الرّحلة الحجازيّة

أوليا چلبي

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

أوليا چلبي


المترجم: الدكتور الصفصافي أحمد المرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5227-55-3
الصفحات: ٣٠٢

بيت أنس بن مالك :

منزل صغير ، وبدون قبة ، يشكنه خدّام مكة المكرمة.

* * *

بيت عبد مناف :

هو من الجدود الكبار لحضرة صاحب الرسالة ، كما سكنه أيضا جده عبد المطلب ، هو كالجامع ، ولكن ليس له محراب. وقريب منه يوجد

* * *

بيت حضرة الزبير :

هو بيت فى أحد أركانه سبيل ماء.

* * *

بيت حضرة اسماعيل عليه‌السلام :

لقد تملك أبو سفيان أيضا هذا البيت. وفى هذا البيت تزوج حضرة سيدنا إسماعيل من فتاة مكية وعاش فيه. وأنجب فيه الأولاد والأنساب. وكان يطلق على آل مكة آنذاك «قوم جورهم» وقد أتوا أولا من اليمن ، وتمكنوا من مكة. وكانوا قبيلة. ورزق سيدنا إسماعيل بغلام من هذه الفتاة التى تزوج بها منهم. ويطلق على ذريتهم العرب المتعربة. وفى البداية استمع أولاد حضرة سيدنا إسماعيل إلى اللغة العربية ، وأشتهروا بها .. وأشتهرت بينهم .. فقد كان سيدنا إسماعيل ووالده سيدنا الخليل ابراهيم يتكلمون العربية. حتى أن جميع الصحف ، والصحائف المنزلة من جانب الحق سبحانه وتعالى على سيدنا ابراهيم كانت كلها باللسان العربى ، حيث أنها لسان الحق. وقد أنزلت بعض مفرداتها باللسان الفارسي. وبعض المفسرين يقولون أن اللسان الفارسى ، والپارسي ، والغازى هو اللسان العبري. حتى قال تفسير الديلمى. (سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميكائيل عليه

٢٦١

السلام ، هل يقول الله تعالى شيئا بالفارسية ، قال ميكائيل نعم يا محمد .. يقول الله تعالى فى صحف ابراهيم عليه‌السلام .. چه كتم يا اين مشت خاك ستمكاران چنرانكه بيام ام (قال النبى عليه‌السلام) (من طعن حركة الغازى فهو كافر بالله ..). كما يقول بعض المفسرين بأن اللسان الفارسى هو لسان أهل الجنة. وحتى أن مفتى الثقلين كمال باشا زاده أحمد أفندى قال .. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أكثر لسان أهل الجنة العربية والفارسية والدرية) وكان صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام يتكلم الفارسية. ويسمونها أيضا الپارسية ، والغازية .. وهى لسان لطيف ، ونقى .. وهى من اللغات المشتركة مع اللسان العبري فى القدم. ولكن مفرداتها ليست بكثرة ، وبلاغة وفصاحة اللغة العربية. وتنقص الحروف الفارسية ثمانية آحرف عن تلك التى تستخدم فى العربية. ولهذا فإن اللسان الفارسى لا يتمتع بمعجم لغوي كبير كاللسان العربي. والحروف الغير مستعملة فى اللسان الفارسى هم :

(يوق سكز حرف آهل فرسد ديللرنده بيخلاف ثا وحا وصاد وضاد وط وظ وعين وقاف) (١) وتزيد الحروف الفارسية أربعة آحرف هم ال" ا" وال" ثر" وال" چ" وال" ك" ولكن حقا اللسان الفارسي ظريف ولطيف. ولكن آيات القرآن الكريم قد نزلت على اللسان العربي. والفصاحة ، والبلاغة وقفا على أهل مكة واليمن. ولكن ما زال اللسان العبري مستخدما فى بلاد البربر ، وبلاد الفرنج ، وبلاد القرمانق ، وفى ولاية بغه نسكى. وهذه البلاد تقع فى محازاة خط الإستواء داخل مصر. فلقد سكن سيدنا ادريس ، وسيدنا"K ,affak " فى سواد أرض أسوان. وجملة السكان من العرايا ومن ذوى السحنة السمراء. وكلهم يتحدثون باللسان العبري ، وحتى لما بعث لهم سيدناK ,AFFAK. سمع منهم هذا الشعر الذى كلامه كالدرر :

ـ سن بوجيهانه كلمه دكن ، Jaji beriji ـ

ـ مادر رحمه كيرمه دين ، Jolo bend ha jom jebji ـ

__________________

(١) الترجمة : (لا خلاف على أنه لا يوجد ثمانية آحرف فى لغات الفرس الثا ، والحا ، والصاد ، والضاد ، والطاء ، والظاء ، والعين والقاف).

٢٦٢

ـ عرش وكرسى اولنمه دن ، Haba Jijem Sem jibji ـ

ـ اولدى نصيب يازدى قلم ، S ,at jesim jet jibji ـ

ـ حام باباسى نوحه طوفان ، Ham jud johuj dujba ـ

ـ اولدى عذاب بولدى آمان ، Besat surab jedi jujiba ـ

ـ نوحه بلي ديه ن لسان ، Hoj rivaji zis nida ـ

ـ قورتولديلر قورتولديلر ..» (١) Felaj riba Felariya ـ

وألفاظ هذه المقولة مستخدمة ، ومنتشرة فى ولاية طومطوراق فى مدن دونقلا ، وسنّاره ، وقفّان وفى مدينة رمپلث الجمال وكلها مدن فى بلاد البرير. ولكن غوازى مكة المكرمة أيضا يتغنون بهذه الأبيات بصوت عال ، ويرقصون على الدفوف فى حفلات الختان وليالى الزفاف .. وعند سؤال العبد الحقير عن ذلك ، قالوا أنه باللغة العبرية ولكن الناس لا يتكلمونها ، ولا يتعاملون باللسان العبري. وأنهم منذ أيام حضرة سيدنا إسماعيل وأبناءه واللسان العربي هو الذى ذاع ، وأصبح أكثر شيوعا على وجه الأرض ، ولكن أهل مكة كانوا يتحدثون اللغة العبرية كلسان فصيح ، ولذلك فإن جميع البدو والعربان خارج مكة يعتبرون أهل من العرب المتعربة ، وينتمون إلى بنى جرهم. وحضرة صاحب الرسالة قد دعى لأهل مكة ، صبحوا آصحاب ملك ، وتجارة .. ولكنهم آصحاب قناعة. ولقد تفضل حضرة كعب الأحبار فقال عن أهل الحجاز (قال خلق الله القناعة بالحجاز فقالت القناعة أنا معك) وفى الحقيقة ، وحسب ما رأيت من أحوالهم ، فهم فى كمال القناعة. ومنبع ثراءهم من تجارتهم ، ومما يغدق عليهم من الصرة ، والهبات السلطانية ، فقد بنوا فى مكة

__________________

(١) الترجمة : (قبل أن تأتي أنت إلى هذا العالم وقبل أن تدخل إلى رحم الأم وقبل أن يكون الكرسي والعرش شاء القدر وكتب القلم وصار الطوفان لنوح والدحام ولما صار العذاب ، وجد الآمان وقال اللسان لنوح «بلى» لقد أنقذوا .. لقد نجوا)

٢٦٣

ومنى المبانى الفخمة ذات الأدوار العالية ؛ الدور فوق الدور. بحيث لا يوجد مثيل لها حتى فى المدن الكبيرة. وقد تمكنا من زيارة العديد من هذه المبانى ، وشاهدنا ما لا يقل عن مائة وست وأربعين بيتا شريفا مما سبق الحديث عنها .. وقد صلينا فى بعضها ركعتين لله .. وقرأنا فيما دخلناه الفاتحة على ارواح الصحابة الكرام .. ووهبنا ثواب ما قرأنا مما تيسر من القرآن على آرواح السلف الصالح ، ولقاء ما تيسر لنا من المعرفة ، والعلم .. ونتوسل إلى الله بالرجاء وحسن القبول.

إن كل البيوت ، والخانات ، والمساجد ، والنكايا ، والقصور الخاصة بالأمراء ، والآغنياء ، والتجار ، ومتوسطى الحال ، وحتى الفقراء منهم والتى تقع داخل مدينة مكة كلها مدهونة بالجير الأبيض ، مما يضفى على المدينة كلها رونقا ، وجمالا .. ويزيد من بهاء الشكل إلى جانب بهاء الروح ... وعدا ما ذكر من البيوت ، والمساجد ، والقصور ، وسرايات الأشراف والأمراء ؛ فإن هناك داخل مدينة مكة مائة وست وسبعين مدرسة ؛ وكلها تحيط بالحرم الشريف من جهاته الأربع ...

* * *

٢٦٤

أوصاف مدارس مدينة مكة

جميع المدارس مباني عالية .. وحول الحرم وحده ؛ وعلى جوانبه الأربعة يوجد أربعون مدرسة عظيمة ، أولهم مدرسة باب السلام ، ومدرسة السلطان قايتباى ، والمدارس الأربع من مآثر السلطان سليمان خان .. والمدرسة السليمية ، والمدرسة المرادية والمدرسة المحمودية ، والمدرسة الخاصكية ، والمدرسة البرقوقية ، والمدرسة الفرجية ، والمدرسة الغورية ، ومدرسة باب زياد ، والمدرسة الداوودية ، والمدرسة الإبراهيمية ، والمدرسة الباسطية والمدرسة العمرية ، والمدرسة الأم هانية ، ومدرسة أمير الحج ، ومدرسة السقاباشى ـ رئيس السقائين ، ومدرسة أمين الصرة ، ومدرسة شيخ الحرم ، ومدرسة صوقوللى محمد پاشا ، ومدرسة سنان پاشا ، وجميع هذه المدارس من مآثر المعمارى القدير سنان باشا الذى ظهر فى عصر السلطان سليمان خان ، ومن مبانيه المعمارية الرائعة .. وفى مواسم ، الحج يقيم حجاج المسلمين فى هذه المدارس ، ويكون للمدرسين والطلبة والبوابين وظائف معينة .. فيقومون بالإرشاد ، وتأجير الشماسى. وداخل مدينة الكعبة ثمان وسبعين تكية خاصة بالمشايخ الكبار. تكون جميعها مشحونة بالضيوف والمجاورين ، ولكن آعلاها مقاما ، وأروعها هى آعتاب حضرة مولانا (١) فهى وكأنها جنة إرم ، فهى دار للمولوية. كما أنها مكان مريح لمن يريد السماع وملجأ لذوى الحاجات والفقراء. مليئة بالورود ، والمقصورات البديعة ، والنافورات وآحواض المياه ، والأسبلة ، ومزدانه بالسلسبيلات. وجميع ظرفاء مكة ، وآرباب المعارف فيها ، والآدباء يجتمعون فيها .. ويقضون فيها وقتا جميلا ، فى صفاء نفسي ، وسكينة روحانية. ويؤدون آيين ومراسم المولوية فى هدوء ، وسعادة. وقد قام الدرويش محمد هندى اللاهورى ببناء هذه العتبة الطيبة من أمواله الخاصة. وقد أصبح هو شيخها بإجازة من الشيخ مولانا زاده محمد أفندى فى قونيه. ولكن فى وقت رحلتنا فقد كان الواعظ ، والناصح هو غمجى على آغا زاده فرهاد چلبي ، وكان شيخا للسجادة. وقد أكمل مع قراءة القرآن المثنوى المعنوي الذى يعتبر تفسيرا للقرآن ، وبه أكمل سائر الفنون ، هو عالم متصوف ،

__________________

(١) يقصد مولانا جلال الدين الرومى صاحب الطريقة المولوية انظر هامشه. «المترجم»

٢٦٥

غواص فى بحر المعارف. وذات شريفة. وحتى عند ما وصل سردارنا ـ قائدنا العظيم ولي نعمتى حسين باشا بعساكره الذين هم كالبحر المتلاطم إلى مدينة مكة المكرمة ، فإن الشيخ المذكور قد دعى القائد العظيم إلى استراحة ـ منامة المولوية. وقد مكث بها مع جملة خدمه الخاص. وخارج التكية كانت تقام الخيام المريحة وكان سائر الحجاج ، والعساكر أيضا يقيمون فى الخيام المنصوبة ، ويظلون فى وادى أبطح عشرين يوما ، وعشرين ليلة .. ويظلون فى صحبة ، وضيافة ، ومحبة الشيخ المذكور. وتكية المولوية تكية معمورة جدا ، تكية عشّاق ، مجمع آهل العرفان .. غاية فى الإنشراح .. هى تكية درويش العالم. وفى مقدمة السوق المصرى ، وبجوار دار مرق ـ «المطعم» الخاصكية ، نجد آعتاب الشيخ عبد القادر الجيلانى .. تكية عظيمة ، ومبنى متين. نعمها مبذولة على الغائد والرائح .. وبالقرب من السوق الشامي توجد تكية الشيخ على ، وتكية بابا خراساني .. وتكية جلال الدين أكبر أحد سلاطين الهند .. وهى تكية معمورة ، تسير على نهج الطريقة القادرية .. يسكنها سائر فقراء الهند. وهناك تكية حسن الراعي وتكية السيد أحمد البدوى ، وتكية بهاء الدين النقشبندي .. وتكية ابراهيم الدسوقى ، وتكية حاجى بكتاش ولى ، وعلى الناحية الشمالية على قمة جبل أبى قبيس العالية نجد تكية الشيخ اسماعيل الجلوتى ، وقد سبق تحرير آوصافها ... وهى تكية رائعة ، نموذج فريد لتصوير معالم العالم ، هى عتبة جميلة ، تملئ الزائر بالهدوء والسكينة .. وقد كانت تكية الشيخ الجلوتى منزلا ، أو دارا شريفة ، للمرحوم الإمام حسن .. وما زال على قيد الحياة ، وقد تشرفت بالصحبة معه ، وتوسلت بهم فى الدعاء ، وقد قام سعادة الشيخ عبد الرحمن المغربي بتحويل منزله الشريف إلى تكية ؛ وهو صاحب علم وكرامة فى المذهب المالكي ، ومرشد حصيف كثير المريدين ، عالم عامل .. ورجل كامل الخلق .. كذلك فى المدينة المباركة ثلاث وخمسين وكالة تجارية كل واحدة منها كالقلعة المنيفة ؛ أدوارها متعددة .. ويسمونها كل واحدة منها مكونة من مائة أو مائتين محلا ، أو دكانا ، وحجاج وتجار الآقاليم السبعة يقومون بالعمل كمرشدين فى هذه الوكالات وتجد فيها جميع المجوهرات من شتى أنحاء العالم. وبآسعار معقولة ويتم فيها البيع والشراء فى يسر وسهولة .. وأهم هذه الوكالات وكالة الشام ، ووكالة

٢٦٦

حلب ، ووكالة العراق ، ووكالة الهند ، ووكالة اليمن ، والوكالة الحبشية ، والوكالة المصرية ، ووكالة جده .. وعدا هذه الخانات الكبرى ، هناك مئات من الخانات ، والد كاكين والمحلات الآخرى .. ويقوم آصحابها فى مواسم الحج بإيجارها .. وفى مواسم الحج يتم فيها البيع والشراء.

* * *

٢٦٧
٢٦٨

آوصاف العمارات الخيرية فى

مكة المكرمة ، وعيون المياه والأسبلة

الموجودة فى مدينة الميعاد أي مكة المكرمة

ليكن معلوما للإخوة الذين يتحلون برداء الوفاء أن مدينة مكة المكرمة أرض يابسه محصورة بين سبعة جبال صخرية ، ولهذا فليس من الممكن أن يكون آهالى مكة من أصحاب الثراء اعتمادا على مقومات الأرض ذاتها .. وما أن تنتهى مراسم الحج حتى يعود الحجاج كل إلى وطنه. وحتى فى زمن خلافة سيدنا عمر رضى الله عنه ، بعد أداء الحج جعل المنادين ينادون فى الناس ، لمن يريد أن يكون مجاورا فى المدينة المقدسة لا بد وأن يكون له نفع للمدينة. ولذلك فإن كثير من الحجاج من شتى الدول لم يقم في المدينة .. ولم يتمكن أحد من ذلك إلا فى زمن خلافة هارون الرشيد ـ من العباسيين ـ فإن الكثيرين من أهل بيت زبيدة زوجته ، بعد أن أتموا فريضة الحج ظلوا بالمدينة وظلوا مع عساكرهم مجاورين بها .. وكانت هناك عيون جارية ، فى الجبل المحصور بين جبل عباس ، وجبل أبطح ، ويقع فيما بين فى الجهة الشرقية والشمالية من جبل عرفات ، ويسمونه جبل مهيب .. وكانت تكثر فيه العيون الجارية ، فأجرت منه السيدة زبيدة المياه ، بعد أن قام الكثير من أمهر العمال ، والفرهاديين (١) بحفر الأنفاق والوديان ، ونقب الجبل ، فجرت فيه العيون الكثيره ، وبحيث تتجمع فى مكان واحد ، وبناءا على علم الهندسة ، جمّعت المياه فى هذا المنخفض ، ثم أجريت عبر العديد من الممرات حتى وصلت إلى جبل عرفات. وهناك بنوا بركتين عظيمتين لتجميع المياه .. وأجروا منهما المياه إلى جميع مشاعر الحرم وبالقرب من منى أقاموا بركة كبيرة أيضا .. ومياهها تجرى داخل سوق منى ، عابرة من المكان المسمى «مسجد البيعة». وأحدثوا فى الأبطح بركتين كبيرتين. وإلى جانب مياههما الجارية ، أقاموا أيضا داخل مدينة مكة بركتين عظيمتين. ومليئتا هما أيضا بالمياه .. هذه العيون تجرى مياهها العذبة الزلال داخل مدينة مكة ، وتدفع عطش أهل مكة

__________________

(١) الفرهاديين : نسبة إلى فرهاد صاحب الأسطورة الفارسية المشهوره باسم «فرهاد وشيرين». والتى حفر فيها فرهاد ممرا فى الجبل لكي يسير فيه اللبن لتشرب منه المحبوبة ، ولما انتهى منه علم بخبر زواج المحبوبة ، فألقى بالفأس الذى كان يحفر به الجبل إلى أعلى ، فسقط فوق رأسه ومات شهيد الحب» ، المترجم

٢٦٩

ويطلقون عليها «عيون زبيدة» .. ومن هذه العيون عمّرت مكة وأصبحت وكأنها مدينة تقع على نهر .. وأصبحت يانعة عامرة (عمرها الله إلى انقراض الدوران).

وقد يتبادر إلى الذهن سؤال ، أو يسأل سائل .. بينما تجرى مياه زمزم داخل مدينة مكة ، فكيف يعانى آهاليها من نقص المياه ..؟ والواضح على الفور أن ماء زمزم يدفع العطش ، ومن يشرب منه مرة تكفيه لمدة أربع وعشرين ساعة .. ولكن للأغراض الأخرى كسائر الحمامات والتطهر ، فإن استعمال ماء زمزم فى ذلك ممنوع تماما .. لإنه يستخدم من أجل الإستشفاء ولا تجوز به الطهاره ، لدرجة أن المكيين يشتمون بالشتائم المغلظة واحد من ولاية قره مان ، ويسمى ناطراش القره مانى لأنه تطهر بماء زمزم ويلقبونه بالقره إيمانى ـ «أي ذو الإيمان الأسور». ولذلك فإن طائفة الأتراك مزمومة جدا فى نظر آهل مكة.

وعدا ذلك ، ومن خيرات السيدة زبيدة أيضا ، أن هناك قرية تسمى جده على الطريق فيما بين مكة ومدينة جدة ، أوصلت من عيون المياه الجارية فيها ؛ المياه إلى بندر جدة ، بواسطة الجداول والمواسير مما ساعد على إعمار مدينة جده أيضا ..

ولكن بمرور الزمن ، والإهمال خرّبت مجارى هذه الخيرات .. وعند ما كان يمر من هذه المناطق بعض ملوك الدول وسلاطينها ، كان الأهالى يتضرعون إلى الله وسائلين هؤلاء النجدة ، فقام السلطان سليم خان عليه الرحمة والغفران بصرف الكثير من المال من خزينة مصر ، وأمر بترميمها ، وتنظيفها ، وتعميرها حتى عاد إليها العمران ، ودفع بذلك أيضا عطش حجاج بيت الله الحرام .. والجميع يذكر صاحب الخيرات بالدعاء له ، وطلب الغفران. ومن المقرر والواضح أن الكثير من العمارات ، والمباني ، والخانات ، والقصور ، والسرايات العالية أن بكل منها سبيل ماء .. وكل الأسبلة مزدانة ، ومنقوشة ، ومهتّم بها. وسبيل «فيزلر آغاسى» من الأسبلة الرائعة ، البديعة البنيان ، له قبة عاليه مزخرفة. على جوانبه الأربعة ترى الزخارف ، والنقوش البديعة ؛ وكأنه قصر من قصور الصين العجيبة. وعليه تأريخ مكتوب بالخط الجلي المذهب ولكن من شدة الزحام لم أتمكن من القراءة ، والتسجيل. ويتصل بهذا السبيل عشرون عينا ، تتدفق من صنابيرها المياه ، فتمنح الحياة والنماء من حولها ، وجميع المياه تجرى إليها من «نهر عرفات». وداخل السوق السلطاني تقع قرية ، تجرى

٢٧٠

فيها المياه. ومن الثابت أن عيون المياه ، وينابيع الحياة التى تجرى فى كل الخانات ، والحمامات ، والمساجد ، والأسبلة ، والبرك كلها من خيرات السلطان سليمان خان .. كما أن خيرات المعمار سنان ، وصوقوللى محمد پاشا ، وخاصكية سلطان ، وسائر السلف الصالح من الملوك والسلاطين تمتد ، وتنتشر فيما بين مكة وعرفات ؛ وأن جميع هذه العيون ، والأسبلة ، والينابيع تستمد مياهها من نهر عرفات.

وبالقرب من جبل عمر هناك چشم ـ عين ـ سبيل السلطان سليمان خان. ينزل إليه بسلالم مكونة من ثلاثين سلّمة حجرية. عين فيها الماء سلسبيلا ولكنها خربت بمرور الآيام. وفى حوالى سبعين مكانا من السرايات والقصور العالية آبار ، وعيون ذات صهاريج تستقى مياهها من العيون السابقة ، وكلها مبذولة المياه فى أوقات الحر والقيظ. ومياهها عذبة صالحة للشرب. وفى سبعمائة دار من دور مكة وخاناتها آبار مياه عذبة تمنح الحياة لطالبيها .. لأن مدينة مكة تقع فى واد غير ذى زرع إلا أن مياهها بهذه العيون والأسبلة ، والأبار كثيرة .. ولكنها جميعها ليست عذبة ولذيذة. وكان من الممكن أن تغمر المدينة كلها بمياه زمزم العذبة اللذيذة .. ولكن لحكمة إلاهية ، فإن لكل بئر ، وعين منها طعمه الخاص به ، وجعل لبئر زمزم خاصيته ، وميزته الخاصة به حتى يجعله معجزة سيدنا اسماعيل ؛ فلا مثيل لماء زمزم فى خواصه ، وأوصافه .. وعيون كل المسلمين معلقة به.

إن داخل مدينة مكة يحتوى على بركتين عظيمتين .. وكل واحدة منهما وكأنها خليج متلاطم الأمواج .. يستقى منهما ـ لآلاف المرات ـ آهل مكة ، وحجاجها السبعين ألفا ، ومئات الألاف من دوابها الكثيرة .. أحدهما هى البركة المصرية ومحيطها ثمانى مائة خطوة ، وعمقها ثمانية باعات. أما البركة الشامية ؛ فمحيطها خمسمائة خطوة ، وبعمق إثنين وعشرين ذراعا. وفي ناحيتها الشمالية ، بستان نخل طيب ، ينتهى ببناء لطيف ، ويجعل منه وكأنه منتزه ظريف يستحب السير ، والتنزه فيه. كما أن به أشجارا لا شبيه لها .. وفيما بين البركة المصرية ، والبركة الشامية هاتين يوجد أربعون مقهى .. وكل واحدة منها مشحونة بخلائق البشر ، ففى كل واحدة ما لا يقل عن ألف أو ألفين من الفلاحين .. ولكن هذه المقاهى ليست أبنية مصنّعة ، بل هى مبانى عادية .. مبنية من الآخشاب كالاكواخ ، ومفروشة

٢٧١

بحصير من عسف النخل .. وعدا هذه المقاهى العادية ، فإن هناك سبعون مقهى آخرى أنيقة ، ومزدانة بالزخارف ، والنقوش .. وهذه المقاهى الآخيرة معمورة .. فى بعضها بعض الرواة والقصاصين ، وفى بعضها عدد من المداحين ، والشعراء ، والمطربين ، وفى البعض الأخر بعض من المقرئيين والسّمار .. وفى البعض الأخر بعض من الغوازى السمر ، البكر ، المحففين ، والبعض الأخر مكتظ بالجاريات الحبشيات. هذه المقاهى تقدم أشربة كالشاى ، والقهوة ، والسحلب ، ولبن ، ومأكولات حلوة ؛ مثل المهلبية .. وبعض الأشربة والمأكولات الخفيفة الأخرى. وتقدم فى فناجين خطائية ، وفاغفورية. وفى مكة المكرمة المقاهى هذه هى مجمع العرفان والأدب.

* * *

٢٧٢

آوصاف الأسواق المزينة :

جملة الدكاكين الموجودة فى داخل مدينة مكة المكرمة ألف وثلاثمائة دكانا .. وكما سبق وأن ذكرنا فقد تزينت كلها بمناسبة اجلاس الشريف بركات. كما تزينت كل الأسواق السلطانية ـ «الرئيسية» لهذه المناسبة. وما زالت أماكن هذه الأسواق تكون عامرة فى مواسم الحج ، فكل ما يخطر على البال ، أو يأتى إلي العقل تجده فى هذه الأسواق ، فمن المجوهرات الثمينة ، والأحجار الكريمة ، والسجاد الحريرى ، والأقمشة الفاخرة التى تأتي من اقاليم الدنيا السبعة تجدها هنا معروضة للبيع ، والشراء.

السمة العامة فى الأسواق أن البائع والمشترى يضعون أيديهم فى بعضها البعض ، ويبدأون فى البيع ، والشراء ، والمساومة. ولا يسمعون فردا آخرا بما يتحدثون فيه ..

كما أن هناك فى مكة المكرمة أسواق متخصصة ، فإلى جانب السوق المصرى الذى تباع وتشترى فيه المنتجات المصرية ، والسوق الشامى ، والسوق اليمنى ، والسوق العراقي .. والسوق الهندى .. فإن هناك أسواق مجمعة حسب النوع ؛ فهناك سوق الحبوب التى تأتي من مصر والشام ، واليمن ، وسواكن ، ودهلك ، وزيلع. ولكن هذه الحبوب لا تأتي فى مواسمها. وجميع الأسواق نظيفة ، وطاهرة. وطعامها نظيف ، وجميع أطعمتها. وأشربتها ممدوحة ، وتلبى مختلف الاحتياجات ، والأذواق. كما أن بها بعض الأطعمة الخاصة بآقاليم معينة.

ولما كان سيدنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لديه ميل لآكل الهريسة ، فلهذا تكثر الدكاكين التى تقدم هذا الطعام تبركا به ، واقتداءا بما كان يقوم به عليه الصلاة والسلام. وهذا النوع من الطعام توجد عائلات تتوارث طبخه أبنا عن آب ، وأبا عن جد. وسيد الأطعمة هى الهريسة. والذين يروجون لها يستشهدون بآحاديث شريفة بهذا الصدد. وفعلا فإن هذا الطعام لذيذ ، ومقوي ، وسريع الهضم.

وتمتلئ الأسواق بشتى أنواع الفاكهة ، وإن كان أكثرها رواجا هو البطيخ .. وتأتى جميع الفواكه من الشام ومن مدينة عباس ، وتصل خلال يومين. وبطيخ ، وشمام ، وخوخ مدينة عباس لذيذ ومشهور كما يأتي إلى مكان الأسواق فى مكة الكثير من

٢٧٣

الفواكة التى تأتى من الطائف كالعنب ، والرومان .. ويشتهر البلح ، والتمور فى آسواق مكة ، وتتعدد مصادره. كما أن بعض حدائق مكة ؛ كالتى فى المعلا والأبطح ينزل بعض من فواكهها وخضرواتها إلى أسواق مكة. وداخل مدينة مكة خمسة عشر بستانا ، معظم حاصلاتها من البلح والتمر ، والليمون واللارنج والنبق ، والعنّاب. ولما كانت معظم هذه البساتين في قصور ، وخانات الأشراف فيكثر فيها الصحبة ، وجلسات الأدب ، والسمر. عدا سبعين حديقة آخرى أو ثمانين وكلها بساتين ومزارع نخيل. وأجمل ما فى هذه الحدائق ، والرياض والبساتين شجر النبق .. والنباتات العطرية مثل الورد بشتى أنواعه ، والنسرين والبنفسج ، والرياحين المختلفة ، والهندباء. وعطور نبات الهندباء ـ عشب القاضى وماء الورد ، وماء البخور لا مثيل لها فى الربع المسكون من العالم.

* * *

آوصاف حمامات مكة المكرمة :

يوجد فى داخل مدينة مكة المكرمة حمامات عامة ، وخاصة. وأجملها قاطبة الحمام الذى أقامه صوقوللى محمد باشا فى الحي الذى يحمل اسمه ، وهو بناء لطيف ، غاية فى الإبداع المعماري ، وهواءه نظيف ، مفروش بالرخام بالكامل ، وبه نقوش وزخارف بديعة. وهناك حمام آخر بديع ولطيف ، وهو من خيرات سنان باشا فاتح اليمن ؛ وهذا الحمام ثماني الأضلاع ، ومضيء ، ونظيف. عدا هذين الحمامين الكبار ، فإن هناك مائة وخمسة وأربعين حماما فى القصور والسرايات الخاصة بالأشراف وهى خاصة بأهل البيت ، وعياله .. ولا يدخلها عامة الناس ، ولا يستحم فيها آهالى الحي. بل هى وقف على الأهل والآقارب. وهناك من العمالة من يقومون بكنس الشوارع الرئيسية ، وتنظيفها .. ويرشون أمام الحمامات ويحرقون مخلفاتها .. ولكثرة هذه الحمامات .. فقد انعكس ذلك على كل آهالى مكة ؛ فمظهرهم جميعا لائقا ، نظيفا .. وكأنهم ليسوا من بنى البشر ، حقا ، إنهم يستحقون الإنتساب إلي رسول بنى البشر ، فوجوههم جميعا تتسم بالبشر ، وتعلوها الإبتسامة.

* * *

٢٧٤

مدح أهل مكة ، وأشكال السادات الكرام سكان بكة :

ليس بخاف على أهل العقول ، أن آق شمس الدين زاده حمدي چلبي فى كتابه المسمى (قيافتنامه) قد كتب عن أهل مكة يقول أن شمائل وصفات أهل مكة أنهم سمر البشرة ، وبعضهم احمر اللون ـ آشقر ، وبعضهم أسمر الوجه ، والمكيات غزلانية العيون حلوة الطبع ، ذات عينان حلوتان .. صبوحة الوجه ، بسّامة الثغر ، وضّاءة الجبين .. تصرفاتها تدل على أنها تصرفات الحسيب النسيب الذى ينتسب إلى آل هاشم .. ولكن بسبب شدة الحرارة ، والماء والهواء ؛ فإن آهل مكة نحاف البنية الجسدية ، ضعفاء .. ولذلك فهم ليسوا من أهل الحرف ، وليست لديهم القدرة على الآعمال الثقيلة ، أو المهن التى تطلب جهدا عضليا كبيرا. فهم يفضلون مهنة التجارة ، والبعض منهم يكتفى بالتعيّش على الصرة ، والعطايا السلطانية .. ولما كان آغلب سكان مكة من ذوى الطبيعة السوداوية ، فلذلك هم لا يأتلفون بسرعة مع الآهالى الوافدين للحج والزيارة ، بل يستخدمون الكلمات والعبارات الجافة ، فى البيع والشراء ، وتصدر عنهم عبارات يستشف منها الغضب ، والحدة .. ومن السنة المتبعة فيما بينهم أن المشترى لأى سلعة أو متاع ما لا بد وأن يسأل عن سعرها .. فإن قال التاجر مثلا بعشرة قروش. فإن قال المشترى بثمانية قروش ، فعلى الفور يغضب التاجر المكي. ويرفع السعر عن الثمن الذى قاله أول الأمر .. ولكن فيما بينهم ، فإنهم يتصافحون .. ويتساومون بالإشارات المعهودة فيما بينهم ، وبدون أي كلام كالإشراقيين ، ويتبايعون على الفور بالسعر الذى قيل فيما بينهم ، أول الأمر ، فهم لا يحبون الفصال والمساومة فيما بينهم ، إنهم حقا ، يتورعون عن الحرام ، يتسمون بالنظافة ، والطهارة ـ فجملتهم من العرق الطاهر ..

وقد حدث فى عصر قايتباى سلطان مصر ، وبسبب حركة عصيان ، قام قايتباى بإرسال إثني عشر ألفا من الفرسان ، وهاجم مكة على حين غفلة ، وقبض على سائر الأشراف ، ونفى الكثيرين منهم خارج البلاد ، وقبض على سبعة من الأشراف والسادات المكيين .. وأخذ العهد والميثاق من كل أهل مكة .. وجعل التجار ، ومن لم يتدخل فى العصيان يتعمم بعمامة بيضاء. وأن يركب الأشراف الذين شاركوا فى العصيان خيولا لا ذنب ولا ذيل لها .. وأن يركبون الخيل وهم حفاة الأقدام ..

٢٧٥

وما زالوا على هذا العهد والآمان .. ولكن بمرور الزمان عاد الآشراف إلى مكة وسكنوها وامتلئت بهم. ولكنهم لا يتعممون على الإطلاق بالعمائم الخضراء مثل الزمن السابق .. ولكنهم يرتدون الملابس المصنوعة من أفخر الأقمشة الهندية .. والجبب المصنوعة من الصوف المختلف الأنواع. كما أن البعض منهم ، ومنهن يستعملون الشيلان الهندية والكشميرية ، واللاهورية الفاخرة. وتصلهم هذه من الصرة الهندية التى تفوق فى قيمتها ما يصلهم من صرة آل عثمان. ولكن غلال آل عثمان تفوق سواها .. الجميع يرتدى السروال ، والبدو يرتدون القمصان ـ «الجلباب». النسوة يرتدين الياشمك ويضعن على صدورهن الشال بشكل دائم .. وكسنة محببة منذ رسول الله فهن يكحلن عيونهن ، وكذا الرجال ، ويخصبون اللحى ، والأيادى ، والأقدام بالحناء .. ولا يتناولون الطعام الزفر ، فهم يفضلون القهوة. والفول ، والزيتون ، والتمور ، والحلوى ، والخوشاب ، والأرز والحساء. والشوربة ، وفى العادة يبتعدون عن الأطعمة الدسمة ، لأن الجو الحار تصعب عملية الهضم. ولبعدهم عن هذه الأطعمة الدسمة ، فهم أقوياء ، حتى وإن بدت عليهم النحافة ، .. ولذلك لا نرى أطباء فى مدينة مكة ، ولو أتى إليها طبيب فإنه لا يستقر بها لعدم الكسب ، وقلة الدخل .. وفورا يغيّر الديار .. وبسبب هذا الحر ، فإن آهل مكة يصومون أيضا ستة أشهر عن الجماع .. وهناك وادي يسمى وادى عباس .. هو شبه مصيف يذهبون إليه يوما ، ولا يوقدون فيه نارا .. ومن هم تجار .. وبعض الأثرياء ، وعلية القوم على المذهب الشافعى ، وبعضهم على المذهب اليزيدى أو الزيدى .. وفيه نكاح المتعة جائز .. وهو أن يتزوج الرجل نظير مبلغ معين ، ولفترة محددة ، إذا كانت هناك أسباب تدعوه لذلك. وكان هذا فى مكة منذ الزمن القديم .. ولذلك كان أهل يقدحون أي يزمون لهذا السبب ، ولكن فى العصر الراهن .. لم يقف العبد الحقير على مثل هذه الأحوال .. بل كانت كلها أقوال .. وافتراء على أهل مكة .. بل هم أصحاب مذاهب ملتزمة ، وطاهرة. وصبيانهم ، وأطفالهم فى غاية الأدب ، والذكاء ، والنجابة.

إن أهل مكة لا يحبون مجاورة المجاورين من الروم ، وأن أهل بلاد الروم يجدون الذوق والصفاء فى المدينة المنورة ، حيث أن أغلبهم يسكنونها .. كما أن الأشراف

٢٧٦

ليست لهم سطوة أو نفوذ على المدينة مثلما هو الحال فى مكة المكرمة. كما أن تراب مكة طاهر ، ونظيف ، ولطيف .. أليس مخلوطا بماء زمزم. إنه تراب التونيا ، الذى يفوق العنبر فى طهارته وفواح رائحته.

* * *

آوصاف نساء مكة المكرمة :

إن نساء مكة الطاهرة ، يتمتعن بجمال ، ولطافة ، وخفة روح ما يجعلهن كحوريات الجنة. هن ملائكيات المظهر ، على سماههن ملاحة البشر ، ما يجعلهن يتبخترن كالطاووس فى حدائق الجمال ، طاهرات ، عفيفات .. جميلات المظهر ، والمخبر .. تنطبق عليهن الآية الكريمة (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ..). وأن هذه الآية الكريمة قد نزلت فى حق نساء مكة .. هن مصدر بنى آدم. يتدثرن بالملابس الحريرية طاقما فوق طاقم .. وهى ملابس فاخرة ... مغرمات بالحلي ، والجواهر .. على رؤوسهن طواقى من الذهب الخالص ، أو من الفضة النقية. وبعضهن يفضلنها مشغوله ، ومطرزة فقط بالقشيب ، والقصب .. يغطون رؤوسهن بالأغطية الحريرية السوداء .. وعلى وجوههن يضعن النقاب والبراقع .. ويصبغن شفاههن بألوان متناسقة مع ألوان الأقمشة الحريرية .. وهن حريصات على ستر وجوههن .. ولا يرى فيهن سوى العينان المكحولتان .. هن بإختصار سيدات ، ونساء مستورات. ولكن لهن جاريات حبشيات .. الواحدة منهن فى سمرة العنبر الخام .. وهناك الغوازى السمراوات التى يحتار اللسان فى وصف الواحدة منهن .. والبعض منهن يمارسن الرقص على الملئ ، أمام كل الناس .. وهن مشهورات ، ولهن أسماء معروفة فى بلاد الجزيرة كلها. وهذا ليس عيبا .. يتعطرن بأجود أنواع العطر الفوّاح .. وما أن تمر إحداهن بالقرب من الرجل حتى ينفذ العطر إلى آعماق دماغه.

وذات يوم وكنت أنا العبد الحقير متوجها لزيارة دار الشورى الخاصة بأبى سفيان ، صادفت إحدى السيدات من اولئك اللائي يقمن الأّفراح ، وكان حفل عرس وزفاف .. كانت غارقة فى الزينة والبهرجة وقد أتتنى روائحها من على بعد خطوات بعيدة وتعطر دماغى جيدا وأنا على بعد عشر خطوات على الأقل .. كانت العروس

٢٧٧

تسيرو يسير من خلفها ما لا يقل عن خمسمائة فتى وفتاة فى سن الكتاب .. يرددون كلمة أمين .. أمين فقط .. حتى أوصلوها إلى المكان والمحل المقصود.

* * *

آوصاف مكاتب كتاتيب الصبيان فى مكة :

يوجد فى مكة مائة وخمسين مدرسة للصبيان الذين يدرسون الأبجدية ، ومبادئ القراءة ، وهم فلذة أكباد آباءهم. وقد أنشأ كل ملك ، أو سلطان أو بادشاه من السابقين واحدة أو أكثر من مدارس الصبية هذه .. ولكن لما كانت آوقافها غير قوية .. فقد تم تخصيص لباس فاخر ضمن الصرة ، وعطايا السلطان السنوية لكل استاذ ، وقلفه بحيث تقدم لهم سنة بسنة مع الإحسانات الآخرى.

* * *

آوصاف دور قراءة القرآن العظيم :

توجد دور قراءة القرآن الكريم فى أربعين مكانا بمكة المكرمة ، وكلها تحفظ القرآن ، وتلاوته ، وتجويده ، وقراءته على قراءات حفص وقراءة أبى عمر ، وقراءة ابن كثير ، والقراءات السبع ، والقراءات العشر وقراءة التقريب. وتخصص المخصصات من العطايا ، والجرابة واللحم لشيخ القراء ، وللقراء ، والمعلمين ، والطلبة ، والبوابين ، وكل ذوى المهام ، والوظائف بها.

* * *

آوصاف دار الحديث :

يحتوى أربعون مكانا على دور للحديث بها .. وبها تعقد الدروس العامة ، ويكلف الطلبة كل بوظيفة معينة. ولكن من الملاحظ أن أهل مكة غير مشغولين جدا بطلب العلم ، فجملتهم تجار ، أما علم الحديث ، وعلم الحفظ ؛ فهو خاص ووقف على مصر. والمهتمون بالعلم فى مكة فهم من المجاورين من الروم. وهم المشغولون به.

٢٧٨

أما أهل مكة فليس فيهم هذه الكثرة من المهتمين بالعلم ، والإستماع إليه. ولم يظهر فيهم ، أو بينهم من هم من آصحاب الباع الطويل فى العلم أو طرق العرفان ، أو أهل التوحيد .. أو أصحاب المظان الكبار .. وذلك لأنهم مشغولون بالأبنية ، والأعمال التجارية ، والأبنية العالية أو رق العرفان ، أو أهل التوحيد .. أو أصحاب المظان الكبار .. وذلك لأنهم مشغولون بالأبنية ، والأعمال التجارية ، والأبنية العالية المتعددة الأدوار الموجودة داخل مدينة مكة المكرمة ، غير موجود مثيل لها فى حلب أو الشام أو العراق .. ولكن لها مثيل فى أم الدنيا مصر .. وآهل مكة من الرجال مغرمون بالنساء إلى أبعد حد. وهم آصدقاء لهن .. وهم فى آغلب الآحيان مغلوبين لنساءهن ، وزوجاتهن هن اللائي يصدرن الأوامر ، ومهما كانت هذه الآوامر فهى تنفذ .. وفى كل العصور لم يظهر أهل مكة ميلا إلى الجرأة ، والشجاعة. ولكنهم يهتمون جدا وبشكل مبالغ فيه بمظهرهم ، وبملابسهم ، يحنون آياديهم ، وأرجلهم ، ولحاهم ، ويحرصون على تخصيبها بالحناء. يتجولون بين المقاهى .. يحتسون القهوة بكثرة ، مغرمون بالراحة ، والنوم .. جميع أطعمتهم وأشربتهم يؤمنونها من الآسواق ، ولا يبذلون جهدا فى ذلك فى المنازل .. ولما كانوا مغلوبين على أمرهم فإن نساءهم لا يطبخن شيئا فى الدور والخانات والمنازل .. فالنساء بطيئات فى أعمال المنزل. ولا يعرفن طرق طهى الأطعمة على الإطلاق ، ولا يستطعن غسل الملابس أو تنظيفها ، ولا أعمال الإبرة ، أو الغزل ، والتطريز ، ولا يستطعن كنس ، أو تنظيف منازلهن ، بل يؤمنون لسن كل ذلك من الأسواق ، هم ، وهن من الأقوام المسرفة جدا .. ولكن لما كانوا ، وكن يعرفون الحسابات المالية جيدا فهم يصرفون أموال فرعون. لديهن ميل للإحتشام ، فقد رأون الأباء والآجداد هكذا .. واستمرت حياتهن على هذا المنوال .. ليس المقصود من ذلك هو الذم .. فحاشا .. وكلا .. ولكنه وضع قائم .. ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن أشراف مكة ، ورجالاتها فى حفلات الختان التى يقيمونها لصبيانهم .. فإنهم يقدمون الولائم إلى الحجاج المسلمين ، والتجار ويقدمون فيها الخيرات الكثيرة لكل الزوّار. ومع أن جو مدينة مكة حار ، بل شديد الحرارة ، إلا أن مياه زمزم ، وحرارة مكة قد أفادت نساءها. ولكن فى نفس الوقت جعلتا حيواناتها غير ملحمة ، بل مقددة .. وخاصة حمير المنطقة بسبب عدم وجودها لما تأكله فى وادى فاطمه .. فإنك ترى الصبية يسيرون فى الشوارع ، ويجمعون من على الأرض

٢٧٩

نوايا التمور الملقاة عليها .. ثم توضع هذه النوايا فى الماء لمدة ليلة ، ثم تقدم إلى الحمير .. وبعد أن تأكلها تجد هذه الحمير النحيفة تطلق نهيقها على مقام الساة ـ السيكا.

* * *

آوصاف مدينة مكة ، وبيان دفن موتاها :

إن موقع مدينة مكة فى مناخ الإقليم الثاني ، أي الحار ، وهى تتوسط الكرة الأرضية .. وحسب أفواه الناس إنها فى وسط الدنيا. والحقيقة العلمية هي هكذا. ولقربها من خط الاستواء ، فإن ليلها ونهارها متساويان .. والفرق ربع ساعة فقط. دائمة السطوع نجومها ، وانعكس ذلك على مكة وآهلها .. فالجميع سعيد .. مسرور .. مبتسم الوجه ، يميل الجميع إلى البهجة والحبور .. ولو شعر أي انسان وهو داخل مكة بشئ من التوعك ، أو الإضطراب فما عليه إلا أن يتوجه فورا إلى داخل الحرم الشريف .. وما أن يرى الكعبة المستورة بالستائر الحريرية السوداء ، حتى يزول الإضطراب الذى فى داخل نفسه ، والألم الذى يعتريه ويصير سعيدا ، بهيجا .. ولهذا السبب فإن أهل مكة دائما مسرورون وسعداء ، تعم البهجة ، والبشاشة وجوههم. وحتى عندما صدر الفرمان السلطان بتنصيب الشريف بركات أميرا ـ وقام أفندينا حسين باشا بتنصيبه ، ومنحه الفرمان والنيشان .. قام المنادون على الفور بالنداء فى الناس أن يسعدوا ، ويقيموا الأفراح لمدة ثلاثة أيام .. فزادتهم سعادة .. على سعادة ، وبهجة فوق بهجة. وما أن تمت قراءة الفرمان الذى أصدره السلطان محمد خان الثالث ، حتى أوقدوا القناديل ، والمشاعل .. فزادت مكة نورا على نور .. وسعد كل من هم على أرض مكة من الآحياء ، والآموات.

إن مؤلفا يدعى الفيروز آبادي قد جمع كل أسماء مكة المكرمة ، ومن بين هذه الأسماء ، اسما هو (قرية النمل) .. ولو توفى فتى فيها فإنه يطير فيها أى أن هذا النمل يطير فورا .. ويسير فى كل اتجاه .. ولهذا فإن أهل هذا المتوفى يسرعون باخراجه فورا .. حتى ولو كانت الوفاة فى نصف الليل فإنهم يجهزونه فورا للدفن .. والقاعدة المتبعة فى مكة المكرمة ينادى المنادون ، والنجاب بخبر الوفاة .. فيحضر

٢٨٠