تاريخ اليمن

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني

تاريخ اليمن

المؤلف:

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني


المحقق: الدكتور حسن سليمان محمود
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

قالت وردة جارية الوزير مفلح : ولما مات مولاي في الجبال بحصن الكرش أو مكرشة خطبني الوزير إقبال ، والقائد سرور ، والقائد إسحاق بن مرزوق ، والقائد علي بن مسعود صاحب حيس ، فوعدت رسول كل واحد منهم وعدا جميلا ، وشاورت مولاي منصور بن مولاي مفلح في رسائل القوم. فأشار [علي ب](١) سرور وقال : استظهري بمشورة الشيخ حمير بن أسعد : فاستدعيته من تهامة إلى الجبال. فقال : أما علي بن مسعود فعنده تسعون سرية وأربع زوجات. أما إقبال فعنده عشرون مغنية ثم عنده ناجية (وهي من) تربية التجار (٢) ونجلها منصور بين عينيه إلى هذه الغاية. وأما القائد إسحاق بن مرزوق فعنده ابنة عويد أم ولده فرج ، وعنده ابنة عمه أحد (٣). ولا والله ما تمشي بأرض تهامة مثلها. ولكني أشير عليك بالقائد أبي محمد سرور الفاتكي ، فإنه واسع النعمة (٤) ، ثم هو تربية الملك فاتك بن منصور ، وتربية مولاتنا أم فاتك بن منصور. قالت : فتزوجني القائد أبو محمد سرور الفاتكي ، فوجدت رجلا مشغولا عن الدنيا ، وعن النساء ، وعن التنعم ، بالنظر في معالي الأمور ، قلم أزل به حتى حللته (٥) ، وتدوجت في عشرته حتى ملكته ، فكان على خشونته ويبسه وهيبته. وانقباض جواريه منه لا يخالفني فيما آراه ، وإذا غضبت عليه ، كاد أن يفارق الحياة ، ودليل ذلك ما حدثني به الشيخ مسلم بن يشجب وزير الأمير الشريف غانم بن يحيى الحسيني قال : قدمت من بلادي رسولا إلى القائد سرور الفاتكي في عقد هدنة بيننا وبينه فقال لي وزيره عبيد بن بحر : ليت قدومك تقدم أو تأخر ، فإنك صادفت القائد مشغولا خاطره ، فأقمت يومين أو ثلاثة أيام. ولما لم أجتمع بالقائد قدم علينا حمير بن أسعد فقال لي عبيد بن بحر ،

__________________

(١) في الأصل : فأشار سرور.

(٢) في الأصل : ثم هي عند تاجر وتربية التجار.

(٣) ذهب [كاي] إلى أن اسمها (أحدولا) مضيفا إلى كلمة (أحد) كلمة (ولا).

(٤) في الأصل : المقمة.

(٥) في الأصل : حللته ولا معنى لها إلا إذا كانت تشبهه بالعقدة ثم جاءت فحلتها ، أما أحل فمعناها خرج من ميثاق كان عليه ، ومن المستبعد أن تكون بالخاء ، فاخللته معناها أفقرته.

١٤١

وزير القائد سرور : الآن انحلت عقدتك بعد قدوم حمير. قلت : فكيف ذلك؟ قال : إن أم عمرو وردة ساخطة عليه وأقسمت لا تكلمه ، ولا تأذن له في الدخول عليها حتى يأتي أبوها ، وهو الشيخ حمير بن أسعد. قال مسلم : ولما كان في تلك الليلة ، دعينا إلى مجلس فيه شراب وغناء وطيب ، فجلسنا ، وإذا القائد قد طلع علينا ، فسلمنا عليه ، ثم سمعنا من خلف الستارة جلبة وجرس حلي لم يكن (١). وإذا هي وردة ، أصلح حمير بينها وبين القائد ، فجاءت لتغني له ، فوقع في قلبي من تعجيز القائد سرور وضعف عزيمته ، بعض ما وقع. فكأنه يوحي بما في نفسي. فاقترح عليها قول الشاعر :

نحن قوم تذيبنا الحدق النجل

مع أننا نذيب الحديدا (٢)

ومن عبيد فاتك من جعلت ذكره ختامهم وأخرته ، وإن كان أمامهم ، وهو القائد الأجل أبو محمد سرور أمحرة الفاتكي ، وجنسه من الحبشة أمحرة ، وكل ما أورده عنه نقطة من بحر فضله. فمن مبادىء أمره أن منصور بن فاتك لما قتل الوزير أنيسا ، وابتاع من ورثته الحرة الصالحة ، حرة زبيد الحاجة واستولدها ولدا سماه فاتكا بن منصور ، ابتاعت لولدها من الحبشة وصفانا صغارا ، كان سرور (٣) هذا أحدهم ، وربي في حجرها. ولم يلبث أن ترعرع وبرع ، وولته زمام (٤) المماليك ، وصرفت إليه الرياسة على كل من في القصر ، فساد وشدد ولين. ثم ولي العرافة (٥) على طائفة من الجند فملكهم بالإحسان والصفح عنهم. ثم ترقت به الحال إلى أن ولي الترسل (٦) بين السلطان والوزراء ـ الأكابر ـ واستغنى عن الأزمة. وكان الزمام

__________________

(١) أي لم يكن هذا الصوت موجودا من قبل.

(٢) في الأصل : الجديد.

(٣) في الأصل : كان هذا سرور.

(٤) في الأصل : زم.

(٥) العرافة : الرياسة.

(٦) في الأصل : الخطابة والتصحيح من سلوك.

١٤٢

الناظر (١) يومئذ هو (٢) الشيخ صواب. وكان يميل إلى الدين والتخلي للعبادة ، فإذا عوتب على ذلك قال : القائد أبو محمد سرور هو (٣) صاحب الأمر والنهي علي [وعليكم](٤) ، وعلى مولاتنا. وليس (شيء) (٥) يخرج عن أمره ، وهو أهل أن يتقلد أمور الناس في الثواب والعقاب ، والحل والعقد. وترقت الحال بسرور ، حتى أخرج الوزير مفلح من زبيد ، ولم يزل سرور يحارب مفلحا ، حتى مات مفلح في الجبال ، بعد أن جرت بينهم وقائع ، يموت في كل واحدة منها العدد الكثير من الفريقين ، وكانت العاقبة والدولة لسرور.

وحدثني الشيخ عبد المحسن بن إسماعيل ، وكان كاتب القائد سرور ووزيره قال : أذكر وقد سار الأمير الشريف غانم بن يحيى الحسني في نصرة الوزير مفلح على سرور ، ومع غانم ألف فارس ، ومن الرجال عشرة آلاف ، وانضاف ذلك إلى عسكر مفلح ، وانضمت إليها من العرب بنو مشعل ، وهم أحلاس (٦) الخيل وفرسان الليل ، وبنو عمران ، وبنو زعل ، وبنو حرام ، والحكميون [٩٠] في ضموم (٧). وزحفوا إلينا ونحن في عدد يسير (٨). وقد كتب القائد سرور إلى أهل زبيد يستنفر الناس ، وكانت الوقعة بالمهجم (٩) ، وبعدها من زبيد ثلاثة أيام ، قال : فقلت للقائد : إن هذا تهور ، إنما نحن في هؤلاء كقطرة في اليم ، أو لقمة في الفم. فقال : أمسك عليك ، فو الله إن الموت عندي أهون من الهزيمة ، ثم التقى الناس ، فكانت الدائرة على مفلح

__________________

(١) في سلوك : زمام الدار.

(٢) في خ : هو الشيخ صواب.

(٣) في الأصل : وهو ، وواو العطف محذوفة في سلوك ، وفي خ.

(٤) زيادة من خ ، سلوك.

(٥) زيادة من خ.

(٦) والمراد أنهم فرسان مغاور.

(٧) من الجائز أن تكون جموع. لكن ضموم بفتح الضاد معناها كل وادي يسلك بين أكمتين طويلتين ، راجع التعليق على الحاشية : ٩٠ (كاي).

(٨) في الأصل : كثير.

(٩) في الأصل : على المهجم والتصحيح من خ.

١٤٣

وغانم ومن معهما ، وتضاعف خطر (١) القائد سرور في نفس الموالف والمخالف. وقبل ذلك ما كان من خروج الوزير مفلح طالبا العون ، إلى أن حصل على زبيد ، على نصف مرحلة. وثار محمد بن فاتك بن جياش في زبيد حين خلت من العسكر ، فحاز (٢) محمد بن فاتك هذا (٣) ، دار الإمارة (ليلا) (٤) ، ووقف القراء بين يديه ، ففاضت البلد عليه التهنئة. ووزيره منصور بن الوزير منّ الله الفاتكي.

واستعصمت الحرة وولدها بعلو الدار ونمى (٥) الخبر إلى القائد سرور ، وهو في ساقة العسكر ، فأثنى راجعا وتسور الحصن ، ودخل المدينة ، ونادى إلى مولاته من خلف دار الملك : ارموا إليّ الحبل ، أنا فلان. ورفعه الأستاذون ، والنساء بالحبال حتى وصل إلى مولاته ، فسلم عليها وسكن روعها وقال : هذه العساكر خلفي متواصلة. ثم أخذ مئة جارية وخمسين أستاذا فألبسهم زي الرجال من الدروع والسلاح ، وفتح الطيقان (٦) ، وصاح الجميع صيحة واحدة : يا فاتك بن منصور ، هذا ومحمد بن فاتك جالس على سرير تحت طيقان الدار. ثم رماه (٧) القائد بحجر ، فلم يخطىء وجه محمد بن فاتك ، فهشمت وجهه عند تلك الصيحة العظيمة ، فانهزم هو ووزيره في تلك الساعة ومن معهما ، وخرجوا من باب البلد ليلا. ولم يصل العسكر إلى البلد إلا في الظهر من صبيحة تلك الليلة.

فهذه بعض المقدمات الموجبة لتقدم سرور على كافة أهل الدولة.

ثم ولي المهجم ، وهو كرسي ملك كبير ، ثم تشاعب (٨) العرب ،

__________________

(١) في الأصل : خط.

(٢) في الأصل : وملك والتصحيح من خ.

(٣) في الأصل : هذا محمد بن فاتك.

(٤) الزيادة من خ.

(٥) يعني : انتشر.

(٦) في الأصل : الطبقات.

(٧) في الأصل : وإن القائد رمى بحجر وأثبتنا عبارة خ ..

(٨) شاعب صاحبه أي باعده ، تشاعبوا أي تباعدوا. وبالغين تشاغب أي تعاصى وامتنع.

١٤٤

وبنو عمران ، وبنو زعل. وتشاعب الحكمية ، وتشاعب الأمير غانم بن يحيى الحسني ، ودولته ظاهرة. وكان هذا القائد مقيما في زبيد من هلال ذي القعدة إلى آخر يوم من شعبان ، ثم يخرج من زبيد فيصوم رمضان في المهجم ، ويصلح أحوال تلك الأعمال ، وتتسع نفقاته (١) وصلاته في شهر رمضان حتى قال لي الشيخ عبيد بن بحر وزيره : كانت وظيفة مطبخه مدة شهر رمضان في كل يوم ألف دينار ، وكنت أشاهده عدة سنين ، إذا جاء من المهجم يريد زبيد ، احتفل الناس بالخروج للقائه على اختلاف طبقاتهم ، ويقف الناس على تل عال فأول طائفة تسلم عليه الفقهاء المالكية والحنفية والشافعية. وكان يترجل لهم ، ولا يترجل لأحد قبلهم ولا بعدهم ، ثم ينصرفون ويجيء بعدهم التجار ، فإذا انفرجوا جاءت العسكرية أفواجا. وإذا دخل المدينة وقضى حق السلام على السلطان ، مضى إلى دار مولاته الحرة. فإذا دخل عليها انفض الناس من عندها ، الصغير والكبير ، ولا يبقى عندها إلا غزال جاريتها ، وهي أخت زوجته ، وجارية مولاها منصور بن فاتك. وهؤلاء النسوة يمشون في الخير على منوالها ، ويتشبهن في الصلاح بأفعالها. فإذا وصل إليها نزلت عن سريرها إكراما له منها ، وتبجيلا (٢) لقدره وقالت له : أنت يا أبا محمد وزيرنا ، بل ومولانا. بل ورجلنا الذي لا يحل لنا أن نخرج عن طاعتك في شيء [٩١]. فيصيح بالبكاء بين يديها ، ويعفر خده بالأرض ، إلى أن تتولى رفعه بيدها عن الأرض.

ثم تستأخر النسوة (الثلاث) (٣) في طرف المجلس غير بعيد ، بحيث يفضي إليها بما حسن عنده أن يفعله ، من التدبير في تلك السنة ، من ولاية وعزل وإنعام (وقتل ثم) (٤) لا يزال جالسا بين يديها [٩٢] ، والنسوة الثلاث واقفة على رأسه ، حتى يقوم إلى صلاة الظهر ، فيعود إلى مسجده ـ وهو

__________________

(١) في الأصل : نفاقه.

(٢) في سلوك : تجليلا.

(٣) زيادة من سلوك.

(٤) بياض في الأصل والتكملة من خ.

١٤٥

على باب داره ـ فيجده لا يتسع من كثرة الناس الذين لا يستطيعون الخروج في لقائه.

فصل فيما شاهدت بخط كتابه

رأيت جريدة الصدقات (١) التي يدفعها عند دخوله إلى زبيد للفقهاء والقضاة والمتصدرين في الحديث ، والنحو واللغة وعلم الكلام والفروع (والمدرسين والمفتين) (٢) اثني عشر ألف (دينار) (٣). في كل سنة ، خارج عن صلة العسكر ، مع كثرتهم. وحكى لي عبيد بن بحر وغيره : أن الهدايا التي يدفعها كل سنة ، برسم حواشي السلطان ، من الجهات والأزمة ، ووصفان الخواص ، عشرون ألف دينار. وهذه صلة (٤) خارجة عن أرزاقهم المستقرة (٥) وحدثني غيرهم : أن المحمول من أعماله إلى بيت ماله (٦) في كل سنة ستون ألف دينار ، وأن المحمول من بيت مولاته الحرة وحواشيها وترائبها ، ومن يلوذ بها ، على وجه الهدية خمسة عشر (٧) ألف دينار.

فصل : كان القائد أبو محمد سرور الفاتكي رحمه الله ، يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه ، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء ويقول : إنما (٨) أخرج في هذا الوقت ، لعل أحدا من أهل البيوتات ، وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندي بالنهار ، إما لكثرة الناس أو لفرط

__________________

(١) في خ : الصدقة المعتاد.

(٢) زيادة من سلوك.

(٣) زيادة من خ.

(٤) في الأصل : هذه وصلة.

(٥) في سلوك : المستمرة.

(٦) في خ : إلى بيت مولاه.

(٧) في خ ، في سلوك : اثني عشر ألفا.

(٨) في الأصل : أنا والتصحيح من خ ، سلوك.

١٤٦

الحياء ، فإذا صلى الصبح ركب : إما إلى فقيه يزوره ، أو مريض يعوده ، أو ميت يحضر دفنه (١) ، أو وليمة أو عقد نكاح (يشهده) (٢). وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار ، دون أصاغرهم ، بل من دعاه أجاب. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويفحش له في القول ، وهو آمن حميته وعزته (٣) وغضبه. وكان يدعى إلى الحاكم (٤) فيحضر ولا يوكل (كما يفعل الجبابرة وإن كانوا أصاغر) (٥). ويقعد بين يدي الحاكم تواضعا ، لا وضاعة ، ودخولا لأوامر الشرع تحت الطاعة (ليقتدي به سواه) (٦) ثم يعود به بعد ركوبه بالغداة ، فيسلم على السلطان ، ويستعمل الاشتغال بتدبير الأمور العسكرية إلى وقت الغداء. ثم (٧) يخرج إلى المسجد [٩٣] في [أول](٨) زوال الظل ، فلا يشتغل بشيء سوى المستندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى صلاة العصر. ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى [وقت صلاة](٩) العشاء الآخرة. وربما تطول المناظرة في بعض الليالي ، و [ربما](١٠) ركب حمارا ، وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحرة الملكة للمشورة ، ولم يزل هذا (١١) حاله من سنة تسع وعشرين وخمس مئة ، إلى أن قتل في مسجده هذا (١٢) ، رحمه الله بزبيد في الركعة الثالثة من صلاة العصر ، يوم

__________________

(١) في الأصل : أو صيحة ميت فيحضرها.

(٢) زيادة من سلوك / دار.

(٣) في الأصل : وعزه والتصحيح من خ.

(٤) وفي سلوك : ومتى استدعي إلى مجلس الحاكم.

(٥) زيادة من سلوك.

(٦) زيادة من خ.

(٧) في سلوك : وكان متى عاد بعد الركوب.

(٨) زيادة من خ.

(٩) زيادة من خ.

(١٠) زيادة من خ.

(١١) في الأصل : هذه.

(١٢) في الأصل : هذه.

١٤٧

الجمعة الثاني عشر من رجب من سنة (إحدى وخمسين وخمس مئة) (١). قتله رجل يقال له مجرم ، من أصحاب علي بن مهدي. ثم قتل قاتله في تلك العشية ، بعد أن قتل جماعة من [٩٤] الناس (٢) ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها علي بن مهدي ، وملك زبيد وأعمالها في سنة أربع وخمسين وخمس مئة وسأذكر (٣) علي بن مهدي هذا (٤) باليمن (في) فصل أشير فيه جمل من بدايته وغايته.

ذكر خروج علي بن مهدي باليمن

أما نسبه فمن حمير. وأما اسمه فعلي بن مهدي من أهل قرية يقال لها العنبرة. من سواحل زبيد. كان أبوه رجلا صالحا سليم القلب ، ونشأ ولده علي بن مهدي هذا على طريقة أبيه في العزلة والتمسك (بالعبادة) (٥) والصلاح ثم حج وزار ، ولقي حاج العراق ، وعلماءها ، ووعاظها ، وتضلع من معارفهم ، وعاد إلى اليمن فاعتزل ، وأظهر الوعظ ، وإطلاق التحذير من صحبة العسكرية (الملوك وحواشيهم. وكان ظهوره في سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة) (٦) وكان فصيحا صبيحا ، أخضر اللون ، ملوح الخدين ، ألحى (٧) ، طويل القامة ، مخروط الجسم ، بين عينيه [٩٥] سجادة (٨) ، حسن

__________________

(١) زيادة من خ ؛ من سلوك.

(٢) استطرد صاحب السلوك بعد ذلك فقال : «أو مسجده الآن يعرف بمسجد سرور غربي مرباع العجوز بمدينة زبيد. ولا يكاد يعرف من هو سرور إلا آحاد الناس. وأما أهل زبيد فيعرفون أنه من المساجد المنسوبة إلى الحبشة».

(٣) في الأصل : أذكر.

(٤) في الأصل : علي بن مهد باليمن هذا.

(٥) زيادة من خ. وفي المختصر : ٣ / ٣٥ : «التمسك بالصلاح».

(٦) زيادة من خ ؛ من سلوك.

(٧) الطويل اللحية.

(٨) في خ ؛ في سلوك : سجدة ؛ راجع حاشية : ٩٥ (كاي).

١٤٨

الصوت. طيب النغمة ، حلو الإيراد ، غزير المحفوظات ، قائما بالوعظ والتفسير ، وطريقة الصوفية ، أتم قيام. وكان يتحدث بشيء من أحواله المستقبلات فيصدق. فكان ذلك من أقوى عدده في استمالة قلوب العالم.

وظهر أمره بساحل زبيد ، بقرية العنبرة ، وقرية واسط وقرية القضيب (١) ، والأهواب والمعتفى (٢) ، وساحل الغازة ، وكان ينتقل منها. وكانت عبرته لا ترقأ (٣) على ممر الأوقات. وكنت يومئذ منقطعا إليه ، ملازما له في أكثر الأوقات مدة سنة. ثم علم والدي أني تركت التفقه ولزمت طريقة النسك ، فجاء من بلده مسافرا حتى أخذني من عنده ، وأعادني إلى المدرسة بزبيد ، وكنت أزوره في كل شهر زورة. فلما استفحل أمره انقطعت عنه خوفا من أهل زبيد. ولم يزل من سنة إحدى وثلاثين يعظ الناس في البوادي ، فإذا دنا موسم مكة خرج حاجا على نجيب إلى سنة ست وثلاثين. ثم أطلقت الحرة أم فاتك بن منصور له ولإخوته ولأصهاره ، ثم لمن يلوذ به ، خراج أملاكهم ، فلم يمض بهم هنيهة (٤) حتى أثروا واتسعت بهم الحال ، وركبوا الخيل. فكانوا (٥) كما قال المتنبي :

فكأنما نتجت قياما تحتهم

وكأنما ولدوا على صهواتها [٩٦](٦)

ثم أتى بقوم من أهل الجبال حالفوه على النصرة ، فخرج إليهم سنة ثمان وثلاثين ، وجمع جموعا تبلغ أربعين ألفا ، وقصد بهم مدينة الكدراء ، فلقيه القائد إسحاق بن مرزوق (٧) السحرتي في قومه فهزموا أصحابه ، وقتلوا خلقا من جموعه ، وعفوا عن أكثرهم. وعاد ابن مهدي إلى الجبال فأقام بها

__________________

(١) في الأصل : القصب والتصحيح من صفة : ٥٠ ، ١٧٨.

(٢) المعمعى : هكذا وردت في الأصل.

(٣) في الأصل : لا ترقى.

(٤) في الأصل : هنية.

(٥) في الأصل : فكانا.

(٦) راجع حاشية : ٩٦ (كاي) والتعليق عليها.

(٧) في خ : مروان.

١٤٩

[إلى](١) سنة إحدى وأربعين. ثم كتب إلى زبيد ، وسألها في ذمة له ، ولمن يلوذ به ويعود إلى وطنه ، ففعلت الحرة ذلك ، على كره من أهل دولتها ، ومن فقهاء عصرها (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً)(٢).

أقام علي بن مهدي يشتغل [في] أملاكه ، عدة سنين ، وهي مطلقة من الخراج ، واجتمع له من ذلك مالا جزيلا ، وكان يقول في وعظه : «أيها الناس ، دنا الوقت وأزف الأمر ، وكأنكم بما أقول لكم ، وقد رأيتموه عيانا». فما هو إلا أن ماتت الحرة سنة خمس وأربعين ، حتى أصبح في الجبال في موضع يقال له الداشر من بلد خولان [٦٧] ، ثم ارتفع منه إلى حصن يقال له الشرف ، وهو لبطن من خولان ، يقال لهم بنو حيوان. بإسكان الياء ، وسماهم الأنصار ، وسمى من صعد من تهامة المهاجرين.

ثم ساء ظنه بكل أحد ممن هو في صحبته ، خوفا منهم على نفسه ، فأقام للأنصار رجلا من خولان يسمى سبأ بن يوسف (٣) ، وكناه بشيخ الإسلام ، وللمهاجرين رجلا (من العمرانيين) (٤) يسمى النوبي (٥). نعته أيضا بشيخ الإسلام. وجعلهما نقيبين على الطائفتين. فلا يخاطبه ، ولا يصل إليه سواهما. وربما احتجب فلا يرونه ، وهم يتصرفون في الغزو. فلم يزل يغادي الغارات ، ويراوحها على أهل تهامة ، حتى أخرب الحدود المصاقبة للجبال. والحبشة يومئذ تبعث (٦) بالأموال في المراكز. فلا يغنون شيئا لوجوه كثيرة منها : إن الموضع الذي هو حصن الشرف حصن منيع بنفسه ، وبكثرة خولان. ومنها أن الإنسان إذا أراد أن يصل إلى حصن الشرف مشى في واد ضيق بين جبلين مسافة يوم كامل أو

__________________

(١) زيادة من خ ؛ سلوك.

(٢) سورة ٨ ؛ آية : ٤٣.

(٣) في خ : محمد.

(٤) زيادة من خ.

(٥) في الأصل : غير معجمة ؛ وفي خ : الثومي ؛ وفي المختصر : (٣ / ٣٥ : التويتي).

(٦) في الأصل : تمنعش.

١٥٠

بعض يوم ، فإذا وصل إلى أصل الجبل ، الذي فيه الحصن ، احتاج في طلوع النقيل (١) إلى نصف يوم حتى يقطع العقبة. ومنها أن الوادي يتصل مسيله من تهامة بشعاب (٢) عظيمة. إذا كمنت فيها الجيوش العظيمة الجرارة شهرا لم يعلم بها أحد.

وكانت غزوات ابن مهدي إذا غارت على بعض أعمال تهامة ، ونهبت وأحرقت (٣) وأدركها الفجر ، تعدل إلى الجبال التي (٤) في الوادي الذي فيه الشعاب (٥) ، فمكثت (٦) فيه ، فلا يوصل إليها ، ولا يقدر عليها. ولم يزل ذلك من فعله مع أهل زبيد إلى أن أخلى جميع أهل البوادي ، وقطع الحرث والقوافل. وكان يأمر أصحابه أن يسوقوا الأنعام والرقيق ، وما عجز عن المسير عقروه. ففعلوا من ذلك ما أرغب وأرهب ، وقضى بخراب الأعمال.

ثم لقيت علي بن مهدي هذا (٧) عند الداعي محمد بن سبأ ، صاحب عدن ، بمدينة ذي جبلة سنة تسع وأربعين (٨) ، يستنجده على أهل زبيد ، فلم يجبه الداعي إلى ذلك. وعرض [علي](٩) صحبته. وعقد لي أن يقدمني على كل أحد من أصحابه (١٠). ولما عاد ابن مهدي من ذي جبلة سنة تسع [وأربعين](١١) إلى حصن الشرف ، دبر على (قتل) (١٢) القائد سرور الفاتكي.

__________________

(١) الطريق المختصر.

(٢) في الأصل : الخراج.

(٣) في الأصل : وأخربت.

(٤) في الأصل : الذي.

(٥) في الأصل : الخراج.

(٦) في خ : فكمنت في بعض تلك الشعاب.

(٧) في الأصل : هذا علي بن مهدي.

(٨) وخمس مئة.

(٩) زيادة من خ.

(١٠) لم يصرح عمارة برفضه أو قبوله لهذا.

(١١) زيادة من خ.

(١٢) زيادة من خ.

١٥١

فقتل في رجب سنة إحدى وخمسين وخمس مئة. وكان مما (١) أعان ابن مهدي على أهل زبيد ، اشتغال روؤسائها بالتنافس والتحاسد على رتبة (٢) القائد سرور. وفتح على [أهل](٣) الدولة بعده ، أبواب الشر المسدود ، وانحل عقدها المشدود. وفارق ابن مهدي حصن الشرف ، وهبط إلى الداشر بينه وبين زبيد أقل من نصف يوم ، وتقرب الرعايا إليه ، وعرب البلاد هم [الذين] كانوا رعايا الحبشة. وكان الرجل من أصحاب ابن مهدي يلقى أخاه أو قريبه وهو [ممن] مع الحبشة ، إما مزارع ، وإما جمال ، وإما راعي ماشية لهم فيفسده.

ولم يزل الأمر كذلك حتى زحف ابن مهدي لهم إلى باب المدينة في عوالم لا تحصى. وحدثني غير واحد من أهل اليمن ممن أدرك (٤) الحصار بزبيد قالوا : لم تصبر أمة على الحصار والقتال ما صبر [عليه](٥) أهل زبيد ، وذلك أنهم قاتلوا ابن مهدي اثنين وسبعين زحفا ، يقتل منهم من (٦) يقتل ، ونالهم الجوع ، حتى أكلوا الميتة من شدة الجهد والبلاء. ثم استنجدوا بالشريف الزيدي ، ثم الرسي أحمد بن سليمان [الهروي](٧) ، صاحب صعدة ، فأنجدهم طمعا في الملك ، وشرطوا له أن يملكوه عليهم. فقال الشريف : إن تقتلوا مولاكم فاتكا حلفت لكم. فوثب عبيد فاتك بن جياش بن نجاح ، ونجاح مولى مرجان ، ومرجان مولى أبي عبد الله الحسين بن سلامة ، والحسين بن سلامة مولى رشيد (٨) الزمام ورشيد (٩)

__________________

(١) في الأصل : ممن.

(٢) في خ : مرتبة.

(٣) زيادة من خ.

(٤) في الأصل : أدركه والتصويب من خ.

(٥) زيادة من خ.

(٦) في الأصل : ما.

(٧) زيادة من خ.

(٨) في الأصل : رشد.

(٩) في الأصل : رشد.

١٥٢

مولى (١) أبي الجيش إسحاق بن (٢) إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن زياد [٩٨] ، فقتلوه في شهور سنة ثلاث وخمسين.

ثم عجز الشريف عن نصرهم على ابن مهدي. وجرت بينهم بعد ذلك وبين ابن مهدي مصافات ، يتحصنون منهم بالمدينة ، إلى أن كان فتحه لها ، وزوال دولتهم ، واستقراره بدار الملك في يوم الجمعة ، الرابع عشر من رجب سنة أربع وخمسين وخمس مئة ، وأقام علي بن مهدي بقية رجب وشعبان ورمضان ومات في شوال من السنة. فكانت مدة ملكه شهرين وواحد وعشرين يوما.

ثم انتقل إلى والده المهدي. ثم إلى ولده عبد النبي وخلع. ثم إلى ولده عبد الله ثم عادت إلى عبد النبي كرة ثانية ، والأمر اليوم (٣) في اليمن بأسره إليه ما عدا عدن ، فإن أهلها هادنوه عليها بمال في كل سنة. واجتمع لعبد النبي هذا (٤) ملك الجبال والتهائم ، وانتقل إليه ملك جميع ملوك اليمن وذخائرها.

وحدثني محمد بن علي ، من أهل ذي جبلة ، أنه حصل في خزائن ابن مهدي ملك خمس وعشرين دولة من دول أهل اليمن. فمنها أموال أهل زبيد ، وما من عبيد فاتك وجهاته وأعيان دولته ، إلا من مات عن أموال جليلة من العين جزيلة (صار جميع ذلك إليه) (٥) ، لأنه ملك الذراري والنساء. فأظهروا له كنوز مواليهم ، وكذلك المصوغ ، واللؤلؤ والجوهر ، واليواقيت الفاخرة ، والملابس الجليلة على اختلاف أصنافها. وكانوا كما قال الله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) (٢٨) (٦).

__________________

(١) في الأصل : بعد كلمة مولى. زياد بن إبراهيم بن ... ، ويرى (كاي) حذفها.

(٢) في الأصل : إسحاق بن محمد بن إبراهيم (راجع حاشية : ٩٨ (كاي).

(٣) أي أيام عمارة بن أبي الحسن الحكمي.

(٤) في الأصل : واجتمع لهذا عبد النبي.

(٥) زيادة من خ.

(٦) سورة ٤٤ ؛ آية : ٢٥ ـ ٢٨.

١٥٣

وانتقل إليهم ملك بني سليمان الشرفاء ، وانتقل إليهم ملك بني وائل ، سلاطين وحاظة ، وهم أهل دولة متأثلة. وكذلك معاقل من بقي من بني الصليحي. كل معقل منها له أعمال واسعة ، والارتفاعات الكثيرة. فأما ملك الملك منصور بن المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري ، فإنه حاز (١) جميع حصونه وهي ما هي ، وجميع ذخائره ؛ وإنما هي جميع ذخائر الداعي علي بن محمد الصليحي ، وذخائر المكرم أحمد (٢) بن علي زوج الحرة الملكة السيدة. وذخائر الحرة الملكة زوجته. وذلك أن الجميع انتقل إلى الحرة. وأودعته في حصن التعكر. وتغلب عليه المفضل بن أبي البركات وعلى ما فيه. وانتقل التعكر وما فيه من الممالك بأسرها ، إلى ولده منصور بن المفضل ، لأنهم يزعمون أن الأمير منصور بن المفضل ، عمر في الملك ثلاثين سنة ، ومات في عشر المئة أو التسعين (٣) [٩٩].

ومما انتقل لابن مهدي حصن المجمعة وأمواله ، وحصن التعكر وأمواله على ما قيل. ومدينة ذي جبلة ، وهي مقر الدعوة الفاطمية ، وكرسي الملك لبني الصليحي ، وكذلك مدينة الجند وأعمالها ، وكذلك ثالثه وشرياق وذخر (٤) وأعمالها [وهي مخلاف واسع](٥) وليس ملك علي بن محمد (٦) هذا صاحب ذخر دون ملك منصور بن المفضل ، ثم ملك بني الزر. ومدينة ذي جبلة ومدينة ذي أشرق ، ومدينة إب ، وحصون خولان ، وحصون بني ربيعة وهي : عزان وحب والشماحي (٧). وأخذ السلطان أبا النورين أبا (٨) الفتح ، فبقي حصن السوا لابن السبئي.

__________________

(١) في الأصل : حان.

(٢) في الأصل : علي.

(٣) أي أنه توفي في العقد التاسع أو العقد العاشر.

(٤) في خ : وماله وسرياق وصبر وأعماله.

(٥) زيادة من خ.

(٦) في الأصل : وليس ملك هذا علي بن محمد.

(٧) في خ : وهي : عران وحب والسماحي.

(٨) في الأصل : أبي.

١٥٤

ثم استولى ابن مهدي على معاقل الداعي عمران بن محمد ، التي صارت لابن مهدي وهي : حصن سامع ومطران ، وهذه حصون (١) إقليم المعافر. وانتقل إليه معقل اليمن ـ الذي ليس بعد التعكر وحب سواه ـ وهو حصن السمدان (٢).

وبه يضرب المثل ، وهو الذي ليس لمخلوق عليه اقتدار ما لم يعنه الخالق بماضيات الأقدار.

وهذا الذي سميته نقطة من بحر ما ملك ابن مهدي هذا. ولم أذكر (٣) بلاد بني المظفر (٤) ، سبأ بن أحمد الصليحي. ولا إقليم حراز (٥) ، ولا برع (٦) ، ولا بلاد بكيل ، ولا حاشد ، ولا جبلة وحصونها وأعمالها ، ولا وادي عنه (٧) ، ولا وادي زبيد ، ولا غير ذلك من [جبال](٨) وادي رمع ، وريمة والأشاعر وحصونها ومعاقلها وقراها [ولا وحاظة وأعمالها. وهو مسيرة أيام](٩). ومذيخرة وأعمالها. وهي مسيرة أيام ودمت. ووادي نخلة [١٠٠].

فأما المذهب الذي كان عليه ابن مهدي وما يعتقده ، فكان حنفي الفروع (١٠) ، ثم أضاف إلى عقيدته في الأصول : التكفير بالمعاصي (١١) والقتل بها ، وقتل من خالف اعتقاده من أهل القبلة ، واستباحة الوطء لسباياهم ، واسترقاق ذراريهم وجعل دارهم دار حرب. وحكي لي عنه ،

__________________

(١) في الأصل : الحصون.

(٢) الصليحيون : ٦٢ هامش ٣.

(٣) في الأصل : يذكر.

(٤) في الأصل : المظفرين :

(٥) في خ : ولا حلة ولا وادي نخلة ولا وادي عنة.

(٦) في الأصل : حزان والتصويب من خ ، صفة : ٩٦ ، ٩٧.

(٧) في الأصل : تحله والتصويب من صفة : ٦٨ ، ٧٠.

(٨) زيادة من خ.

(٩) زيادة من خ.

(١٠) في الأصل : خفي الفروع ؛ وفي خ : حنفي المذهب في الفروع.

(١١) أي يكفر من ارتكب المعصية ويقتل على الكبيرة على طريقة الخوارج.

١٥٥

والعهدة على الحاكي : أنه لم يكن يثق بإيمان أحد من المهاجرين حتى يذبح ولده أو أباه أو أخاه. ويقرأ عليه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(١). وأعرف صبيا منهم كان جارا له ، وكان يتفقه ، راحت والدته إليه تزوره فذبحها.

وأما اعتقاد أصحابه فيه ، فهو فوق ما يعتقده الناس في الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم. وذلك أن الواحد من آل ابن مهدي هؤلاء ، يحسن عنده أن يقتل جماعة من عسكره ، ثم إذا قدروا عليه لم يقتلوه دينا وعقيدة. وإذا غضب على رجل من أكابرهم وأعيانهم حبس نفسه في الشمس ، ولم يطعم ولم يشرب ، ولم يصل إليه ولده ولا زوجته ، ولا يقدر أحد أن يشفع فيه ، حتى يرضى عنه ابتداء من نفسه.

ومن طاعتهم له أن كل واحد منهم يحمل ما تغزله زوجته وبناته إلى بيت المال ويكون ابن مهدي هو الذي يكسو الواحد منهم (٢). ويكسو أهله من عنده. وليس لأحد من العسكرية فرس يملكه ، ولا يرتبطه في داره ، ولا عدة ولا سلاح ، ولا غيرها ، بل الخيل في اسطبلاته ، والسلاح في خزائنه. فإذا عن (٣) له أمر دفع لهم من الخيل والعدة ما يحتاجون إليه.

ومن سيرته أن المنهزم من عسكره ، يضرب رقبته ، ولا سبيل إلى حياته. ومن سيرته قتل من شرب المسكر ، وقتل من سمع الغناء ، وقتل من زنى ، وقتل من تأخر عن صلاة الجمعة ، وعن مجلسي وعظه وهما يوم الخميس ، ويوم الإثنين ، وقتل من تأخر فيهما عن زيارة قبر أبيه (٤). وهذه الرسوم إنما هي في العسكرية. وأما الرعايا فالأمر فيهم ألطف من أمر

__________________

(١) سورة ٥٨ ؛ آية : ٢٢.

(٢) نظام شيوعي اشتراكي.

(٣) في الأصل : عز.

(٤) في الأصل : عن زيارة أبيه مقبورا وأثبتنا رواية خ.

١٥٦

العسكرية. وقد بلغني في هذا الوقت وهو سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة ، أن الأمر قد هان على ما كان عليه من الشدة [١٠١].

فصل في من ولي الدعوة الفاطمية باليمن

فمن ذلك الداعي علي بن محمد الصليحي ، جمع بين الدعوة والملك. ثم ولده المكرم أحمد بن علي الصليحي ، جمع بين الدعوة والملك. ثم السلطان سليمان الزواحي ، ولي الدعوة دون ذلك. ثم القاضي لملك بن مالك الحمادي الهمداني (١) جمع بين الدعوة والحكم دون الملك. ثم علي بن إبراهيم الموفق في الدين بن نجيب الدولة ، ولي الدعوة ، وملك بأمر الحرة الملكة بعض أعمالها [١٠٢] ثم (٢) وصل سجل مولانا الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين عليه السلام ، بالبشارة بولادة مولانا الإمام الطيب أبي القاسم بن الإمام الآمر بالنص عليه بالإمامة ، إلى حجته بهذه الجزيرة اليمنية بما مثاله : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله ووليه (٣) المنصور ، أبي علي الآمر بأحكام الله ، أمير المؤمنين ، إلى الحرة ، الملكة ، السيدة ، الرضية ، الطاهرة الزكية وحيدة الزمن ، وسيدة ملوك اليمن ، عمدة الإسلام ، خاصة (٤) الإمام ، ذخيرة الدين ، عمدة المؤمنين ، كهف المستجيبين ، عصمة المسترشدين ، وولية أمير المؤمنين ، وكافلة أوليائه الميامين (٥) ، أدام الله تمكينها ونعمتها ، وأحسن توفيقها ومعونتها. سلام عليك. فإن أمير المؤمنين يحمد الله الذي لا إله إلا هو ، ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم

__________________

(١) في الأصل : بعد كلمة القاضي فضاء لكلمة ، ثم بن ملك الصليحي ، والأصح ما أثبتناه كما هو معروف في كتب أولي الدعوة (الصليحيون : ١٧٥).

(٢) في الأصل : ثم لما.

(٣) في الأصل : وليه والتصحيح من عيون : ٧ / ١٩٢.

(٤) في عيون : خالصة الإمام.

(٥) نفسه : المؤمنين.

١٥٧

النبيين وسيد المرسلين ، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهتدين (١) وسلم تسليما.

أما بعد ، فإن نعم الله عند أمير المؤمنين لا يحصى لها عد (٢) ، ولا تقف عند أمد ولا حد ، ولا تنتهي إلى الإحاطة بها الظنون ، لكونها كالسحاب الذي كلما انقضى [منها](٣) سحاب أعقبه (٤) سحاب هتون. فهي كالشمس الساطعة الإشراق ، الدائمة الانتظام والاتساق ، والغيوث المتتابعة الاتصال ، المتوالية في الغدو والآصال. ومن أشرفها (٥) لديه قدرا ، وأعظمها صيتا وذكرا ، وأسناها جلالا وفخرا ، الموهبة بما جدده الآن ، بأن رزقه مولودا زكيا (٦) مرضيا ، برا تقيا. وذلك في الليلة المصبحة بيوم الأحد الرابع من شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وخمس مئة. ارتاحت إلى طيب ذكره أسرة المنابر ، وتطلعت إلى مواهبه آمال كل باد وحاضر ، وأضاءت بأنوار عزته (٧) ، وبهجة طلعته ظلم الدياجر ، وانتظمت به للدولة (٨) الزاهرة الفاطمية عقود الفضائل (٩) والمفاخر. استخرجه من سلالة النبوة كما يستخرج النور من النور ، ومنح أمير المؤمنين منه ، ما قدح به زناد السرور (١٠). وسماه الطيب ، الطيب عنصره ، وكناه أبو القاسم كنية جده نبي الهدى المستخرج جوهره من جوهره. وأمير المؤمنين يشكر الله تعالى على ما من به من إطلاعه كوكبا منيرا في سماء دولته ، وشهابا مضيئا في فلك جلالته (١١) ورفعته ، شكرا

__________________

(١) في عيون : المهديين.

(٢) في الأصل : لا تحصى له بعد.

(٣) زيادة من عيون.

(٤) في الأصل : أعقبها.

(٥) في عيون : أفضلها.

(٦) في عيون : زكيا ضياو ومرضيا.

(٧) في عيون : غرته.

(٨) نفسه : الدولة.

(٩) في الأصل : المفاصل.

(١٠) في الأصل : بما قدح زناد السرور وأثبتنا رواية عيون عيون.

(١١) في عيون : جلاله.

١٥٨

يقضي باستدامة نعمته ، وإدرار سحائب طوله ورأفته ، ويسأله (١) أن يبلغه فيه كنه الآمال ، ويصل به حبل الإمامة ، ما اتصلت الأيام بالليالي (٢) ، ويجعله عصمة للمسترشدين ، وحجة على الجاحدين ، وعونا للمضطرين (٣) ، وغوثا (٤) للمنتجعين ، ووازرا (٥) للخائفين ، وسعادة للعارفين ، لتنال الدنيا بسعادته أوفى حظوظها وقسمها ، وتصبح الأيام مفترة عن ناجذ مبسمها ، ولمكانك من حضرة أمير المؤمنين المكين ، ومحلك [عنده](٦) الذي امتنع (٧) عن المماثل والقرين ، أشعرك هذه البشرى ، الجليل قدرها ، العظيم فخرها ، المنتشر صيتها وذكرها ، لتأخذي من المسرة بها بأوفى نصيب ، وتذيعيها (٨) فيمن قبلك من الأولياء (٩) والمستجيبين ، إذاعة يتساوى في المعرفة بها كل بعيد منها (١٠) وقريب ، لينتظم بها عقد السرور ، ويتضوع عرفها تضوع المندل (١١) الرطب منها [في البادية](١٢) والحضور. فاعلمي هذا ، واعملي به إن شاء الله تعالى : [والسلام عليك ورحمة الله](١٣) ، وكتب بالتاريخ (١٤) المذكور [والحمد لله وحده](١٥). وصلى الله على رسوله سيدنا محمد ، وعلى آله الأئمة

__________________

(١) في الأصل : نسأله.

(٢) في عيون : والليالي.

(٣) في عيون : غوثا للمصطرخين.

(٤) نفسه : وغياثا.

(٥) في الأصل وفي عيون : ووزرا.

(٦) زيادة من عيون.

(٧) في عيون : ارتفع.

(٨) في الأصل : وتذيعها.

(٩) في عيون : من الأولياء والمؤمنين.

(١٠) في عيون : منهم والقريب.

(١١) يعني العود الطيب الرائحة والجمع منادل.

(١٢) زيادة من عيون ؛ وفي خ : الرطب منها والكافور.

(١٣) زيادة من عيون.

(١٤) في عيون : في اليوم.

(١٥) زيادة من عيون.

١٥٩

الطاهرين ، وسلم وشرف وكرم إلى يوم الدين [١٠٣](١).

ثم انتقل [الأمر](٢) عن (٣) مولانا الآمر ، وولى الحافظ ، فكان أول سجل وصل منه إلى الحرة الملكة من ولي عهد المسلمين ، وفي السنة الثانية من أمير المؤمنين ، فأقامت الحرة الملكة الداعي الأجل إبراهيم بن الحسين الحامدي (٤) ، ثم نقلت دعوة الحافظ إلى آل زريع وقالت (٥) : حسب بني الصليحي ما علموه (٦) من أمر مولانا الطيب. ثم صارت الدعوة في ولده حاتم بن إبراهيم بن الحسين الحامدي إلى هذه المدة (٧). فانتقلت من ولاية الحافظ (إلى) (٨) آل زريع. فمنهم الأمير الأوحد سبأ بن أبي السعود بن زريع بن العباس اليامي ، جمع بين الدعوة والملك ، ثم ولده الداعي المتوج المكين ، داعي أمير المؤمنين ، محمد بن سبأ ، جمع بين الدعوة والملك.

قد أتينا في هذا المختصر على جمل من أخبار الملوك في جزيرة اليمن والدعاة.

تم التاريخ المبارك ، فالحمد الله الذي تتم بنعمته الصالحات

__________________

(١) راجع نص هذا السجل في كتاب «الصليحيون» ملحق ٨ ص ٣٢١ ـ ٣٢٢ المنقول من عيون : ٧ / ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) زيادة اقتضاها السياق.

(٣) في الأصل : إلى.

(٤) نزهة : ١ / ٩١ ـ ٩٢.

(٥) في الأصل : وقال ، والتصحيح من سلوك.

(٦) في سلوك : ما عملوه ، وأثبتنا ما جاء في الأصل وفي عيون.

(٧) انظر التعليقات على حاشية : ١٠٢ (كاي).

(٨) زيادة اقتضاها السياق.

١٦٠