الرّحلة الحجازيّة

أوليا چلبي

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

أوليا چلبي


المترجم: الدكتور الصفصافي أحمد المرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5227-55-3
الصفحات: ٣٠٢

أوصاف الإحرام للحرم الشريف :

أولا ؛ فى الجهة الشمالية اعتبارا من منطقة وادي فاطمه ، ومن المكان المسمى عمره أربعة آميال من مكة ، وتدخل هذه المسافة فى حرم مكة المكرمة. وعلى طريق جده بعشرة أميال .. ويمتد حتى منتهى جده .. وإلى أن تصل طريق الطائف إحدى عشر ميلا .. وعلى طريق اليمن ، وحتى منطقة «يلملم» أربعين ميلا .. والقادمون من اليمن أو جهاتها يحرمون فى يلملم .. وعلى طريق العراق ، وإلى أن يتم الوصول إلى المكان المسمى ، ستة أميال. وعلى حدود كل طريق .. وحيث يتوجب الإحرام قد تم إقامة بناء ينار لمسافة ميل حتى يدرك من منارته حدود الحرم هذه العلامات قد وضعها عدنان ، ثم آضاف هارون الرشيد ، وولده الخليفة المأمون الكثير من الآثار والأبنية الأثرية إلى حرم المدينة ، وآثناء خلافة الوليد بن عبد الملك الأموي .. وعند ما تم فتح مدينة طليطله فى ديار الأندلس ، ولما توجه إليها بألف قطعة من السفن ، وتغلبت على آهلها ، وجد كنز سيدنا سليمان .. وداخل العجول الذهبية ، وجد ياقوتا أحمرا ، وزمردا ، وألماسا لا حصر ، ولا عد له .. ووجد الكثير من الأزيار المليئة بالذهب الخالص .. فبنى فى دمشق الجامع الأموى ، وأقام فى مكة العديد ، والكثير من الزينات حتى أصبحت ، وكأنها جنة عدن. وفى البداية أقام من سبعة قناطير من الذهب الخالص مزابا لمياه الرحمة «المطر» .. ولكن لثقله كان يسقط من حين لآخر. وبعده ، وفى زمن السلطان أحمد كلّف درويش محمد ظلي والد العبد الحقير بإبداع مزراب آخر. وبينما كان فى الآعتاب العالية قام والدنا بإعادة بناء مزراب ماء الرحمة ، وخلال تلك كان والدنا هو أمين الصرة ، وقد قاموا بوضع المزراب الجديد فوق سطح الكعبة الشريفة. وحتى أنا العبد الحقير قد رأيت هذا المزراب ، وكذلك رأيت ما خطه بيده الكريمة من خطوط بديعة .. ولكن لم يكن كل ذلك يصل إلى مرتبة ما بناه الوليد بن عبد الملك. وقد كان ما صنعه درة مصافة .. وقام عبد الملك بتوسيع الحرم الشريف ، وترميمه ، وأصبح طول مسجد الحرم ثلاثمائة وسبعون ذراعا مكيا .. وعرضه ثلاثمائة وخمسة عشر ذراعا مكيا ـ ولكن الحقير لم يستطع حساب الذراع ولم أقم إلا بالقياس بالخطوة. وقد سطرت ذلك سابقا ، وإن كان حساب الذراع المكي أقل من الخطوة .. وكان ذلك الحساب مساويا لما قمت آنا به بالخطوة تقريبا.

* * *

٢٢١
٢٢٢

فصل في أوصاف صفات البيت الحرام

وفتح مكة بيدي الرسول عليه‌السلام

إن الكعبة الشريفة ، شرفها الله تعالى ، كما سبق القول مقامة فى وسط الحرم الشريف الذي فى وسعة الصحراء. وهى مربعة الشكل ، مبنية من حجر الصوان الزيتونى اللون ، ولكنه يميل إلى الصفرة قليلا. البناء متين ، وفى زوايا الآحجار توجد أحجار ناصعة البياض مجلاة كالثلج فى حجم الصندوق الصغير ، ومن مستوى الأرض تمتد إلى آعلا ، وإلى قدر علو المباني المكيّة ، وتصل إلى أربعة وعشرين ذراعا مكيا. أرضها ثلاثة وعشرين ذراعا ، وشبرا واحدا .. وارتفاع جدارها سبعة وعشرين ذراعا ، ومدار الحجر خمسة عشر ذراعا ، ويسمونه الحطيم .. وعلى الجهة الشمالية من الكعبة الشريفة يقع مزراب ذهبي ، تجرى فيه مياه أمطار الرحمة ، وتحت الحطيم يمر هذا الخط من الركن العراقى إلى الركن الشامي. ولكن هذا الحطيم كان قد خلع فى خلافة الزبير بن العوام ، فأعاد بناءه ، وألحقه بالبيت الشريف ، وجعله فى مساواة مباني مكة ، وجعل على جوانبه الأربعة نوافذ ، وشبابيك عليها بلور ، وزجاج مختلف الأنواع من الموراني ، والنجفى وبمختلف الألوان. وفتح الباب الشريف الذى كان مسدودا عن الركن اليماني ، وجعل للبيت الحرام كالأول إثنا عشر بابا ، وصرف عليها أموال كثيرة ، بحيث جعل خارج الحرم ، وداخله مزدانا بشتى أنواع النقوش ، والزخارف. بحيث من يراه. يرتل الأية الكريمة .. هذه جنات عدن (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) بحيث من يدخله من باب لا يوجد الخروج من الباب الآخر ، بل يتمنى لو ظل مخلدا فيه. والذين يطوفون بالبيت الحرام ، يدخلون من باب ثم يخرجون من باب آخر بعد الطواف .. ومنذ أيام خلافة الزبير بن العوام والأمور تسير على هذا المنوال. وبعده .. عند ما تهدمت الكعبة خلال حصار الحجاج الظالم لمكة المكرمة بعساكره الذين لا حصر ولا عدّ لهم ، والذين بلغوا ما يزيد عن ثمانين ألفا حسب بعض الأقوال .. ولقد وضع الحجاج المجانيق فوق جبل أبى قبيس ، وأخذ فى ضرب الكعبة ، والحرم حتى تهدمت الكثير من مبانيه .. وأخيرا تخلى الزبير بن العوام عن الحرب .. وسلّم مفتاح مكة للحجاج بعد أن أخذ الأمان .. ولكن الحجاج الظالم لم يدع عهده ، وعلّق الزبير بن العوام عند باب السلام ..

٢٢٣

وصعدت روحه إلى بارئها وإن ظل جسده معلقا .. ولما وصل الحجاج إلى مراده ، أنزل جسد الزبير من حيث صلب ، وتم دفنه .. ولم يشأ أحد من أهل الزبير أن يرجو الحجاج فى شيئ .. حتى أن والدة الزبير بن العوام رضى الله عنه كانت على قيد الحياة .. فلم تشأ أن ترجو الحجاج ، وظل الزبير مصلوبا .. حتى أنها ذات يوم كانت تمر بالقرب من الجسد المصلوب ، فنظرت نحو ولدها ، ومضت. وكذلك .. فإن شيخ الزبير ظل يخطب ، ويعظ الناس ، وهو على المنبر ، ولم ينزل قط. وكل من كان يعبر أمامه كان يستمع إلى مواعظه .. ولما علم الحجاج بذلك ، اعتبره رجاءا ، فأمر بأن ينزل الزبير ، وأن يغسّل ، وحضر صلاة الجنازة عليه فى المسجد الحرام .. ودخل الحجاج إلى ناحيته بالقرب من التابوت ، وطاف سبع مرات حول جسد الزبير. ودفنوه فى المعلا. وبعد ذلك ؛ أمر الحجاج الظالم بأن تقرأ الخطبة باسم خليفة الشام الخليفة مروان الحمار. ثم أصبح الحجاج الظالم يوسف خليفة على مكة والمدينة ، والكوفة ، والعراق ، فخلع الحطيم من حيث وضعه الزبير بن العوام ، وأمر ببناء جدار الحطيم كما كان فى عهد صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلى جدار الحطيم مكتوب بخط جميل :

بسم الله الرحمن الرحيم (.. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦) (١).

وهذه الآية بخط القره حصارى مكتوبة على الرخام الأبيض ، وقد كتبت بقدر قامة الرجل ـ وتتضح عند النظر بامعان ، وإلا فلا يلحظها كل إنسان. وجدار الحطيم أحد طرفيه عند الركن العراقي ، والأخر عند الركن الشامي. والبسملة عند هذه الزاوية. كما أن الحجاج قد جدد بناء أحد جدران الكعبة ، والجدران الثلاثة الأخرى بناهم ابن زياد. وقام الحجاج الظالم بسد الباب اليمانى الذى كان قد فتحه الزبير. وهو الذى وضع الباب الذى يطل على الجانب الشرقي حتى الآن. وهذا الباب ، باب كامل وبديع ، فى علو قامة الرجل. والرجل قصير القامة ، يجد مشقة فى تقبيل عتبة البيت الشريف .. هذا الباب طوله ستة أذرع مكيّة مضافا إليها إحدى عشر إصبعا .. وعرضه ثلاثة أذرع وإثنى عشر إصبعا.

__________________

(١) سورة النور : آية ٣٦.

٢٢٤

بيان فى بداية الخيرات والكسوة

الشريفة لمكة المكرمة

بداية ، الحجاج هو الذى أتم باب الكعبة ، وهو الذى أمر بإعداد كسوة لها من الديباج .. وفي الزمن القديم قام التّبع اليمانية يعنى السلاطين اليمنيون القدامى بكسوة الكعبة بالحصير سنويا .. وكان المأمون بن هارون الرشيد طوال مدة خلافته يكسو الكعبة المشرفة بكسوة من الديباج .. وبمرور الآيام خربت الأوقاف التى كانت موقوفة عليها ، إلى آن قامت السيدة شجرة الدّر (١) زوجة الملك الصالح نجم الدين الآيوبي بإعداد كسوة سوداء مطرزة بخيوط الذهب من آدناها إلى آعلاها .. وألبستها للكعبة المشرفة .. ومنذ ذلك الحين أطلق على الكعبة (كعبة الله) وقد يسّرت عليها الكثير من الخيرات العظيمة. ولم يتيسر لأحد من الملوك أن يسيّر إلى مكة بمثل ما سيرته هذه السيدة شجرة الدّر. وقد علم الحقير ، أنه عند ما كان ابراهيم باشا الموسطارى حاكما على مصر عيّن ناظرا لكسوة الكعبة. وأوقف الكثير من الآماكن ، والقرى المعمورة لهذا الهدف ، بحيث كان ريعها السنوي مائة وسبعين كيسه مصرية (٢). وكان أمين الأوقاف وناظر الكسوة يشترون عشرين قنطارا من الحرير ، ويصبغونها باللون الأسود ، ويشترون عشرين أوقية من الذهب الخالص ، وألفين دينارا من الصيرمة ـ «خيوط الذهب» الإفرنجية. ويقوم بتشغيلها وتطريزها مائة وخمسون نفرا من أمهر الصنّاع فى قصر يوسف بمصر المحروسة ، وفى غرة الشهر المولود (٣) ، تقام الورش ، ويغزلون ـ يبرمون الصيرمه ، ويشرعون فى الشغل ، ويعملون على مدار ثمانية أشهر كاملة ، وفى اليوم الأول من شوال يحضرون إلى مقام الوزير نموذجا من إبداعهم ، ويتم عرضه ، وعرض مهاراتهم .. فإذا كانت ممتازة ، وبلا نظير ، ينعم عليهم بالإحسانات الوفيرة ، والتى بها تقر أعينهم ، وتطيب

__________________

(١) شجرة الدّر : إحدى ملكات مصر فى العصر المملوكى الأيوبى ، وترتيبها التاسع بين الملوك الآيوبيين. تولت الحكم سنة ٦٤٨ ه‍ وتلقبت ب «ملكة المسلمين والدة خليل». «المترجم»

(٢) الكيسة المصرية : وكان ذهبها ذهبا خالصا. وعياره هو الذى تقاس عليه بقية السكة المضروبة من الذهب فى الدولة العثمانية ، والدول الإسلامية.

(٣) الشهر المولود : أى بداية الشهر الذى يولد فيه الهلال ويكون محددا لبدأ أعمال الكسوة.

٢٢٥

نفوسهم ، ويخلع عليهم بالخلع القيّمة .. وهم يستحقونها .. وأشغالهم رائعة. ويعلم الله ؛ أن من لم ير شاغل هؤلاء الأسطوات المهرة ، فكأنه لم ير شيئا على سطح الأرض كلها ـ فهى لا يمكن وصفها ، أو التعبير عنها بالكلام ، بل لابد من التمتع بالنظر والإمعان. وكما يقول الشاعر :

(شنيدن كه بود مانند ديده ..) (١)

فلذلك ، فأنت محتاج للمشاهدة والرؤية .. وجملة النقوش (لا اله إلا الله محمد رسول الله). وكما سبق السبك فى أوصاف الكعبة الشريفة وحرمها .. فإن الكسوة المشرفة تستحق هذا القدر من الأوصاف والألقاب .. ولكن ؛ كسوة هذا العام فإن أمير الحج المصرى هو الذى نال شرف اسدالها ، ووضعها على الكعبة الشريفة. وقدم تم تثبيت أطراف الكسوة بالحلقات النحاسية المثبتة أسفل جدران الكعبة دائرا ما دار ، والتى يبلغ عددها ثنتا وأربعين حلقة .. وكل منها سمك الذراع .. ولشدة لمعانها ، وصقلها فكأنها من الذهب الخالص .. هذه الكسوة المشرفة لا تخترقها الرياح .. ولأجل ذلك فإنها قد ربطت بهذه الحلقات بإثنى عشرة قنطارا من الحبال المجدولة ، والمشغولة بالخيوط البيضاء ، والحمراء .. وتحيط ببيت الله ، وتجعل الكعبة الشريفة ظاهرة ، وبادية من مسافة بعيدة ـ بحيث يبهر الإنسان ، ويبهت .. وحتى أن الستين ألف حاج الذين يمسحون بها وجوههم ، ويعفرون بأريجها جباههم ، لا ينالون منها إلا كل الخير .. وفى الطرف الآعلى من الكسوة بكرات مثبتة بحيث يمكن بها رفع الكسوة بقدر قامة الرجل حول الكعبة من جوانبها الأربعة. ووسط الكسوة المشرفة شريط مشغول بالذهب الخالص ، وكأنه يحتضن بيت الله. وهو يحيط به دائرا ما دار .. وهو بعرض ثلاثة أشبار. وقد نقشت الآية الكريمة التالية ؛ بخيوط الذهب الخالص فوق هذا الحزام :

(فى بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) هذه الخيرات العظيمة العجيبة تأتى فى كل سنة جديدة من مصر ، وتقسم الستائر القديمة قطعا قطعا ، وترسل هدايا إلى كل الملوك ، والسلاطين ، والأمراء المسلمين .. وهم بدورهم يسارعون فى إرسال العطايا ، والهدايا ، والصرة الشريفة. ويوجد فى كل الديار أقسام ، وقطع من هذه

__________________

(١) (لا يمكن أن يكون السماع شبيها بالرؤية).

٢٢٦

الستائر .. وتبركا ؛ تفرش فوق نعش الميت وهم يحضرونه فى الجنازة حيث مثواه الأخير. ولكن منذ أيام السلطان سليمان القانونى ، وقد صدر فرمان الشهريار ، والبعض يسميه خط الحج الأكبر ـ وهو يحتم أن ترسل الكسوة ، والحزام ، وستارة باب الكعبة من قبل سلاطين آل عثمان. وظلوا يرسلونها .. وأما ستارة باب الكعبة والخاصة بآل عثمان ، فكما هو محرر ، فهى بقدر القامة .. وعرض ستارة الباب المشرف ليست كنزة ـ ضيقة ، كذلك. هى من الحرير الخالص المتعدد الألوان ولكن نسبة الذهب لا تساوى نسبة الحرير. بل متناثر ، متألق ، يضفى رونقا ، وبهاءا يليق بستارة باب بيت الله الحرام ؛ بحيث أصبح لا نظير له. وضلفتي الباب المشرف هى من الذهب الخالص ، وهذا الباب أيضا من شغل وتصنيع المرحوم والدنا .. وقد شاهدت ، ورأيت ذلك بنفسى محررا فى كتابته .. وعلى ضلفتى هذا الباب المشرّف كتابة ذهبية .. وبينها هذا التاريخ :

(تما بخير مولانا السلطان البرين ، وخاقان البحرين سلطان احمد خان عز نصره سنة عشرين وألف ..).

كما أن هناك كتابة فضيّة مذهبة ، ولكن لإزدحامها وتداخلها فى بعضها البعض يصعب النظر والقراءة. وقد اكتفينا بهذا التاريخ .. وحقا أنه باب فى غاية الروعة .. ومفاتيح باب الكعبة منذ أيام الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وهو فى أيدى «بنى شيبه». وللآن وهو تحت تصرفهم ، وهم مثل آل بلال الحبشى قد دعا لهم الرسول المصطفى بعدم الإنقراض لنسلهم ، وذريتهم إلى أبد الآبدين .. وما دامت الآفلاك تدور ولذلك فهم مازالوا يتناسلون جيلا بعد جيل : بحيث لا يمكن أن تمر بمكة المكرمة بدون أن تلتقى بأحد من ذرية آل بلال وآل شيبه. وآحيانا يفد إلى مكة المكرمة بعض العظماء ، وتتوق نفوسهم الدخول إلى بيت الله المشرّف .. فيرجون الشريف فى ذلك ، فيصدر حضرته فرمانا لإبن شيبه بذلك ، وخلال موسم الحج يفتح باب الكعبة مرتين أو ثلاث .. وماء زمزم متصل بالجدار الأيمن للكعبة المشرفة .. ومن باب الكعبة ينزل بسلم ، وهو سلم خشبي سميك مكوّن من عشرة أقدام. عرضه ثلاثة أذرع. وعند فتح الباب الشريف يسحب رويدا ، رويدا .. ويتصل بعتبة الباب بروز يصعد منه بعض الحجاج ، وبعض ذوى الجرأة ، والسرعة يقفزون دون النظر إلى السلالم

٢٢٧

ويدخلون إلى الكعبة ، ولكن الحجاج الذين تتسم حركتهم بالبطئ ، ويصعدون ذلك السلم ، ويدخلون البيت الحرام .. ولكن كثير من الناس يهلكون اللهم عافنا ، فالسبعون ألف حاج يزاحمون بعضهم بعضا. ولذلك فإن العبد الحقير ، لم يتيسر له هذه السنة دخول البيت الشريف ، خوفا من هذا الزحام. ولأن بعض الفقهاء لم يرضوا بذلك ، وقالوا بجواز الطواف من الأطراف. وكان كذلك ، لأنه لم يكن هناك موضع لقدم داخل الحرم ، ولا يشترط الدخول داخل البيت الشريف .. ولو كنت مجاورا ، فيجوز لك أن تدخله خلال شهرى ، رجب ، وشعبان عند فتحه فيهما .. ولكن العبد الحقير ، تمكن من النظر بعشق ووله إلى الداخل من الباب الشريف .. فزاد شوقى ، وعشقي ، فتجولت بنظري فى البيت الشريف ..... ثم عرجت إلى سطح البيت الشريف ، ففى الركن الشمالي ، يوجد غطاء ، وكأنه مربع الشكل ، ففتحته ، وصعدت فوق السطح ، كانوا يرممون ، ويعمرون السطوح ، وكان بداخل البيت العتيق ، كما هو موجود فوق ستائر الكعبة ، مسطورة عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله وعليه ستائر من الحرير الأحمر ، وليست سوداء ...... وعلى بعض الآعمدة كتبت كلمة «الحنّان» وعلى آخر كتب «المنّان» .... وبه بعض الثريات ، ولكنه ليس مزخرفا أو مبهرجا كسائر المساجد ، والجوامع .. لأنه بيت الله .. وليس للزخرفة ، والزينة.

إن بعض الآعيان والعظماء من حجاج المسلمين يدخلون إلى داخل الكعبة الشريفة .. ويقبلون الآعتاب آلاف المرات .. وكم هى من عتبة بديعه .. فبياضها فى بياض اللبن الحليب. أو كأنها قد صنعت من الحليب.

بعد ذلك صعدت من السلالم السابق ذكرها. يضعون من ماء زمزم فوقها ، فتقف المياه ، ولذلك فقد آقاموا فوقه ، مزراب من الذهب لماء الرحمة من فوق سطح الكعبة المشرفة ؛ فتدخله المياه ، فتجرى منه المياه نحو الحطيم .. حيث كان مكان سجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين إمامته للصلاة ، وقد وضعوا علامة كالسجادة حيث كانت رأس حضرته ، وهى صخرة مربعة لونها أخضر سوماكى ، تنزل عليه المياه المتدفقة من المزراب الذهبي .. وهكذا فإن مياه الرحمة تتدفق حيث كان يسجد الحبيب المصطفى .. وتحيط بجوانبه الأربعة جدران الحطيم المذكور .. حوالى خمسمائة

٢٢٨

خطوة. وهو عبارة عن جدار دائرى .. وإمام مذهب الإمام الأعظم ، وكما كان الحبيب الأعظم إماما ، ويسجد داخل الحطيم ، فإن إمام المذهب يسجد ويؤم الصلاة منه. وموضع سجوده يقع تحت المزراب الذهبي وعلى جانبي هذه الصخرة السجّادة الخضراء ، يوجد شمعدان من الفضة المطعمة بالذهب قد قامة الرجل ، وداخل كل شمعدان تمتد شمعتان فى طول الرجل وسمك جسده ، وهما من الشمع الكافورى .. وتوقدان ليلا ، وسط مائتي فانوس تضاء ، فيتلألؤ الضوء فى كل الأجواء. ويقيم آلاف الحجاج المسلمين عبادتهم فى هذا الجو المشحون بالضياء والرجاء فى رحمة الله. وهذا المكان مكسوة أرضيته بالرخام الأبيض الناصع وهذا المكان ، مع فرش البيت الشريف دائرا ما دار مائة وسبعين خطوة. وجدران الحطيم بارتفاع ذراع مكسوة بالرخام الأبيض من ناحية جدران الكعبة. حتى تحفظ الجدران عند انسياب أمطار الرحمة. ويحلى هذا الرخام الحلقات الإثني والأربعون التى تثبت فيها أطراف ستائر الكعبة .. حقا إنها حلقات نحاسية ، ولكنها مجلاة ومصقولة بحيث من يراها يظنها من الذهب الخالص .. وكل منها كأنه طوق انسان. وهى تحيط بزوايا الكعبة الشريفة الأربع. في البداية ، زاوية ، أو ركن الحجر الأسود على الجانب الشرقي ، وفى الشرق أيضا واتجاها نحو الشمال «الشمال الشرقى» الركن العراقي .. وعلى الجانب الشمالي الركن الشامي ، وأما الركن اليمانى فيقع على الجانب الجنوبي مرتبطا بالشرق حيث الحجر الأسود.

* * *

٢٢٩

أوصاف ، ومدائح ألوان وقروقامة حجر الله الأسود :

أولا ، الحجر الأسود ، يعلو عن أرضية الحرم بمسافة زراعين ، وهو يميل إلى السواد «أسمر». وكأنه خال أو شامة الكعبة .. قد وصفه آلاف من المؤرخين .. وهو فى سمرة فاتحة .. هو خال مكة ، وشامة على وجنتها .. «بيت» :

(كعبة قبله م سنك جما لكدر

(كعبة قبله م سنك جما لكدر(١)

وقد وصفه الكثير من الشعراء وشبهوه بخال أو شامة المحبوبة الحقيقة. حقا .. إن مبنى الكعبة كله مبنيّ من البياض ، والآحجار التى فى ينعة الخضروات. ولكن هذا الحجر الأسود على جبينها الشرقي فكأنه خال وهو بالفعل قد أشرق على مكة كلها فأضاءها ، وشرّفها هو حجر مجلي ، ومصقول ، فصّ نادر من فصوص الكون الغامضة هو مجر مدوّر. ويفسره البعض على أنه من حجّارة سجّيل ، والذي نزل ذكرة فى سورة : (أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ...).

ويستشهدون بالآية الكريمة على ذلك. ومن المعروف أن أبرهة الملعون قد أراد هدم كعبة الله الشرفة. فقدم إليها .. وتذكر بعض كتب السير أنه كان يريد هدم الكعبة ليأخذ الحجر الأسود. وأنه أى أبرهه قد هدم الكعبة وألقى بكل حجارتها فى البحر عند جده .. وأنه قد تمكن من خلع الحجر الأسود من مكانه ، وفى هذه الآثناء أرسل الله عليهم طير الآبابيل ، فرمتهم بالحجارة التى جاءت بها من سجيل ، فأهلكتهم جميعا بفيلهم .. ومن بعدهم تم تعمير وإعاده بناء الكعبة الشريفة. ولكن لم يتم الحج فى السنة التى خلع فيها الحجر الأسود من مكانه. نهض آل هاشم ، وآعادوا بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود فى مكانه .. ولكن القرامطة الملاعين ، قد نزعوا الحجر الأسود من مكانه ، وآرادوا آخذه من مكة المشرفة ، والكعبة المعظمة ، ولكن وهم يحضرونه نفق منهم سبعون جملا .. ولما كان الحجر الأسود قد تكسرت بعض أجزاءه .. فعند إعادته إلى مكانه تم صب الآجزاء التى أصابها التلف بالفضة الخالصة. وما زال إلى الآن ، فإن الجزء المغطى بالفضة هو المتاح للتقبيل .. والحجر الأسود أكبر قليلا من رأس الإنسان ، وهذا هو المسطور فى كل كتب التاريخ .. وليست هناك

__________________

(١) الترجمة :إن جمالك هو كعبة قبلتى

والحجر الأسود شامتها) «المترجم»

٢٣٠

حاجة لتأكيد ذلك ، ولكن نحن نرجع فقط إلى الآسانيد التى تؤيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قبّل الحجر الأسود. وكان الحبيب المصطفى يؤم الصلاة من الحطيم .. ويعد مكان السجدة ، هناك إشارة على يمين هذه الصخرة السجّادة الخضراء لقراءة الفاتحة على روح أم الأنبياء أمنا هاجر. والكل يقرأ الفاتحة ويدعو عند ما يرى هذه الأمارة. ويستفاد مما يروى عن عائشة الكبرى. وعائشة الصدّيقة رضى الله عنهما أنهما سألتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما معناه ، هل مكان الدعاء ، ومكان السجدة التى يرمز له بالحجر الأخضر .. هل يرمز إلى شيئ ما .. فتفضل عليه‌السلام قائلا إن السيدة هاجر أم الأنبياء مدفونة هنا فى هذا المقام .. وهذا مثبت بما روى عن أم المؤمنين خديجة ، والسيدة عائشة رضى الله عنهما. وأن جميع أهل مكة من آصحاب الكتب المعتبرة يشهدون بذلك. ومن بين الأحجار التى كان يجلها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مكة كان الحجر الأسود ، والملتزم الذى يقع ما بين الحجر الأسود ، وباب البيت الشريف. وقد كان فى زمن الجاهلية ، فى الوقت الذى لم يكن فيه قضاء ، أو حكم. كانا المدعى ، والمدعى عليه يأتيان إلى هذا المقام ، ويضعان أيديهما على حجر الملتزم هذا .. فإن كان ظالما ، كان يرتعد ، ولا يضع يده على الحجر ، وإذا تجرأ ، ووضع يده ، وهو ظالم ، كان يهلك فورا. أما المظلوم فكان يجد الخلاص ، والبراءة. وفى هذا المقام ؛ يقبل دعاء الخير ، ودعاء الشر .. ومن يلمسه ، أو يرفع يده ويحلف كذبا ، فيرى العقاب فورا. ومما يجد الإعتبار ، والإحترام من قبل حضرة شفيع المؤمنين هو ذلك المكان المسمى «معجنه» وهو منخفض صغير بالقرب من باب البيت الحرام ـ الكعبة وبالقرب من الركن العراقي ، ويسمونه أيضا مقام جبريل .. ففى هذا المقام الشريف وبينما كان الخليل ابراهيم يبنى بيت الله الحرام كانت تطأ قدماه الطاهرة هذا المقام ، وكان يخمّر فيه التراب العنبري ، والطين المسكي الذى يبنى منه البيت العتيق .. ولهذا أطلقوا عليه المعجنة. ومن السنة المؤكدة صلاة ركعتين فى هذا المقام. وهو منخفض صغير مربع الشكل. وداخل مقام المعجنة هذا ، وآعلى من حجر أساس البيت الشريف بذراعين ، وعلى حجر جميل أزرق اللون مكتوب بالخط الجلي ، العبارة التالية :

(أمر بتجديده ايام مولانا السّلطان قيتباى مدّ ظله) وهنا ؛ تتم أوصاف ، وأشكال مكة المكرمة.

* * *

٢٣١
٢٣٢

فى بيان

أسماء بيت الله الحرام

إن أسماء الكعبة الشريفة مسجلة ، ومسطورة فى جميع التواريخ ، والكتب المعتمدة ، وكثير من السير .. ومما أصبح معلوما لدينا أن آصحاب البلاغة ، والفصاحة قد سطروا فى كتبهم ، وآبانوا فى سجلاتهم الأسماء الشريفة لأشرف بيت قد وضع للناس ؛ أولا ؛ اسمه القديم ، بيت الله ، ومكة المكرمة ، والبيت الشريف ، والكعبة الشريفة .. والبيت الحرام ، ومكة الشريفة ، والبلد ، والقري. وAuruz ومعطّشة ، وفاران ، ومقدّسة ، وقاوس ، وقرية النمل ، وجبابذه ، والخطيم والوادى ، والحرم ، والعرش ، وبرره ، وصلاح ، وفطام ، وزبحه وطيّبه ، وناسه ، وبيت ميعاد. وقد ذكر ابن عبّاس رضى الله عنه فى تفسيره لكلمة «معاد» أنها المراد. فى الآية الكريمة التى نزلت (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(١) فالمقصود والمراد هنا هو مكه. وغير ذلك ؛ فمن المعروف أن الفيروز آبادى رحمة الله عليه ، وقد ألّف رسالة لآسماء مكة المكرمة ؛ وقد جمع فيها ثلاثمائة وسبعين اسما لمكة المكرمة. ولكن خير ما يقال أن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يعبر عنه بالمسجد الحرام ، حيث تفضل بالقول :

(قال عليه‌السلام ؛ صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ..). وهذا حديث صحيح ، وغيره قد ذكر مئات الآحاديث الشريفة ، ورواها الرواة عن البخارى ومسلم ، كما أن هناك المئات من الآيات التى تذكرها صريحة أو تلميحا إليها مثال .. (.. ببكة مباركا وهدى للعالمين ..) وكثير غيرها من الآيات المحكمات.

* * *

__________________

(١) سورة القصص : آية ٨٥.

٢٣٣
٢٣٤

فى بيان المقامات

والأبنية الموقرة التي داخل الحرم الشريف

وعلى الجوانب الأربعة للبيت العتيق

أولا ، يطلق المسلمون علي وادي الحرم الذي يطوف فيه الحجاج المسلمون حول البيت المشرف" الوادى الابيض" فهو عبارة عن ساحة مفروشة بالرخام الابيض المجلي. وهى ضمن الحرم الشريف الكبير ، وهو يحيط بالبيت العتيق من الجوانب الاربعة ، ويحتوى الكعبة ، والحطيم الشريف ، يحيط بالمكان ثلاثة وأربعون عمودا من النحاس الأصفر إلا إثنين فقط فهما من الرخام المصنّع البديع. وهذه الآعمدة النحاسية هى من مآثر السلطان سليمان خان القانوني ، كل عمود بطول ثلاثة رجال ، وهي من النحاس المصقول. وقد سمعت من قوزى على آغا صاحب الركاب بأن السلطان سليمان خان قد كلّف الطواشي سليمان باشا بتصنيع الإحدى والأربعين عمودا هذه من نحاس مصر ، وكانت مدافعا معدّة لحرب اليمن ، ولكن سليمان خان انشغل بحروب أنغروس ، ولم يتوجه إلي اليمن ، وتمكن سليمان باشا من فتح اليمن والكثير من مدن الهند مثل دو آباد ، وأحمد آباد ، وعدد من النبادر والمراكز بمئتي قطعة من السفن التى أبحرت من بحر السويس. وقد ظل يقاتل ويناضل لمدة ستة أشهر كاملة ، حتي تمكن من استخلاص هذه المناطق من أيدى البرتغاليين الكفرة ، وضمها إلى ممتلكات آل عثمان وتمكن من أسر تسع آلاف من البرتغاليين ، واستولي علي إحدى وأربعين سفينة منهم ، وترك فى قلاع المدن ، والبنادر المفتوحة العديد من الأبطال الصناديد من جند آل عثمان ؛ وأرسل سليمان باشا بالرسل والمبشرين إلى السلطان سليمان خان يبشره بهذه الفتوحات .. وبعد العرض علي حضرة الشهريار ، أرسل إليه خطا شريفا مفاده (يا سليمان باشا أنت قربي ، فأقم فى القلاع المتينة التى فتحتها جامعا .. واقطع ـ اضرب السكة فى كل القلاع التى فتحتها باسم سليمان ، ولتقرأ في بلاد الهند الخطبة باسمى ، وارسل من السكة المضروبة لخزينتي ، وخزينة الدولة .. وسلّم زمام القلاع التى فتحتها في الهند لآخى الخاقان .. وليحضر بكل الحب ، والإحترام إلي آعتاب دولتنا ..) وما أن وصلت هذه الآخبار إلى سليمان باشا حتى قال (الأمر والطاعة ، فالامر امركم) وأمر على الفور بسك العملة ، وقراءة الخطبة باسم

٢٣٥

آل عثمان ؛ ووهب القلاع التى فتحها فى الهند إلى سلطانها .. وعاد من الهند منصورا ، ومظفرا ، ومحملا بأموال فرعون" قارون". وقام ايضا بفتح سبع مرافئ في اليمن .. وربطها ببندر جده بالإسطول الهمايوني. ثم عاد إلى جده مظفرا ، ومعه السفن التى غنمها من الكفار ، مع آموال فرعون ـ " قارون" التى لا حصر ولا عد لها .. ثم توجه منها إلى مكة المكرمة ، وقام باداء فريضة الحج ، وقام بنصب المدافع النحاسية التى استخدمها في هذه الحرب لتكون زينة فى المسجد الحرام .. فرفعها فى جوانبه الأربعة. أو أنه نصبهم من أجل المصلحة .. وهم ليسوا بأعمدة ـ هذا ما تفضل به وذكره المرحوم قوزى على آغا. والحمد لله أن تيسرلى رؤيتها بعد أربعين سنة. وحقيقة الحال ، فجميعها مدافع نحاسية شاهية. لا تعلوها أي أبنية .. قواعدها مثبتة على منصات من الرخام ، وفوهاتها إلى آعلا .. ولكن لما كانت الفوهات مسدودة فلا يستطيع الفرد مهما بلغ من الإدراك أن يدرك أنها مدافع .. وهذه الآعمدة المنصوبة متصلة ببعضها البعض بأذرع حديدية فى سماكة ذراع الرجل .. وبتناسق فإن ما بين كل عمود وآخر خمس خطوات متساوية وعلى كل عمود قد نقش علم مذهب .. وقد زينت الآعمدة بالقناديل .. وكل الحجاج المسلمون يطوفون من داخل هذه الآعمدة النحاسية. وهم حدود الطواف. ولا يكون الطواف من خارجها ؛ لإن هذه الآعمدة قد اقيمت علي آخر حدود قد سارت فيها قدمي الحبيب المصطفي أثناء الطواف .. وما بين هذه الآعمدة ، والكعبة المشرفة مفروشة بالرخام الأبيض .. وما عدا ذلك ، فليست الأرضية مفروشة أو مكسوة بالرخام. بل هى مكسوة او مصبوبة بقطع من الصخر الأسود. والرصيف ليس مكسوا كذلك ، بل مفروش بالحصى ... ولا يتمكن الإنسان من السير عليه بهدوء وسكينة. وهذه الآحجار الصغيرة ، والحصى هى كما هى ، وظلت على ما هى عليه منذ أن بنى الخليل ابراهيم البيت الحرام ... وقد تركها القائمون على المسجد تبركا ، ويكتفون بتطهيرها .. ولحكمة إلاهية ، فلهذا أيضا فائدة فلو فرشت أرضية الحرم فى أماكن الطواف كلها بالرخام الأبيض ، فإن الآماكن المفروشة لا يمكن السير عليها ، والطواف منها لشدة الحرارة فالآحجار تخفض الحرارة ، ويمكن الطواف فى هدوء وسكينة فى فترات القيظ. ولكن البيت الكبير ؛ أولا من الكعبة المشرفة وحتى باب الصفا ، وبعرض ثلاثة أذرع مكسوة بالرخام الخام الطبيعي ، ومثل هذا حتى باب

٢٣٦

البسيطية ، وآخر حتى باب الزيادية ، وثالث حتى باب السلام ، وما عدا ذلك فمفروش أى مصبوب بقطع حجرية. ومن بين الأبنية المقامة داخل الحرم الكبير المقام الحنفى .. وما بين البيت العتيق والمقام الحنفى خمسين خطوة ، وهو محفل عال كالقصر ، يصعد إليه بسلالم حجرية ، مقامة على آعمدة موزونة. وعلى جوانبه الأربعة حواف ، وكأنها شبكة مصنوعة من الرخام الأبيض الخام ، وعلى جوانبه الأربعة أيضا طاقات ـ وتيجان مقامة على أعمدة بيضاء. وعليها نقوش بديعة خطت بأنامل بهزاد ماني. والثقف عبارة عن قباب مغطاة بطبقة فضية. ويمكن أن يؤدى الآذان منها عشرون مؤذنا حنفيا .. هى كالقصر العالي عظيم التهوية. وقد قام العبد الحقير بختم القرآن فى هذه المقصورة .. وتلوت دعاءا طويلا من البحر الطويل وقد آصغى آلاف الحجاج لهذا الدعاء فى احترام وسكينة ... وكانت تهتز الأرجاء عند ما تتردد من أفواههم" آمين" وآهدينا آلاف ومئات الآلاف من الأدعية لولي النعم ، وذوى القربي من الوالدين والآقارب ، والأساتذة الأفاضل .. وإلى روح المغفور له ملك أحمد باشا ، وإلى روح الدفتر دار زاده محمد باشا ، وسيدي أحمد باشا وجا نبولا طزاده مصطفى باشا ، وإلى روح القبطان ـ قبودان حسن باشا والمولوي محمد باشا ، ودرويش محمد باشا ، وسياوش باشا ، وفضلى باشا ، والسردار على باشا .. والحاصل توجهت بالدعاء إلى كل الوزراء والمعارف ، والذين تشرفت بمعرفتهم عند الغزو ، وفى الغزوات التى حضرتها .. وتذكرت أرواح كل الشهداء .. فدعوت لهم ، ووهبت حصة من ثواب ختم القرآن الذى أتممته إلى أرواح سادتنا والذين عملوا لرفعة ديننا .. وكان الحجاج جميعا يؤمنون ، مرددين آمين ... آمين .. وناحية الزاوية التى يطل عليها المنبر الشريف لهذا المحفل الحنفى ، نقرأ هذا التأريخ :

داورى جم عظمت خان محمد يعنى

عدل داديله اديانديردى ملوك سيفى

ديدى تاريخك آنك أهل مدينه كورجك

قاتى آعلا كوزك اولدى بو مقام حنفي

" سنة ١٠٦٣" (١)

__________________

(١) الترجمة : «السلطان محمد خان هو ملك ملوك العظمة

٢٣٧

وعلي يمين هذا المقام الحنفي ، يقع مقام الإمام مالك ، وهو في مواجهة الركن اليماني ... وهو قصر تحتانى ، وليس بمرتفع. له ثقف منقوش ، مقام على عمدان. يقيم به مؤذنوا المذهب المالكي. يقيم أئمتهم الصلوات فيما بين الركن اليماني والركن الشامي. والناس يقتدون بهم ، وعلي يمينه ، وفي مقابلة ـ مواجهة الحجر الأسود مقام إمام المسجد الحرام وهو بدوره مقصورة خفيضة الإرتفاع ، ويقيم فيها سائر المؤذنين ويقيم الأئمة إمامتهم عند الحجر الأسود .. وجماعاتهم من بني البشر ذوى السحنة السوداء. وهذا المقام أيضا له سقف مقام على اعمدة والسقف منقوش ، والقبة مغطاة بالرصاص .. وداخل هذا المحفل يسكن الآغوات الطواشية خدّام البيت الشريف ، وهم يتجاوزون المائتين ، وهم من الآغوات الطواشية السمر السحنة ؛ ومعظمهم ؛ الواحد منهم خدم ما بين ثلاثين أو أربعين سنة فى الآعتاب العثمانية ، وحصلوا على الصيت والسمعة الطيبة .. وكان يطلق سراحهم ، ويسعدون بالخدمة في بيت الله الحرام. وعلى الجانب الأيمن من مقام الإمام هذا ، وعلى مسافة ثلاث خطوات ، نلحظ القصير العالي لبئر زمزم. وفوقه بناء عال هو مقام الامام الشافعي. وهو يقع فوق ماء زمزم تماما ، وأكثر علوا من سائر الأبنية ، وهو محفل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عليه الصلاه والسلام يتعبد دائما فى هذا المكان ، وهو متوجه نحو مقام ابراهيم الخليل. ويصعد إليه بسلالم ، هو قصر لطيف. ومكان عبادة محبب إلى النفس .. مقام فوق أعمدة متناسقة ، ومنقوش بزخارف ومذهّبات بديعة الصنع ، والألوان. وجميع مؤذنو الشافعيه يؤذنون ويقيمون صلواتهم فيه. وكان الإمام الشافعى يقيم إمامته فى مكان المعجنة السابق ذكره .. وكان فى البداية أولاد بلال الحبشى قد شرعوا فى الآذان من هذا المقام .. كما كان اتباع المذهب الشافعى يقيمون الصلاة فيه ، وأعقبه في ذلك الامام الحنفي ، ثم الإمام المالكي ثم من بعدهم الإمام احمد بن حنبل كان يقيم الصلوات هنا فى هذا المقام. ولما كان هذا المقام الشافعي مقام فوق مياه زمزم ،

__________________

ايقظ بعدله سيف الملوك

قال لأهل المدينة فليرى التاريخ

فأعلى أدواره ، وأضحى جميلا هذا المقام الحنفي

سنة ١٠٦٣ ه‍»

٢٣٨

ففيه ثقب ، أو فتحة ، يتدلي منها دائما دلو .. ومن تاقت نفسه للشرب من ماء زمزم فما عليه إلا أن يدلى بالدلو إلى بئر زمزم ، ثم يسحب الدلو مملوءا ويشرب .. وجماعة الصلاة فى هذا المقام مكتظة ، وهذا لحكمة من حكم المولى ...

* * *

أوصاف عين الجنة ، بئر مياه زمزم :

تقع عين الجنة هذه داخل بناء مربع الشكل تحت المقام الشافعي المذكور ... على الجوانب الأربعة ، أربع نوافذ ، اثنان يطلان على بيت الله الحرام ، والآخران يطلان علي المنبر الشريف. للبناء باب ، يقع داخل الحرم الكبير ، مفتوح ناحية الشرق ، له ضلفتان ... ولكنه باب صغير. وفوق كنار هذا الباب ، مكتوب بالخط الجلي الجميل ، وبماء الذهب هذا التاريخ :

(سلطان البرين وخاقان البحرين قلت تاريخه بلفظ قد بنى الزمزم محمد خان سنة ١٠٨٣).

بينما أن السلطان محمد الرابع ، كان قد جدد باب السعادة هذا ، وأمر بتسطير هذا التاريخ. وبئر زمزم يقع في وسط هذا البناء العالي. وعلى فوهه البئر ، فم من الرخام الأبيض فى قد الرجل ، ويحيط به أو محيط البئر يحيط به إثنا عشر رجلا .. وحول فوهه البئر سوار من الحديد دائرا ما دار ، ولأن الناس تسحب منه يوميا مئات الآلاف من دلاء الماء نهارا وليلا منذ أن كان. ولو لم يكن من الحديد هكذا لتفتت فوهة البئر. ومنذ أن عرف وقد وضعوا على فوهة البئر هذا الحديد ... ويقف أربعة رجال شداد فوق الفوهه ، وعن طريق البكرات الموجودة فى جهاتها الأربع يسحبون الدلاء .. وهكذا ليلا ، ونهارا يدب العمل والحركة لإخراج ماء زمزم لسقاية حجاج بيت الله الحرام. والحجاج أيضا يشربون من ماء زمزم حتى يذهب الظمأ .. ويتلون هذا الدعاء وهم يشربونه :

(اللهم أرزقنى علما نافعا ، ورزقا واسعا وشفاء من كل شيء .. ومن خشيتك ..) ويشربون بنية صفاء القلب والشفاء من كل داء ، ودفع العطش ، وبعدها يصبون الماء

٢٣٩

من أعلي رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم .. وفورا تجف ملابسهم من شدة الحر ، وطوال الليل والنهار ، وفى الصبح والمساء ، ولعدة مرات تملئ مئات الآلاف من القرب ، والجرار ، والزمزميات ، ومختلف الآواني المتعددة الأشكال ، والأحجام. ويقف أربعون نفرا من الاشداء وقد خضبوا أيديهم ، وأرجلهم بالحناء ، ويتبادلون سحب المياه ، فى كل نوبة أربعة منهم ؛ فلا يمكن أن يتحمل أربعة أنفار فقط سحب المياه طوال الوقت ، ولذلك فهم يتناوبون على العمل ليلا ، ونهارا. ولحكمة إلاهيه .. فآلاف الآلاف من الدلاء تسحب صبحا ، ومساءا ولا ينقص الماء قط بقدر قطرة واحدة. إنه حقا ماء ذلال ، باعث للحيوية والنشاط. فيه شفاء لكثير من الآلام .. ولا تساويه مياه الدنيا فى لذته. ومن يحتسيه فكأن رأسه. ودماغه قد شحن بالمسك والعنبر .. ولو شرب منه المرء عشرات المرات ، أو عشرات الأوقيات فلا يصيبه أي ضرر علي الإطلاق ... وأذا كانت مياه الدنيا كلها تخلو من الرائحة ، ففى الصباح الباكر تشم منه رائحة الورد ، وما أن نصل إلى وقت الظهر ، ومنه إلى وقت العصر ؛ حتى تسوده رائحة البنفسج .. وحتى وقت الغروب تتنسم منه رائحة الياسمين وحتى وقت العشاء تتصاعد منه رائحة الهندباء. وحتى أنا العبد الحقير تسللت دون علم الرقباء ، فى وقت الشفع .. فرأيت الماء ينساب كالذبد .. فشربت منه ، فكان فى لذه اللبن الحليب .. وفاحت رائحته الزكية فعطرت دماغى. وهم يملئون القماقم ، والضرب ، ويحضرونها هدية ، وتبركا إلى كل بلدان العالم الإسلامي. وفى العديد من المرات يحضرونها إلى الآلاف من الولايات. وهذا الماء الطاهر مفيد جدا لمن هم من ذوى الطبيعة البلغمية ، ومعتدل للإنسان الصفراوي ، ولو شرب بمقدار محدد لبعض الطبائع ، فتشاهد فوائده ، ونفعه. ولكن ، كأي فإن الإفراط فى الاستعمال يخلو من الفائدة. ولكن ماء زمزم يشفى بأمر الله من الداء الذى شرب بنية الشفاء منه. وخلاصة الكلام ماء زمزم لما شرب له. أي أنه شفاء لكل داء. حتى أن بعض بلغاء الشعراء زار الكعبة ، وهو محطم الخاطر ، فشرب من ماء زمزم ، فوجد فيها الشفاء. فترنم بهذه المقطوعة :

(يقولون ليلى بالعراق مريضة

فياليتنى كنت الطبيب المداويا

٢٤٠