تاريخ اليمن

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني

تاريخ اليمن

المؤلف:

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني


المحقق: الدكتور حسن سليمان محمود
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

(ثانيا)

تاريخ اليمن المنقول من العبر

للعلامة عبد الرحمن بن خلدون المغربي

تقويم النص

١٦١
١٦٢

أخبار اليمن والدول الإسلامية التي كانت فيه للعباسيين

وللعبيديين ، وسائر ملوك العرب ، وابتداء ذلك وتصاريفه

على الجملة ، ثم تفصيل ذلك على مدته

وممالكه واحدة بعد واحدة

قد تقدم لنا في آخر السيرة (١) النبوية ، كيف صار اليمن في مملكة (٢) الإسلام بدخول عامله في الدعوة الإسلامية ، وهو باذان عامل كسرى ، وأسلم معه أهل اليمن ، وأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على جميع مخاليفها. وكان منزله صنعاء كرسي التبابعة ، وأنّه مات بعد حجة الوداع. فقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على عمال من قبله ، وجعل صنعاء لابنه شهر بن باذان. وذكرنا خبر الأسود العنسي (٣) ، وكيف أخرج عمال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من اليمن ، وزحف إلى صنعاء فملكها ، وقتل شهر بن باذان ، وتزوج امرأته ، واستولى على أكثر اليمن ، وارتد أكثر أهله. وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أصحابه وعماله ، وإلى من ثبت على إسلامه ، فداخلوا زوجة شهر بن باذان التي تزوجها في أمره على يد ابن عمها فيروز. وتولى كبر ذلك قيس بن عبد يغوث المرادي ، فبيته هو وفيروز وداذويه بإذن زوجته وقتلوه. ورجع عمال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أعمالهم ، وذلك قبيل الوفاة.

واستبد قيس بصنعاء ، وجمع المغل من جند الأسود. فولى أبو بكر

__________________

(١) في الأصل : السير.

(٢) في الأصل : في ملكة.

(٣) انظر التعليق على حاشية : ١٠٤ (كاي).

١٦٣

على اليمن فيروز ، فيمن إليه من الأبناء ، وأمر الناس بطاعته فقاتل قيس بن مكشوح وهزموه [١٠٤]. ثم ولى أبو بكر المهاجر بن أبي أمية على قتال أهل الردة باليمن وكذلك عكرمة بن أبي جهل ، وأمره بأن يبدأ بالمرتدة من أهل عمان ويلحق بالمهاجر ، ثم استقر اليمن في ولاية يعلى بن منبه (١) ، ولقي عائشة بمكة فسار معها ، وحضر حرب الجمل [١٠٥]. وولى علي على اليمن عبيد الله بن عباس ، ثم أخاه عبد الله. ثم ولى معاوية على صنعاء ، فيروز الديلمي ، ومات سنة ثلاث وخمسين. ثم جعل عبد الملك اليمن في ولاية الحجاج ، لما بعثه لحرب الزبير سنة اثنتين وسبعين.

ولما جاءت دولة بني العباس ، ولى السفاح على اليمن عمه داود بن علي ، حتى إذا توفي سنة ثلاث وثلاثين [ومئة](٢) ، ولى مكانه محمد ابن خاله زياد (٣) بن عبيد الله [بن عبد الله](٤) بن عبد المدان [الحارثي](٥). ثم تعاقب الولاة على اليمن. وكانوا ينزلون صنعاء ، حتى [آلت](٦) الخلافة إلى المأمون ، وظهرت دعاة الطالبيين بالنواحي ، وبايع أبو السرايا من بني شيبان بالعراق لمحمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم ـ وإبراهيم أخو المهدي ـ النفس الزكية ، محمد بن عبد الله بن حسن وكثر الهرج ، وفرق عماله في الجهات ، ثم قتل. وبويع محمد بن جعفر الصادق بالحجاز وظهر باليمن إبراهيم بن موسى الكاظم سنة مئتين (٧) ، ولم يتم أمره ، وكان يعرف بالجزار لسفكه الدماء. وبعث المأمون عساكره إلى اليمن ، فدوخوا نواحيه ، وحملوا كثيرا من وجوه الناس ، فاستقام أمر اليمن كما نذكره.

__________________

(١) في كاي : منية ؛ انظر أيضا التعليق على حاشية : ١٠٥ (كاي).

(٢) زيادة اقتضاها السياق للإيضاح.

(٣) في الأصل : يزيد ، والتصحيح من الطبري.

(٤) زيادة من الطبري : ٦ / ١١١ ـ ١١٢.

(٥) زيادة من الطبري : ٦ / ١١١ ـ ١١٢.

(٦) زيادة اقتضاها السياق.

(٧) انظر جدول نسب الأئمة حاشية ١٠٧ (كاي) والتعليق عليها.

١٦٤

[قيام](١) دولة بني زياد بالدعوة العباسية

ولما وفد وجوه أهل اليمن على المأمون ، كان فيهم محمد بن زياد ، من ولد عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان ، فاستعطف المأمون ، وضمن له حياطة اليمن من العلويين. فوصله وولاه على اليمن ، وقدمها سنة ثلاث ومئتين. وفتح تهامة اليمن ، وهو البلد الذي على ساحل البحر الغربي. واختط فيها مدينة زبيد ، ونزلها واختارها كرسيا لتلك المملكة. وولى على الجبال مولاه جعفرا. وفتح تهامة بعد حروب مع العرب. واشترط على عرب تهامة ألا يركبوا الخيل ، واستولى على اليمن أجمع ، ودخلت في طاعته أعمال حضرموت ، والشحر ، وديار كندة ، وصار في مرتبة التبابعة.

وكان في صنعاء قاعدة اليمن ، بنو يعفر من حمير ، بقية الملوك التبابعة استبدوا بها ، مقيمين للدعوة العباسية ، ولهم مع صنعاء ، بيحان ونجران (٢) ، وجرش. وكان آخرهم أسعد بن يعفر ، ثم أخوه محمد. فدخلوا في طاعة بني زياد. وكان في عثر من ممالك اليمن أيضا : سليمان بن طرف. فدخل في طاعته.

ثم هلك محمد بن زياد ، وولى بعده ابنه إبراهيم ثم ابنه زياد بن إبراهيم ثم أخوه أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم ، وطالت مدته إلى أن اشتد ، وبلغ الثمانين. وقال عمارة : ملك ثمانين سنة باليمن ، وحضرموت ، والجزائر البحرية. ولما بلغه قتل المتوكل وخلع المستعين (٣) ، واستبداد الموالي على الخلفاء منع ارتفاع اليمن ، وركب بالمظلة ، شأن سلاطين العجم المستبدين [١٠٦].

وفي أيامه خرج في اليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن

__________________

(١) زيادة لتوضيح العنوان.

(٢) في الأصل : تحراب.

(٣) انظر التعليق على الحاشية ١٠٦ (كاي).

١٦٥

إبراهيم طباطبا بدعوة الزيدية [١٠٧] ، وجاء إليها من السند ، وكان جده القاسم قد فر إلى السند بعد خروج أخيه ، محمد بن أبي السرايا ومهلكه كما مر ، فلحق القاسم بالسند وأعقب بها الحسين ، ثم ابنه يحيى بن الحسين ، فظهر يحيى باليمن سنة ثمان وثمانين (ومئتين) (١) ونزل صعدة. وظهرت (٢) دعوة الزيدية ، وزحف إلى صنعاء فملكها من يد أسعد بن يعفر ، ثم استردها ابن يعفر (٣) ، ورجع إلى صعدة ، وكان شيعته يسمونه الإمام ، وعقبه الآن بها ، وقد تقدم خبرهم.

وفي أيام أبي الجيش بن زياد أيضا ، ظهرت دعوة العبيديين باليمن ، فقام بها علي (٤) بن الفضل بعدن لاعة ، وجبال اليمن ، إلى جبل المذيخرة سنة أربع وتسعين ومئتين (٥). وبقي له باليمن من الشرجة إلى عدن عشرون مرحلة ، ومن مخلافه إلى صنعاء خمس مراحل. ولما غلبه علي (٦) بن الفضل بهذه الدعوة ، امتنع أصحاب الأطراف عليه. مثل بني أسعد بن يعفر بصنعاء ، وسليمان بن طرف بعثر ، والإمام الرسي بصعدة ، فسلك معهم طريق المهادنة ، ثم هلك أبو الجيش سنة إحدى وسبعين وثلاث مئة بعد أن اتسعت جبايته ، وعظم ملكه. قال ابن سعيد : رأيت مبلغ ارتفاع جبايته وهو ألف ألف ـ مكررة مرتين ـ وثلاث مئة ألف ، وستة وستون ألفا من الدنانير العثرية (٧) ، ما عدا ضرائب على مراكب السند ، وعلى العنبر الواصل بباب المندب ، وعدن أبين ، وعلى مغائص اللؤلؤ ، وعلى جزيرة دهلك. ومن بعضها ألف رأس وصائف ، وكانت ملوك الحبشة من وراء البحر يهادونه ويخطبون مواصلته.

ولما مات خلف طفلا صغيرا اسمه عبد الله ، وقيل إبراهيم ، وقيل

__________________

(١) زيادة لضبط التاريخ ؛ وانظر الحاشية ١٠٧ (كاي) والتعليق عليها.

(٢) في الأصل : ظهر.

(٣) في الأصل : بنو أسعد.

(٤) في الأصل : محمد.

(٥) في الأصل : أربعين وثلاث مئة والتصحيح من سلوك / كاي : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٦) في الأصل : محمد.

(٧) في الأصل : العشرية.

١٦٦

زياد ، وكفلته أخته (١) ، ومولاه رشيد الحبشي. وولى رشيد على الجبال مملوكه الحسين (٢) بن سلامة النوبي. وآل الأمر في دولتهم بتوالي الوزارة في موالي الحبشة والنوبة. واستبدادهم عليهم ، إلى أن انقرضت دولتهم سنة سبع وأربع مئة (٣). ثم هلك هذا الطفل ، فولى طفل آخر من بني زياد أصغر منه. قال ابن سعيد : لم يعرف عمارة اسمه لتوالي الحجبة عليه. ويعني عمارة مؤرخ اليمن. وقيل اسم هذا الطفل الأخير إبراهيم ، وكفلته عمته ، ومرجان من موالي الحسين (٤) بن سلامة ، واستعبد أمرهم ودولتهم. وكان له موليان : اسم أحدهما نفيس (٥) والآخر نجاح. فجعل الملك في كفالة نفيس (٦) ، وأنزله معه في زبيد ، وولى نجاحا على سائر الأعمال ، خارج زبيد ، ومنها الكدراء والمهجم. وكان يؤثر نفيسا (٧) على نجاح ووقع بينهما تنافس ، ورفع لنفيس (٨) أن عمة الطفل تميل إلى نجاح ، وتكاتبه دونه. فقبض عليهما بإذن مولاه مرجان ، ودفنهما حيين.

واستبد وركب بالمظلة وضرب السكة ، وامتعض نجاح لذلك ، فزحف في العساكر ، وبرز نفيس (٩) للقائه ، فكانت بينهما حروب ووقائع انهزم نفيس (١٠) في آخرها. وقتل في خمسة آلاف من عسكره. وملك نجاح زبيد سنة اثنتي عشرة وأربع مئة. ودفن نفيسا (١١) ومولاه مرجانا مكان الطفل والعمة ، واستبد وضرب السكة باسمه. وكاتب ديوان الخلافة ببغداد ، فعقد له على اليمن. ولم يزل مالكا لتهامة ، قاهرا لأهل الجبال ، إلى أن قتله علي الصليحي ، القائم بدعوة العبيديين ، بالسم على يد جارية ، بعث بها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة ، فقام بالأمر بعده بزبيد مولاه كهلان. ثم استولى الصليحي على زبيد ، وملكها من يده كما ذكرنا.

__________________

(١) أي أخت أبي الجيش.

(٢) في الأصل : الحسن.

(٣) في عمارة : تسع وأربع مئة.

(٤) في الأصل : الحسن.

(٥) في الأصل : قيس.

١٦٧

الخبر عن بني الصليحي القائمين

بدعوة العبيديين باليمن

كان القاضي محمد بن علي الهمداني ثم الصليحي ، رئيس حراز من بلاد همدان وينتسب في بني يام (١). ونشأ له ولد اسمه علي ، وكان صاحب الدعوة يومئذ سليمان (٢) بن عبد الله الزواحي ، نسبة إلى قرية من قرى حراز ، ويقال : أنه كان عنده كتاب الجفر ، من ذخائر أئمتهم بزعمهم ، فزعموا أن عليا بن القاضي محمد مذكور فيه ، فقرأ علي على سليمان (٣) الداعي وأخذ عنه ، لما توسم فيه الأهلية. أراه مكان اسمه في الجفر وأوصافه. وقال لأبيه القاضي : احتفظ بابنك فسيملك جميع اليمن.

فنشأ فقيها صالحا ، وجعل يحج بالناس عن طريق الطائف والسرات خمس عشرة سنة. فطار ذكره ، وعظمت شهرته ، وألقي على ألسنة الناس أنه سلطان اليمن. ومات الداعي سليمان (٤) الزواحي ، فأوصى له بكتبه ، وعهد إليه بالدعوة. ثم حج بالناس سنة ثمان وثلاثين (٥) وأربع مئة على عادته. واجتمع بالموسم بجماعة من قومه همدان كانوا معه ، فدعاهم إلى النصرة والقيام معه فأجابوه وبايعوه ، وكانوا ستين رجلا من رجالات قومهم ، فلما عادوا قام في مسار ، وهو حصن في ذروة جبل حراز ، وحصن ذلك الحصن ، ولم يزل أمره ينمو (٦). وكتب إلى المستنصر صاحب مصر ، يسأله الإذن في إظهار الدعوة ، فأذن له ، وأظهرها وملك اليمن كله.

ونزل صنعاء ، واختط بها القصور. وأسكن عنده ملوك اليمن الذين غلبوا على أمرهم ، وهزم بنو طرف ملوك عثر وتهامة ، وأعمل الحيلة في

__________________

(١) انظر «الصليحيون» : ٦٤ ـ ١١٢ ؛ انظر اللوحة في التعليق على الحاشية ١٠٨ (كاي).

(٢) في الأصل : عامر : وسبق أن ذكرنا ذلك.

(٣) في الأصل : عامر : وسبق أن ذكرنا ذلك.

(٤) في الأصل : عامر : وسبق أن ذكرنا ذلك.

(٥) في الأصل : ثمان وعشرين.

(٦) في الأصل : ينمي.

١٦٨

قتل نجاح مولى بني زياد ، ملوك زبيد ، حتى تم له ذلك على يد جارية أهداها إليه كما ذكر سنة اثنتين وخمسين (وأربع مئة) (١).

ثم سار إلى مكة بأمر المستنصر صاحب مصر ، ليمحو منها الدعوة العباسية ، والإمارة الحسنية ، واستخلف على صنعاء ابنه المكرم أحمد ، وجعل معه زوجته أسماء بنت شهاب والملوك الذين معه مثل : ابن الكرندي. وابن يعفر التبعي ، ووائل بن عيسى الوحاظي وأمثالهم. فبيته سعيد بن نجاح بالمهجم وقتله سنة تسع (٢) وخمسين وأربع مئة. وقام بالأمر بعده (٣) ابنه المكرم أحمد ، واستولى على أمره ، وأقام بصنعاء. وكانت أمه أسماء بنت شهاب ، قد سباها سعيد بن نجاح ليلة البيات فكتبت إلى ابنها المكرم : «إني حبلى من العبد الأحول ، فأدركني قبل أن أضع ، وإلا فهو العار الذي لا يمحوه الدهر». فسار المكرم من صنعاء سنة ستين (٤) (وأربع مئة) (٥) في ثلاثة آلاف ، ولقي الحبشة في عشرين ألفا فهزمهم. ولحق سعيد بن نجاح بجزيرة دهلك ، ودخل المكرم إلى أمه وهي جالسة بالطاق الذي نصب عنده رأس الصليحي وأخيه ، فأنزلهما ودفنهما ، ورفع السيف.

وولى أسعد (٦) بن عراف على أعمال تهامة. وأنزله بزبيد منها وارتحل بأمه إلى صنعاء. وكانت تدبر ملكه. ثم جمع أسعد بن (٧) عراف أموال تهامة ، وبعث بها مع وزيره أحمد بن سالم ، ففرقتها أسماء على وفود العرب. ثم هلكت أسماء سنة سبع (٨) وستين (وأربع مئة) (٩). وخرجت زبيد من يد

__________________

(١) زيادة لتوضيح المعنى.

(٢) في الأصل : ثلاث وسبعين.

(٣) في الأصل : وقام بأمره بعد ابنه.

(٤) في الأصل : خمس وسبعين.

(٥) زيادة لاستقامة المعنى.

(٦) في الأصل : أسعد بن شهاب.

(٧) في الأصل : أسعد بن شهاب.

(٨) في الأصل : سبع وسبعين.

(٩) زيادة لاستقامة المعنى.

١٦٩

المكرم ، واستردها جياش (١) بن نجاح سنة إحدى (٢) وستين ، ثم انتقل المكرم إلى ذي جبلة سنة خمس (٣) وسبعين ، وولى على صنعاء عمران بن الفضل الهمداني ، فاستبد بها وتوارثها عقبه. وتسمى ابنه أحمد ، باسم السلطان ، واشتهر به ، وبعده ابنه حاتم بن أحمد ، وليس بعده بصنعاء من له ذكر ، حتى ملكها بنو سليمان لما غلبتهم الهواشم على مكة كما في أخبارهم (٤).

ولما انتقل المكرم إلى ذي جبلة ، وهي مدينة اختطها عبد الله بن محمد الصليحي سنة ثمان وخمسين (وأربع مئة) (٥) ، وكان انتقاله بإشارة زوجته ، سيدة بنت أحمد التي صار إليها تدبير ملكه بعد أمه أسماء. فنزلها وبنى فيها دار العز ، وتحيّل على قتل سعيد بن نجاح ، فتم له كما نذكر في أخبار بني (٦) نجاح ، وكان مشغولا بلذاته ، محجوبا بزوجته. ولما حضرته الوفاة سنة سبع (٧) وسبعين عهد إلى ابن عمه ، المنصور سبأ بن أحمد بن المظفر بن علي الصليحي ، صاحب معقل أشيح [١٠٨]. فقلّده المستنصر العبيدي (٨) ، وأقام بمعقله ، وسيدة بنت أحمد بذي جبلة.

وخطبها المنصور سبأ ، وامتنعت فحاصرها بذي جبلة ، وقال له أخوها لأمها سليمان بن عامر الزواحي : والله لا تجيبك إلا بأمر المستنصر ، خليفة مصر. فراسل في ذلك ، وأجيب ، ووصل خادم من عند المستنصر ، وأبلغه أمره بذلك ، وتلا عليها : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(٩). وإن أمير المؤمنين زوجك من الداعي

__________________

(١) في الأصل : سعيد.

(٢) في الأصل : تسع وسبعين.

(٣) في الأصل : سنة ثمانين.

(٤) راجع حاشية ٨ (كاي).

(٥) زيادة لاستقامة المعنى.

(٦) في الأصل : ابن.

(٧) في الأصل : أربع وثمانين.

(٨) راجع التعليق على الحاشية ١٢٠ (كاي).

(٩) سورة رقم ٣٣ ؛ آية : ٣٦.

١٧٠

المنصور أبي حمير سبأ بن أحمد بن المظفر ، على مئة ألف دينار ، وخمسين ألفا من أصناف التحف واللطائف. فانعقد النكاح. وسار سبأ من معقل أشيح إلى ذي جبلة ، ودخل إليها بدار العز. ويقال : إنها شبهت عليه بجارية من جواريها (١). فقامت على رأسه ليلها كله ، وهو لا يرفع الطرف إليها ، حتى أصبح فرجع إلى معقله. وأقامت هي بذي جبلة (٢).

وكان المستولي عليها المفضل بن أبي البركات من بني يام ـ رهط الصليحي ـ واستدعى عشيرته (٣) جانبا ، وأنزلهم عنده ، بذي جبلة. فكان يسطو بهم. وكانت سيدة تأتي التعكر في الصيف ، وبه ذخائرها وخزائنها ، فإذا جاء الشتاء رجعت إلى ذي جبلة ، ثم انفرد المفضل بالتعكر ، ولم ينكر منها ولا أنكرت منه.

ثم سار المفضل لقتال آل نجاح ، فوثب في حصن التعكر فقيه يلقب بالحمل ، مع سبعة من الفقهاء (٤). أحدهم إبراهيم بن زيدان ، عم عمارة الشاعر. فبايعوا الحمل على أن يمحو الدعوة الإمامية. فرجع المفضل من طريقه وحاصرهم. وجاءت خولان لنصرتهم ، فصانعم المفضل. وهلك في حصارهم سنة أربع وخمس مئة. فجاءت بعده الحرة سيدة ، وأنزلتهم على عهد ، فنزلوا ووفت لهم به ، وكفلت عقب المفضل وولده. وصار معقل التعكر في يد عمران بن الزر الخولاني وأخيه سليمان. واستولى عمران على الحرة السيدة مكان المفضل. ولما ماتت استبد عمران وأخوه بحصن التعكر ، واستولى منصور بن المفضل بن أبي البركات على ذي جبلة حتى اشتراه (٥) منه الداعي الزريعي صاحب عدن كما سيأتي :

واعتصم بمعقل أشيح الذي كان للداعي المنصور سبأ بن أحمد ،

__________________

(١) في الأصل : بجواريها.

(٢) راجع عمارة / كاي : ٣٥ ؛ والحواشي ٤١ ، ٤٢ والتعليق عليها.

(٣) في الأصل : عشيرة.

(٤) عبر (طبعة بولاق) : جماعة.

(٥) في الأصل : حتى باعه من الداعي ...

١٧١

وذلك أن المنصور توفي سنة اثنتين وتسعين (١) وأربع مئة. واختلف أولاده من بعده ، وغلب ابنه علي منهم ، على المعقل ، وكان ينازع المفضل بن أبي البركات والحرة سيدة وأعياهما أمره فتحيل المفضل بسم أودعه في سفرجل أهداه إليه ، فمات منه ، واستولى بنو أبي البركات على حصون بني المظفر.

ومات المفضل عن قرب كما مر ، وكفلت السيدة ابنه المنصور ، وكان غير مستقل بالملك ثم نهضت به سنه ، فصار له ملك أبيه في حصن التعكر وقلاعه ، وذي جبلة وحصونه. وملك بني المظفر في أشيح وحصونه ، ثم باع حصن ذي جبلة إلى (٢) الداعي الزريعي صاحب عدن بمئة ألف دينار. وما زال يبيع معاقله حصنا حصنا ، حتى لم بيق له غير معقل تعز ، أخذه منه علي بن مهدي بعد أن ملك ثمانين سنة ، وبلغ من العمر مئة سنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

الخبر عن دولة بني نجاح بزبيد موالي بني زياد

ومبادىء أمورهم وتصاريف أحوالهم

ولما استولى الصليحي على زبيد من يد سعيد (٣) بن نجاح بعد أن أهلك (٤) [نجاح](٥) بالسم على يد الجارية التي بعثها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة ، كما مر. وكان لنجاح ثلاثة من الولد : معارك وسعيد وجياش. فقتل معارك نفسه ، ولحق سعيد وجياش بجزيرة دهلك. وأقاما هنالك يتعلمان القرآن والآداب. ثم رجع سعيد إلى زبيد مغاضبا لأخيه

__________________

(١) في الأصل : ست وثمانين والتصحيح من كفاية : ٥٩ ؛ في عيون : ٧ / ١٦٨ توفي سنة ٤٩١.

(٢) في الأصل : من.

(٣) في الأصل : كهلان.

(٤) في الأصل : أهلكه.

(٥) ذكرنا نجاح لتوضيح المعنى.

١٧٢

جياش ، واختفى بها في نفق احتفره تحت الأرض ، ثم استقدم أخاه جياشا فقدم ، وأقاما هنالك في الاختفاء.

ثم إن المستنصر العبيدي ـ الخليفة المصري ـ قطع دعوته بمكة ، محمد بن جعفر أميرها من الهواشم : فكتب إلى الصليحي يأمره بقتاله ، وحمله على إقامة الدعوة العلوية بمكة. فسار علي الصليحي لذلك من صنعاء ، وظهر سعيد وأخوه من الاختفاء. وبلغ خبرهم إلى الصليحي ، فبعث عسكرا نحوا من خمسة آلاف فارس (١) ، وأمرهم بقتلهما. وقد كان سعيد وجياش خالفا العسكر ، وسارا في أتباع الصليحي ، وهو في عساكره. فبيتوه في المهجم متوجها إلى مكة ، وكان معه خمسة آلاف من الحبشة ، فلم يغنوا عنه شيئا. فانقض عسكره ، وقيل (٢) تولى قتله جياش بيده وذلك سنة تسع (٣) وخمسين. ثم قتل عبد الله الصليحي ، أخا علي ، في مئة وسبعين من بني الصليحي ، وأسر زوجته أسماء بنت عمه شهاب ، في خمس وثلاثين من ملوك القحطانيين ، الذين غلب عليهم باليمن. وبعث إلى العسكر الذين ساروا لقتل سعيد وجياش ، فأمنهم واستخدمهم ، وارتحل إلى زبيد ، وعليها أسعد بن (٤) عراف. ففر أسعد إلى صنعاء ، ودخل سعيد إلى زبيد ، وأسماء زوجة الصليحي أمامه في هودج. ورأسي الصليحي وأخيه عند هودجها ، وأنزلها بدارها ، ونصب الرأسين قبالة طاقها في الدار.

وامتلأت القلوب منه رعبا وتلقب بنصير الدولة ، وتغلب ولاة الحصون على ما بأيديهم. ودهش المكرم بن علي الصليحي بصنعاء ، وكاد أن يتضعضع أمره ، وكتبت إليه أسماء ، أمه من زبيد تغريه وتقول : إني حبلى من سعيد ، فأدركني قبل أن تقع الفضيحة عليك ، وعلى جميع العرب. فتحيل المكرم في إغراء سعيد بن نجاح بصنعاء على لسان بعض أهل الثغور ، وضمن له الظفر [١٠٩].

__________________

(١) من الأحباش (عمارة كاي ٦١).

(٢) في الأصل : وقتل.

(٣) في الأصل : ثلاث وسبعين.

(٤) في الأصل : أسعد بن شهاب أخو أسماء زوجة الصليحي.

١٧٣

فجاء سعيد لذلك في عشرين ألفا من الحبشة ، وسار إليه المكرم من صنعاء وهزمه ، وحال بينه وبين زبيد ، فهرب إلى جزيرة دهلك ودخل المكرم زبيد وجاء إلى أمه وهي جالسة بالطاق ، وعندها (١) رأس الصليحي وأخيه فأنزلهما ودفنهما ، وولى على زبيد أسعد (٢) بن عراف في سنة ستين (٣) وأربع مئة ، وارتحل إلى صنعاء ، ثم رجع إليها سعيد سنة إحدى وستين (٤).

وكتب المكرم إلى أبي عبد الله بن يعفر (٥) صاحب حصن الشعر بأن يغري سعيدا بالمكرم ، وانتزاع ذي جبلة من يده ، لانشغاله بملذاته ، واستيلاء زوجته سيدة بنت أحمد عليه ، وأنه مفلج. فتمت الحيلة ، وسار سعيد في ثلاثين ألفا من الحبشة. وكمن (٦) له المكرم تحت حصن الشعر ، فغدروا به هنالك. وانهزمت عساكره وقتل ، ونصب رأسه عند الطاق الذي كان فيها رأس الصليحي بزبيد ، واستولى عليه المكرم وانقطع منها ملك الحبشة.

وهرب جياش ومعه وزير أخيه ، خلف بن أبي الطاهر الأموي (٧) ودخلا عدن متنكرين ، ثم لحقا بالهند وأقاما هناك (٨) ستة أشهر ، ولقي هنالك كاهنا جاء من سرنديب ، فبشرهما بما يكون لهما ، فرجعا إلى اليمن. وتقدم خلف الوزير إلى زبيد ، وأشاع موت جياش ، واستأمن لنفسه ولحق به جياش. فأقام هنالك مختفيا. وعلى زبيد يومئذ أسعد بن (٩)

__________________

(١) في الأصل : وعنده.

(٢) في الأصل : أسعد بن شهاب.

(٣) في الأصل : سنة خمس وسبعين.

(٤) في الأصل : سنة تسع وسبعين.

(٥) عمارة كاي : أبو عبد الله التبعي.

(٦) في الأصل : أكمن.

(٧) في الأصل : المرواني والتصحيح من أنباء / دار : ٤٣.

(٨) في الأصل : وأقامها.

(٩) في الأصل : أسعد بن شهاب.

١٧٤

عراف ومعه علي بن القم ووزير المكرم ، وكان حنقا على المكرم ودولته. فداخله الوزير خلف ولاعب ابنه الحسين الشطرنج ، ثم انتقل إلى ملاعبة أبيه ، فاغتبط به ، وأطلعه على رأيه في الدولة ، وأنه يتشيع لآل نجاح. وتمتم (١) بعض الأيام وهو يلاعبه ، فسمعه علي بن القم واكتشف أمره ، فكشف له القناع واستحلفه. وجياش أثناء ذلك يجمع أشياعه من الحبشة وينفق فيهم الأموال ، حتى اجتمع له منهم خمسة آلاف. فثار بهم في زبيد سنة اثنتين وستين (٢) ، ونزل دار الإمارة. ومن على أسعد عراف (٣) ، وأطلقه لزمانة كانت به. وبقي ملكا على زبيد وتهامة يخطب للعباسيين. والصليحيون يخطبون للعبيديين. والمكرم يبعث العرب للغارة على زبيد ، كل حين ، إلى أن هلك جياش على رأس المئة الخامسة. وكانت كنيته أبو الطامي ، وكان موصوفا بالعدل.

وولى بعده ابنه الفاتك بن جياش. وخالف عليه أخواه : إبراهيم وعبد الواحد وجرت بينه وبينهما حروب ، وكان الظفر له آخرا ، ثم هلك سنة ثلاث وخمس مئة.

ونصب عبيده للملك ابنه منصور بن فاتك ، صبيا لم يحتلم ، ودبروا ملكه ، وجاء عمه إبراهيم لقتاله ، وبرزوا له ، فثار عمه عبد الواحد بالبلد. وبعث منصور إلى المفضل بن أبي البركات ، صاحب التعكر ، فجاء لنصره مضمرا للغدر به ، ثم بلغه انتقاض أهل التعكر عليه ، فرجع.

ولم يزل منصور في ملكه بزبيد ، إلى أن وزر من عبيده أبو منصور من الله ، فقتله مسموما سنة سبع عشرة وخمس مئة ، ونصب فاتكا ، ابنه طفلا صغيرا ، واستبد عليه ، وقام بضبط الملك ، ونعى عليه التعرض لحرم آل نجاح ، حتى هربت منه أم فاتك هذا ، وسكنت خارج المدينة.

__________________

(١) في الأصل : وانتمى.

(٢) في الأصل : ثنتين وثمانين.

(٣) في الأصل : أسعد بن شهاب.

١٧٥

حاربه ابن نجيب [الدولة] ، داعي العلوية ، فامتنع عليه. وهو الذي شيد المدارس للفقهاء بزبيد ، واعتنى بالحاج ، وابتنى سور المدينة. ثم راود بنت معارك بن جياش (١). فلم تجد بدا من إسعافه فأمكنته حتى إذا قضي وطره. مسحت ذكره بمنديل مسموم فتهرأ لحمه ، وذلك سنة أربع وعشرين وخمس مئة.

وقام بأمر فاتك بعده رزيق ، من موالي آل نجاح. قال عمارة : كان أحولا شجاعا قدما ، وكان ولودا ، ثم عجز بعد حين ، ولم يستقر أحد مكانه ، حتى قام بالوزارة سرور الحبشي الفاتكي ، من موالي أم فاتك ، المختصين بها.

قال عمارة : وفي سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة توفي فاتك بن منصور وولى بعده ابن عمه وسميه ، فاتك بن محمد بن فاتك ، وسرور قائم بوزارته ، وتدبير دولته ومحاربة أعدائه. وكان يلازم المسجد ، إلى أن دس عليه علي بن مهدي الخارجي من قتله في المسجد. وهو يصلي العصر يوم الجمعة ثاني عشر صفر سنة إحدى وخمسين [وخمس مئة]. وثار الناس بذلك الشيطان القاتل ، فقتل جماعة من أهل المسجد ثم قتل. واضطرب موالي آل نجاح بالدولة ، وثار عليهم علي بن مهدي الخارجي وحاربهم مرارا ، وحاصرهم طويلا ، واستعانوا بالشريف المنصور أحمد بن حمزة السليماني ، وكان يملك صعدة ، فأغاثهم على أن يملكوه ، ويقتلوا سيدهم فاتك بن محمد. فقتلوه سنة ثلاث وخمسين [وخمس مئة]. وملكوا عليهم (٢) الشريف أحمد ، فعجز عن مقاومة ابن مهدي ، وفر تحت الليل ، وملكها علي بن مهدي سنة أربع وخمسين [وخمس مئة] وانقرض أمر آل نجاح. والبقاء لله (٣).

__________________

(١) في الأصل : بنت.

(٢) في الأصل : عليه.

(٣) انظر حاشية : ١٣٠ (كاي) والتعليق عليها.

١٧٦

الخبر عن دولة بني الزريع بعدن

من دعاة العبيديين باليمن ،

وأولية أمرهم ومصائرهم

وعدن هذه من أمنع مدائن اليمن ، وهي على ضفة البحر الهندي ، وما زالت بلد تجارة منذ عهد التبابعة ، وأكثر بنائهم بالأخصاص ، ولذلك يطرقها الحريق كثيرا ، وكانت صدر الإسلام دار ملك لبني معن. قال البيهقي : [١١٠] ينتسبون إلى معن بن زائدة (١) ، ملكوها من أيام المأمون ، وامتنعوا على بني زياد ، فقنعوا منهم بالخطبة والسكة.

ولما استولى الداعي علي بن محمد الصليحي على اليمن ، رعى لهم ذمار العروبة (٢) وقرر عليهم ضريبة يعطونها ، ثم أخرجهم منها ابنه أحمد المكرم ، وولى عليها بني الكرم من عشيرة جشم بن يام ، من همدان ، وكانوا في أقرب عشائره إليه. فأقامت في ولايتهم زمنا ، ثم حدثت بينهم الفتنة ، وانقسموا إلى فئتين : بنو مسعود بن الكرم ، وبنو زريع بن العباس بن الكرم ، وغلب بنو الزريع بعد حروب عظيمة.

قال ابن سعيد : وأول مذكور منهم الداعي سبأ بن أبي السعود بن الزريع ، أول من اجتمع له الملك بعد بني الصليحي ، وورثه عنه بنوه ، وحاربه ابن عمه ، علي بن أبي الغارات بن أبي مسعود بن الكرم ، صاحب الرعارع. فاستولى على عدن من يده ، بعد مقاسات ونفقات في الأعراب. ومات بعد فتحها بسبعة أشهر ، سنة ثلاث وثلاثين وخمس مئة.

ولى ابنه الأعز ، وكان مقيما بحصن الدملوة [١١١] ، (٣) المعقل الذي لا يرام ، وامتنع عليه بعدن ، بلال بن جرير ، مولى بني زريع ، وأراد أن يعدل بالملك لمحمد بن سبأ بن أبي سعود بن زريع من مواليه. وخشي

__________________

(١) راجع التعليق على الحاشية ١١٠ (كاي).

(٢) في الأصل : العروبة.

(٣) راجع الحاشية ١ ، ٢ (كاي).

١٧٧

محمد بن سبأ على نفسه ، ففر إلى المنصور بن المفضل من ملوك الجبال الصليحيين بذي جبلة.

ثم مات الأعز قريبا ، فبحث بلال عن محمد بن سبأ ، فوصل إلى عدن ، وكان التقليد جاء من مصر ، باسم الأعز ، فكتب مكانه محمد بن سبأ وكان من نعوته : الداعي المعظم المتوج المتين ، سيف أمير المؤمنين ، فوقعت كلها عليه ، وزوجه بلال بنته ، ومكنه من الأموال التي كانت في خزائنه. ثم مات بلال عن مال عظيم ، وورثه محمد بن سبأ ، وأنفقه في سبيل الكرم والمروءات. واشترى حصن ذي جبلة من منصور بن المفضل بن أبي البركات ، كما ذكرنا واستولى عليه. وهو دار ملك الصليحيين. وتزوج سيدة بنت عبد الله الصليحي ، وتوفي سنة ثمان وأربعين وخمس مئة.

وولى ابنه عمران بن محمد بن سبأ ، وكان ياسر بن بلال يدبر دولته ، وتوفي سنة ستين وخمس مئة ، وترك ولدين صغيرين هما : محمد وأبو السعود ، فحبسهما ياسر بن بلال في القصر ، واستبد بالأمر. وكان ياسر ممدحا ، كثير العطية للشعراء ، وممن وفد عليه ومدحه ، ابن قلانس (١) شاعر الإسكندرية ، ومن قصائده في مدحه :

سافر إذا حاولت قدرا

سار الهلال فصار بدرا [١١٢]

وهو آخر ملوك الزريعيين. ولما دخل شمس الدولة سيف الإسلام أخو صلاح الدين إلى اليمن سنة تسع (٢) وستين وخمس مئة واستولى عليها ، جاء إلى عدن فملكها. وقبض على ياسر بن بلال. وانقطعت دولة بني زريع (٣) ، وصار اليمن للغز ، وفيه ولاتهم بنو أيوب ، كما نذكر في أخبارهم ، وكانت مدينة الجؤة قرب عدن ، اختطها ملوك الزريعيين. فلما جاءت دولة بني أيوب تركها ، ونزلوا تعز من الجبال كما يأتي ذكره [١١٣].

__________________

(١) راجع التعليق على الحاشية ١ ، ٢ (كاي).

(٢) في الأصل : سنة ست وستين وستمائة.

(٣) راجع الجدول التابع للحاشية ١١٣ (كاي).

١٧٨

أخبار ابن مهدي الخارجي وبنيه وذكر دولتهم باليمن ،

بدايتها وانقراضها :

هذا الرجل من أهل العنبرة ، من سواحل زبيد. وهو علي بن مهدي الحميري ، كان أبوه مهدي معروفا بالصلاح والدين ، ونشأ ابنه علي على طريقته. فاعتزل ونسك ثم حج ، ولقي علماء العراق ، وأخذ الوعظ من وعاظهم. وعاد إلى اليمن واعتزل ، ولزم الوعظ. وكان حافظا فصيحا ، ويخبر بحوادث أخباره ، فيصدق. فمال إليه الناس واغتبطوا به. وصار يتردد للحج من سنة إحدى وستين ، ويعظ الناس في البوادي. فإذا حضر الموسم ، أتاه على نجيب له. ولما استولت أم فاتك على بني جياش ، أيام ابنها فاتك بن منصور ، أحسنت فيه المعتقد ، وأطلقت له ولقرابته وأصهاره خرجهم فحسنت أحوالهم ، وأثروا ، وركبوا الخيول ، وقوي جمعهم.

وكان يقول في وعظه : دنا الوقت ، يشير إلى وقت ظهوره ، واشتهر ذلك عنه. وكانت أم فاتك تصد أهل الدعوة عنه إلى أن ماتت سنة خمس وأربعين. وكان أهل الجبال قد حالفوه على النصرة. وخرج من تهامة سنة ثمان وثلاثين ، وقصد الكدراء فانهزم ، وعاد إلى الجبال ، وأقام بها سنة إحدى وأربعين ، ثم أعادته الحرة أم فاتك إلى وطنه ، وماتت سنة خمس وأربعين.

فخرج إلى خولان ونزل ببعض منهم يقال له : حيوان. في حصن يسمى الشرف ، وهو حصن صعب المرتقى ، على مسيرة يوم من سفح الجبل في طريقه أوعار ، في واد ضيق ، عقبة كؤود. وسماهم الأنصار ، وسمّى كل من صعد معه من تهامة ، المهاجرين. وأمر للأنصار رجلا اسمه سبأ ، وللمهاجرين آخر أسماه شيخ الإسلام ، واسمه النوبة. واحتجب عمن سواهما.

وجعل يشن الغارات على أرض تهامة ، وأعانه على ذلك خراب النواحي بزبيد فقطع سابلتها ، وأخرب نواحيها ، وانتهى إلى حصن الداشر ، على نصف مرحلة من زبيد ، وأعمل الحيلة في قتل سرور ، مدبر الدولة

١٧٩

فقتل كما مر. وأقام يتحيف (١) زبيد بالزحوف. قال عمارة : زاحفها سبعين زحفا ، وحاصرها طويلا. واستمدوا الشريف أحمد بن حمزة السليماني ـ صاحب صعدة ـ فأمدهم. وشرط عليهم قتل سيدهم فاتك بن محمد ، فقتلوه سنة ثلاث وخمسين. وملك عليهم الشريف ، ثم عجز وهرب عنهم. واستولى علي بن مهدي عليها في رجب سنة أربع وخمسين. ومات لثلاثة أشهر من استيلائه.

وكان يخطب له بالإمام المهدي ، أمير المؤمنين ، وقاطع الكفرة المعتدين ، وكان على رأي الخوارج يبرأ من علي وعثمان. ويكفر بالذنوب. وله قواعد ونواميس في مذهبه ، يطول ذكرها. وكان يقتل على شرب الخمر. قال عمارة : كان يقتل كل من يخالفه من أهل القبلة ، ويستبيح نساءهم ، وأولادهم ، وكانوا يعتقدون فيه العصمة ، وكانت أموالهم تحت يده ، ينفقها عليهم في مؤنهم. ولا يملكون معه مالا ولا فرسا ولا سلاحا. وكان يقتل المنهزم من أصحابه ، ويقتل الزاني ، وشارب الخمر ، وسامع الغناء ، ويقتل من تأخر عن صلاة الجماعة ، ومن تأخر عن وعظه يومي (٢) الاثنين والخميس. وكان حنفيا في الفروع.

ولما توفي تولى بعده ابنه عبد النبي ، وانتقض عليه أخوه عبد الله ، وغلبه على زبيد واستولى على اليمن أجمع ، وبه يومئذ خمس وعشرون دولة ، فاستولى على جميعها ، ولم يبق له سوى عدن ، ففرض عليها الجزية.

ولما دخل شمس الدولة توران شاه بن أيوب. أخو صلاح الدين ، سنة تسع (٣) وستين وخمس مئة ، واستولى على الدولة التي كانت باليمن ، فقبض على عبد النبي وامتحنه ، وأخذ منه أموالا عظيمة. وحمله إلى عدن ، فاستولى عليها.

__________________

(١) يعني يظلمها.

(٢) في الأصل : يوم.

(٣) في الأصل : ست.

١٨٠