الرّحلة الحجازيّة

أوليا چلبي

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

أوليا چلبي


المترجم: الدكتور الصفصافي أحمد المرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5227-55-3
الصفحات: ٣٠٢

عليّ إذا لاقيت ليلى بخلوة

زيارة بيت الله برجلاى حافيا)

حقا ؛ لو شرب منها الإنسان باعتقاد ، وعقيدة صادقة ، فلا بد من أن يجد فيه الشفاء ؛ لإن مياه زمزم هى معجزة سيدنا اسماعيل. وقد كتب فى ذلك الكثير والكثير من الأقوال ، ولكن القول الفصل هو :

فى وصف طلوع ماء زمزم :

إن سيدنا ابراهيم ، بينما كان إبنه اسماعيل ما زال فى المهد ، انشغل ببعض الأمور ، وترك أمنا السيدة هاجر مع ولدها اسماعيل ، وسافر بتكليف إلهى إلى مكان آخر ، إستبد العطش بسيدنا إسماعيل ، فأخذ يضرب الأرض بقدماه .. بينما أمه تهرول بين الصفا والمروة بحثا عن قطرة ماء. وما أن عادت حتى رأت البلل يبدو تحت قدمي وليدها .. ثم ظهرت عينا ماء تحت قدميه .. ولما رأى «بنى جرهم» وهم من العبرانيين هاتين العينين ، قالوا لهما بالعبرية «Jem Jem» وعرّبت إلى زمزم ولكن القول الأرجح هو أن حضرة اسماعيل ، وهو ما زال فى المهد صبيا ، كان مستريحا فوق الأرض ، فاستغرق فى النوم .. وبينما الآحلام تداعب خلده ، آخذ يلعب برجليه الكريمتين .. وكلما أصطدمت قدماه بالأرض وهو يداعبها .. ظهرت عينا ماء بأمر الله .. وسالت المياه حوله ، وكادت أن تغرقه ، فبدأ اسماعيل فى الصراخ ، والبكاء ، وكانت السيدة هاجر فى هذه الآثناء تهرول بين جبلي الصفا والمروة بحثا عن الماء فلما سمعت الصوت ، هرولت نحو وليدها .. وما أن وصلت .. فماذا رأت ؛ اسماعيل يكاد يغرق فى الماء .. فهرعت لنجدة فلذة كبدها .. وأخذته فى آحضانها .. وحمدت الله آلاف المرات على ظهور الماء .. فشربت آمنا هاجر .. وقالت باللسان العبري بدلا من كلمتى الحمد لله «زمزم». وها هو دعاء أمنا هاجر ، زوجة ابراهيم ، يعنى أم حضرة اسماعيل ؛ وهو باللغة العبرانية :

(حابان حوژايژ ژمژم ژولو بنها ژوم بدژ ژوژ اژلهم ژق ژطژا ژيداژ دوسان فلو اژا حوژ ريواژى).

٢٤١

وأكملت دعائها قائلة :

(ژباش نداژ طوژ مژا ژلم ژلم ژيدايژ قلم ژبا براژ فر فلار ژيبا).

وخلاصة معنى الدعاء العبري .. «يا إلهى امنح الجمال لطائفة النسوة اللائى يشربن منه ، واجعلهن محبوبات ، واشمل برحمتك كل الخلايق العجزة ، وأمنح من يشرب منه من أبنائي تاج النبوة ، واشملنا برحمتك وامنح به الشفاء من كل داء».

حقا .. إن ماء زمزم مفيد جدا لطائفة النسوة ، ويجعلهن محبوبات جدا ، وجملة من يشربن منه يتصفن بحسن الخلق ، والخلق. وهن مشهورات بذلك فى العالم ، ومن يشرب منه ؛ فكأنه تناول من مختلف الأطعمة ، فماء زمزم يدفع الجوع ، كما يذهب العطش ، يقوى الجسد ولقد آحاطت أمنا هاجر جوانبه الأربعة بالتراب ، فصار كالخليج.

ويقول بعض المؤرخين ، أنه عند ما أوحى الله سبحانه وتعالى إلى سيدنا ابراهيم ببناء البيت العتيق .. فكر الخليل أن التراب يلزمه الماء. ولهذا آجرى الله سبحانه وتعالى ماء زمزم بالكيفية السابقة حتى يتمكن الخليل ابراهيم من خلط التراب بالماء ، ويتمكن من البناء. ومن هنا كانت المعانى المتعددة للآية الكريمة (.. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(١). ولتحقيق هذا فى هذه البقعة المقدسة ، آجرى الله سبحانه ماء زمزم ... ويقولون ، والعهدة على الراوي ؛ أن الرسول الكريم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. رحم الله أم اسماعيل لو تركت ماء زمزم لكانت جارية .. وعلى الجانب الأيمن من ماء زمزم ، وبجانب الجدار الخارجي ، يوجد سلم متصل بالبيت الشريف .. وتصل منه إلى مقدمة البيت الشريف .. وجميع الحجاج ، يصعدون منه ، ويدخلون البيت الشريف. وعلى الجانب الأيمن من هذا السلم يوجد باب السلام العتيق.

* * *

__________________

(١) سورة الأنبياء : الاية ٣٠.

٢٤٢

باب السلام العتيق :

إن باب السلام هو الباب القائم فى الحرم الشريف ، ولم تحدث فيه أية توسعات ، وتدور حوله فى الحرم الآعمدة النحاسية التى سبق الحديث عنها. وللآن فإن باب السلام هو قوس عال ، وكأنه كمر إيوان. وهو كقصر بجوار بئر مياه زمزم. وعلى جانب آخر منبر رسول الله ، أما الجانب الأيمن من باب السلام فهو غير متصل بأي مكان. هو عبارة عن كتله من الرخام الأبيض الخام وسط الحرم الشريف ، هو منبر متقن الصنع بحيث لا يوجد له مثيل فى الممالك الإسلامية ، هو منبر متقن الصنع بحيث لا يوجد له مثيل فى الممالك الإسلامية ؛ ويعجز اللسان عن وصفه. وقبة المنبر قطعة فنية من يراها لا يملك نفسه من ترديد عبارة سبحان الله. حقا إنه منبر لا مثيل ولا نظير له ، وفى كل يوم جمعه يزينون حول مقام الخطيب بالرايات ، والبيارق ، والآعلام الخضراء .. وبعد أن ينادى على الصلاة ، وتطلق الصلوات على النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مرتين من المنارات السبع ، فإن خدّام الحرم الشريف جميعا ، يلتفون حول الخطيب مصاحبين له منذ أن يخرج من قبة قدم النبى وهم يطلقون التوحيد الإلهى .. ويسير الخطيب بكامل الوقار ، والأبهة ، وقد تدثر بالرداء المحمدى ، وفى يده سيف لا مع ، يتقدم على مهل ، وأمامه العلم النبوى الشريف .. وحملة العلم يسيرون وهم يوحدون ، ويصلون على النبى ، ويدعون للخلفاء الراشدين ، ويفردون سجادة الإمام أمام المنبر ، فيتلى الآذان المحمدي وينطلق جميع المؤذنين فى نفس واحد ، من مقصورة ماء زمزم مرددين (اللهم صلى على محمد ، وعلى آل محمد ، وسلم). وهم يطلقون تصلية بلال الحبشى ، وأولاده رضى الله عنهم أجمعين. وبعدها ، يصعد الخطيب وفى يده السيف القاطع إلى المنبر. ويقدم خطبته. وبعد أن يتمها ؛ أولا ؛ يحمد البارى ويشكره على نعمه ، وثانيا ؛ يصلى على المصطفى صاحب الرسالة ، وثالثا ؛ الدعاء للخلفاء الراشدين الأربعة ، ورابعا ؛ يدعو لآل عثمان ، وخادم الحرمين الشريفين مولانا ملك العرب والعجم السلطان ابن السلطان الغازى محمد خان الرابع ، فاتح بلاد الأيوار وفاتح كچ كيوار ، وفاتح جزيرة إكريت ، وفاتح بلاد الأردل ، وفاتح پانووا وفاتح وارات ، ويصل حتى سليم الأول فاتح مصر وموقف خيراتها على الحرمين الشريفيين ، وبلاد الحجاز .. وهكذا ، يتدرج فى ذكر سلاطين آل عثمان فيعرف بكل سلطان ومآثره ، بحيث أن المستمع يعرف من هم سلاطين آل عثمان ، ويركز على شوكة ،

٢٤٣

وسطوة آل عثمان الذين يسروا الحج ، وسيروا المحمل ، ومكنوا سبعين ألف حاج من التجمع ، والوقوف فى عرفات وبحيث يحيط المستمع بقوة ونفوذ آل عثمان ، وخدماتهم لدين الإسلام. ثم ينزل الخطيب من على المنبر ، ويؤدى ركعتى صلاة الجمعة ويتم التوحيد ، والتسبيح الأكبر بجوار المنبر. وبعد ذلك يشرع بعض الحجاج فى الطواف. ولا تؤدى صلاة الجمعة فى أي مكان فى مدينة مكة المكرمة إلا في الحرم المكي الشريف ، ويتوافد عباد الله عليه مبكرين بحيث يمتلئ الحرم بأفواج ، وأمواج المصلين. وآمواج آخرى تلتف وبحيث يصير الحرم وسطهم .. ولما كانت لا تجوز الصلاة وجها لوجه ، إلا أنهم فى هذا الحرم الشريف ، وبعد أن يلتفون حوله فيصبحون فى حلقات تواجه بعضها البعض. وهدفهم ، ومرادهم جميعا هو السجود فى الحرم .. إنه منظر رائع ، وعجيب ، ومكان عبادة يؤثر النفوس المؤمنة. ويبعد هذا المنبر عن البيت الشريف ـ الكعبة بعشرين خطوة ... وفيما بين المنبر وماء زمزم وإلي الأمام :

* * *

مقام حضرة ابراهيم :

يعنى البيت الذى كان يقيم فيه سيدنا ابراهيم قبل أن يبنى الكعبة الشريفة. ولقد كان الخليل ابراهيم يسكن فيما بين قبيلة بنى جرهم. وقد سكن هذا المكان ومن هنا يسمونه مقام ابراهيم. مقصورة أو قصر مربع. تحيطه شبكة نحاسية ، والمقام مغطى بالرصاص .. وعلى الجانب الشرقى يطل باب لطيف يسمح بالسير ، وأمام هذا الباب يوجد دلهيز ـ دهليز ، مقام فوق عمود لطيف ، وقبته عبارة عن لوحة فنية ، نقوش السقف فيها بوكالمون ، زخارفها من الذهب. أعمالها الفنية بديعة الصنع ، ونموذج رائع للفن الإسلامي بوباتها .. أي ألوانها زرقاء ، وحمراء ، على مينا مختلفة .. وكأن كبار الفنانين ؛ ولى جان. وبهزاد ، وآغا رضا قد تركوا أقلامهم ، وفرغوا منها فورا. ولقد أمر السلطان ابراهيم خان بتجديد وترميم مقام الخليل ابراهيم هذا ، وجعله منبعا للسحر والإبداع. وعليه تأريخ ولكن لم أتمكن من تحريره ؛ ولم يتيسر الوقت بعد ذلك ، لذلك ، وداخل مقام ابراهيم هذا صندوق مربع مغلف بالذهب .. ومنقوش عليه نقوش بديعة ، من يراها يظنها نقوش صينية. وهذا

٢٤٤

أيضا قد أحضر من قصر يوسف فى مصر ، وقد أحضره أمير الحاج وصندوق مقام ابراهيم تغطيه ستائر وهو من خيرات السلطان أحمد خان .. مذهب بسبع أوقيات من الذهب ، وكذا بسبع اوقيات من الفضة الخالصة ، وقنطارين من الحرير الطبيعي ، وقد نسجت جميعها طبقة فوق طبقة .. وطرّزت بنقوش غاية فى الإبداع ، والتزيين. وعلى جانب منها ؛ نقرأ :

(لا إله إلا الله ابراهيم خليل الله). وداخل كتابة اخرى ، نقرأ الآية : (.. مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(١).

هذه الكتابات كلها بالخط المذهب ، وكلها مسطورة فوق حرير اسود وقد نقشت بالصيرمة. وداخل صندوق يوجد آثار القدمين الشريفين لسيدنا ابراهيم. وعليهما ماء الورد ، أو تفوح منهما رائحة ماء الورد موجة إثر موجة .. وجملة الزوّار يدخلون هذه القبة ، ويمرغون وجوههم بماء الورد هذا .. ويتلون دعواتهم فى همس ، وخفوت ..

إن كل هذه الأبنية المذكورة تقع داخل الحرم الكبير وعلى الجوانب الأربعة للبيت الشريف. وأمام باب بئر ماء زمزم ، وفي الناحية الشرقية ، وعلى بعد ثمان خطوات فقط ، يوجد مقام .. قدم النبي ..

* * *

مقام قدم النبى :

قبة عالية ، بيضاء ، مقامة فوق جدار مربع الزوايا. ليست مغطاة بالرصاص ، بل مدهونة بالجير الأبيض .. داخل هذه القبة محراب مختصر. على يساره ، وداخل دولاب مربع الشكل ، يوجد صندوق ، داخله أثر القدم للنبي المصطفى ، وقد وضح فوق حجر أسود ومن تجاويف القدمين الشريفين ينبثق ماد الورد بروائحه الزكية. وجملة الحجيج يمرغون وجوههم ، فتشع وجوههم بالنور. وداخل هذه القبة هبات من المئات من آصحاب الخيرات عبارة عن فوانيس ، وقناديل مذهبة ، ومطلية.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٥.

٢٤٥

وشماعد ، ومباخر ، ومزاهر لماء الورد .. وبحيث صارت أكواما .. أكواما .. كما توجد شمعدانات مزدانة بالجواهر ، وقناديل وثريات من الفضة الخالصة. والله وحده هو الذى يعرف حسابها. كما يوجد العديد من الفوانيس التى جاء كل منها من بلد ما كهدية ، وكلها فوانيس رائعة فخيمة .. يقوم خدّام الحرم كل ليله بإشعالها بالشمع الكافوري ، فيزدان الحرم بنورها ، وتزدان هى بوجودها داخل الحرم. وقبة قدم النبى هذه لها باب مكشوف أى مطل على الشمال داخل الحرم. وعلى بعد عشر خطوات ، وعلى شمال هذه القبة توجد قبة آخرى.

هى قبة منخفضة ، مبيضة أى مدهونة بالجير ، تستخدم كمخزن للزيت ، ولهذا فهى دائما مغلقة ، ومهما كان عدد القناديل. والأسرجه داخل الحرم الشريف ، وداخل مدينة مكة كلها ، فجميعها تسرج ، أى تأخذ زينتها من هذه القبة ، وتنير المسجد الحرام. وعلى الجوانب الأربعة لهذه القبة توجد الآلاف من أكواب الماء من أجل ماء زمزم. والعديد من الدوارق ، ويسمونها ذورق الصفا. تملئ بماء زمزم ، وتوضع فى مهب الريح ، وما أن يلمسها ، ويداعبها الهواء حتى تتحول إلي قطع من الثلج ، وآلاف الدوارق عبارة عن أكواب ذات فوهات ، وكل واحدة منها من عطايا آصحاب الخيرات. وقد حررت بالخط الأحمر فوقها أسماء الواهب لها وما أن تكسر إحداها حتى توضع الاخرى فورا وآصحاب هذه الخيرات يبعثون بها ، أو يحضرونها مع الصرة والعطايا التى تقدم للحرمين الشريفين من شتى بقاع العالم الإسلامي .. ويقوم الواقف ، أو الواهب بملئ هذه الأكواب ، والدوارق وتقديمها لحجاج الله المسلمين .. إنها ضمن الخيرات ، والصدقات الكثيرة المستترة. وليكن معلوما لإخوان الصفاء ، أنه ليس هناك داخل الحرم ، عدا المبانى والمقصورات التى سبق ذكرها ، سوى هذه الآكواب والدوارق. ولكن على جوانب الحرم الشريف الأربعة الكثير من المدارس ، فهى بالمئات. وجميع نوافذها تفتح ، وتطل على الحرم الشريف ، والكعبة المشرفة. وكل شخص يقتدي بأئمة المذاهب الأربعة ، وهم فى دورهم. والدور ، والمنازل ، والمدارس طوابق ، وأدوار تعلو بعضها بعضا. ولكن من باب داوود حتى الوصول إلي باب السلام وبمحاذاة جدار الحرم طريق عام رئيسي. ومن باب الصفا ، وضواحيه ، وما بين الصفا ، والمروة يقع السوق السلطانى ـ الرئيسي. وفى هذا الطرف لا توجد أي مدارس عدا مدارس ، وخانات ، ودور أمير الحج المصري.

٢٤٦

أوصاف فتح مكة المكرمة

بيدي حضرة سيد الكونين ورسول

الثقلين ، وشفيع من فى الدارين صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن أوصاف البيت الشريف التى حررناها هي مسطورة في كتب التاريخ ، وتتناول البيت العتيق منذ هبوط آدم عليه‌السلام ، وما بعده. وتتناول ما دار حول البيت المعمور من حروب ، وجدال ، ونضال للتمكن منه ، والسيطرة عليه. فكل ذلك تسجله كتب التاريخ. ولكن ما أسجله هنا ؛ أن حضرة صاحب النبوة فى السنة السابعة عشر من الهجرة إلي المدينة ، قاد بذاته الطاهرة من طيبة الطيبة ، أربعة وسبعين ألفا من المهاجرين والأنصار وحاصر مكة المكرمة .. وفتحها عنوة ، وبقوة ساعديه من المنكرين ومشركي قريش ، وغنم كل أموالهم. وكل كتب المآثر الإسلامية تتحدث بالتفصيل عن هذا الفتح المبين ، الذى شرف المسلمين ، ورفع راية الإسلام. وما أن دخل الرسول الكريم مكة المكرمة حتى أسلم بين يديه الكريمتين ؛ أبو سفيان بن حرب ، وحليم بن جرام ، وبديل بن ورنا ، وعكرمة بن أبو جهل ، وعبد الله بن سعد بن الصرح ، وأبو قحافة والد الصديق أبي بكر والذى كان مكفوف البصر. وقد آحضره ، إبنه وتشرف بالإسلام بين يدي الرسول الكريم. وفى يوم فتح مكة خلع الرسول على خالد بن الوليد ، وعينه قائدا على رأس الجيش المتجه إلى بلاد الروم ، وسلّمه علم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وتوجه بن الوليد على رأس أربعين ألفا من الصحابة الميامين إلي قيصر الروم ، وفتح الشام الشريف ، وهزم الروم شر هزيمة ، وغنم منهم الغنائم الوفيرة التى فاقت طاقة الآلاف من البعير ، وذلك بعد أن أعمل فيهم سيفه وسيوف صحابته. ثم عاد إلى المدينة المنورة تحف به آكاليل الظفر والإنتصار .. وكانت هذه هي بداية غزوات الروم. وبعد هذه المعركة أطلقوا على خالد بن الوليد «سيف الله المسلول».

ويسجل مؤرخو العالم الكيفية التى أصبحت بها الكعبة معمورة ؛ فبعد هبوط سيدنا آدم ، جعل الله سبحانه وتعالى مكة المكرمة مهبط أديم الأرض ، وبعث به إلي البيت المعمور. وأنزل رب العزة والجلال بيتا من الياقوت الأحمر ليكون مكانا لعبادة آدم عليه‌السلام ، وبقي آدم يعبد ربه فى هذا البيت المعمور ، ويدعوه سبحانه وتعالى

٢٤٧

قائلا : (اللهم أجعل لى عمارا من ذريتى). وأستجاب الله لدعاء سيدنا آدم ، وعمرت مكة يوما بعد يوم. وخلال طوفان نوح عليه‌السلام ، رفع الله البيت المعمور إلى جنة المأوى وبعد الطوفان ، وفى زمن سيدنا ابراهيم .. وأستجابة لدعوة سيدنا آدم السابقة ، قام الخليل ابراهيم بإعادة بناء البيت العتيق ببركة هذا الدعاء. وجاءه النداء من الباري سبحانه وتعالى :

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧))(١).

فسأل سيدنا إبراهيم ربه ؛ يا ربي ومن يسمع صوتى ، فخاطبه الحق سبحانه ؛ منك الآذان ، وعلىّ البلاغ. وعلى الفور صعد خليل الرحمن إلى ذروة جبل أبى قبيس ، وبدأ فى الآذان فى الجهات الأربع ، .. يا عباد الرحمن .. لقد بني ربكم بيتا فتعالوا وأعبدوه ، تعالوا للحج والطواف .. وأسمع الله تعالى صوت النبي ابراهيم لكل المخلوقات ؛ بين السماء والأرض ، وحتى العلقة ، والمضغة فى أرحام الأمهات .. فردت جميع المخلوقات مرة ، ومرتين ـ وآلاف المرات «لبيك اللهم لبيك». مرددة وملبية. وكلما زادت التلبية ، زاد الحج يسرا وتسهيلا .. ومن لم يسمع الصدى يحرم من الحج ، ولكنه ييسر بالوكالة ؛ ويكون كمن أدى الحج .. وقد كتب بعض المفسرين هذا ، وأيدوه .. وهكذا عمّرت الكعبة الشريفة ببركة دعاء سيدنا آدم ، وبصوت آذان سيدنا إبراهيم .. وها نحن نشاهد آلاف الحجاج يلبون النداء فى كل عام ، وستظل معمورة إلى أن يتوقف العالم عن الدوران. وستعمر دائما بحجاج الله من المسلمين : «بيت»

(هر كمه كعبه نصيب اولصه خودا رحمت ايدر سودكي كيشي حق خانه سينه دعوت ايدر) (٢).

* * *

__________________

(١) سورة الحج : آية ٢٧.

(٢) الترجمة : (كل من كانت الكعبة من نصيبه يرحمه‌الله وعليه أن يدعو من يحب إلى بيت الله).

٢٤٨

آوصاف عمارات الخيرات والحسنات

فى مدينة مكة ، والآسواق التى

تزين بلدة بكه

زينها الله تعالى إلى انقراض الدوران وأيد ملكه ليكن معلوما لإخوان الصفاء ، والأحبة الأوفياء ؛ أن مدينة مكة المكرمة تقع فى سبعة أودية فيما بين منتهى سبعة جبال ، وهى مدينة طولية ؛ تمتد من الشمال إلى الجنوب. ولكن أكثر الآثار المبنية ؛ تقع فى الوديان السبعة. وداخل هذا الوادى الممتد ثلاثة طرق رئيسية ، وهى طرق عظيمة العلو .. وفى الجهة الشمالية ، وإلى أن نصل إلى المعلا ، طريق عام كبير ، وفى نهايته «حمده». وبجواره نصل إلى الحى الذى يسمونه «شبكه». وفى الناحية الجنوبية ؛ وعلى طريق اليمن ، ينتهى عند المكان الذى شهد المولد الشريف لسيدنا حمزه. ولكن هذه المدينة العظيمة تعمر سطح الجبل الذى يسمونه «جبل جزل» ، وما يزيد عن نصف سطح جبل أبى قبيس .. وما بين هذين الجبلين وأعلاهما مسكون ، ومعمور. ويطلقون على جبلي أبي قبيس ، وجبل جزل «الأخشبان». ومن باب المعلا صعودا ، إلى أن نصل إلي باب «ماحنه» بالتمام والكمال أربع آلاف ومائتين خطوة كاملة ، ومن هنا حتى نهاية المدينة ثلاث آلاف خطوة. وأيضا من باب المعلا إلى باب الشبكية ، ومنها ، وعن طريق المرعى وحتى السويقية ، ومنها وإلى باب الشبكية ثانية ألف ذراعا مكيا. وعدا هذه الطرق الرئيسية يوجد إثنى عشر شارعا صغيرا. وكلها محلات ودكاكين ، وآسفلها السوق السلطاني ـ الرئيسي ، والشوارع التى تتخلل السوق تقع كلها على أرض مستوية ، ورملية. ليس بها أرصفة ، أو تعبيد للطرق أما الآحياء التى فوق الجبال ، فالطرق المؤدية إليها كلها مطالع ، ومنازل وصخرية ؛ وهى طرق عامة طاهرة ونظيفة جدا. وجملة المحاريب الكبيرة ، والصغيرة الموجودة داخل مدينة مكة تبلغ سبعمائة وأربعين ، محرابا ، والبقاع ، وبيوت الخلفاء الراشدين ، ومنازل الصحابة الكرام ، فلقد عدّت كلها ، وتدخل ضمن هذا العدد. ولكن صلاة جماعة الجمعة تقام فى المسجد الحرام ، ولا تقام فى أي بقعة آخرى فى هذه المدينة المقدسة.

* * *

٢٤٩

بيان مساجد مدينة مكة :

أولا .. المسجد الذى يقع بالقرب من بئر جبير ، ويسمونه مسجد النبي ، وهو مزار للناس جميعا .. وفوق جبل النبي يقع مسجد عمر بن الخطاب ، وبالقرب من (باب العجلة) يقع المسجد الذى شهد مولد جعفر بن أبى طالب. وفى «زقاق مرمق» مسجد بيت أبى بكر الصديق ، ودار سيدنا عباس ، وبالقرب من جبل القيصعان يقع معبد الحنيد ، ودار ابراهيم بن آدم. وكانا يسكنان فى هذين المسجدين. وفى مواجهة جبل «حجون» داخل مدينة مكة ، يوجد مسجد الحق ، ومسجد زايت ، والأخير له مئذنة خفيضة. وهناك مسجد ركوب حضرة رسول الله ، حيث إمتطى راحلته عند الهجرة إلى المدينة المنورة ، وهو يقع على طريق المدينة ، وهو مسجد عظيم ويطلق عليه «مسجد الركوب». وعند الإتجاه من المكان المسمى «التنعيم» إلى ناحية القبلة. تجد مسجد السيدة عائشة الصّديقة ، رضى الله عنها ، وهو مسجد صغير. وهو مزار للخاص والعام على طريق الاتجاه إلى الحرم الشريف. وبعده عمارة ـ مطعم الخاصكية ، وبالقرب منه مقام السيد أحمد البدوي ، وهو مسجد ذو منارة منخفضة وجماعته كثيرة. وهو مسجد مضيئ .. ومشرح الصدر ..

* * *

٢٥٠

فى بيان الآماكن المستجابة الدعاء

في مكة المكرمة والمقامات العالية ، والمساجد المقامة

فى البيوت الشريفة

أولا ، المطاف الشريف ، والملتزم ، ومحراب رحمة النبي ، وداخل بيت الله المعمور ، وزمزم المبارك ، والحجر الأسود ، ومقام خليل الرحمن ، وقدم النبى ، وبجوار المنبر النبوي ، والصفا والمروة ، والمسعى ، وعرفات ومزدلفة ، ومسجد ابراهيم الخليل ، ومنى ، والجمرات ، وجبل السبر ، ومسجد الكبش ، ومسجد الخيف ، ومسجد النحر ، ومسجد مشاعر الحرم ، ومحل نزول سورة المرسلات ، وبيت أم المؤمنين خديجة الكبرى. ومن المعروف أنه بعد ميلاد النبى بخمس وعشرين سنة ، أنه وغلامها ميسره قد هاجر إلى الشام للتجارة بأموال السيدة خديجة ، وأنه كان يتاجر فى مدينة البوصره بالقرب من الشام. وقد حقق أرباحا وفيرة فى تجارته ، وعند عودته إلى مكة كانت السيدة خديجة فى الأربعين من عمرها ، فخطبته لنفسها ، وأصبحت زوجته عليه الصلاة والسلام. وكانا يسكنان فى هذا البيت الشريف ، ومقام دار حزران ، وقبة المختفى التى كان يستتر بها الرسول المصطفى حتى لا تراه عيون الكفار ، ولهذا السبب سميت قبة المختفى. وهو مقام مبارك. وكذا جبل أبي قبيس ، وجبل النور وحبل سبر ، وجبل حراء ، ومسجد البيعة ، وقد سبق مدحه ، وهو بالقرب من دكان سيدنا أبى بكر الصديق ، ويسمونه «سلام هاجر» أيضا .. وهو حجر جليدى. وجميع الحجاج يستلمون هذا الحجر ، ويحرصون على زيارته ، هو حجر منير ، ومجلى. وسبب ذلك ، كما ذكر فى السند ، أن صاحب الرسالة وهو فى جهاده ضد المشركين ، وبينما كان يمر من المكان ، فإذا بكوكبة من المشركين تأتي فى مواجهته ، وعندما اقترب مشركو مكة من النبى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبا الصخرة (السلام عليك يا صخرة الله) ويأمر من الله وقدرته سبحانه وتعالى ، نطق الحجر ورد السلام قائلا : (وعليكم سلام الله). ولما وصلت إلى أسماع المشركين كلمات الحجر ، تحولوا عن الطريق العام. وبالقرب فى هذا المكان ، وفى المقابل من هذا الحجر بنى جدار آخر ، وفيه حجر جليدي أيضا. وجميع الحجاج أيضا يتسلمونه ، ويسمونه (حجر فوت) وهو حجر منخفض. وكان سيدنا رسول الله يستند عليه بكوعه .. وذات مرة تردد

٢٥١

الرسول فى أن يعبر من هذا المكان ، فسمع صدى صوت يصدر من هذا الحجر بأمر الله يقول له (فوت يا رسول الله) ولهذا مر عليه الصلاة والسلام من بين المشركين فى أمن وسلامة. ولهذا السبب يسميه الناس (حجر فوت). كما أن بيت سيدنا عباس من المزارات ، وعلى يسار جبل شبر هناك غار يسمونه مغارة الفتح ، وقد اعتكفت السيدة عائشة الصديقة فى هذا الغار ، وبعض صلحاء الأمة يدخلونه تبركا ، ويتعبدون فيه ، وللآن يسمونه ساحة عائشة ، ويتعبدون فيه. وجبل أبي قبيس وأحيانا يسمى «جبل صدمه». وهو جبل صغير منير ، وجميع أهل الثغر ، وأهل مكة يعتقدون أن سبعين من الرسل مدفونون فيه ، وكنا فى جماعة مكونة من عشرين نفرا حين توجهنا لزيارته ، ولكن لم نر فيه أي أثر لبناء ؛ ولكن به بضع مغارات عظيمة ، أبوابها مسدودة ، وقد تلونا هناك سورة يس الشريفة ، ثم عدنا إلي مكة ، وبالقرب من سوق منى يوجد «مسجد الإجابة» ، وهو أيضا من الاماكن التى يستجاب فيها الدعاء.

* * *

مكان سجدة سيدنا النبي :

بينما كان صاحب الرسالة ما زال صبيا ، ضرب مكة بأكملها قحط عظيم ، وقد توجه كل آل قريش إلى هذا المكان لدعاء الإستسقاء ، وكان حضرة عبد المطلب بين الحضور ، فرفع يديه نحو السماء قائلا .. يا رب بحق ماء وجه هذا اليتيم محمد أغثنا .. وأنزل علينا الماء .. وعند ما سمع محمد هذا ، سجد لله ، وعند سجوده أثرت يديه الكريمتين فى الحجر وما زال الأثر باديا حتى الآن. وقد أقاموا حوله جدارا كالمحراب. وهو محط زيارة جميع الآنام ؛ ويلزم فيه الصلاة ركعتين. وفى مقام مكان السجدة هذا حفرة بقدر قامة الرجل وبداخلها صخرة. وعلى الجانب الغربي لصخرة هذه الحفرة علامات تقسيمها إلى إثنى عشر قسما ، وفقا للبروج .. وفى غرة كل شهر ، فلا بد أن يظهر الهلال ، ولا يمكن أن يختلف ، وهذه معجزة عجيبة ، وحتى لو كان الجو ملبدا بالغيوم فلا يحول ذلك دون ظهور الهلال. ولمكة موقّتوها ، يدخلون داخل هذه الصخرة وينظرون منها ، فلا بد أن يكتشفوا ظهور الهلال.

٢٥٢

وجامع المهد هذا هو مسيرة ومنتزه ، ومستراح أهل مكة ... ومن الثابت أن الأمطار التى تهطل على سفوح جبل أبى قبيس تنزل إلى الصهاريج الموجودة. وفى الجهة الشمالية من جبل أبى قبيس هذا ، وعلى بعد مائة خطوة يوجد مطلع وفى نهايته تقع آعتاب تكية الشيخ اسماعيل ، وهى تكية عظيمة. مرتبط بها ثمانين أو سبعين نفرا من الفقراء ، وقد أقيمت على شاكلة قبتين متجاورتين ، والشيخ نفسه مدفون تحت واحدة منهما ، وهو من صحابة رسول الله ، ولها باب يطل على الناحية الغربية ، وعلى القرب منها مضيفة. وبعض الحجاج مع أهل مكة يأتون إلى هذه التكية ؛ ويتفرجون على المدينة ، ويشاهدون معالمها لإنها هى أيضا تقع على مرتفع عال ، يطل على كل المدينة .. ومن الناحية الشمالية لهذه التكية يتم النزول إلى وادى السيدة آمنه بنت وهب بعد خمسمائة خطوة كاملة.

* * *

أوصاف دار سعادة السيدة آمنه بنت وهب ؛ يعنى أم حضرة رسول الله :

إن حضرة صاحب الرسالة قد اشتاق للخروج من رحم أمه الفاضلة فى سنة ٨٨٢ من بعد وفاة الإسكندر ذو القرنين. وفى اللحظة التي خرج فيها إلي الحياة كان فى موسم نيسان ـ الربيع ، وفى العشرين من هذا الشهر ، أي في الليلة الثانية عشر من شهر ربيع الأول. وكانت ليلة الإثنين ، وبميلادة «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أصبح العالم كله ضياءا ، وتحطمت كل الأصنام التى كانت على وجه الأرض ، وانطفئت كل نيران المجوس ، وتصدع إيوان كسرى ، وقبة الآياصوفيا ، وقبة القيزيل ألما. ولم يبق على سطح الأرض معبد ، أو دير إلا وأصابه التصدع ، وشملت سحابة خضراء ذلك البيت الشريف .. وظلت هذه السحابة اللطيفة تغيم فوق المصطفى طوال حياته المديدة ، والتى إمتدت إلى ثلاث وستين سنة كريمة. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أينما اتجه ، تحوم حوله ، وتظل عليه تلك السحابة ذات اللون الآخضر ، بل ، وكان ذلك الغيث الأخضر ينهمر حيثما يكون عليه الصلاة والسلام ، ولم يكن ينزل إلى الأرض ، بل كان مطر رحمة ، وكان بأمر الله ، وبإشارة منه عليه‌السلام ، كانت تلك السحابة تظل معلقة على مكان ما ، وكان مطرها ينزل بردا وسلاما كلما اشتاق إليه الرسول المصطفى. وحسب

٢٥٣

قول الشيخ محمد ابن اسحاق لقد مرت ٦٧٥٠ سنة منذ زمن سيدنا آدم وحتى ميلاد المصطفى و ٤٤٩٠ سنة من النبي نوح ، وحتى ميلاد المصطفى ، ومن سيدنا ابراهيم الخليل وحتى ميلاد الحبيب ٣٠٧٠ سنة. ومن حضرة سيدنا موسى إلى مولده الكريم ٣٣٠٠ سنة ، ومن زمن سيدنا داوود إلى ميلاد سيدنا المصطفى ١٢٠٠ سنة. ومن الإسكندر حتى ولادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ٨٨٢ سنة. ومن زمن سيدنا عيسى حتى مولده «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ٦٠٠ سنة. وهذا قول صحيح. وقد تحرر ذلك فى تواريخ القبابطة ، وتاريخ اليونان ، وتواريخ الرومان وكلها تواريخ معتبرة وكان هذا البيت الشريف الذى ولد فيه عليه‌السلام ملك موروث للسيدة الوالدة ، وهى السيدة آمنه بنت وهب. أما والدته بالرضاعة ؛ فهى السيدة حليمة من قبيلة بنى سعد. وكل من سيدنا حمزه ، وأبو سلما بن عبد الله المخزومي ، وعبد الله بن جحش السيدي كانوا قد رضعوا من السيدة حليمه السعدية ، ولذلك فهم إخوة المصطفى بالرضاعة. ووالد المصطفى هو عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مورّه بن كعب ابن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضير. وكل هؤلاء هم أمراء القبائل القرشية ؛ وجده الثامن والعشرين هو سيدنا اسماعيل ، والجد التاسع والعشرين هو الخليل ابراهيم عليهم‌السلام ؛ وينتهى نسب سيدنا ابراهيم إلى عذرا ، وعند ما بلغ صاحب الرسالة السادسة من عمره السعيد توفى والده عبد الله بن عبد المطلب فى مكان يسمى (دار التابعة) بالقرب من المدينة عند عودته من تجارته فى الشام. وكان عمره ٢٥ سنة. ولما توجهت السيدة آمنه بنت وهب من مكة إلى المدينة بصحبة غلامها لتسلم الأموال التى انتقلت إليها من آهلها ، وكان سنه عليه‌السلام آنذاك سبع سنوات ولما تسلما الميراث ، وعند عودته مع السيدة والدته إلي مكة توفيت هى أيضا فى المكان المسمى ابن يمام. وكان حضرته قد بلغ السابعة من عمره السعيد. وأصبح بذلك يتيم الأم أيضا. وقام أقرباء السيدة آمنه بنت وهب باحضار جسدها الطاهر إلى مكة .. وتقول إحدى الروايات أنها دفنت حيث توفاها الله. وأن حضرة صاحب الرسالة ـ بعد الهجرة ـ هو الذى آخرج جسد السيدة الوالدة من المكان المسمى «أبو انام» ، ودفنه فى البقيع.

وبعد ذلك أحضره أقارب والدته بأمواله إلى مكة ، وكان حضرة عبد المطلب هو

٢٥٤

جده .. فسلموه عليه‌السلام إليه. وبعد أن بلغ سن الأربعين ، جاءته النبوة. وقد وهب هذا البيت الذى انتقل إليه من أمه إلى عقيل بن أبى طالب ، وانتقل هو عليه‌السلام للعيش فى دار خديجة الكبرى رضى الله عنها. وبمرور الأيام ، اشترت السيدة حيزاران والدة الحجاج يوسف الظالم من ورثة حضرة عقيل بن أبى طالب عندما جاءت إلى الحج. ثم تم شراء هذا البيت اللطيف من ورثة الحجاج .. ومحبة فى رسول الله قام الملك المظفر شمس الدين يوسف عليه الرحمة بتوسيع هذا المسجد ، والذين يؤدون فيه الصلاة يدعون للجميع بدعاء الخير.

* * *

أوصاف حرم بيت الرسول الكريم :

قبة عالية مغطاة بالرصاص داخل وادي أمينة. لها باب يطل على الناحية الشمالية ، ينزل إليها بسلالم مكونة من عشر درجات تقع وسط مكان منخفض. هى قبة منيرة. وما أن تدخل من الباب حتى تجد حرما مربعا ، هو أيضا يقع تحت القبة. وبعده يوجد باب آخر فى الداخل ، هو باب الآعتاب السعيدة. الباب مكشوف على الناحية الشرقية ، والحرم مفروش بسجاد حريري قيم ؛ كما أنه ميدان رحب ، بحيث تصل رحابته إلى خمسمائة خطوة ، مسجد لطيف وواسع. والقبة مزينة بمختلف النقوش والألوان بحيث أنها تحاكي قبة الأفلاك ومن ميدان المحبة وحتى وسط القبة ، ترى منبرا بديعا ، وفوقه قبة منيرة. وجوانبه الأربعة مسطورة بالزخارف والديباج .. وله باب صغير مرصع ، ومطعم بالذهب طبقة فوق طبقة. وله قفل ، ومفتاح من المجوهرات من خيرات السلف الصالح من السلاطين ، وبجوار هذا المنبر المنيف ، وعقب الباب سجادة حريرية مطرزة ، يجلس فوقها خدّام بيت رسول الله. وهم الذين يقومون بفتح الباب الشريف بالمفتاح المجوهر عند قدوم الحجاج والزوار للتبرك ، والزيارة .. ويقوم الزائرون بتلاوة الدعوات والتوسل إلى الله طالبين الشفاعة. وفى المكان الذى تشرّف بنزول صاحب الرسالة من رحم الأم الطاهرة ، قد وضعوا حجرا مباركا ، داخل الحفرة الصفراء. وقد أثر جسده الشريف فى هذا الحجر .. وهو منخفض يتسع لجلوس رجل فى داخله جلوسا متربعا ،

٢٥٥

وعند حفر هذا المنخفض المبارك ، كانت تشع من هذا الحجر روائح الورد ، والكافور ، ومملوء بماء القاضى. وجميع الزوار يمرغون وجوههم فى هذا الماء الوردي. وجميع الخدم ينثرون من المباخر الذهبية ، والفضية الخالصة روائح المسك ، والعنبر. والعود ، وبحيث تتعطر رؤوس كل الزوار فى هذه القبة المنيرة المعطرة. وقد قام أفندينا حسين باشا بنفسه بإحراق العنبر الخام لمدة ساعة كاملة ، وبحيث أفعمت القبة بالأدخنة الطيبة ، والروائح الفواحة ، والجميع يرى أنه من المناسب تقبيل هذا الحجر تبركا حيث أنه هو مهد الرسول المجتبى. وهذه القبة الطيبة مزدانة بالثريات والنجف البديع الصنع ، والمزين بشتى أنواع المجوهرات القيّمة. وكذا بالقناديل الرائعة ، وكلها توقد ، وتضاء ليلا ، وتجعل المكان كله نور على نور. وفى الركن الواقع على يمين هذا المقام يوجد منبر خشبي رائع الصنع ، بديع النقش. إنه منبر صغير ، ولكنه نموذج بديع .. وفى الجهة التى تقع على يسار هذه القبة يوجد محراب صغير. وكل انسان يحرص على صلاة ركعتين فى هذا المحراب .. ويستحب فيه الدعاء للوالدين وعلى الجدران الأربعة لهذه القبة لوحات متنوعة للخطاطين المبدعين ، ومحبي رسول الله والعاشقين له .. ومن بين هذه اللوحات قصائد مدح نبوي ، و (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وقد قمت أنا العبد الحقير أيضا بتسطير الإسم المحمدي عليه‌السلام على الطراز والشكل القره حصاري. وعلى شمال هذه القبة ، وعلى علوّ قامة رجلين توجد نوافذ .. وبعض الناس وهم يمرون من الطريق العام ينظرون إلى العتبة الشريفة من هذه النوافذ ، ويتوجهون بالدعاء الخيّر. ويحرصون على ذلك عند عبورهم ، لأن هذه العتبة المباركة تقع على الطريق العام ، ولهذا المسجد منارة ذات شرفة واحدة من الآعمال القديمة هو جامع شامخ ، ولكن لم يثبت أن أقيمت فيه صلاة الجمعة ، لأن منبره صغير ، ولأنه لا يجوز ، ولا يصح أن تقام صلاة الجمعة فى هذه المدينة المباركة إلا فى المسجد الحرام فقط .. «والسلام». وإلى الشمال من هنا .. وداخل سوق الجواهرجية يوجد :

* * *

٢٥٦

مزار بيت حضرة فاطمة الزهراء :

هو البيت الذى سكنه صاحب الرسالة مع السيدة خديجة الكبرى بعد أن تم اهداء البيت الذى ولد فيه عليه‌السلام إلى عقيل ابن عبد المطلب. وقد ولدت السيدة فاطمة الزهراء فى هذا البيت السعيد ، وأمها هى خديجة الكبرى .. وقد تزوجت بسيدنا على رضى الله عنه فى السنة الثانية للهجرة النبوية ، وكان سيدنا علي قد بلغ العشرين من عمره .. وكانت السيدة فاطمة فى الثامنة عشر من عمرها السعيد. وقد تم الإحتفال بالزفاف فى المدينة. وبعد الفتح وهب المصطفى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» هذا البيت إلى السيدة فاطمة. وقد سكنته مع سيدنا علي رضى الله عنهما. وهذا البيت الطاهر يقع أيضا على الطريق العام. وهو عبارة عن قبة عالية مكونة من ثلاث قطع ، وله باب مكشوف ناحية المشرق .. وينزل من هذا الباب بسلالم مكونة من عشرة درجات إلى الداخل ، قبابه مطلية بالجير الأبيض ، وله أعلام خاصة به خضراء اللون. وعمدانها نحاسية. له فناء صغير ، وعلى جانب القبلة من هذا الفناء ، يوجد مسجد على صفّه ، له محراب من الآشغال القديمة. وهذا المسجد أيضا مطلي بالجير ، وليست له منارة .. وتحت إحدى القباب العالية ، كان كل من حضرة الإمام الحسن والإمام الحسين يتلون القرآن الكريم تحتها ، والرحلات التى كانا يستخدمانها ما زالت هنا. ويقولون أنها تلك كانا يستخدمانها فى ذلك الزمان. وهذه القبة مفروشة بالسجاد الحريرى المختلف. وهذه القبة المتصلة ببيت حضرة السيدة فاطمة قبه مزخرفة ، بديعة النقش. وهى أوسع تلك القباب. وهى أيضا مفروشة بالسجاد الحريري المطرز القيم ، ومن خيرات المرحوم السلطان قايا. وليست بها نوافذ على الجانب الخفيض. ولكن الجوانب الأربعة مكسوة ، ومغطاة بالقيشاني الصيني. وبخزائن الكتب الموجودة أجزاء ، ونسخ مختلفة من المصحف الشريف .. وهذه الخزائن كلها مغطاة بالزجاج والبلور ، والنجف المختلف النقوش ، والأنواع. ولهذه القبة العالية ، وترتفع حتى منتصفها قبة المنبر .. وهى قبة صغيرة حادة ، مكسوة بالكامل بالنقوش ، والزينة .. وتزدان هذه القباب بشتى أنواع الثريات ، والقناديل ، والشمعدانات ، والمعلقات التى تزينها. وفى كل ليلة جمعة ، فإن آهل مكة ، وآصحاب السلوك من المشايخ والمتصوفة يأتون إليها ،

٢٥٧

ويقيمون الليلة فى التلاوة ، والذكر والتوحيد ، وفى كل سنة يحتفلون بمولد السيدة فاطمة .. وخلاصة الكلام فالمكان مكان زيارة للخاص والعام .. وهو قريب من منزل والدة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.

* * *

بيت حضرة سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه :

عبارة عن مسجد صغير له قبتان. وفى حرمه الصغير شجرة نبق عظيمة الحجم. وهو مثل مسجد بيت السيدة فاطمة فلا منارة له. وعلى الجانب الأيمن ، وتحت القبة أيضا ، لوحة منقوشة مثل المنبر ، وله قبة حادة. وهى أيضا مغطاة بالنقوش والزينات الجدارية. ولقد ولد فيها سيدنا علي بن أبى طالب حينما كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى السادسة والثلاثين من عمره السعيد. ولما بلغ السادسة والثلاثين من عمره أدار حربا ضروسا مع معاوية بن أبى سفيان بخصوص الخلافة ؛ ولهذا السبب أضطر إلى الهجرة من المدينة إلى الكوفة ، وسكنها .. ويلقبونه فى بلاد العراق (أسد الله الغالب على بن أبى طالب كرم الله وجهه ..) وإليك هذا المثنوى :

(اوج احسان ومكرمت بدر

ولي الدين وعالى القدر

يار رابعدر علي بي ولي

مشكل دين بونكلة اولدى جلي

سندى مسندى آچوب اولدر

وازو صوفرا وفتوت اولدر) (١)

__________________

(١) الترجمة : (.. بدر هو أوج الإحسان والكرم

ولى الدين وعالي القدر

علي الولي هو الخليفة الرابع

انجلت به صعاب الدين

هو السند المسند الواضح

هو عضد القوة ، والفتوة)

٢٥٨

كانت بداية خلافته وهو فى سن الخامسة والثلاثين ، ومدة خلافته ثلاث سنوات ، وتسعة أشهر ، وسنة استشهاده كانت السنة الأربعين بعد الهجرة النبوية. كانت مدة عمره السعيد ، ثلاث وستون سنة ، استشهد على حين غرة ، وهو يتعبد فى جامع الكوفة على يدى الآثم الشقي عبد الله بن ملجم. هى آعتاب عالية قديمة .. كل الحجاج العجم يحرصون على زيارة هذه الدار اللطيفة ؛ ومن لم يزرها يعتبر حجه ناقصا .. وكل خدّام هذه الآعتاب من العجم .. ويغدق العجم فى عطاياهم هنا .. هو مسجد شريف مزخرف ، وطاهر .. وعلى بعد ثلاثمائة خطوة فى شمال هذه الآعتاب الطاهرة يوجد

بيت حضرة سيدنا أبى بكر الصديق بن أبى قحافة :

بعد الميلاد السعيد لحضرة الرسول المجتبى بسنتين ولد حضرة أبو بكر الصديق (العتيق من النار) فى هذا البيت العتيق. هو قبة صغيرة. سكنه النسل الكريم للصديق الوفي ، فى الفناء شجرة نبق. وفى الجهة الجنوبية من مدينة مكة المكرمة ، وبالقرب من جبل عمر يوجد

* * *

بيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه :

منزل فى غاية الصغر ، ولد فيه حضرة سيدنا عمر بعد ميلاد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بثلاث سنين. وقد قام رضى الله عنه بيديه الكريمتين فيما بعد بعجن الطين ، وإعادة بناء هذه الدار اللطيفة. وهى ما زالت مسكونة ، يقطنها الناس حتى الآن .. ومسجد عمر يعلو جبل عمر ، ولا تقام فيه الجماعة ، ومن فوق هذا الجبل تشاهد مدينة مكة جيدا.

* * *

بيت حضرة عثمان رضى الله عنه :

سكنه حضرة عثمان عند ما بلغ الحلم ، ما زال معمورا ومسكونا ويقطنه الناس

٢٥٩

إلى الآن ، وقد سكنتا هذا البيت الشريف كل من حفصه بنت عمر ، وزينب بنت عمر. وكانت حفصه بنت عمر من حفظة القرآن الكريم. وقد استفاد ، وجمع ، واستمع منها كثيرا حضرة عثمان ـ جامع القرآن ـ عند جمعه لآيات الذكر الحكيم. وتنبع من هنا سبب تسمية (قراءة حفص) وبالقرب من باب عباس يوجد

* * *

بيت حضرة عباس ؛ رضى الله عنه :

ما زال يشكل جدارا للحرم. وعند باب النبى يوجد

* * *

بيت عائشة الصدّيقة ؛ رضى الله عنها :

هي أم المؤمنين. منحها إياه حضرة أبو بكر الصديق على طريق الجهاز ، وقد سكنته فى رفقة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هو عند باب شيبه ، وقد ضمّ فى أيام سليمان خان إلى الحرم الشريف. ويسمونه باب شيبه .. ويسمونه أيضا باب أم هانى ، وبيت الرسول ، وقد سكنت السيدة أم هانى هذا البيت الشريف وهى فى كنف الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». ومن المحقق أن المصطفى قد عرج من هذا البيت فى رحلة الإسراء والمعراج .. وقد أمر سليمان خان له بباب لطيف وبديع. وما زالوا يطلقون عليه باب أم هانى إلى اليوم.

* * *

بيت أبى سفيان :

ولد إبنه فى هذا البيت بعد ميلاد النبى بتاريخ أربع وثلاثين سنة. كما ولد أيضا معاذ ابن جبل مع معاوية فى هذا البيت وهو بالقرب من حمام النبي.

* * *

٢٦٠