تاريخ اليمن

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني

تاريخ اليمن

المؤلف:

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني


المحقق: الدكتور حسن سليمان محمود
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

بأسماء. وهي أم الملك المكرم ، زوج الحرة الملكة السيدة أروى (١) بنت أحمد الصليحي. وكانت أسماء من الكرم والسؤدد ، والجوائز السنية الجزيلة للشعراء ، والصلات الواسعة في سبيل الله تعالى ، وفي سبيل المروءة والخير ، بحيث يمدح أولادها وإخوتها وبنو عمها بمفاخرها ، وفيها يقول شاعر زوجها واسمه : عمرو (٢) بن يحيى الهيثمي من قصيدة أولها :

حثمت بيضاء الأنامل حثما (٣)

ومنها :

وسمت في السماح سنة جود

لم تدع من معالم البخل رسما (٤)

قلت إذا عظمو البلقيس عرشا

دست أسماء من ذرى المجد (٥) أسمى [٢٨]

ومن أخبار الداعي علي بن محمد الصليحي ، ما حدثني أحمد بن حسين الأموي المعروف بابن السبخة (٦) ، عن أبيه ، عن جده قال : كنت أسكن في مدينة حيس ، وبينها وبين زبيد ليلة ، فلما ملك الصليحي زبيد ، وقد ركب إلى مجلس القاضي ، وأدى عنه شهادة ، كان قد تحملها في صباه ، ثم تحدث مع القاضي سرا ، وافترقا. وأخبر القاضي بعد قيام السلطان (٧) علي بن محمد الصليحي أنه قال : إني نزلت إلى مدينة حيس ، استطلع خبر عبدي مرجان : نفيس ونجاح ، فمر علي بعض من يعرفني ، فتجردت عن ثيابي ، ولبست ثياب سلاط يبيع السليط في معصرة من معاصر حيس. وتحملت هذه الشهادة يومئذ في منزل رجل يقال له : السبخة ، ولما

__________________

(١) الصليحيون : ١١٣ ـ ٢١١.

(٢) في الأصل : أسعد وقد نسب الأزدي البيتين إلى الشاعر حسين القمي.

(٣) هذا من هامش عمارة / كاي : ١٦ ؛ أما في الأصل : حشمت بيض الأنامل حشا.

(٤) رواية الأزدي : سمة جود.

(٥) في الأزدي والأهدل : المجد ؛ في الجندي ؛ خ : النجم (التعليق على الحاشية ٢٨).

(٦) في الأصل : السخة.

(٧) في الأصل : الأمير.

٦١

ملكت الأمر وقفت لي عجوز بخطي فعرفته (١) ، فلم يسعني إلا أداء شهادتي. وكان مثال ما كتبته بخطه ليذكره إن شاء الله تعالى.

ومن أخبار الصليحي في مبادىء أمره ، ما حدثني به السلطان ناصر بن منصور الوائلي ، عن جده عيسى بن يزيد ، قال : إن عليّا (٢) بن محمد الصليحي ، كان دليلا على طريق السراة [والطائف](٣) خمس عشرة [سنة](٤) ، وإن الناس في أول ظهوره كانوا يقولون له : قد بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره ، ويكون لك شأن ودولة ، فيكره ذلك ، وينكره على قائليه. مع كونه أمرا قد شاع في أقواله بأفواه الناس [من](٥) الخاصة والعامة.

ولما كان من سنة تسع وثلاثين (٦) وأربع مئة ، ثار الصليحي في رأس مسار ، وهو أعلى ذروة في جبال حراز. وكان معه يومئذ ستون رجلا ، قد حالفهم في مكة في موسم سنة ثمان وثلاثين (٧) وأربع مئة ، على الموت [و](٨) القيام بالدعوة ، وما منهم إلا من هو من قومه وعشائره في منعة وعدد كثير. ولم يكن برأس الجبل بناء ، بل كان قلة فائشة منيعة. فلما ملكها الصليحي لم ينتصف النهار الذي ملكها في ليله ، إلا وقد أحاط به عشرون ألف ضارب سيف وحصروه وشتموه وحمقوه وقالوا له : إما نزلت وإلا قتلناك أنت ومن معك بالجوع. فقال لهم : إني لم أفعل ما فعلت إلا خوفا علينا وعليكم ، فإن تركتموني أحرسه [لكم] وإلا نزلت إليكم ، فانصرفوا عنه (٩).

__________________

(١) أي أتتني عجوز وفي يدها ورقة بخطي.

(٢) في الأصل : علي.

(٣) زيادة من وفيات.

(٤) في الأصل : سنة تسع وعشرين.

(٥) في الأصل : ثمان وعشرين.

(٦) في الأصل : على الموت على القيام بالدعوة والتصحيح من وفيات.

(٧) أما رواية الخزرجي في الكفاية (٤٧) فقد قال : «وقالوا له : إن نزلت وإلا قتلناك أنت ومن معك». فقال لهم : «أنا ما فعلت هذا إلا خوفا عليكم أن يملك هذا الجبل غيرنا فإن تركتمونا نحرسه لكم وإلا نزلنا» فانصرفوا عنه وتفرقوا.

٦٢

ولم تمض به شهر ، حتى بناه وحصنه ، (٢) وأتقنه (١) ، وبقي الصليحي في مسار ، وأمره يستفحل شيئا فشيئا من سنة تسع وثلاثين (٢) وأربع مئة ، في نزق من أمره ، كاتم لما يضمر من الدعوة ، وكان [يخاف](٣) نجاحا صاحب تهامة ، [وكان](٤) يكافئه ويلاطفه ويستكين لأمره ؛ ولم يزل الصليحي يعمل [الحيلة](٥) على نجاح ، حتى قتله بالسم [على يد](٦) جارية جميلة أهداها إليه. وكانت وفاة نجاح بالكدراء في عام اثنين وخمسين وأربع مئة (٧).

وكتب الصليحي إلى الإمام المستنصر [٢٩] بالله يستأذنه في إظهار الدعوة (٨). فعاد إليه الجواب بالإذن (٣) فطوى البلاد طيا ، وفتح الحصون والتهايم ، ولم تخرج سنة خمس وخمسين و [ما](٩) بقي عليه من اليمن سهل ولا وعر ، ولا بر ولا بحر ، إلا فتحه. وذلك أمر لم (١٠) يعهد مثله في جاهلية ولا إسلام ، حتى قال يوما وهو يخطب بالناس في [جامع](١١) الجند ، وفي مثل هذا اليوم نخطب على منبر عدن ، إن شاء الله [ولم يكن ملكها بعد]. فقال بعض [من حضر مستهزئا](١٢) «سبوح قدوس» ، فأمر الصليحي بالحوطة عليه. وخطب الصليحي في مثل ذلك اليوم على منبر عدن ، فقال ذلك الإنسان [وتعالى في القول](١٣) : «سبوحان قدوسان» وأخذ البيعة ، ودخل المذهب الطاهر (١٤).

__________________

(١) في الخزرجي (كفاية ٤٧): «ولم يمض شهر على احتلاله حتى بناه ودربه وحصنه وأتقنه».

(٢) في الأصل : تسع وعشرين.

(٣) الزيادة من وفيات.

(٤) في الأصل : مع جارية.

(٥) وفيات سنة ٤٥٣.

(٦) راجع حاشية : ٢٩ (كاي) والتعليق عليها.

(٧) زيادة اقتضاها السياق.

(٨) في الأصل لا.

(٩) في الأصل : استهزأ.

(١٠) في الأصل : فقال ذلك الإنسان وقال.

(١١) في الأصل : الظاهر.

٦٣

ومن سنة خمس وخمسين استقر قرار الصليحي بصنعاء ، فأخذ معه ملوك اليمن التي أزال ملكها. فأسكنهم معه ، وولى في الحصون غيرهم ، واختط بصنعاء عدة قصور.

حدثني محمد بن بشارة من أهل صنعاء ، سنة خمس وثلاثين وخمس مئة ، وذكر أن عمره قد ناهز الثمانين فقال : لم أعقل بقصر الصليحي إلا مستهدما ، وجميع من بنى دارا بصنعاء يبني بأنقاض قصور الصليحي ، ومن تلك المدة إلى الآن وما فني طوبه وأحجاره وأخشابه.

وأما زبيد وأعمالها تهامة ، فكان الصليحي أقسم لا يوليها (١) إلا من وزن له مائة ألف دينار ، ثم ندم على يمينه (٤) وأراد أن يوليها صهره ، أسعد بن شهاب ، صنو أسماء بنت شهاب ، زوجة علي بن محمد الصليحي [فوزنت له زوجته أسماء عن أخيها أسعد بن شهاب فولاه](٢) فقال لها زوجها [يا](٣) مولاتنا أنى لك هذا؟ [فقالت](٤)(هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٥) ، فتبسم وعرف أنه من خزائنه ، فقبضه وقال : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا)(٦) فقالت له : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا)» (٧).

ودخل أسعد بن شهاب زبيد سنة ستة وخمسين وأربع مئة ، وأحسن السيرة مع الرعايا ، وفسح للسنة في إظهار أديانهم (٨) وسكن دار شحار وهي بنية لا تكاد همة الخراب أن ترتقي إليها. ولا يقدر سلطان الفساد أن يتسلط عليها ، وهي مما بناه شحار بن جعفر مولى بني زياد ، صاحب مخلاف جعفر. قال أسعد بن شهاب : فاستلقيت يوما على ظهري أفكر في أمري وأقول : إن الصليحي مبجل وقد ولاني زبيد ، وهو يرى مكان السلطان

__________________

(١) في الأصل : لا ولاها.

(٢) زيادة من وفيات.

(٣) سورة آل عمران ؛ آية : ٣٧.

(٤) سورة يوسف ؛ آية : ٦٥.

(٥) نفسه.

(٦) قرة ورقة : ٢٢ قال : «وأذن لأهل السنة بإظهار مذهبهم» ؛ وفي اللطائف ورقة : ١٧ : «وعامل أرباب الدولة النجاحية بالحسنى».

٦٤

أسعد بن عراف (١) وعامر بن سليمان الزواحي (٢). وفلان وفلان من الملوك ، (ومولاتنا) (٣) تغمرني بإحسانها ، وإن ما ثلتني بأنسابها ، فوجدت في نفسي غضاضة من الدخول تحت منة مولاتنا أسماء بنت شهاب ، وكرهت أن أمد يدي إلى ظلم أحد من الرعايا والعمال. ثم غفوت فإذا بتراب ينتثر عليّ من السقف ، وهو مقرنس بالذهب ، فصعدت إلى سطوحه وكشفت السطح والسقف ، فوجدت صناديق من المال ، وفيها من الصامت والذخائر ، ما يزيد على ثلاث مئة ألف دينار ، فقدمت ثلث تلك الجملة ، فتصدقت به ، وصيرت ثلثها إلى مولاتنا ، وتخلصت من منتها. وتأثلت أموالا وأملاكا بالثلث الثالث ، وعاهدت الله تعالى ألا أظلم أحدا من خلقه ، فأقمت واليا خمس عشرة سنة (٤) لم يتعلق بذمتي منها إلا مالا أعلم به.

قال أسعد بن شهاب ، وكان مولانا علي بن محمد الصليحي قد ولى معي ثلاثة رجال ، كانوا أعوانا لي على [ما](٥) أردت من الكفاف والعفاف عن أموال الناس ، فمنهم أحمد بن سالم ، كان إليه أمر العمالة ، من وادي حرض إلى قريب من عدن ، فكان إليه أمر العمالة من الجهات ، وكان يحمل عن قلبي شغب العمال ، واستخراج الأموال ، ولا أحصر من أحواله ، إلا على حساب معمول ، أو مال محمول. ومنهم القاضي أبو محمد الحسين بن أبي عقامة (٦). وهو من ولد محمد بن هارون التغلبي ، الذي قلده المأمون بن الرشيد ، الحكم باليمن مع ابن زياد ، فكان قائما عني بأحوال (٧)

__________________

(١) في الأصل : عراق.

(٢) في الأصل : الرواحي.

(٣) زيادة لاستقامة المعنى (كاي).

(٤) معنى ذلك أنه ظل واليا عليها حتى سنة ٤٧١ ه‍. وهذا خلاف الواقع لأن أسعد بن شهاب توفي في نفس السنة ، في شهر شعبان سنة ٤٥٦ ، وتولى بعده الأمير الأعز محمد بن السلطان علي الصليحي (عيون : ٧ / ٧٦).

(٥) زيادة اقتضاها السياق.

(٦) قلادة : ٢ / ٢ ورقة : ٦٣٥ ؛ حاشية : ٥٧ (كاي).

(٧) في الأصل : بأموال.

٦٥

الشريعة ، قياما يجهد عبئه (١) ، ويؤمن عيبه. ومنهم أبو الحسن علي بن محمد القم (٢) وهو والد الحسين بن علي بن محمد القم (٣) الشاعر. وكان هذا من أعيان الرجال كرما ورياسة ، وكفاية في الكفاية ، وكان مجيد الشعر ، وهو القائل في أخيه ، وقد عنفه في شدة ميله إلى ولده الحسين ، من مقطوع :

تراه بعين لا يزال يرى بها

بنيه وما كل الرجال رجال

قال أسعد بن شهاب ، فجعله الداعي علي بن محمد الصليحي معي وزيرا ، وكاتب إنشاء وأمرني هو ومولاتنا أسماء ، ألا أقطع برأي دون رأيه ، وكنت أرسله في كل سنة وافدا عني إلى صنعاء ، صحبة العامل أحمد بن سالم عامل تهامة. وأتحمل (٤) من تهامة في كل سنة من العين خاصة ألف ألف دينار ، فلا يرجع إلي صاحباي في كل سنة إلا بصلة من مولانا ومولاتنا مبغلها خمسون ألف دينار ، فأقسمها بيني وبين أصحابي.

ومن أخبار السلطان (٥) علي بن محمد الصليحي ، أنه في سنة خمسين (٦) وأربع مئة بلغه أن ابن طرف ، قد اجتمع إليه من ملوك الحبشة وأخلاط السودان ، فسار إليهم الصليحي في ألفي فارس. فالتقوا بالزرائب (٧) من أعمال ابن طرف ، وهو الوطن الذي ولدت فيه (٨) ، وبها أهلي إلى اليوم ، فاستحرا القتال أول يوم بالعرب ، ثم كانت الدوائر على السودان ، فلم يبق منهم إلا ألف ، احتازهم جدي ، أحمد بن محمد ، في حصنه

__________________

(١) في الأصل : عيبه.

(٢) سلوكه / دار : ١ / ورقة : ٨٨.

(٣) خريدة : ٢ / ورقة : ٢٥٤.

(٤) في الأصل : تجمل.

(٥) في الأصل : الأمير.

(٦) في الأصل : ستين والتصحيح من عيون : ٧ / ١٤.

(٧) عيون : ٧ / ١٤ ؛ الصليحيون : ٨٣ ؛ التعليق على حاشية : ٣٠ (كاي).

(٨) أي الذي ولد فيه عمارة اليمني مؤلف الكتاب.

٦٦

بعكوة. والعكوتان (١) جبلان منيعان لا يطمع أحد في حصارهما ، وفيهما يقول راجز (٢) الحاج إذا نفروا يخاطب عينه (٣) :

إذا رأيت جبلي (٤) عكاد

وعكوتين من مكان باد (٥)

فابشري يا عين بالرقاد

وجبلا عكاد فوق مدينة الزرائب ، وأهلها باقون على اللغة العربية ، من الجاهلية إلى اليوم ، لم تتغير لغتهم ، بحكم أنهم لم يختلطوا قط بأحد من أهل الحاضرة في مناكحتهم ولا مساكنهم ، وهم أول قرار لا يظنون ، ولا يخرجون منه [٣٠].

ولقد أذكر أني دخلت زبيد في سنة ثلاثين وخمس مئة ، أطلب الفقه دون العشرين ، فكان الفقهاء في جميع المدارس ، يتعجبون من كوني لا ألحن في شيء من الكلام ، فأقسم الفقيه نصر الله بن سالم الحضرمي بالله تعالى : لقد قرأ هذا الصبي في النحو قراءة كثيرة. فلما طالت المدة والخلطة بيني وبينه ، صرت إذا لقيته يقول : مرحبا بمن حنثت في يميني لأجله. ولما زارني والدي وسبعة من إخواني إلى زبيد ، أحضرت الفقهاء فتحدثوا معهم ، فلا والله ما لحن أحد منهم إلا لحنة واحدة نقموها عليه.

ونعود إلى ذكر الداعي علي بن محمد الصليحي ، وأدركت العظام والأظفار في موضع الموقعة (٦) تنسفها الرياح. إذا اشتدت. ثم عاد الصليحي

__________________

(١) انظر حاشية : ٣٠ (كاي) والتعليق عليها.

(٢) في الأصل : زاجر.

(٣) في ياقوت : وقال الراجز الحاج يخاطب إذا نفر عينه.

(٤) في الأصل : جبلا.

(٥) في الأصل : بادي.

(٦) أي موقعة الزرائب.

٦٧

إلى صنعاء حرسها الله بعد دخوله إلى زبيد ، فأقام بها اثنتي عشرة سنة (١) لا يريم (٢) عنها.

ومن أخبار مقتل الداعي علي بن محمد الصليحي ، وهو يوم السبت اليوم الثاني عشر من ذي القعدة سنة (ثلاث وسبعين) وأربع مئة (٣) ، وقيل في سنة تسع وخمسين وأربعمائة ، وهي رواية صحيحة [٣١] ، ثم ولى السلطان (٤) الداعي المظفر في الدين ، وليّ أمير المؤمنين ، علي بن محمد ، أعمال الحصون والجبال لقوم يثق بهم ، وأخذ الملوك الأكابر في صحبته ، وأخذ معه زوجته الحرة أسماء بنت شهاب أم الملك المكرم ، وعزم على التوجه إلى مكة حرسها الله تعالى ، وولى ابنه المكرم : صنعاء واستخلفه (٥). وتوجه في ألفي فارس ، ومن آل الصليحي مائة وستون ، حتى إذا كان بالمهجم ، ونزل في ظاهرها بضيعة يقال لها أم الدهيم ، وبئر أم معبد ، وخيمت عساكره والملوك التي معه من حوله ، مثل معن و (علي) (٦) بن معن ، وابن الكرندي ، وابن التبعي ، ووائل بن عيسى الوحاظي ، ونظراءهم من الملوك الذين أخذهم الصليحي خوفا منهم أن يثوروا بعده على البلاد. ولم يشعر الناس وهم مرتبون في أحوالهم متفرقون في أنديتهم ، وانكشف الخبر عن قطع رأس السلطان (٧) علي وأخيه عبد الله بن محمد الصليحي ، وأحيط بالناس فلم ينج منهم أحد ، وانتقل (الأمر) إلى سعيد بن نجاح الأحوال ، ورماهم بالحراب ، وأبقى على وائل بن عيسى الوحاظي ، وعلي بن معن ، وابن الكرندي ، وقتل من بقي ، وسبى أسماء بنت شهاب أم

__________________

(١) كانت موقعة الزرائب سنة ٤٥٠ (عيون : ٧ / ١٤). ولما كان الصليحي قد قتل سنة ٤٥٩ كما ذكر (عيون : ٧ / ٨٨ ؛ كفاية : ٤٩ ؛ أنباء / دار ٤١ ؛ السجلات رقم ٤٠) ، فإن خبر إقامته ١٢ سنة في زبيد بعد موقعة الزرائب خبر غير صحيح. (حاشية : ٣٠).

(٢) في الأصل : لا يبرح عنها.

(٣) راجع حاشية : ٣١ (كاي) والتعليق عليها.

(٤) في الأصل : الأمير.

(٥) خريدة : ٢ / ورقة : ٢٧٩.

(٦) الزيادة من سلوك / دار.

(٧) في الأصل : الأمير.

٦٨

الملك المكرم ، فأقبل من المهجم عائدا إلى زبيد ، والرأسان ينقلان أمام هودجها ، إلى أن ركزهما قبالة الطاقة التي أسكنها بزبيد فيها. وأقامت أسماء بنت شهاب عند سعيد بن نجاح سنة كاملة في أسره. (٦).

أخبار مسير الملك المكرم عظيم العرب

سلطان أمير المؤمنين أحمد بن

علي بن محمد الصليحي من صنعاء

إلى زبيد لأخذ أمه أسماء بنت شهاب

من أسر سعيد الأحوال

قالوا : لما أعيت الحيلة في إيصال كتاب من أسماء إلى المكرم ، أو منه إليها ، احتالت أسماء وكتبت كتابا ، وجعلته في رغيف ، واحتالت في إيصاله إلى سائل ضعيف ، فأوصله إلى المكرم في شوال سنة ستين (١) وأربع مئة ، وهي (٢) تقول فيه : إني صرت حبلى من العبد الأحوال [٣٢] فإن أدركتني قبل أن أضع ، وإلا فهو العار الذي لا يزول (٣). فلما وقف المكرم على الكتاب جمع الناس وأوقفهم عليه ، فضجوا بالبكاء وثارت الحفائظ وسار المكرم من صنعاء في ثلاثة آلاف فارس بعد ما حالفهم وخطبهم (٤) ، وحرضهم ، واستنصرهم. وكان فصيحا خطيبا شجاعا مشهورا بالثبات والإقدام ، ولم يكن في زمانه من يتعاطى رمحه وسيفه وقوسه وشدة قوته ، وعظيم خلقته. ولم يزل في كل منزل يخطب الناس ويقول لهم : (من كان

__________________

(١) في الأصل : سنة خمس وسبعين والتصحيح من عيون : ٧ / ٩٧.

(٢) في الأصل : وهو.

(٣) في كفاية : ٥٠ قال : تلطفت إلى رجل مشرقي فرمت إليه برغيف وفيه كتاب لطيف إلى ابنها المكرم.

(٤) في الأصل : وخطبهم لنفسه.

٦٩

يرغب في الحياة فلا يكن معنا). إلى أن صفا له من الخلفاء ألف وست مئة فارس (١) وعاد عنه ألف وأربع مئة ، (٧).

وحدثني الشيخ الفقيه المقرىء سليمان بن ياسين قال : حدثني الشيخ محمد بن علية قال : كنت في مسجد التريبة يوم الجمعة عند طلوع الفجر ، وقد دخل أهل البوادي إلى زبيد ، وتحصنوا بها من خوف العرب ، وكنت قد بلغت في الختمة إلى سورة (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) ، ولم يكن لي شغل في ليلتي تلك إلا التلاوة إلى حيث بلغت من الختمة. والمسجد محمول في قفرة من الأرض فإذا أنا بفارس يهولني ، وأنا لا أتحققه لغطاط الأرض وبقايا الغبش ، فركز رمحه ، وأسنده إلى الجناح الغربي الذي أنا فيه. ثم نزل فصعد إلى شخص ، ما رأيت من ولد آدم أتم منه خلقة ، ولا أحسن منظرا ، وروائحه روائح الملوك.

ثم قام إلى جانبي فصلى ، ولم يلبث الصباح أن تجلى ، وإذا رمحه إمبوبة من اليراع الكولمي (٢) ، ولا تلتقي عليه الكفان (٣) ، والفرس مثل البعير ، ثم قال لي : اختم حزبك ، فختمت ، وهو مصغ إلى التلاوة ، وأمرني أن أدعو عند الختم ، ففعلت ، وهو يؤمن على الدعاء ، وإذا الخيل قد أقبلت عند طلوع الشمس أرسالا وحزقا (٤) ، من هجول (٥) ذلك الخبت (٦) ، وكل رعيل (٧) منهم يسلم عليه ويقف ، وكانت (٨) تحيتهم له :

__________________

(١) في الجندي : ثلاث آلاف ؛ في عيون : ٧ / ٩٩ (عشرة آلاف بين راجل وفارس) ؛ راجع حاشية : «٧» تعليق جديد.

(٢) الكولمي نسبة إلى بلدة كلم والمعروفة الآن باسم كيلون على ساحل ملبار (ابن خرداذبة ٦٢ (كاي)).

(٣) في الأصل : لا تلتقي عليه من الكفان.

(٤) في الأصل وحرفا ؛ الحزق هو الجماعة من الناس.

(٥) الهجل : المطمئن من الأرض والجمع أهجال وهجال وهجول.

(٦) الخبت : ما اطمأن واتسع من الأرض والجمع أخبات وخبوت ..

(٧) رعيل : اسم كل قطعة متقدمة من خيل أو رجال أو طير والجمع رعال.

(٨) في الأصل : وكان.

٧٠

أنعم الله صباحك (١) مولانا ، وأدام عزه. ولا يزيدهم على الرد أكثر من قوله : مرحبا يا وجوه العرب. إلى أن تكاملوا ، وصعد إليه في المسجد أقوام لا أعرف منهم إلا أسعد بن شهاب (٢) بحكم ولايته علينا أهل زبيد.

فقلت لأسعد (٣) : من هؤلاء؟ فقال : أما هذا فالمكرم الملك السعيد أحمد بن علي الصليحي ، وأما هذا فالكرم اليامي (٤) ، وأما هذا فعامر الزواحي ، أكرم عربي تمشي به الخيل ، ثم عرضوا على رابع أن يطلع إليهم فلم يفعل ، وهو عم أسعد بن شهاب ، وعم السيدة أسماء بنت شهاب ، وليس دون الأربعة في شرف ولا حسب.

ثم قام المكرم فخطبهم بحيث يسمع ، وحفظت من كلامه قوله : «أيها المؤمنون إن عزائمكم لو تجسمت حديدا (٥) لكان قد أرهفته (٦) ، ولست اليوم أزيدكم غير ما سمعتموه مني بالأمس ، وفيما قبله ، وفيما قلته كفاية ، وقد كنت أعرض عليكم الرجوع وفي المسافة إمكان ، فأما اليوم فقد صار الخيار إلى عدوكم ، لأنكم توغلتم عليه خلسة (٧) وإنما هو الموت أو العار بفرار لا يجدي» (٨) ، ثم أنشد قول أبو الطيب المتنبي :

وأورد نفسي والمهند في يدي

موارد لا يصدرن من لا يجادل

وكان الحبشة يومئذ قد صفت في عشرين ألف رجل ، وكانت ميمنة العرب لأسعد بن شهاب (٩) (والميسرة) (١٠) لعمه ، وقال لهما المكرم : لستما

__________________

(١) يمكن أن تكون صباح مولانا.

(٢) لعله مالك بن شهاب لأن أسعد سبق أن ذكرنا أنه توفي سنة ٤٥٦ (نزهة : ١ / ١٤١).

(٣) عباس بن الكرم (كاي).

(٤) في الأصل : جديدا.

(٥) شحذته.

(٦) في الأصل : خيسة.

(٧) في الأصل : لا يجدو.

(٨) راجع : نزهة : ١ / ١٤١.

(٩) الزيادة من خ.

٧١

كأحد من هذا الجيش لأنكما موتوران ، ومولاتنا أخت أحدكما ، وابنة (أخي) (١) الآخر. وسار المكرم في القلب وانطوى العسكر (فاصطدم الجيش) (٢) ، والتقى القوم ، فقاتلت الحبشة التي كانت في القلب ، وانطوى جناحها (٣) ، فانكسرت الأحبش (٤) ، وقتلوا قتلا ذريعا ، وهرب سعيد بن نجاح الأحول ، ومن معه إلى دهلك (٥) وجزائرها ، ولم يزل القتل في الناس إلى صلاة الظهر (٦) على باب المدينة.

ثم كان أول فارس وقف تحت الرأسين المصلوبين ، وتحت طاقة (٧) أسماء بنت شهاب ، ولدها المكرم أحمد بن علي الصليحي ، فقال لها المكرم وليست تعرفه : أدام الله عزك يا مولاتنا. فقالت : مرحبا بأوجه (٨) العرب ، فسلم عليها صاحباه مثل سلامه. ثم سألت : من هو؟ فقال لها : أنا أحمد بن علي بن محمد : قالت : إن أحمد بن علي في العرب كثير ، فاحسر لي وجهك حتى أعرفك ، فحسر الحديد (٩) عن وجهه (١٠) فقالت :

مرحبا بمولانا المكرم. وفي تلك الحالة أصابه الهواء فارتعش واختجلت بشرة وجهه ، وعاش عدة سنين. وهو ينتفض وتتحرك بشرة وجهه. ثم قالت له : من صاحباك (١١) ، فسماهما لها. فوهبت لأحدهما

__________________

(١) الزيادة من خ.

(٢) الزيادة من خ ومن خطط.

(٣) في خ. فانطوى عليهم الجناحان.

(٤) في الأصل : الأجوش.

(٥) تاريخ ثغر عدن : ٢ / ٨.

(٦) ظهر يوم الاثنين ٢٩ صفر سنة ٤٦٠ ه‍.

(٧) طاق ، في أنباء / الرداد ٤١.

(٨) في الأصل : يا وجه.

(٩) في سلوكه : فحسر عن لثامه ؛ وفي خ : فرفع المغفر ، وفي أنباء / دار ٤١ : فنزع المغفر.

(١٠) في الأصل : وجه.

(١١) في الأصل : صاحبيك.

٧٢

ارتفاع عدن في تلك السنة ، وكان مائة ألف دينار ، ووهبت للآخر حصني كوكبان وحوشان ومخلافيهما ، وليسا دون ارتفاع عدن.

ثم دخل الجيش أرسالا ، وهي في الطاق لا تستر وجهها ، وتلك عادتها في أيام زوجها. لسمو قدرها عما يحتجب عنه النساء ، ثم تقدم المكرم فأمر بإنزال الرأسين (١) وبنى عليهما مشهدا ، وأنا أدركت مشهد الرأسين. ويقال : إن أسماء بنت شهاب قالت للمكرم حين سفر عن وجهه (٢) : من كان مجيئه كمجيئك ، فما أبطأ ولا أخطأ. ولم يكن قولها في كتابها : أنا حاملة من العبد صحيح (٣) ، وإنما أرادت أن تثير حفيظته.

ونادى منادي المكرم يومئذ برفع السيف بعد الفتح ، وقال للجيش : اعلموا أن عرب هذه الناحية يستولدون الجوار السود ، فالجلدة السوداء تعم العبد والحر ، ولكن إذا سمعتم من يسمي العظم عزما ، فهو حبشي فاقتلوه ، ومن سماه عظما فهو عربي فاتركوه ، ثم تولى خاله مالك (٤) بن شهاب أعمال تهامة على جاري عادته ، وارتحل إلى صنعاء بأسماء بنت شهاب قرير العين بالظفر (٨). وأدركت أهل زبيد ، إذا شتم السوقي صاحبه قيل له : أتشتم (٥) الرجل؟ فيقول الشاتم : الرجل والله (هو) (٦) الذي أخذ أمه من زبيد ، وقتل من الحبشة عشرين ألفا دون أمه ، لعمري إن هذا هو الرجل حقا [٣٣] ، ثم أن المكرم أعطى خاله مالك (٧) بن شهاب ولاية زبيد وما معها ... (٨) لابن شهاب في هذه الكرة ، (و) أحمد بن سالم العامل ووافده ارتفاع تهامة ، ففرقت أسماء على وفود العرب معظمه ، فنتف أحمد بن سالم

__________________

(١) خريدة : ٢ / ٢٧٠.

(٢) في الأصل : وجه.

(٣) في الأصل : صحة.

(٤) في الأصل : أسعد والأصح مالك (نزهة : ١ / ١٠١).

(٥) في الأصل : كشتم.

(٦) زيادة لاستقامة المعنى.

(٧) في الأصل : أسعد والأصح مالك (نزهة : ١ / ١٠١).

(٨) بياض في الأصل.

٧٣

لحيته وقال : دخلت النار في هذا المال ، ثم صار إلى ما صار إليه. فقالت أسماء بنت شهاب : إذا المال لم تصرفه في مستحقه ، فما هو إلا حسرة ووبالا (١) ، ثم كتبت إلى أخيها مالك (٢) بن شهاب تأمره أن يحتسب لأحمد بن سالم بعشرين ألفا من ارتفاع السنة الحاضرة صلة له وبرا به ، ولم تلبث أسماء بنت شهاب أن ماتت بصنعاء سنة سبع وستين (٣) وأربعمائة.

وفي هذه السنة أمر المكرم بضرب الدينار الملكي (٤) ، وإليه ينسب وهو دينار اليمن ، والمكتوب عليه : الملك السيد المكرم ، عظيم العرب ، سلطان أمير المؤمنين. وإلى اليوم (٥) الدينار على هذه السكة ، إلى أن ولي الداعي عمران بن محمد بن سبأ الزريعي (٦) [فسك دينار آخر كتب عليه](٧) : «أوحد ملوك الزمن ، ملك العرب واليمن ، عمران بن محمد» [٣٤].

ثم (٨) عاد بنو نجاح فأخرجوا مالك (٩) بن شهاب من زبيد وملكوها سنة واحد وستين (١٠) ، ثم أخرجهم المكرم بن علي منها ، وقتل سعيد بن نجاح الأحول ، تحت حصن الشعر (١١) ، بحيلة من السلطان أبي عبد الله التبعي ، يأتي شرحها في أخبار الحرة ، الملكة السيدة بنت أحمد. وكان [مقتل](١٢) سعيد الأحول في سنة إحدى وستين (١٣) وأربع مئة.

__________________

(١) في الأصل : ووبال.

(٢) في الأصل : أسعد والأصح ما أثبتناه. (نزهة : ١ / ١٤١).

(٣) في الأصل : سبع وتسعين والتصحيح من عيون : ٧ / ١٢١.

(٤) راجع حاشية : ٣٤ (كاي) والتعليق عليها.

(٥) أي زمن عمارة اليمن.

(٦) حكم بين : (٥٣٤ ـ ٥٤٨ ه‍.).

(٧) في الأصل : وأمثاله والزيادة من الصليحيين : ١٤٠.

(٨) وفيها : في الجندي ؛ والخطط.

(٩) في الأصل : أحمد.

(١٠) في الأصل : تسع وسبعين والتصحيح من : عيون : ٧ / ١١٣ ؛ نزهة ١ / ٥٣ ـ ٥٤.

(١١) في الأصل : الشعير.

(١٢) زيادة من كاي ؛ حاشية : ٣٥ هامش ٤.

(١٣) في الأصل وثمانين والتصحيح من : عيون : ٧ / ١١٣.

٧٤

وفي هذه السنة خرج جياش (١) بن نجاح ، والوزير خلف بن أبي الطاهر الأموي إلى عدن متنكرين ، وسافرا إلى الهند ، وأقاما بها ستة أشهر ، وعادا إلى زبيد. فملكاها في بقايا تلك السنة. وفي هذه الكرة ولى أسعد بن عراف زبيد ، وجعلوا معه علي بن القم ، والد (٢) الحسين بن علي بن القم الشاعر ، وزيرا ، وكاتبا على جارى عادة جرت (٣) مع مالك (٤) بن شهاب. وقوم يزعمون أن عليا والد الحسين بن علي بن القم ، ولي زبيد [مع](٥) مالك (٦) بن شهاب ، قبل ولاية أسعد بن عراف [٣٥].

أخبار الحرة الملكة السيدة بنت أحمد

اسمها سيدة بنت أحمد بن [محمد](٧) بن جعفر بن موسى الصليحي (٨) ، وأمها الرداح (٩) ، بنت الفارع بن موسى. ثم مات عنها أحمد أبو الحرة السيدة ، فخلف عليها عامر بن عبد الله الزواحي (١٠) ، فولدت له سليمان بن عامر بن عبد الله الزواحي (١١) وهو أخو الحرة الملكة لأمها ، وولي الدعوة الفاطمية (١٢) بأمرها ، ثم قتله الأمير المفضل بن أبي البركات بن الوليد بالسم رحمة الله عليه.

__________________

(١) خريدة : ٢ / ورقة : ٢٧٩ ؛ قلادة : ٢ / ٢ ورقة : ٦٤١ ، حاشية : ٧٥ (كاي).

(٢) في الأصل : ولد.

(٣) في الأصل : جدة.

(٤) في الأصل : أسعد.

(٥) الزيادة من (كاي).

(٦) في الأصل : أسعد.

(٧) الزيادة من الجندي ؛ خطط.

(٨) راجع لوحة الصليحيين تابع الحاشية : ١٠٨ (كاي).

(٩) راجع اللوحة السابقة.

(١٠) في الأصل : الرواحي.

(١١) في الأصل : الرواحي.

(١٢) في الأصل : الهاشمية.

٧٥

وكان مولدها سنة أربعين وأربع مئة (١) ، وتولت أسماء بنت شهاب تأديبها وتهذيبها. ويقال إنها قالت يوما لأسماء : رأيت البارحة كأن بيدي مكنسة ، وأنا أكنس قصر مولانا. فقالت لها أسماء : كأني بك والله يا حميراء ، وقد كنست آل الصليحي وملكت أمرهم. وأما صفتها فكانت بيضاء حمراء ، مديدة القامة معتدلة البدن. إلى السمن أقرب ، كاملة المحاسن ، جهورية (٢) الصوت ، قارئة ، كاتبة ، تحفظ الأخبار والأشعار والتواريخ (٣). وما أحسن مما كانت تلحقه بين سطور الكتاب عنها من اللفظ والمعنى (٤). وبنى (٥) بها المكرم أحمد بن علي في أيام أبيه علي بن محمد الصليحي ، عام ثمان وخمسين (٦) وأربع مئة ، فولدت له أربعة أولاد : محمدا وعليا وفاطمة وأم همدان. فأما محمد وعلي فماتا طفلين بصنعاء (٧) ، وأما أم همدان فتزوجها السلطان أحمد بن سليمان الزواحي (٨) ، وهو ابن خالها ، فرزقت منه عبد المستعلي (٩). وأما فاطمة بنت الحرة الملكة من المكرم بن علي ، فتزوجها شمس المعالي علي بن الداعي سبأ بن أحمد ، وماتت أم همدان سنة ست عشرة وخمس مئة ، وأما فاطمة فماتت بعد أمها بعامين ، وذلك في سنة أربع وثلاثين وخمس مئة.

وسمعت غير واحد من شيوخ ذي جبلة يقول : إن الصليحي كان يخصها من الإكرام في حال صغرها (١٠) ، بما لا يماثلها فيه أحد ، ويقول

__________________

(١) عيون : ٧ / ٢٢١.

(٢) في الأصل : جوهرية.

(٣) في كفاية : ٥١٧ : «وأيام العرب».

(٤) j.R.C.A.S.١٣٩١ ,P.٠١٥.

(٥) معناها : وتزوج بها.

(٦) في الأصل : إحدى وستين والتصحيح من عيون : ٧ / ٢٢١ ؛ الصليحيون : ١٤٧.

(٧) سأذكرهما فيما بعد (انظر حاشية : ٣٧ هامش (٢) (كاي).

(٨) اسمه : أحمد بن سليمان بن عامر بن سليمان بن عبد الله الزواحي (الصليحيون : ١٤٧).

(٩) وتوفيت سنة ٥١٦ ه‍.

(١٠) في الأصل : صغره.

٧٦

لأسماء : أكرميها فهي والله كافلة ذرارينا ، وحافظة هذا الأمر على من بقي منا. قالوا : وسمع غير ذلك منه في غير موطن (٩).

وأما سبب انتقال المكرم بن علي من صنعاء إلى مدينة ذي جبلة ، فإن المكرم حين ماتت والدته ، الحرة أسماء بنت شهاب ، فوض الأمر إلى زوجته هذه ، الملكة السيدة بنت أحمد ، واستروح إلى السماع والشراب. واستبدت الملكة السيدة بنت أحمد بالأمر. ويقال إنها استعفته في نفسها. وقالت له : إن امرأة تراد للفراش لا تصلح لتدبير ، فدعني وما أنا بصدده (١) ، فلم يفعل.

ثم إنها ارتحلت من صنعاء في جيش جرار ، وتركته في صنعاء ، وارتادت ذي جبلة. وجبلة كان رجلا يهوديا يبيع الفخار في الموضع الذي بنيت فيه دار العز الأول ، وبه سميت المدينة [٣٦]. وأول من أختط ذي جبلة ، عبد الله بن محمد الصليحي المقتول بيد الأحوال مع أخيه السلطان (٢) علي بن محمد الصليحي ، الداعي ، يوم المهجم (٣) ، وكان أخوه قد ولاه حصن التعكر. وهذا الحصن مطل على ذي جبلة ، وهي في سفحه ، وهي مدينة بين نهرين جاريين في الصيف والشتاء ، واختطها عبد الله بن محمد سنة ثمان وخمسين وأربع مئة ، ثم حشرت الرعايا في مخلاف جعفر تحت ركابها ، (و) (٤) لما عادت إلى صنعاء ، قالت (٥) إلى المكرم ، أرسل يا مولانا إلى (٦) أهل صنعاء فليحتشدوا في غد ، ليحضروا إلى هذا الميدان ، فلما حضروا قالت له : أشرف عليهم (و) (٧) انظر ماذا ترى. فلم يقع طرفه إلا على برق السيوف ، ولمع البيض والأسنة.

__________________

(١) قرة / ورقة : ٢٤ : «إن المرأة التي تراد للفراش لا تصلح لتدبير أمر فدفعني وما أنا بصدده».

(٢) في الأصل : الأمير.

(٣) كان ذلك سنة ٤٥٩ ه‍.

(٤) زيادة اقتضاها السياق.

(٥) في الأصل : وقالت.

(٦) في الأصل : على.

(٧) زيادة اقتضاها السياق.

٧٧

ثم لما توجهت إلى ذي جبلة قالت له : أحشد أهل ذي جبلة ومن حولها. فلما اجتمعوا صبيحة اليوم الثاني ، قالت : أشرف يا مولانا ، انظر هؤلاء القوم ، فلم يقع بصره إلا على رجل يجر كبشا ، أو يحمل ظرفا مملوءا بالسمن أو العسل. فقالت له : العيش بين هؤلاء أصلح ، فانتقل الملك (١) المكرم إلى ذي جبلة ، فاختط بها دار العز الثانية في ذي بور. وكان حائطا فيه بستان وأشجار كثيرة ، وهو مطل على النهرين ، وعلى الدار الأولى. وأمرت الملكة السيدة ببناء الدار الأولى مسجدا جامعا ، وهو المسجد الجامع الثاني. وبه قبر الملكة السيدة رحمها الله تعالى ، إلى الآن. وكان بناء الدار ، دار العز الثانية الكبيرة سنة إحدى وثمانين وأربع مئة (٢).

ثم استخلف المكرم على صنعاء ، عمران بن الفضل اليامي وأبا السعود بن أسعد بن شهاب (٣). وفي هذه السنة دبرت الحرة الملكة قتل سعيد بن نجاح الأحوال. وذلك أنها أمرت الحسين التبعي صاحب الشعر (٤) أن يكاتب سعيد الأحوال إلى زبيد ، ويقول له : إن المكرم قد أصابه الفالج ، وعكف على الملذات ولم يبق أمره إلا بيد امرأته ، وأنت اليوم أقوى ملوك اليمن ، فإن رأيت أن تطبق على ذي جبلة ، أنت من تهامة ، ونحن من الجبل ، فتستريح منه ، وترجع إليكم البلاد بأسرها ، فافعل ، فدولتكم أحب إلى المسلمين من هؤلاء الخوارج (٥).

قال : فلما وقف سعيد بن نجاح على كتاب حسين بن التبعي ، حسن موقع ذلك عنده ، واستخفه (٦) الفرح بذلك ، فخرج من زبيد ، يريد ذي جبلة في ثلاثين ألف حربة ، وكان مسيره في يوم قد وعده التبعي فيه ، وقد كانت

__________________

(١) في الأصل : الأمير.

(٢) يرجح أن هذا حدث سنة ٤٧١ ، لأن المكرم توفي سنة ٤٧٧ (٧ / ١٢٢) ؛ وكان قد مرض قبل ذلك بقليل واستقر في التعكر حتى توفي في هذه السنة.

(٣) في الأصل : أسعد بن شهاب وهذا خطأ والأصح ما أثبتناه (عيون : ٧ / ٧٧).

(٤) في الأصل : الشعير.

(٥) لم يكن الصليحيون من الخوارج ولكنهم من الفاطميين.

(٦) في الأصل : استحفه.

٧٨

الحرة الملكة كتبت إلى أبي الفتوح بن أسعد (١) بن شهاب ، وعمران بن الفضل في (٢) صنعاء ، أن يخلفا (٣) سعيدا على تهامة في ثلاثة آلاف فارس ، ثم يتبعان أثره منزلا بمنزل ، ففعلا (٤).

ولما نزل سعيد بن نجاح تحت حصن الشعر ، أطبق الجيشان عليه فقتل هو ومن معه ، وقيل نجا منهم ألفان ، ونصب رأسه تحت الطاقة التي تسكنها الحرة بدار العز. وكانت أم المعارك ، زوجة سعيد بن نجاح معه ، وهي التي عرفت رأس مولاها في القتلى. فصلب بالقرب من طاقتها. وكانت الحرة الملكة تقول عند صلب رأس سعيد بن نجاح : ليت لك عينا يا مولاتنا (٥) حتى تنظري رأس الأحول تحت طاقة أم المعارك (٦).

وفي سنة سبع وسبعين (٧) وأربع مئة ، مات المكرم (أحمد) بن علي ، وأسند الوصية بالدعوة إلى الأمير الأجل الأوحد المنصور المظفر عمدة الخلافة أمير الأمراء ، أبي حمير سبأ بن أحمد المظفر بن علي الصليحي [٣٧].

أخبار الداعي سبأ بن أحمد بن المظفر بن علي الصليحي

أما صفته فكان دهيم (٨) الخلق (قصير) (٩) لا يكاد يظهر من السرج

__________________

(١) في الأصل : في كتب إلى الملك أسعد بن شهاب.

(٢) في الأصل : إلى.

(٣) في الأصل : يخلفوا.

(٤) في الأصل : ففعلوا.

(٥) تقصد : أسماء بنت شهاب زوجة علي الصليحي.

(٦) العرشي : ٢٥ ـ ٢٦.

(٧) في الأصل : أربع وثمانين والتصحيح من عيون : ٧ / ١٢٢.

(٨) الدهيم الأحمق.

(٩) الزيادة من خ.

٧٩

بطائل ، أما هو فكان جوادا كريما ، شاعرا أديبا فاضلا ، عالما بالمذهب (١) الطاهر ، خبيرا بأقوال الحكماء ، منشأ بالشعر ، يثيب (٢) بالمدح ، ويثيب على المدح.

ومن ذلك قول علي بن الحسين القمي فيه (٣) :

ولما مدحت الهزبري (٤) ابن أحمد

أجاز ، وكافاني (٥) على المدح بالمدح

فعوضني (٦) شعرا بشعري (٧) ، وزادني

عطاء (٨) فهذا رأس مالي ، وذا ربحي

شققت إليه الناس حتى لقيته (٩)

فكنت كمن شق الظلام إلى (١٠) الصبح

فقبح دهر ليس فيه ابن أحمد

ونزه دهر كان فيه [٣٨] من القبح

وأما مقر عزه فحصن يقال له أشيح (١١) ، وكان أشيح حصنا عاليا يماثل مسار والتعكر (في العز والمنعة) (١٢). وحدثني المقري سليمان بن ياسين ، وهو من أصحاب أبي حنيفة ، قال : بت في حصن أشيح ليالي (كثيرة) (١٣) ، وأنا عند الفجر أرى الشمس تطلع من المشرق ، وليس فيها (١٤)

__________________

(١) يقصد بذلك مذهب الدولة الفاطمية.

(٢) في خ : يمدح مادحه.

(٣) النكت : ٢ / ٥٦٨.

(٤) في النكت : الهبرزي.

(٥) في خ : جازاني.

(٦) في الأصل : فعوظني.

(٧) في الأصل : بشرا والتصحيح من سلوك / دار.

(٨) في الأصل : نوالا والتصحيح من خ.

(٩) في الأصل : رأيته والتصحيح من خ.

(١٠) في الأصل : عن الصبح والتصحيح من خ ومن سلوك ؛ وفي قلاده إلى الضحى.

(١١) أنباء / دار ٤٣.

(١٢) زيادة من خ.

(١٣) زيادة من ياقوت.

(١٤) في ياقوت : لها.

٨٠