الرّحلة الحجازيّة

أوليا چلبي

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

أوليا چلبي


المترجم: الدكتور الصفصافي أحمد المرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5227-55-3
الصفحات: ٣٠٢

قضى آوليا فى السراي أربعة أعوام ، تعلم فيها الكثير من العلوم والفنون ، وتعرف على الكثير من رجالات عصره بعد أن كان قد أمضى سبع أو ثمان سنوات فى المدرسة (١) إلا أن علامات التبرم ، والسأم بدت عليه فطلب الإذن من السلطان ليلتحق بقوات السپاهية فوافق له ، وخدم فيها براتب قدره أربعين آقچة قبل أن يخوض السلطان مراد حرب بغداد .. إلا أن آوليا لم يستمر طويلا في السلك العسكري ، ولم يشغل رتبا عالية هذا المجال.

وقد شغف بالسياحة ، والرحلات وهو لم يزل شابا ، وذلك بعد أن وقع تحت تأثير ما كان يسمعه من قصص ، وروايات عن البلدان البعيدة ، من والده ، ومن رجالات الفكر ، والعسكرية الذين كانوا يجتمعون فى منزلهم فى كثير من المناسبات ، ودفعه هذا الشغف أن يطوف أولا بإستانبول ، ويدرسها شبرا شبرا ، ويتعرف على كل معالمها ومأثرها ، ويعيش لياليها ويتمتع بملاهيها وملاعبها.

وطبقا للعنعنات التركية ، يربط أوليا چلبي شغفه ، وبدءه للسياحة والرحلات برؤيا ؛ وكانت هذه الرؤيا فى ليلة عاشوراء سنة (١٠٤٠ ه‍ ـ ١٦٣٠ م) وحسب روايته هو ، أنه فى هذه الليلة المباركة رأى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسط حشد كبير فى صلاة جماعة بجامع (أخى چلبي) ويمثل أوليا چلبي بين يدى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحت تأثير هذا الموقف يتلعثم ، وبدلا من طلب الشفاعة يطلب السياحة حيث قال «السياحة يا رسول الله بدلا من أن يقول» الشفاعة يا رسول الله (٢).

__________________

(١) المدرسة : اصطلاح تعليمي كان يطلق علي «دار الفنون» أو «دار العلوم» وأول من أنشأ مدرسة على هذا الطراز فى العهد العثمانى هو أور خان غازى ، ثم نص محمد الفاتح فى قانونه على إمتيازات تقدم للقضاة ، والمدرسين. وكانت مدرسة إزنيك ، وبورصة ، وأدرنة من أهم المدارس التى أنشأها العثمانيون فى عهودهم الأولى. وبعد أن فتح محمد الفاتح إستانبول أنشأ جامعته «مدرسته» الشهيرة فى إستانبول ، والتى سميت بمدرسة «صحن ثمان» وكان للطلاب فيها أماكن للإقامة جنبا إلى جنب مع المدرسين. وتدرس فيها العلوم النقلية والعقلية معا.

وزاد عدد المدارس «الجامعات» في عهد القانوني وأنشأت دار الشفا» أي كليات للطب ، وإلى جانبها «دار الحديث» وكليهما بجوار. جامعة المشهور (السليمانية) ، ولم تحدث الثنائية فى التعليم فى الدولة العثمانية إلا تحت الضغوط الأوربية بعد عهد التنظيمات فأصبح هناك ما يسمى بالتعليم المدرسي ، والتعليم الحديث : أنظر : M.Z.) (١٩٧١.Pakalin ,O.t.Deyimleri ve Terimleri Isb (المترجم).

(٢) آوليا چلبي سياحتنامه س ، ج ١. المقدمة.

٦١

وما أن رأى سعد بن أبى وقاص (رضى الله عنه) منه ذلك حتى طمأنه بالشفاعة ، والسياحة معا.

يذهب أوليا چلبي إلى مشايخه ، وأساتذته ويقص عليهم رؤياه. ويطلب منهم تفسير هذه الرؤية. فيذهب إلى الشيخ المولوى عبد الله ده ده فى حي قاسم باشا فيطلب منه أن يفسر له هذه الرؤية فيوصيه الشيخ قائلا (إبدأ بتحرير تاريخ إستانبولنا العزيزة) فيشمر عن ساعده ، ويتحفنا بالمجلد الأول من سياحتنامه سنة (١٠٤٠ ه‍ سنة ١٦٣٠ م وفى سنة ١٠٥٠ ه‍ ـ سنة ١٦٤٠ م) ما بين إبريل ومايو يرحل إلى بورصه مع صديق له يسمى «أوقچى زاده أحمد ، وبعد عودته من هذه الرحلة التى لم يستأذن والده فيها ينصحه والده أن يسجل ملاحظاته أولا بأول فى كتاب للرحلات ، ويأذن له بالترحال ، فيتوجه نحو إزميت» فى (١٠٥١ ه‍ حزيران سنة ١٦٤١ م) وبعد أن يمضى شهرين فى إستانبول يتوجه إلى طرابزون فى صحبة كتنجى عمر باشا الذى عيّن واليا عليها ، وكانت رحلته الثالثة هذه عن طريق البحر الأسود فى (١٠٥٠ ه‍ ٢٨ ديسمبر سنة ١٦٤٠ م). ومنها توجه إلى آناپا ((Anapa)) وأنضم إلى الجيش المتوجه للإستيلاء على قلعة (آزاق Azak) ولما إنتهت هذه الحملة بالفشل توجه نحو (بهادر كيراى خان) بالقوم لقضاء الشتاء. وقد أمضى شتاء هذه السنة فى (باغچه سراى Bahce Saray). ثم عاد إلى استانبول بعد أن شارك فى إسترداد قلعة الآزاق. ومكث أربع سنوات فى إستانبول. وفى سنة (١٠٥٥ ه‍ ـ سنة ١٦٤٥ م) شارك فى فتح خانيا"Hanya " مع يوسف باشا الذى كان يقود حملة كريت Girit ثم عاد إلى استانبول. وفى العام التالى مباشرة خرج إلى الأناضول كمؤذن ومصاحب للدفتردار. آده محمد باشا» الذى عين أميرا للأمراء على أرضروم. وقد مكنته هذه الرحلة من التجول والطواف بكل مدن وبقاع الأناضول. ثم عاد إلى أرضروم ، والتحق بالحملة التى قادها الدفتردار زاده ضد أمير الشوشيك (Susik) فتمكن بذلك من مشاهدة بعض مناطق آذربيجان مثل كورجستان (Gurcistan) كلّف أوليا چلبي ببعض المهام ، وحمل بعض الرسائل إلى خان روان"Revan " فتمكن من الطواف ، ومشاهدة مناطق كومشخانةGumushane وطورطوم Tortum. بعد أن شارك فى حملة كورجستان عاد إلى أرضروم وأمضى الشتاء بها ، ثم عاد مع الدفتردار زاده محمد باشا إلى استانبول وقد كلفه محمد باشا بمهام كثير ،

٦٢

ووساطات لجمع كلمة أمراء الأناضول للمشاركة فى القضاء على عصيان (واردار على باشا) الذى كان يهدد كيان الدولة أنذاك. ويحكى هو نفسه أنه بسبب العواصف الثلجية التى هبت خلال إحدى هذه الرحلات ضل طريقة فوجد نفسه وسط الجلاليين أمثال حيدر أوغلى وقاطرجى أوغلى وقد ساعدته هذه الصدف على التعرف عن قرب على ثورة الجلاليين (١). والكتابة عنها هى وثورة (واردار على باشا) وقد أعطى معلومات قيمة جدا عن هاتين الثورتين.

يعود رحّالتنا إلى إستانبول (١٠٥٨ ه‍ ـ سنة ١٦٤٨ م). ولكنه يتوجه مع أمير أمراء الشام مرتضى باشا إلى الشام فى (١٠٦٠ ه‍ ـ ١٨ سبتمبر سنة ١٦٤٨ م) ويظل بها حتى (١٠٥٨ ه‍ ـ ١٤ تموز سنة ١٦٥٠ م) وخلال هذه الفترة يكلفه مرتضى باشا بالتوجه إلى حاكم غزة ، ، ويحمله الرسائل إلى الشهابيين فى لبنان ، مما أتاح له رؤية الكثير من بلدان ، ومناطق سوريا وفلسطين. وبعد أن يطوف بالكثير من مدن وسط شرق الأناضول (لجمع الأموال لسيواس) يعود إلى استانبول وتسير الأمور لصالح أوليا چلبي ، فيعين خاله ملك أحمد باشا صدرا أعظم وبالتالى يصير أوليا چلبي أمين الجيش المتوجه لتأديب الجلاليين. ويعاصر ، ويرى سوء إدارة خاله ـ كما يرى عن قرب ما يدبر فى القصر من خطط ، وخدع ، ومكائد. ويصاحب بعض منها وهو فى رفقة ملك أحمد باشا ، وفى بعض منها وهو وحده. وقد كان يقاوم رغبة خاله هذا فى أن يدفع إلى السوق بنقود مزيفة للقضاء على الأزمة ، الاقتصادية وكيف أن هذه السياسة قد أدت إلى عواقب وخيمة ، وإلى ثورة الحرفيين. ولما تم عزل الصدر الأعظم وتعينه أميرا للامراء على «أوزى» Ozi أتيحت الفرصة لأوليا چلبي ليقوم بأول رحلة له فى بلاد الروميلى ، وأستمرت هذه الرحلة من (١٠٦٢ ه‍ ـ ٢٣ أغسطس سنة ١٦٥١ م) إلى نهاية (١٦٠٤ ه‍ ـ حزيران سنة ١٦٥٣ م) وكانت هذه الرحلة فى بعض منها فى رفقة ملك أحمد باشا ، وفى بعض منها وحده. وكان يقوم بحمل الرسائل المهمة بين روسچوق Ruscuk ـ وإستانبول ، وذهب إلى سلسترا ، وطاف

__________________

(١) جلالى : مصطلح ادارى عثمانى يطلق على العاصى أو الخارج عن القانون أو من يعمل ضد السلطان ، وقد كان هذا فى البداية اسم لأحد العصاة الذين ظهروا بالقرب من طوقات ورفع راية العصيان ضد السلطان سليم الأول (٩١٨ ـ ٩٢٧ ه‍ ـ ١٥١٢ ـ ١٥٢٠ م) وادعى المهدية والتف حوله عدد كبير من قطاع الطرق واتباع العصابات وسبب قلاقل كبيرة للدولة تم القضاء عليهم. ولكن ظل أسمهم يطلق كل العصاة الخارجين على الدولة : أنظر : محمد ذكى باكالين. المصدر السابق (المترجم).

٦٣

بقرى ومراكز بلاد الأوز ، وكتب عما رآه من غرائب وعجائب فى قرى «بابا داغى» وزار صوفيا. ولما تم عزل الباشا عاد معه إلى إستانبول وقضى بها فترة انسته ملاهيها ، وملاعبها متاعب الرحلات الطوال التى قام بها. عين ملك أحمد باشا واليا على «وان» فتوجه فى معيته ، قريبه أوليا چلبي.

وظل فى جنوب الأناضول من (١٠٦٦ ه‍ ـ ٩ مارس سنة ١٦٥٥ إلى ١٠٦٧ ه‍ ـ ٢٤ حزيران سنة ١٦٥٦ م) ، وأتيحت له الفرص لزيارة كل مدن جنوب الأناضول ، وإيران. واختلط باليزيديين ، وجمع عنهم الكثير من الوثائق والمعلومات. ولما تم نقل ملك أحمد باشا واليا للمرة الثانية على بلاد الأوز توجه أوليا چلبي معه إلى سلسترا ودخل فى خدمة محمد كيراى الرابع خان القرم ، وشاهد هزيمة القازاق الذين هاجموا بلاد الأوز وكان هو الذى حمل انباء هذه الهزيمة إلى إستانبول. وبعد عودته إلى مقر الولاية كان يكلفه خاله بنقل الرسائل بينه وبين زوجته (قايا سلطان).

(Kaya Sultan)

. سافر إلى البوسنه مع ملك أحمد باشا (الذى عين واليا عليها ولكنه بقى فى استانبول شهرا للعلاج بعد أن جرحه واحد من رجال كوبريلى محمد باشا (١٠٧٢ ه‍ ـ ١٥٧٥ ـ ١٦٦١ م) (١) وهو فى الاناضول فطاف بكل سواحل الأناضول ثم توجه إلى أدرنه مرورا بكوپريلى محمد باشا (١٠٧٢ ه‍ ـ ١٥٧٥ ـ ١٦٦١ م) فى «چناق قلعة» وبعدها إنضم الى الحملة التى قادها «كوسه على باشا» على «واراد» "Varad " واعتبارا من (١٠٧١ ـ ٢٦ مايو سنة ١٦٦٠) طاف ببلاد الأورناؤوط ، والأويغار ـ البلغار ، وبوهميا ـ المجر وظل بها حتى (١٠٧٣ ه‍ ـ مارس ١٦٦٢ م) وبعد أن أمضى الشتاء فى بلجراد عاد إلى إستانبول ثم خرج منها إلى النمسا مع الجيش المتجه إليها تحت قيادة فاضل أحمد باشا (١٠٤٥ ـ ١٠٨٧ ـ ١٦٣٥ ـ ١٦٧٦ م) (٢) ويقص علينا أوليا چلبي الغرائب والعجائب التى شاهدها ولمسها

__________________

(١) كوپرلى محمد باشا ، مؤسس عائلة كوپرلى التى تولت الصدارة العظمى في الدولة العثمانية لفترات طويلة ، ولعبت دورا بارزا فى تاريخها. تتابعت فيه وفى ذريته الصدارة. وقد تولى على بلاد الآرناؤوط (آلبانيا) سنة ١٠٧٠ ه‍ ـ ١٦٦٠ م (المترجم).

(٢) فاضل أحمد باشا : من عائلة كوپريلي ، اشتهر بحبه للعلم ، وحمايته للعلماء ، تولى منصب الصدارة بعد العديد من المناصب فى الدولة العثمانية وأجرى بها العديد من الإصلاحات. ولد سنة ١٠٤٥ ه‍ ـ ١٦٢٥ م وتوفى سنة ١١٨٧ ه‍ ـ ١٦٧٦ م. (المترجم)

٦٤

بنفسه فى بلاد النمسا ، وهولندا ، والسويد حيث زارها بعد يوهميا. وهذه الحكايات بالرغم مما فيها من مبالغات إلا أنها فى غاية الأهمية لدراسة تاريخ ، وعادات ، وتقاليد ، ومعالم تلك البلاد خلال هذه العصور. وتصل مبالغات الرحالة ، أوليا إلى أن يقص علينا أنه التقى فى فينا بالإمبراطور (ليوبولد الأول)(Leopold I) ومونتوسوكلى (Montecucolli) وأنه زار بلاد الأسبان ، والدنمارك وأنه وصل حتى دونكاركيه بجواز السفر الذى تسلمه من الإمبراطور ، وبالرغم من أن هذا الكلام فى حاجة إلى تحقيق إلا أنه يعطى الكثير عن تاريخ ، وعادات وتقاليد تلك البلاد ، وعلى مدى سعة إطلاع الرحالة أوليا چلبي. وبعد أن عاد من هذه البلاد كلف بمهام التفتيش على قلاع المجر ، فلذلك وافته الفرصة لكى يطوف بكل قراها وقصباتها ، ويحكى لنا فى كتابه. سياحتنامه» أنه وصل إلى بلاد القرم ، بعد أن تجول فى أردل (Erdel) ، والبغدان ، والأفلاق» وينتقل من القرم إلى قفقاسيا عن طريق البر. ويسجل أنه تجول فى بلاد «داغستان» ، وشواطئ بحر الخزر ، وبين قبائل الفولجا ، وأنه إنضم إلى قافلة أحد السفراء الروس من ترك Terek حتى الآزاق وعلم بها أن الجيش العثماني قد تحرك نحو كريت. فتوجه چلبي نحو (باغچه سراى) وشارك عادل كيراى فى بعض حروبه ، ثم عاد بطريق البر إلى استانبول. ومضى فى هذه الرحلة ما بين (١٠٧٤ ه‍ ـ تموز سنة ١٦٦٣ م) حتى (١٠٧٨ ه‍ ـ ١١ مايو سنة ١٦٦٧ م). وبعد أن استراح بعض الوقت توجه إلى زيارة بعض مدن الروميلى كسلانيك «وأدرنه» وساح بكل بلاد اليونان والموره» «وتساليا». وعاصر ، بل وشاهد استيلاء العثمانيون على قانديا (Kandiye) ، وشارك فى إخماد العصيان الذى شب فى بلاد اليونان ضد العثمانيين ، والذى عرف فى كتب التاريخ بعصيان (ماينا) "Mayna " وبعد أن طاف بسواحل بحر الأدرياتيك مرورا ببلاد الأرناؤوط عاد إلى استانبول. وكانت هذه الرحلة فيما بين (١٠٧٩ ه‍ ـ ٢٦ يناير سنة ١٦٦٨ م) إلى (١٠٨١ ه‍ ـ ٣١ أغسطس سنة ١٦٧٠ م).

رحلته إلى الحجاز :

أصاب أوليا چلبى الذى زار الكثير من البلدان ورأى آلاف المدن نوع من الحزن والكآبة لعدم قيامه بالحج وزيارة الأماكن المقدسة ، فحزم أمره ، وأعد عدته للقيام بالرحلة الرابعة عشر ، والأخيرة فى حياته ألا وهى رحلة الحجاز ومصر. فاستراح عدة

٦٥

أشهر وأعد غلمانه ، ورافق قافلة الحج التركى ، والتى كانت تضم حجاج كل دول البلقان واستانبول. وشاهد ووصف لنا مراسم توديع القافلة وتسليم الجمل الذى يحمل المحمل وكيف أن السلطان بنفسه ـ وفى معيته الصدر الأعظم وشيخ الإسلام قد حضر هذه المراسم وقد كانت فرقة الموسيقى السلطانية تعزف أمام قصر السلطان قبل موعد قيام القافلة بزمن طويل وكان معنى ذلك ايذان وإعلام للجميع باقتراب موعد قيام القافلة ، فيقدم الأمراء والأثرياء وأهل الخير هداياهم لتكون فى عهدة أمير القافلة حيث يوصلها إلى سكان مكة ، والمدينة ومجاورى الحرمين الشريفين.

وفى وصف دقيق وممتع يصف لنا الكاتب رحلته منذ أن قامت من استانبول حتى إنتهى من آداء شعائر الحج. ويقدم لنا شعور المسلم المؤمن فى مواجهة الصعاب ، وكيف أن القافلة كانت تحمل مالا يطاق من برد ، وجوع ، وعطش وهى تعبر الصحراء القاحلة (١). كان كل ذلك من أجل اليفاء بركن من أركان الإسلام.

وكثيرا ما كان يتحفنا ببعض من أشعاره الجياشة وتضرعاته وتوسلاته فى الحرم النبوى وأمام أستار الكعبة الشريفة.

يقدم أوليا چلبي أوصاف الحرمين الشريفين وما فيهما من تحف وعدد المأذن ، والأبواب ، والأعمدة ، والشبابيك وأطوال كل منها. وتعريف كامل بسكان البقيع من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كما يصف لنا وصفا دقيقا كل ما كان يصادفه من قلاع ، وحصون ومساجد وتكايا ، ويعرفنا بأقطاب العلم ووصفا للأوضاع الاجتماعية ، والاقتصادية ، والادارية ، والتشكيلات العسكرية والتقسيمات الادارية للشام والحجاز (٢).

أتم أوليا چلبي طواف الوداع ، وأتم فريضة الحج فى موسم سنة (١٠٨٢ ه‍ ـ ١٦٧١ م) واستقر رأيه على مرافقة قافلة الحج المصرى عند عودتها لكى يقوم برحلته إلى مصر. فيلتقى بشريف مكة ، ويتجه إلى جدة لمقابلة الوالى العثمانى ليستأذنه فى الرحيل ، ولم يفته أن يخبرنا بتجارة جدة ، وبنوع وأجناس الحجاج ، والسفن وما

__________________

(١) سنرى كل ذلك فى ترجمة المتن الذى نحن بصدده ، وهو المجلد التاسع من الرحلة ، (المترجم).

(٢) آوليا چلبى سياحتنامه س ، ج ٩. استانبول ١٩٣٥ م.

٦٦

يحمله الحجاج المصريون فى رحلة الذهاب والاياب من مكة والمدينة وجدة التى كانت تجمع فى خاناتها تجارة الشرق والغرب.

رافق أوليا قافلة الحج المصرى بعد أن شحن كتبه ، وهداياه مع بعض من عبيده ، وغلمانه فى إحدى السفن المتجهة إلى السويس بحمولتها من البن والدخان ، وبضائع الهند ، والصين ، وجاوه ، ورقيق الحبشة وأفريقيا.

ويذهب الرحالة الى مصر عبر طريق العقبة وطور سيناء حتى وصل إلى السويس ، ومنها إلى القاهرة مرورا ببلبيس والصالحية. ويسجل لنا أنه تردد بين القاهرة ، وبلبيس عدة مرات لاستقبال عبد الرحمن باشا الذى عيّن واليا على مصر فى (١٠٨٧ ه‍ ـ ١٢ تموز سنة ١٦٧٦ م). وفى إعتقادى أن كتاب «سياحتنامه» أوليا چلبي من أدق وأوفى ما كتب عن الحجاز ومصر فى القرن السابع عشر ، فلو استبعدنا المبالغات فى تفسير بعض الظواهر لأعتبر هذا الكتاب سجلا وافيا لما كان فى الحجاز ومصر من أثار ، ومساجد ، وجوامع ، وتكايا ، وزوايا ومستشفيات ، وبيمارستانات ، وكنائس ، وخانات ، وقصور ، وبرك ، وترع ، وقنوات ، ومعسكرات ، وعائلات. وكذا مرجعا لا يستهان به للوضع الاجتماعى ، والاقتصادى ، والعسكرى ، والإدارى لمصر فى هذه الحقبة التاريخية الغامضة من تاريخ مصر. فقد طاف الرجل بكل مصر ، حيث ذهب إلى دمياط عن طريق النيل ثم إلى الاسكندرية ، ورشيد ووصف لنا كل مدن ، ومراكز وقرى الدلتا ، ثم رافق حامية متجهة إلى السودان فتعرف وعرّف لنا بكل مدن الوادى حتى وصل إلى أعماق السودان والحبشة وبلاد الفونج والتقى بملكها ووصف لنا ما كانت عليه هذه البلاد ، والقبائل من تخلف وما كان يسودها من عادات وتقاليد وأعراف (١).

بقى أوليا چلبى فى السودان ، والحبشة مدة طويلة ، وعاد إلى مصر عن طريق ساحل البحر الأحمر وسجل كل ملاحظاته ومشاهداته والتى كان يدعمها بالمراجع فى مجلدة العاشر والأخير فى مجموعة رحلاته.

__________________

(١) آوليا چلبي سياحتنامة س ، ج ١. ، استانبول سنة ١٩٣٨. وتعد ترجمته للنشر حاليا من قبل مترجم ، وناشر هذا الجزء. «المترجم»

٦٧

طريقة أوليا چلبى فى التاريخ :

كان أوليا چلبي يدوّن ملاحظاته ، ومشاهداته عن البلد ، أو المدينة التى يمر بها. ثم يرجع إلى كتب التاريخ ، والرحلات التى سبقته إليها وخاصة الثقاة منهم. أمثال القزوينى ، والمقريزى ، والطبرى ، والذهبى وجلال زاده ، وصولوق زاده ، والأطلس الصغير. ثم يدعم هذا كله بالرجوع إلى القوانين ، والسجلات ، وكتب المناقب ، وسجلات الولايات ، ودفاترها ، وميزانياتها. وقد كان يستخدم أساليب عصره فى القياس ، فما أن يمر بجامع ، أو قلعة حتى يحصى الأبواب والأدوار ، والمخازن ، ويقيس بالخطوة ، والذراع كل ما يصادفه من آثار وأطلال. كما كان يعود إلى ما سجله أو رجع إليه من مراجع فى كتبه السابقة على حد قوله هو :

طبعات سياحتنامه :

اعتمدت النسخة رقم ٤٥٨٤٦٢ فى مكتبة برتو باشا أساسا فى طبع سياحتنامه. وقد أشرف نجيب عاصم ، وأحمد جودت على طبع المجلدات الخمسة الأولى سنة (١٣١٤ ه‍ ـ ١٨٩٦ م). وقام أمره قره جه صو سنة (١٣١٨ ه‍ ـ ١٩٠٠ م) بطبع المجلد السادس ، وقام كليسلى رفعت بطبع المجلدين السابع ، والثامن من سنة ١٩٢٨ م. أما المجلدين التاسع والعاشر فقد أشرف على طبعهما أحمد رفيق فيما بين سنة (١٣٥٤ ـ ١٣٥٧ ه‍ ـ ١٩٣٥ ـ ١٩٣٨ م) كما طبعت مقتطفات ومختارات من رحلة أوليا چلبي فى إستانبول سنة (١٢٥٦ ه‍ ـ ١٨٤٠ م) ، (١٢٦١ ه‍ ـ ١٨٤٥ م). (١٢٧٩ ه‍ ـ ١٨٦٢ م) والقاهرة سنة (١٢٦٤ ه‍ ـ ١٨٤٧ م). واستطاع رشاد أكرم قوچى إختصاره وطبع خمسة مجلدات منه فقط ، وقام مصطفى نهاد أوزون باختيار لوحات تتعلق بالحياة فى القرن السابع عشر من سياحتنامة أوليا چلبي وطبع هذه اللوحات فى مجلدين. وأستطاع نفس المؤلف أن يجمع ما كانت الرقابة قد منعت طبعه فى حينه وشكل بذلك مجلدا ثالثا. وفى سنة (١٣٩٠ ه‍ ـ سنة ١٩٧٠ م) قام ظهورى دانشمان بإعداد طبعة جديدة مختصرة تقع فى عشرة مجلدات.

وقد ترجمت مقتطفات ومختارات من سياحتنامة أوليا چلبى إلى الألمانية ،

٦٨

والانجليزية ، والفرنسية ، والروسية ، والمجرية ، والرومانية ، والبلغارية ، والصربية ، واليونانية ، والأرمنية ، وغيرها من اللغات الغربية (١).

إن أوليا چلبي الذى قضى سنوات طويلة يطوف ، ويجول ، وهو فوق صهوة جواده قد إمتلك مهارة فائقة فى ركوب الخيل وسباقها ، وكان يتمتع ـ إلى جانب ذلك ـ بروح مرحة ميال إلى الفكاهة. وقد مكنته هذه السنوات ، وهذه الرحلات من إكتساب علوم ومعارف غزيرة ، إلى جانب كونه كان خطاطا ، ونقاشا ، وموسيقيا وشاعرا. وقد كتب لوحاتا فنية ، وأشعارا دينية وعلقها فوق جدران الحرم النبوى في المدينة المنورة ، خلال زيارته للمسجد النبوى سنة (١٠٨٢ ه‍ ـ سنة ١٦٧١ م) وأذا كانت أشعاره التى أوردها فى كتابه سياحتنامة ، تتسم بشئ من الركاكة ، والبساطة فإن نثره يدل على أنه كان يمتلك ناصية اللغات الاسلامية الثلاث «العربية والفارسية والتركية» وأن أسلوبه التركي كان من النوع السلس ، المتدفق. وكان يستخدمه فى الكتابة وكأنه يتحدث أو يقص على مستمعيه ما يشنف به أذانهم ، وتطيب به نفوسهم ويسعد به فؤادهم حتى ولو أدى ذلك إلى بعض الأخطاء اللغوية. (٢)

__________________

(١) انظر فى تلك المراجع التالية :

. ١٩٤٧.Ist. ١٤٧٣

Ayfar Guclu, Evliya Celebi Seyahatnamesi Uni. Kip. Tez. Nu

. ١

. ١٩٦٩.Cafer Erkilic.Evliya Celbi.Ist. ٢

. ١٩٣٩.Ist. ١٧٣ ،

Leman Nusret. Evliya Celebinin Hayati Uni, Kip, Tez. Nu

. ٣

. ١٩٥٧.M.Cagatay Ulucay ,Evliya Celebi.Ist. ٤

١٩٦٠.

Meskure Eren, Evliya Celebi Seyahatnamasi. birinci Cildinin Kaynaklari Uzerinde Bir Arasriema. Ist

. ٥ ١٩٦٠.Ist

«المترجم» .. ١٩٧٠.

Zuhuri Danisman. Evliya Celebi Seyahatnamesi. Ist

. ٦

(٢) انظر فى هذا الجزء ، آوليا چلبى وكتابه سياحتنامه ، د / الصفصافى أحمد المرسى ، مجلة كلية اللغات والترجمة ، العدد العاشر ١٩٨٥ ص ٢١٧ ـ ٢٢٧.

٦٩
٧٠

بسم الله الرّحمن الرحيم

رحلة أوليا چلبى

إلى الكعبة الشريفة فى شوال سنة ١٠٨١ ه‍ (١)

وبيان المراحل التى مربها من الشام الفيحاء

حتى بيت الله الحرام

عيّن حسين باشا (٢) أخو سياوش باشا (٣) والى الشام ، قائدا على الحملة المكلفة بحماية قافلة حجاج الشام ، حتى الكعبة المشرفة. لإن أشقياء العربان ، والبدو ، يهاجمون الحجيج كل سنة ، وينهبون متاعهم. ولقد تم توزيع مائتى وسبعين كيسة (٤) على خمسة آلاف ومائة وعشرين رجلا هم قوة الحامية ، وتسلم القائد ثلاثمائة كيسة أخرى للصرف منها على بقية الأغراض والمهام المنوطة إليه.

وفى اليوم ..... (٥) من شوال ، قام المحفل النبوى الشريف ، بالطواف فى

__________________

(١) ورد فى بعض النسخ المخطوطة أن الرحلة كانت فى الثانى عشر من المحرم سنة ١٠٨٢ ه‍ الموافق ٢٧ مايو سنة ١٦٧١ م.

وأنه قضى حوالى عشر سنوات فى رحلته إلى مكة ومصر والسودان وبلاد الحبشة. «المترجم»

(٢) حسين باشا : والى الشام ، وقائد حاميتها خلال موسم الحج سنة ١٠٨١ ه‍ ـ ١٦٧١ م ، وجاء تعينه عقب القلاقل التى عمت مكة فى الموسم السابق ، ووضع تحت إمرته ثمانية آلاف جندى ، وكان قائدا شديد المراس .. تعامل بشدة مع البدو والأعراب مما أدى إلى هدوء موسم الحج. وعمل على تحسين العلاقة مع شريف مكة لتهدئة الأوضاع خلال موسم الحج ، «المترجم».

(٣) سياوش باشا من الآباظية ، تولى الصدارة فى عهد محمد الرابع لمدة مائة يوم فقط. وكان من عتقاء كوپرلى زادة أحمد باشا. وصل إلى رتبه «آغا البلوك» و «قائد المهمان» وتولى ولاية ديار بكر ، وحلب. عاد إلى دار السعادة وتولى الصدارة مرة ثانية سنة ١٠٩٨ ه‍ ـ ١٦٨٧ م قتل فى نفس العام بعد أن نهب العصاة منزله وممتلكاته «المترجم».

(٤) كيسه : Kese ـ Kise

اصطلاح مالى يدل على الكيس أو الوعاء أو الحافظة التى كانت تستخدم لحفظ مبلغ معين من النقود الذهبية أو الفضية ، وكانت قيمتها متغيرة حسب العصور. كما استخدم هذا المصطلح للدلالة على العملة و [صره] للدلالة على الذهب. وكانت الكيسه فى عهد محمد الفاتح وبايزيد الثانى تساوى ٣٠ ألف آقچه ، أو عشرة آلاف قطعة ذهبية. ثم كانت الكيسه السلطانية المسكوكة فى طرابلس وتونس والجزائر تساوى عشرة آلاف وفى سنة ٩٤٤ ه‍ ـ سنة ١٥٣٧ م كانت عشرين آلفا وفى سنة ١٠٧١ ه‍ ـ ١٦٦٠ / ١٦٦١ م كانت أربعين ألفا ومنذ سنة ١١٠٠ ه‍ ـ ١٦٨٨ م أصبحت قيمتها خمسين ألف آقچة. «المترجم»

(٥) ترك المؤلف مخطوطته دون ذكر لتاريخ التحرك بالضبط. وثبت أن التاريخ هو اليوم العشرون من شوال سنة ١٠٨١ ه‍. «المترجم»

٧١

الشام [ـ دمشق] الفيحاء. وقد وصل ألفين من حجاج إيران فى نفس هذا اليوم أيضا. وتم تحصيل خمس عشرة قطعة ذهبية (١) عن كل حاج إيرانى ؛ مما شكل عونا ماديا كبيرا آنذاك.

وكنت ـ أنا العبد الحقير إلى ربه ـ قد قمت بتأمين كافة إحتياجات الرحلة من مأكل ، ومشرب ، واشتريت خمسة جمال ، وقاعودا ، وفرسا ، وأربعة هوادج ، وخيمة. كما استأجرت سقاءا وخمسة عبيد. وجمعت الجميع فى سرادقى.

أخيرا ، وفى العشرين من شوال سنة إحدى وثمانين وألف من الهجرة النبوية ، خرجنا من الشام ، وسط إحتفال مهيب ، لم تر مثله البلاد من قبل. وسارت القافلة مسافة ساعة نحو القبلة ، وسط رياض ، وبساتين غناء ، وحدائق فيحاء ، حتى وصلت إلى :

قصر كوچوك أحمد باشا : (٢)

لقد انتشرت الأخبار ، وتناقلت الأقاويل بين مشايخ الأعراب جميعا ، وكان مفادها أن ... «إن هذه السنة تختلف عن كافة السنوات السابقة ؛ فعلى رأس القافلة وزير شديد البأس ، صعب المراس لا يرحم قط ، ولن يرحم أبدا من تسوّل له نفسه الشغب ، أو يفكر فى العصيان. فأقبلوا جميعا مع عيالكم وذويكم وقدموا فرائض الطاعة ، واظهار الولاء ... ، ، .. وما هى إلا سويعات قليلة حتى وفد عدد من مشايخ البدو ورجالاتهم على قصر الوزير كوچوك أحمد باشا ، وتشرفوا بالسلام عليه والمثول بين يديه.

وهنا ؛ فى هذا المنزل قام كتخدا (٣) الباشا بتسليم عنان جمل المحمل الشريف إلي

__________________

(١) عملة ذهبية ضربت فى الدولة العثمانية ، واستقر الرأى على قيمتها فى عهد محمود الثانى (١٢٤٩ ه‍ / ١٨٣٣ م) على أن تكون ٢٤٠ پارة أو ستة قروش. «المترجم»

(٢) كوچوك أحمد باشا : هو أحمد باشا كوچك من وزراء الدولة العثمانية فى عهد السلطان مراد خان الرابع تولى ولاية سيواس ، والشام ، وكوتاهية ، ثم كلّف بالتنكيل بعصيان إلياس باشا الذى نشب فى الأناضول ، ولما وفق فى ذلك أنعم عليه السلطان بولاية الشام سنة ١٠٤٢ ه‍. وقد نجح فى القضاء على حركات العصيان فى الشام أيضا .. وأعاد الأمن والأمان ، شارك فى حرب إيران ، ثم عيّن محافظا على الموصل ، فى سنة ١٠٤٦ ه‍ ، واستشهد فى الحرب التى دارت ضد الشاه عباس الإيرانى. «المترجم»

(٣) كتخدا ـ Kethuda وكيل ، معتمد

٧٢

معاليه ، وقام هو بدوره بتسليمه إلى أمير الحاج. وتقدم شيخ الشام وقاضيها وسلمه الحجة الشرعية التى تؤيد إمارته للحج هذا العام. وبهذا تمت المراسم المتعلقة بتسيير القافلة.

فى الصباح الباكر ، وعقب صلاة الفجر ، تحركنا ، مارين من بين المزارع وإقطاعات الموظفين. واستمرت القافلة فى سيرها أربع ساعات متواصلة حتى وصلت إلى :

قرية الكسو :

وهى قرية عربية بيوتها مائتين فقط ، تقع وسط وادى صخرى. بها جامعين ، ومسجدا ، وحماما عاما ، وخانا كبيرا. يقوم آهالى هذه القرية ببيع الكعك الأبيض ، والبوريك والدجاج المشوى ، والحملان ، والزبادى ، والقشدة ، والشعير والتبن إلى الحجاج على الطريق. ومعظم آهاليها جمّالة. ومياه الكسو عذبة جدا لذيذة المساغ. يشرب منها أغنياء الشام.

خان الطارخانة :

عبارة عن نزلين كبيرين على جانبى الطريق ، يتوقف الحجاج عند عودتهم من الحج هنا فى شهر عاشوراء. وحسب تعليمات أصحاب الوقف ؛ تعد ، وتطهى هنا مئات القازانات ، والقدور المليئة بالعاشورة ، وحساء الطرخانة (١) ، وتوزع على جميع الحجاج.

__________________

لقب كان يطلق على من يقوم مقام الأغنياء أو رجالات الدولة ويعنى «الوكيل ، المعتمد ، مدير الأعمال».

تم أصبح لقبا إداريا يطلق على معاونى الصدر الأعظم. وكانوا فى البداية رجالا خصوصيين للصدر الأعظم ، ثم أصبحوا من موظفى الدولة. ومن يرتقى منهم أو يقدم خدمات جليلة للدولة كان يطلق عليه «كتخدا بك».

فى عهد السلطان أحمد الثالث أصبح معاونا للصدر الأعظم فى الأمور الداخلية ومن هنا أصبح له كتبته وقلمه الخاص به.

أما عسكريا فقد كان يطلق على كبار ضباط الإنكشارية. وكان أحيانا يسمى «كتخدا القول» أو «كتخدا المعسكر» وكان يعهد إليه بمعاونة آغا الإنكشارية. ولما كانت تنشئتهم فى المعسكرات فقد إزداد نفوذهم فى بعض العصور حتى غطى على نفوذ آغا المعسكر.

وكان لحرس القصر كتخدا يسمى «كتخدا البوابين» يرأس حراس أبواب القصر السلطانى. ويقوم مقام الساعى فيما بين السلطان والصدر الأعظم. لقبه الأوروبيون بلقب مشير القصر ، أو مدير القصر ، أو ناظر القصر. «المترجم»

(١) حساء الطرخانه : «Tarhana» أو الطرخانه ؛ وهو حساء يصنع من اللبن الحامض ، أو الزبادى ، وأحيانا يضاف

٧٣

تحركت القافلة من هنا سالكة الطريق الذي تم تعبيده على نفقة والده سلطان (١) ، ومن قبل كانت الجمال ، والبغال تنهك ، بل كان بعضها ينفق فى هذا الطريق قبل تعبيده. قطعنا عشرة ساعات على هذا الطريق حتى وصلنا إلى :

قلعة الصنامين :

وهي عبارة عن قلعة صغيرة مربعة الشكل ، على حافة بحيرة ضيقة داخل حدود الشام. مدارها ستمائة خطوة ، بداخلها مساكن لبعض الجند والخفراء العرب ، المعافين من الضرائب. بها مسجدين ، وخانا ، وحماما ، تكثر بها الحبوب ، والتى تباع على قارعة الطريق ، وفوق برج القلعة المطل على البحيرة ، كان هناك صنمين.

وقد أرسل الرسول الكريم جيشا بقيادة خالد بن الوليد وعمر ابن عبد العزيز قام أولا بفتح البوصيره ، ثم هذه القلعة. وقد قاما [رضى الله عنهما] بتحطيم الصنمين المذكورين وألقيا بحجارتهما فى مياه البحيرة.

ولقد شهد كل من الشيخ على عباس ، والشيخ عبيد الطائفى ؛ الحرب فى هذه القلعة واستشهدا بها ، ودفنا فيها.

بعد ذلك عبرنا أحد الكباري المنخفضة ، وكان به تسع عشرة عينا ويقع فى اتجاه القبلة التى يممنا وجهنا إليها ، وتابعنا المسير مدة ساعة واحدة ، مررنا خلالها بقرية زراع العامرة الواقعة على جانبى الطريق ، وبها حوالى ستمائة منزلا ، وبها جامعا ، وخانا واحدا. وقد استمرت القافلة فى سيرها نحو القبلة حتى وصلت إلى :

__________________

إليه حساء اللحم ، ويجفف على شكل حبيبات أو بدره .. وفى الشتاء يسوى بالغليان ويصنع منه الحساء الساخن .. ويمكن أن تضاف إليه بعض المواد الأخرى لرفع قيمته الغذائية. ويقدم منذ القدم للفقراء ، وعابري السبيل من قبل الأوقاف الخيرية. «المترجم»

(١) والده سلطان : لقب كان يطلق على والدة السلطان المتربع على العرش ، وكانت لها مخصصاتها ، ونفوذها الكبير الذى تكتسبه من نفوذ وقوة إبنها السلطان. وكان منهن صاحبات فضل ، وخير عميم. كن يقمن الجوامع ، ودور الأيتام ، والمطاعم التى تقدم الطعام للمساكين ، والحمامات ، والأسبلة ، ويقدمن الهدايا القيمة للمقيمين ، والمجاورين فى الحرمين الشريفين. وقد عرفت الحضارة الإسلامية منهن ذوات فضل كبير طوال عصور الحضارة الإسلامية .. وكان لوالدة السلطان سليمان الفانوننى ، ومحمد الرابع شهرة كبيرة فى مضمار الخير. وتسهيل سبل أداء فريضة الحج. «المترجم».

٧٤

قرية البوصرة الصغرى :

قرية ذات ثلاثين بيتا ، وجامعا ، وهى تبعد عن البوصرة التى وصلها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتجارة قبل البعثة بمسيرة خمس ساعات. وبها قبر سيدنا إلياس بن آخطوان. جامعها ذو منارتين وعلى بعد ثنتا عشر ساعة منها يقع منزل كتيبة ؛.

منزل كتيبة :

تبة صغيرة وسط صحراء حوران. كانت عامرة فى وقت ما ، ولكنها أصبحت خرابا ، تسكنها البوم ، والغربان من جراء تعديات الأعراب وهجماتهم المتوالية. بها عين ، مياهها عذبة.

أخذ الحجاج حاجتهم من الماء منها. وتتمتع فتيات كتيبة وما جاورها من القرى بجمال آخاذ ، وجاذبية لا تقاوم ، فكلهن من ذوات الدلال ، قمريات الوجه ، ملائكيات الطلعة ، وكأنهن حوريات من حورى الجنة. أثّرن فى بعض الحجاج حتى صرفوا النظر عن استكمال الحج ، وكتبوا للقائدين عن رغبتهم هذه والبقاء فى هذه الديار.

ويسجل التاريخ أن سيدنا آدم قد قام بزراعة ديار حوران هذه ولذلك فهى منطقة خصبة ، مباركة ، كثيرة المحاصيل ؛ من حبة القمح الواحدة تخرج خمس عشرة سنبلة أو ما يزيد. ومن كل سنبلة يخرج ما لا يقل عن مائة حبة. ويجود بها سبعة أنواع من القمح ومثلهم من الشعير. قمحها وشعيرها من النوع الجيد الممتلئ ، محصولها يكفى العالم بأسره لوفرته. ولكن يهاجمها كثير من عصاة ، وبدو الموال والتلدان القادمون من الصحراء بآلاف من بعيرهم ، وجمالهم ، ودوابهم ، يحمّلونها بالقمح من الأجران ، ويفرون بها. ولا يجرؤ أى من السكان أن يعترض بأى شكل من الأشكال.

تحركت الفافلة من كتيبة عابرة الصحراء ، وقد مررنا بالعديد من القرى التى كانت تشاهد جوامعها ، وخاناتها. وبعد أن تابعنا المسير مسافة خمس عشرة ساعة وصلنا إلى :

٧٥

قلعة مزيرب :

شيد هذه القلعة حاتم الطائى فى زمن سيدنا أبى بكر الصديق (رضى الله عنه). والقلعة عبارة عن مربع داخل منطقة حجرية ، محيطها حوالى ثمانمائة خطوة. ويوجد فى جدران الحصن ثمانين فتحة للرماة. يسكنها أحد السادة الباشوات ـ القواد ، وفى معيته ثلاثمائة جنديا ، كما يقطن بها قاضى حوران ، ضواحيها ، وتوابعها حوالى مائتين وسبعين قرية ونجعا. كما يوجد داخل حصون القلعة جامعا ، وحماما صغيرا ، ومخازن عديدة حيث تحفظ الأموال الأميرية وبضائع التجار بها.

نهر الحور :

ينبع من جبال البوصره ، ويصب فى بحيرة منى Mina. أقام قائد الحملة حسين باشا ، وبقية الحجاج خيامهم على الساحل المواجه للنهر ، ومكثنا بهذا الموقع مدة عشرة أيام حتى بداية ذى القعدة حتى تجمع الحجاج من المناطق المجاورة ، وبلغ عدد الخيام المقامة ستمائة وثلاثين خيمة. كما كانت هناك خيام أخرى تخص الحرفيين ، وما شابه ذلك. كما أقيمت هناك دكاكين كثيرة منها ثلاثمائة للخبازين والطباخين والبزازين والقزازين. وكانت مسافة معسكر الجيش يبلغ طولها ثمانية آلاف خطوة.

يفد أعراب البادية المجاورة إلى هذا السوق كل سنة للبيع والشراء ، فيحققون أرباحا طائلة. ومعظم مشترياتهم من الأقمشة الغالية النفيسة.

أما القبائل التى كانت توفر الجمال اللازمة للحجاج فكان من أشهرهم :

آل عمر ، آل رشيد ، آل رياح ، آل معان ، آل خرنوش ، آل طورابى ، آل شهاب ، بنى سالم ، بنى إبراهيم ، بنى ابن حنش ، آل حرفوش ، بنى زيد ، بنى صقر ، بنى عطية وعطا ، بنى زهد ، بنى وحيدات ، وكذا بعض من مشايخ نابلوس ـ نابلس ، وعجلون ، وصفد ، وعكا ، والرملة ، وغزه ، والقدس ، ومشايخ خليل الرحمن. والحاصل فإن مشايخ السبع والسبعين قبيلة التى تنال من الصرة السلطانية ، والإحسانات من خزينة الشام ، هم ، وأتباعهم ومعهم ما بين أربعين ، أو خمسين ألفا من الجمال والبعير مكلفون بخدمة حجاج بيت الله الحرام منذ عهد السلطان سليمان

٧٦

القانونى. (١) ولكن يجب الحذر التام منهم فهم يسرقون الكحل من العين على حد تعبيرهم.

أخذ الباشا ثلاثة آلاف جملا عدا حوالى مائتى قطارا من الجمال والبعير ، وحوالى خمسين قطارا من البغال ، حيث أن البغال تتحمل مشاق السفر من الشام إلى مكة المكرمة.

حكمة إلاهية :

اليوم الخامس والعشرين من شوال ، فجأة ، وفى وقت الظهيرة ، إنقلب الجو إلى شتاء قارص ؛ حيث هطلت الأمطار بشكل كثيف ، وكأن السحاب قد نثرت شعورها وبدأت فى البكاء والنحيب. وتحولت الأمطار إلى سيول أغرقت كل الخيام ، واستمر هطول المطر طوال الليل ، وكانت ليلة ليلاء فى برودتها وغزارة أمطارها ، وتساقط الثلج والبرق والبرد كأنه رؤوس العصافير. وقد نفق في هذه الليلة حوالي مائتين جملا ، ولقى حوالى ثمانين بدويا حتفهم ، ومزقت الخيول مرابطها وأعنتها من شدة الرياح ، واحتمت فى القرى المجاورة من الهلع والخوف.

وبينما الحجاج جميعا قد فقد كل منهم بعضا من خيوله ، أو بغاله. فحمدا لله وشكرا ، ففى الصباح وجدت جيادى وبغالى كاملة لم تنقص شيئا.

وإستمرت الأمطار فى اليوم التالي أيضا ، بشكل مخيف ، حتى كانت الجياد ، والجمال تغوص فى المياه حتى ركبتيها. أما الحجيج فقد كوّم كل منهم أمتعته داخل خيمته وجلس فوقها. ولله حكمته فى ذلك .. فإن الزواحف والقوارض التى تعيش تحت سطح الأرض لم تجد لنفسها مفرا ، فظهرت على سطح الأرض ، ودخلت الخيام ، ولم تترك أى شئ يمكن أن تتغذى عليه ، حتى ملابس الحجاج ومتاعهم ،

__________________

(١) سليمان القانونى [٩٠٠ ـ ـ ٩٧٤ ه‍ ـ ١٤٩٥ ـ ١٥٦٦ م]

أعظم سلاطين بنى عثمان. ابن سليم الأول. اعتلى العرش سنة ٩٢٦ ه‍ لقب بالقانونى لعدله وكثرة القوانين التى سنها ، وصلت الدولة العثمانية فى عهده أقصى اتساعها. لقبه الأوروبيون بالعظيم"MagniFique " وصلت فتوحاته إلى المجر ، سنة ٩٣٦ ه‍ ، وحاصر فينا غربا. وسّع فتوحاته فى آسيا فضم كل إيران وبغداد وآذربيجان ووصل خليج البصرة سنة ٩٤١ ه‍ ـ ١٥٣٤ م. حول البحر الأبيض والأحمر إلي بحيرات عثمانية تحت قيادة خير الدين بارباروس. له عمارات فى كل العالم الإسلامى. مدة سلطنته ٤٨ سنة. «المترجم»

٧٧

مزقته شر ممزق. بل وصل الأمر بها أن أكلت أسرجة الحيوانات التى كانت ترقد وذيولها. ويعلم الله أنه لو غفل الشخص بعض الوقت لربما أكلت أذنية أو أنفه أو أطرافه.

وكان أحمد آغا كتخدا القول (١) وسياوش آغا كتخدا بوابى القصر الهمايونى (٢) ومعهما بقية الحجاج الذين كانوا قد تخلفوا بعض الوقت فى الشام ، قد داهمتهم الرياح والعواصف والأمطار فى المكان المسمى الصنمين ، فلاقوا من البلاء أشده ، ومن الصعاب ما تشيب من هولها الولدان ، حتى وصلوا إلى الجيش فاستقبلهم الباشا فى سرادقه.

وقد حدثت عاصفة هو جاء ، وريح صرصر عاتية فى ذلك اليوم أيضا فاقتلعت الخيام ، مزقتها شر ممزق ، تطايرت فى الهواء. ولما كان بعض الرجال قد تشبثوا بالحبال المربوطة فى الأوتاد ، فإن بعض الخيام بقيت معلقة فى الهواء بين عصف الرياح ، وتشبث الرجال ، والأوتاد وسيطرت الدهشة والحيرة على معظم الحجيج فوفدوا على معسكر الباشا وسرادقه للمشاورة ومناقشة الأمر.

مشايخ الحجاج وأصحاب الحاجات فى حضرة الوزير حسين باشا :

مثل مشايخ القبائل ، وأصحاب الحاجات بين يدى الوزير حسين باشا وقالوا «ها هو شهر ذى القعدة قد حلّ ، ومراحلنا أصبحت معدودة ، ولو تخلفنا يوما واحدا ، وإذا لم يصل المحمل الشريف إلى عرفات فى موعده ، لقلل ذلك من شأننا ، وحط من قدرنا أمام عظمة السلطان ، وجموع الأهالى. وها هم حجاج الشام قد تشردوا».

فأجابهم الوزير حسين باشا على الفور ... «.. الحكم لله وحده .. وما لم يكن

__________________

(١) القول مصطلح عسكرى استخدم فى الجيش العثماننى. ويطلق على قائده «آغا القول». وعلى صغار ضباطه» چاوش القول». وقد اطلق عليهم هذا اللقب تفريقا لهم عن الإنكشارية وضباط البحرية وضباط الديوان الهمايونى. «المترجم»

(٢) كتخدا بوابى القصر الهمايونى : لقد كان يطلق على آمرى البوابين والحراس الذين يقومون بالخدمة على أبواب القصر السلطانى. وهذا اللقب مذكور فى دستور الفاتح ص ١١ وكان يقوم بالخدمة فى مجلس السلطان وديوانه. ويقوم مقام الساعى فى حمل المكاتبات المتبادلة بين السلطان والصدر الأعظم. وقد عبر عنه المؤرخون الأوربيون ب «مشير القصر» أو «ناظر القصر» وكان يكلف بمهام رسمية على مستوى الإمبراطورية كلها. «المترجم»

٧٨

الطريق آمنا .. فلا يكون الحج فرضا. وإنى لمكلف بإحضار المحمل ، ولست مكلفا بإحضار الحجيج ؛ هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية ، فهناك مسألة نقود الخزانة المصرية ، فإذا وصل المحمل المصرى قبل المحمل الشامى أو تأخر وصوله فإن ذلك يعد لطمة لسمعة آل عثمان ، ولذلك يجب أن تتكاتف الجهود ، ونلتف حول المحمل ، حتى نختصر المراحل الثلاث فى مرحلة واحدة حتى نصل إلى الكعبة المشرفة فى الوقت المناسب ، ولذلك فعلى القادر أن يتحرك أما غير القادر فلا تكليف ولا جناح عليه ...».

صادق الجميع على ما قاله الباشا. قرأت الفاتحة. وعاد قسم من الحجاج ، وشاء القدير العليم أن يستمر سقوط المطر ، والثلج طوال هذا اليوم ، وهذه الليلة أيضا ؛ فلجأت معظم الحيوانات إلى القرى المجاورة للإحتماء فيها. وآعادها القرويون إلى آصحابها. وقد أمر الباشا بالإبتهال إلى الله لدفع ذلك البلاء ، بقراءة سورة الإخلاص مائة ألف مرة والصلوات على النبى المصطفى مائتى آلف مرة ، والأنعام الشريفة ألف مرة. وشاء الله أن هدأت السماء ، أطلت الشمس بنورها .. وإن كانت جميع الحيوانات والأمتعة قد غرقت فى بحار الماء ولجج الوحل. وبزغت تباشير شهر ذى القعدة مع إطلالة دفئ الشمس المشرقة.

قيام العبد الحقير بزيارة قبر حضرة سيدنا أيوب فى صحبة بعض الأصدقاء :

قرية نوا :

أتجهنا نحو القبلة بعد الخروج من مزيرب ، وتابعنا المسير لمدة ثلاث ساعات ، فوصلنا إلى قرية «نوا» وهى قرية بها ثلاثمائة منزلا ، وجامعا واحدا ، وحوضا للمياه. ومدفون بها الشيخ سعد الذى كان من أتباع سيدنا أيوب وخدّامه. ويتردد بين أهلها أن الملك طاهر عندما حاصر عكة ، واستعصى عليه فتحها ، قام الشيخ سعد هذا بتوجيه مزراق حولها ، بادئا بإسم الله وأخذ فى إلقاء مزارقه ورماحه نحو قلعتها ، فكان الجند جميعا يشاهدون تراشق الرماح ، والمزارق فى جدران القلعة حتى هدّمتها ، فشد ذلك من إذرهم ، وألهب حماسهم ، وتم فتح القلعة. ومكانه معروف حتى الأن. وهكذا يكون سلطان أولياء الله الصالحين ، ومن هنا قطعنا مسيرة ساعتين نحو القبلة حتى وصلنا إلى :

٧٩

قرية مزار سيدنا أيوب :

عاش النبى أيوب مائة وثلاثين عاما يعتصره الألم ، ولم يتأوه مرة واحدة. وكانت زوجته هى «رحيمة» ابنة «أفرايم ابن يوسف» (١). ومزاره فى قرية «چوان». وما زال قائما حتى يومنا الحاضر. ولو ابتلي انسان بأي مرض جلدى واغتسل فى نبع النبى أيوب الواقع فى قرية «سعدون» فإنه يعافى بعون الله وتلتئم كل جروحه.

فى الصباح الباكر ، وفد مشايخ العرب على الباشا ، وأخبروه قائلين : [يا معالى الوزير .. خذ معك ما يلزمك من الظهيرة والمؤن فقط ، وما تبقى سوف نلحق بكم به فى «معن» أو «المدينة». تحركوا عندما تسكن العاصفة] ،. كما جاء تركمان مرعش (٢) وعينتاب (٣) وقالوا .. [يا صاحب العزة والدولة .. لقد تجولنا في النواحي المحيطة بنا ، وهناك مكان أخضر تفوح منه رائحة العشب ويقع على نفس طريقنا .. فلو شئتم فانتقلوا إلى هنالك وإن شاء الله سيزداد الجو تحسنا وجمالا ..].

على الفور ، أصدر الباشا أوامره إلى جميع الحجاج الذين جمعوا حوالى سبعة آلاف جمل ، وتحركوا. وفى خضم الوحل ، وآلاف المشاكل ، والبلايا ، قطعنا المسافة ـ التى كان من الممكن قطعها في ساعة واحدة ـ في أربع ساعات. وقد نفق كثير من الجمال فى الوحل ، كما بقى فيه عدد آخر ؛ لم تكن جمال الشام لتتحمل هذا الوحل قط. بل إن جمال التركمان الرومية هى التى تحملته وتغلبت عليه وكذا جمال العجم ؛ ذات الطبيعة الطاووسية ، قد نجحت هى الأخرى فى نقل متاعنا.

__________________

(١) أفرايم بن يوسف : ـ أفرام بن يوسف

ولد فى نصيبين سنة ٣٠٦ وتوفي فى أدسه ـ اورفه سنة ٣٧٣ م رحل دين سرياني ، وكاتب ـ قبض عليه من قبل بطارقة مدينة نصيبين لنشاطه الديني. سنة ٣٦٣ م. ثم هاجر إلى أدسه ـ اورفه ، وأسس بها مدرستها. ترجمت أعماله فيما بعد إلى اللغات ؛ اليونانية ، واللاتينية ، والعربية ، والأرمنية ، والسلافية وقام بأبحاث عن الكتاب المقدس ، وأصبح معلما بالكنيسة ، ومعروفا فيما بين السريان كزعيم دينى. خاطب المشاعر بآعماله التى ألفها ، وتعتبر أشعاره من أجمل النماذج فى الشعر العالمى. (المترجم).

أنظر ٨٨.s ، ٤ ـ Buy "K Lugat Ansik.Cclt

(٢) مرعش : من أشهر مدن الآناضول ، ولها مكانة كبيرة فى تاريخ التركمان والأكراد وبها العديد من الأثار الإسلامية التى تعود إلى عصور مختلفة. «المترجم»

(٣) عينتاب : من مدن الأناضول الشهيرة ، وقد منحها مجلس الأمة التركي الكبير لقب غازى فأصبح يطلق عليها غازى عينتاب. وتعتبر المدينة السابعة حاليا من ناحية التعداد فى تركيا المعاصرة .. وهى غنية بآثارها التى تعود إلى مختلف العصور ،. «المترجم»

٨٠