما وهبا له حصنا يقال له شار ، فنقل إليه من الذخائر ما يعز عليه. فلما حصل التعكر بيد عمران واصل الحرة الملكة ببذل الطاعة والخدمة ، فلم تلتفت إليه. وامتدت أيدي خولان على الرعايا وغيرهم ، وعاثوا وأفسدوا ، وكانت الليلة التي ملكوا فيها حصن التعكر ، ليلة الأحد ، الثاني عشر من ربيع الأول سنة خمس وخمس مئة.

ولم تزل هذه حالة خولان مع الحرة ، إذا رأتهم قد طغوا ، أرسلت إلى عمرو بن عرفطة الجنبي ، سطرا أو سطرين بخطها ، فيقبض على بلاد ابني الزر (بجيشه) (٢) من العساكر ، الفارس والراجل ، فلا يخلصهما منه إلا الضراعة إليها والسؤال لها في صرف العرب عنهما.

ولقد حكى لي السلطان يزيد بن عيسى الوائلي ، قال : أذكر وقد أرسلني عمران بن الزر إلى الحرة الملكة ، وهو مصاف للعرب ، يستنجد بالحرة ، فبعثت إليه بعشرة آلاف دينار معونة ، فرد (٣) بها إليها وقال (٤) : هي تعرف ما ينفعني. قال يزيد بن عيسى : فكتبت لي بخطها إلى عمرو بن عرفطة الجنبي برقعة فيها : إذا وقفت على أمرنا هذا ، فارتحل عن بلاد ابني (٥) الزر مشكورا.

فلما وقف عمرو بن عرفطة عليها ، نادى في الناس بشعار الرحيل. وهو قوله : يا راشد بن مروح [٤٩]. فلم يمض ساعة وبقي منهم (٦)

__________________

(١) في الأصل : منهما.

(٢) زيادة لاستقامة المعنى.

(٣) في الأصل : فردت.

(٤) في الأصل : وقال هل.

(٥) في الأصل : بني.

(٦) أي وما بقي منهم أحد.

٩١

أحدهم. فقال عمران لأخيه (١) : هذا وربك العز والطاعة.

ولما كان في سنة ثلاث عشرة وخمس مئة ، قدم إلى اليمن ابن نجيب الدولة. وهذه أخبار الموفق ابن نجيب الدولة ، منها : أنه كان في ابتداء أمره على خزانة الكتب الأفضلية ، وكان عزيز (٢) الحفظ ، مستبصرا في المذهب الطاهر ، قائما بتلاوة القرآن العزيز ، وكان يقرأ على روايات (٣). فأما اسمه ، فهو علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة ، وأما نعوته : فهو الأمير المنتخب عز الخلافة الفاطمية ، فخر الدولة ، الموفق في الدين داعي أمير المؤمنين (٤) ، سار بمن معه من (٥) الحجرية [٥٠] عشرون فارسا مختارة منتقاة.

وحين وصل ابن نجيب الدولة إلى جزيرة دهلك ، لقيه الكاظم ، الواصل من عدن ، محمد بن أبي عرب ، الداعي ، من ولد صاعد بن حميد الدين ، فكشف لابن نجيب الدولة ، أسرار اليمن ، وأحوال الناس كلهم ، وأسماءهم وحلاهم وكناهم وتواريخ مواليدهم ، وما تحت ثياب أكثرهم من شامة أو اثلول ، أو جراح أو أثر نار. فكان ابن نجيب الدولة إذا سألهم عن غوامض هذه الأشياء. اعتقدوا أنه يعلم الغيب [٥١] ، وأول ما عمل بذي جبلة ، أن أخذ رجلا من بني خولان من بني عمرو ، ثم من بني عمران بن الزر. يقال له سليمان بن عبيد. وهو رجل نبيه عال الذكر ، فضربه بالعصا حتى أخذت في ثيابه ، ورجعت خولان عن (٦) ذي جبلة ، فهم سليمان بن أحمد الزواحي (٧) ، ابن أخي الحرة الملكة ، وزوج أم همدان بنت المكرم. فأخذ الخولاني من ابن نجيب الدولة بغير اختياره ، فخلع عليه وأرسله إلى

__________________

(١) في الأصل : أخيه.

(٢) في الأصل : عزير.

(٣) يقوم على تلاوة القرآن بعدة قراءات (ثغر عدن : ٢ / ١٣٢).

(٤) عيون : ٧ / ١٨٠.

(٥) حاشية : ٥٠ (كاي) والتعليق عليها.

(٦) في الأصل : إلى ؛ وفي خ : وطرد خولان عن ذي جبلة.

(٧) في الأصل : الرواحي.

٩٢

قومه. فانكفت أكف خولان عن ذلك البسط. ثم أن ابن نجيب الدولة غزا أهل وادي ميتم [٥٢] وزبيد. وعز أهل السلة ، فأمنت البلاد ، ورخصت الأسعار ، وانكف الذعر وقبض يده عن أعمال الناس ، وعدل فيهم ، وأقام الحدود ، وعز به جانب الحرة الملكة. وانقمع أهل اليمن عن الطمع في أطراف بلادها ، واستخدم من بني حماس وسنجان : ثلاث مئة فارس ، وقدم (١) عليهم الطوق الهمداني (٢).

ولما مات الأفضل (٣) سنة خمس عشرة وخمس مئة ، قواه المأمون (٤) وشد أزره. وكتب إليه بالتفويض وبسط يده ولسانه ، وسير إليه المأمون أربع مئة قوس أرمني (٥) ، وسبع مئة أسود (٦) وسكن الجند (٧) وهي وطيئة للحافر ، متوسطة في الأعمال. فضاق (٨) الأمر على سلاطين الوقت وهم : سليمان وعمران ابني (٩) الزر ، ومنصور بن المفضل بن أبي البركات ، وسبأ بن أبي السعود ، ومفضل بن زريع.

وفي سنة ثمان عشرة (١٠) ، غزا (١١) زبيد (فقاتل أهلها على باب القرتب) (١٢). والوزير يومئذ من الله الفاتكي ، وكان (١٣) عشرة رماة من

__________________

(١) في الأصل : قوم ؛ التصحيح من عيون : ٧ / ١٨٣.

(٢) نزهة : ١ / ٦٧ ؛ وفي قلادة : ٢ / ٢ / ٦٦٦ : اشتد بهم جانبه.

(٣) أخبار مصر : ٢ / ٧٠ ؛ التعليق على حاشية : ٤٣ (كاي).

(٤) يقصد بذلك المأمون البطائحي وزير الآمر الفاطمي من سنة ٥١٥ إلى سنة ٥١٩ (اتعاظ : ٣٨٣ ملحق ١٣).

(٥) أي أربع مئة من الأرمن حاملي الأقواس.

(٦) عيون : ٧ / ١٨٢.

(٧) في خ : وأمرته السيدة أن يسكن الجند.

(٨) في الأصل : فضاق به الأمر.

(٩) في الأصل : ابنا.

(١٠) أي ثمان عشرة وخمس مئة.

(١١) في الأصل : دخل ، والتصحيح من خ.

(١٢) الزيادة من خ.

(١٣) في الأصل : كانت.

٩٣

أصحاب ابن نجيب الدولة قد استأمنوا إلى أصحاب زبيد ، ولما تزاحف الناس في الحرب ، رمى رجل من العشرة المستأمنة بسهم ، فلم يخطىء أنف الفرس الذي عليه ابن نجيب الدولة ، فسقط علي بن إبراهيم إلى الأرض حتى شت به الفرس ، فانهزم عسكره ، فقتل السودان بأسرهم ، ولم ينج من الأرمن سوى خمسين ، وكانوا أربع مئة قوس.

وأما الداعي ، فقاتلت عليه همدان أشد قتال حتى أردفه منهم رجل يقال له السباعي (١) ، وجاهدت عنه من همدان خمسة عشرة فارسا ، أحدهم الطوق ، وعار (٢) فرس ابن نجيب الدولة من الوقعة ، صلاة الظهر يوم الجمعة ، فأصبح يوم السبت في مدينة الجند ، وبينها وبين زبيد أربعة أيام ، أو ثلاثة للمجد ، ولم يمس الخبر إلا بذي جبلة. بأن ابن نجيب الدولة قتل بزبيد ثم وصل الداعي إلى (٣) الجند. بعد أربعة أيام ، وركب إلى ذي جبلة ، واجتمع بالحرة. فارتاش (٤) ، وعادت حاله. فغزا بلاد سليمان بن أبي الزر ، أربعة أشهر ثم تهادنا ، وعاد إلى الجند. ثم غزا آل الزريع إلى الجوة (٥) ، فالتقى معه المفضل (٦) ابن زريع بحمى بني سلمة (٧). فطعن ابن نجيب الدولة ، وكان جعد الفراسة (٨) ، فسقط إلى الأرض ، فطعنه عبد لمسعود بن زريع (٩) ، يقال له مسافر ، وحمل الطوق الهمداني على مسافر فقتله ، ووقف عند ابن نجيب الدولة حتى ركب. وعاد ابن نجيب الدولة إلى الجند ، وكان جوشنه (١٠) قد سقط ، ووقع على الأرض في هذه المعركة. فقال مفضل بن

__________________

(١) في الأصل : الساعي.

(٢) عار الفرس أي انقلب وذهب ههنا وههنا (صحاح / عار).

(٣) في الأصل : من.

(٤) راشه المرض يروشه يعني أضعفه.

(٥) ياقوت : ٣ / ١٧٩.

(٦) في الأصل : مع ابن المفضل.

(٧) في الأصل : بالحملة بني سلمة.

(٨) أي لم يكن فارسا.

(٩) يلي ذلك : يقال له زريع.

(١٠) درعه.

٩٤

زريع في ابن نجيب الدولة لما سقط جوشنه :

مضى هاربا ناسيا جوشنه

مخافة يام بأن تطعنه

وليس من الموت ينجي الفرار

كذاك ترى الأنفس الموقنة [٥٣]

وفي سنة تسع عشرة [وخمس مئة](١) ساءت سيرته (٢) على الملكة الحرة وقال : قد خرفت ، واستحق عندي أن يحجر عليها. فعند ذلك وصل إليها السلاطين الستة : (٣) سليمان وعمران ابنا الزر ، وسبأ بن أبي السعود ، وأبو الغارات ، وأسعد بن أبي الفتوح ، والمنصور بن المفضل. واستأذنوها في حصار ابن نجيب الدولة في الجند ، فأذنت لهم. وكانت الجند مسورة ، ومعه فيها من همدان أربع مئة فارس منتقاة.

فجاءته السلاطين في ثلاثة آلاف فارس ، وثلاثة آلاف راجل (٤) ، وأحاطوا به. وكانت مع ابن نجيب الدولة في الجند فرسان ، كل فارس منهم (٥) يعد بمئة فارس ، منهم : الطوق بن عبد الله ، ومحمد بن أحمد بن عمران بن الفضل بن علي اليامي ، وعبد الله بن عبد الله (٦) ، الذي ولي الدعوة بعد ابن نجيب الدولة ، وهو من بني الصليحي ، ومنهم علي بن سليمان الزواحي (٧) ، وأبو الغيث بن سامر ، ومحمد بن الأعز. وعاش إلى أن ذبحه ابن مهدي غدرا ، ومنهم الفريدين.

ولما اشتد الحصار على ابن نجيب الدولة ، وهو في أشد التعب ، كتبت الحرة الملكة على جاري العادة منها إلى عمرو بن عرفطة الجنبي ، فأتاها (٨) فخيم في ذي جبلة ، وبعثت إلى وجوه القبائل ففرقت فيهم عشرة

__________________

(١) زيادة لاستقامة المعنى.

(٢) في الأصل : عشرته ؛ وفي خ : سيرته.

(٣) في الأصل : أربعة.

(٤) في خ : ٣٠ ألف.

(٥) في الأصل : منهما.

(٦) في نزهة : ١ / ٧٠ ـ علي بن عبد الله.

(٧) في الأصل : الرواحي.

(٨) في الأصل : فأتاهم.

٩٥

آلاف [دينار](١) مصرية. وقالت للرسل أشيعوا في القبائل أن ابن نجيب الدولة ، فرق في الناس عشرة آلاف [دينار](٢) مصرية. فإن أنفق السلاطين (٣) شيئا من الذهب المصري ، وإلا ارتحلنا. فلما خوطب السلاطين بذلك ، وعدوا الناس. فلما كان من الليل ارتحل السلاطين ، كل واحد منهم إلى بلده ، وأصبحت الحشود من كل بلد بلا رأس ، فانفض الناس عن الجند (٤) فقيل لابن نجيب الدولة : هل أبصرت هذا التدبير للتي قلت إنها قد خرفت. فركب إلى ذي جبلة ، وتنصل واعتذر (٥). وكانت الملكة حجة الإمام عليه السلام. وكان سبب هذا القبض [٥٤] على ابن نجيب الدولة ، [على ما حدث](٦) الفقيه أبو عبد الله الحسين بن علي البجلي (٧) ، أن المأمون في وزارته ، سيّر رسولا إلى اليمن كان يحمل السيف ، ويسمى الأمير الكذاب ، فلما وصل اجتمع بابن نجيب الدولة في ذي جبلة في مجلس حافل ، ولم يكن ابن نجيب الدولة أكرمه ، ولا أضافه ، ولا عني به ، وقصد أن يغض منه ، فقال له ابن نجيب الدولة : أنت والي الشرطة بالقاهرة. فقال : بل الذي يلطم (٨) خيار من فيها عشرة آلاف نعل (٩) فغضب (١٠) من ذلك ابن نجيب الدولة.

والتصق أعداء ابن نجيب الدولة إلى هذا الرسول ، وأكثروا بره ، وحمل الهدايا إليهم ، وضمن لهم هلاك علي بن إبراهيم بفصلين :

أما أحدهما فقال : اكتبوا على يدي إلى مولانا الآمر كتبا تذكرون فيها

__________________

(١) زيادة من خ.

(٢) زيادة من خ.

(٣) في خ : فطلبت العساكر من سلاطينهم أن ينفقوا عليهم.

(٤) في خ : حدث هذا في المحرم سنة ٥٢٠ ه‍.

(٥) عيون : ٧ / ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٦) الزيادة من (كاي).

(٧) في الأصل : الحلبي.

(٨) في الأصل : ألطم.

(٩) في الأصل : غير معجمة.

(١٠) في الأصل : غض.

٩٦

أنه دعاكم إلى نزار (١) وراودكم على ذلك فامتنعتم. والفصل الثاني : اضربوا سكة نزارية ، وأنا أوصلها إلى مولانا الآمر بأحكام الله. ففعلوا ذلك ووافق وصوله من اليمن القبض على المأمون ، فأوصل الكتب والسكة إلى مولانا ، فقضى ذلك بتسيير الأمير الموفق ابن الخياط للقبض على ابن نجيب الدولة [٥٥] ، وسار معه من الباب مئة فارس من الحجرية المفظعين.

وممن كان في صحبة ابن الخياط (٢) هذا ، عز الدين ، وسار مع ابن الخياط ابنه سعد الملك. فلما وصل الخبر أن الرسول في دهلك ، توجه ابن نجيب الدولة إلى زبيد ، بعد امتناع ، وكراهية لذلك. وكان يقول : داع لا ينافق ، والموت أصلح من النفاق. ودخل أعداؤه إلى الحرة الملكة ، وقالوا لها : احتفظي يا مولاتنا ابن نجيب الدولة ، فإن الإمام لا يطلبه إلا منك ، فتمارضت الملكة وأرسلت إليه الشريف أسعد بن عبد الصمد بن محمد الحوالي ، وكان أصدق الناس إليه. فأدركه في الجند على ليلة. فقال له : هذه الحرة الملكة ، حجة مولانا ، مشرفة على الموت وليست تثق بأحد إلا بك ، فارجع إليها فرجع ، فاحتفظت به على كرامة ، وقيدته ، بقيد فضة ، فيه خمسون أوقية.

ووصل الرسول من عدن يطلبه ، فامتنعت الحرة الملكة عليه ، وقالت له : «أنت حامل كتاب مولانا فخذ جوابه ، وإلا فاقعد حتى أكتب إلى مولانا ويعود الجواب». فدخل السلطانان سليمان وعمران ابنا الزر وبذلا لعبد الله بن المهدي المعمري عشرة آلاف دينار ، وحصنين بأعمالهما. وكانت الحرة الملكة إلى رأيه ، فخوفها سوء السمعة بالنزارية ، وأمر الرسول ومن معه أن يشيعوا بذلك. ولم يزل بها حتى استوثقت لابن نجيب الدولة من ابن الخياط بأربعين يمينا. وكتبت إلى مولانا الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين ، وسيرت رسولا ، هو كاتبها محمد بن الأزدي (٣) وكان أديبا منشئا للديوان ،

__________________

(١) حاشية ٢٥ (كاي) والتعليق عليها.

(٢) في الأصل : هذا ابن الخياط.

(٣) في الأصل : الأزرقي والتصحيح من خ.

٩٧

بليغا ، مجيد الألفاظ ، باهر الإحسان. ثم سيرت الحرة الملكة في الهدايا بدرة (١) ، قيمة الجواهر التي فيها أربعون ألف دينار ، وشفعت فيه فما هي إلا أن خرج من ذي جبلة بقفص خشب والناس ينظرون إليه فقال : «ما تنظرون؟ أسد في قفص».

ثم ساروا به إلى أن فارقوا ذي جبلة بليلة ، حتى جعلوا في رجله طوبة (٢) من مئة رطل حديد وشتموه ، وأهانوه ؛ وبات في الدهليز عريانا في الشتاء. وبادروا به من عدن (وسفروه إلى مصر) (٣) في جلبة (٤) سواكنية ؛ وأخروا رسولها محمد بن الأزدي بعده (٥) بخمسة أيام (٦) ؛ ثم سفروه ؛ وتقدموا على ربان المركب أن يغرقه (٧) ، فغرق بما فيه على باب المندب. ومات ابن الأزدي غريقا. فجزعت الحرة على ذلك [٥٦] حيث لا ينفعها ذلك (٨) ، ودخل (٩) عليها سليمان وعمران ابنا الزر شامتين بابن نجيب الدولة ، وخرجا من عندها ، وهما (١٠) يقولان : صدق الفقيه في قوله : قال عبد الله بن عباس : «كنا ندخل نسمع الحديث عن عائشة فلا نخرج حتى نعلم أنها امرأة» ، فكان آخر دخولهما (١٠) ، عليها (١١).

__________________

(١) في الأصل : بدنة.

(٢) في خ : لبنة.

(٣) زيادة من خ.

(٤) سفينة من سواكن.

(٥) في الأصل : بعدها.

(٦) في خ : بعده بخمسة عشرة يوما.

(٧) في الأصل : يغطيه والتصحيح من خ.

(٨) ثغر عدن : ٢ / ١٢٤.

(٩) في الأصل : ودخلا.

(١٠) في الأصل : هم.

(١١) الصليحيون : ١٧٤ ـ ١٨٥.

٩٨

أخبار الزريع بن العباس بن الكرم اليامي أمير (١) عدن

أما نسبتهم فمن همدان ، ثم من جشم بن يام بن أصغى (٢). وكانت لجدهم العباس بن الكرم (٣) ، سابقة محمودة ، وبلاء حسن في قيام الدعوة المستنصرية ، مع الداعي علي بن محمد الصليحي ، ثم مع ولده الداعي المكرم بن علي ، عند نزوله إلى زبيد ، وأخذ أمه الحرة بنت شهاب من [أسر](٤) الأحول سعيد بن نجاح.

وكان السبب في ملكهم لعدن ، أن الصليحي علي بن محمد ، لما فتحها ، و [كان](٥) فيها بنو معن ، في عدن [٥٧] ، فسار إليهم المكرم ففتحها ، وأزال بني (٦) معن منها ، وولاها العباس ومسعود ، ابني الكرم. وجعل مستقر العباس (حصن) (٧) التعكر (٨) (على باب) (٩) عدن ، وهو يجاور الباب ، و (جعل له) (١٠) ما حصل من البر. وجعل لمسعود حصن الخضراء ، وهو الساحل (المستولي على البحر) (١١) ، والمراكب ، ويحكم على [٥٨] المدينة (١٢) ، استحلفهما ، للحرة الملكة السيدة بنت أحمد ، لأن الصليحي كان أصدقها عدن حين زوجها من ولده المكرم سنة ثمان وخمسين وأربع

__________________

(١) في الأصل : أهل.

(٢) في الأصل : أصبا.

(٣) في الأصل : الكزم ؛ وفي خ : المكرم ؛ وفي العبر : الكرم.

(٤) زيادة من خ.

(٥) زيادة من (كاي).

(٦) في الأصل : بنو.

(٧) زيادة من سلوك.

(٨) في الأصل : وجعل مستقر العباس تعكر عدن.

(٩) زيادة من سلوك.

(١٠) زيادة من سلوك.

(١١) زيادة من سلوك.

(١٢) راجع الجدول حاشية : ١١٣ (كاي).

٩٩

مئة (١) ، ولم يزل ارتفاع عدن (من وقت تولية العباس ومسعود) (٢) يرفع إلى الملكة السيدة ، وهو مئة ألف (دينار ، وقد) (٣) يزيد ، و (قد) (٤) ينقص ، إلى (أن توفي العباس بن) (٥) الكرم (٦). فلما مات المكرم (٧) ، وفى لها [زريع](٨) بن العباس ومسعود ، فلما قتلا على باب زبيد ، انتقل أمر عدن إلى ولديهما : أبي السعود بن زريع وأبي الغارات بن مسعود فتغلبا على الحرة ، [فبعثت](٩) المفضل بن أبي البركات إلى ، عدن ، وجرت بينه وبينهما حروب ، كان آخرها المصالحة على نصف ارتفاع عدن.

ولما مات المفضل بن أبي البركات ، تغلب أهل عدن على النصف الثاني ، فسار إليهم أسعد بن أبي الفتوح ، عم الملك المظفر ، وصالحهم على ربع الارتفاع للحرة. فلما ثار (١٠) بنو الزر في التعكر ، تغلب أهل عدن على الربع الذي للملكة ، ولم يبق لها شيء في عدن ، لموت رجالها. ولم يقدر (١١) ابن نجيب الدولة في ذلك على شيء. فهذه أحوال ملكهم لعدن (١٢).

أما أخبارهم فيما شجر بينهم ، فإن المفضل بن أبي البركات نزل في

__________________

(١) في الأصل : سنة إحدى وستين وأربع مئة والتصحيح من «الصليحيون» : ١٤٧.

(٢) في الأصل : من سنة إحدى وستين ، والتصحيح من (كاي).

(٣) زيادة من خ.

(٤) زيادة من خ.

(٥) زيادة من خ.

(٦) في الأصل : الكزم.

(٧) المكرم أحمد بن علي الصليحي.

(٨) هنا ارتباك في الأصل فقد ورد : وفى لها العباس بعد موت المكرم ومسعود ابني الكزم. فلما ماتا تغلب على عدن زريع بن العباس ، وأبو الغارات بن مسعود ، فسار المفضل. ولكني صححت النص بالرجوع إلى خ.

(٩) زيادة من خ.

(١٠) في الأصل : ثارت.

(١١) في الأصل : يقلد.

(١٢) حاشية : ٥٧ (كاي).

١٠٠