الرّحلة الحجازيّة

أوليا چلبي

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

أوليا چلبي


المترجم: الدكتور الصفصافي أحمد المرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5227-55-3
الصفحات: ٣٠٢

جنود الشام ، وتجمعوا فى سنتنا هذه ، وإنتقموا من الآشراف لحجاج المسلمين ، وأخذوا بثأر القائد العثمانى الذى قتلوه .. وفر الشريف سعد. ونصّب مكانه الشريف بركات شريفا .. وسعدت مدينة مكة بذلك ، وساد الأمن والسكون جملة الحجاج ، والمجاورين ، وضيوف الرحمن ، أما الثلاثة آلاف جندى المصريين ؛ فقد بقي نصفهم فى جده والنصف الآخر ظلوا فى مكة المكرمة بكل ما يلزمهم من مأكولات ، ومشروبات ومعهم ست قطع من المدفعية الشاهانية ، بكل تجهيزاتها ومعداتها الكاملة ، وذخيرتها ، وظلوا لحراسة بيت الله الحرام ، والحفاظ عليه .. كما كانوا يمكثون طوال وقتهم وعمارة المدارس الواقعة على جوانب الحرم الأربعة .. كما تحصنوا بسطوح المبانى ، والمدارس حول الحرم .. بحيث صار فوق الأسطح ما يوازى نفرا ، أو نفرين للحفاظ على كل بدن يدخل الحرم. وتحول الحرم الشريف كالقلعة ، بالرغم من أن هناك قلعة عظيمة فى وسط مدينة مكة المعظمة. ولو كان بها مدافع لصارت قلعة مستحكمة تماما.

من المعروف أن الحرم الشريف فى السابق كان صغيرا ، ومتواضعا جدا ولكن تم توسيعه بما توالى عليه من الآعمال الخيرية لبعض السلاطين السابقين ؛ وأصبح الحرم الشريف واسعا جدا .. ولكن فى سنة ٩٥٩ ه‍ ، ذات ليلة رأى السلطان سليمان عليه الرحمة والغفران حضرة رسول البشرية (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فى المنام .. وخاطبه الرسول الكريم متفضلا : (يا سليمان .. سينعم الله عليك بفتح بلجراد ورودس وألف وسبعمائة وأربعين من القلاع الصغيرة والكبيرة ، وتوسّع دولة آل عثمان .. فإنهض .. وبأموال هذه الغزوات وغنائمها ، أقم قلعة متينة في القدس الشريف ، ورباطا حصينا ، في مدينتي المنورة هذه .. وانشأ حول كعبة بيت الله الحرام من جوانبه الأربعة حصارا منيفا .. إجعله فسيحا مبنيا على المتانة ..) .. استيقظ سليمان من نومه فورا .. واستبشر بفتح هذه القلاع .. وبأمر الله تيسر له فتح القلاع الحصينة .. ومن أموال الغنائم ؛ بنى قلعة فى كل من القدس الشريف ، وطيبة الطيبة. وبعدها صرف عشرة أمثال أموال خزينة مصر .. وأقام المبانى العظيمة حول الحرم بحيث أصبحت كالقلعة المنيفة .. وسنبيّن على قدر الإمكان جميع التواريخ للمبانى التى تمت.

٢٠١

أشكال ، وأوصاف وإحرام الحرم الشريف بيت الله الحرام :

ليكن معلوما للإخوان ذوى العقول ، أن مكة المكرمة ، وبيت الله الحرام تقع داخل واد ضيق ومحدود يسمى «بكه» ، ودائما إذا ما سالت الأمطار من الوديان السبعة المحيطة بها ، فإنها تتجه نحو هذا الوادى ، وتغرق الحرم .. وكان الملوك السابقون لا يجدون لذلك حلا. وفى كثير من السنين كان الحرم من كثرة الأمطار يتحول كالبحر ، وكان حجاج المسلمين يخوضون وسط آمطار الرحمة للطواف من أجل أداء الفرض ، لإن الإنس ، والجن لا يمكن أن يتخلوا عن الطواف. ولقد كلف السلطان سليمان القانوني المعمار سنان محمود باشا (١) بأن يجد وسيلة تحول دون إغراق الحرم الشريف ، والكعبة المشرفة بمياه أمطار الرحمة. وعيّنه معتمدا لذلك ، فظل سنان باشا يجدد ، ويوسع فى الحرم مدة سبع سنوات ، وعلى جوانبه الأربعة جعل تسعة وثلاثين بابا كبيرا .. وجعل العتبات السفلى لهذه الأبواب عالية ، يصعد لها بخمس أو ست درجات من الحجارة الصلدة ، وينزل منها بعشرة أو إثنتي عشرة درجة. وكانت الآبواب عالية فوق هذه السلالم ، وحمدا لله ، فمنذ ذلك التاريخ ، وقد تخلص الحرم الشريف ، والكعبة المشرفة من هذا الخطر الذى كان يتهدده. ولكن باب السلام هو الباب الوحيد الذى يخلو من السلالم فى الطابق الداخلي ، ولكن عند الطابق الخارجى فإن باب السلام يعلو عن سطح الأرض بسلّم مكوّن من ست درجات. وجميع الأبواب هكذا دائرا ما دارا ذات سلالم. أما البيت الشريف فإنه يقع داخل منطقة صخرية منخفضة ، وجوانبه الأربعة وكأنها قلعة ، ومن الثابت أن السبل قد ضرب الحرم حتى فى أيام الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وكان الصحابة الكرام يخرجون المياه بآياديهم الشريفة خارج الحرم.

وخلال خلافة الزبير بن العوام ، أقيمت للبيت الحرام عتبات طويلة ، وبالرغم من ذلك فقد دخلت مياه أمطار الرحمة عدة مرات آخرى إلى داخل البيت الشريف .. ولو لم يقم سليمان العظيم بما قام على الوجه السابق شرحه ، لما تخلص البيت العتيق

__________________

(١) المعمار محمود سنان باشا : من كبار المعماريين الذين تتلمذوا على يدى قوجه سنان باشا. وقام بتنفيذ أعمال معمارية كثيرة على مستوى الإمبراطورية العثمانية.

٢٠٢

من سيلان مياه السيل العرم. فرحمة الله عليه .. ولسوف نسجّل لكل سلطان فى حينه ما قدّمه من حسنات ، وخيرات للحرم الشريف.

أما عن باب السلام ؛ فهو ذلك الباب الفسيح الذى يشترط على كل الحجاج المسلمين أن يدخلوا إلى الحرم الشريف منه. وهو باب عال يمتد بإرتفاع ثلاثة أدوار فوق بعضها البعض. وفوق عتبته العليا ، نرى بخط القره حصارى أحمد چلبي التاريخ التالي ، وقد كتبه على رخام أبيض بالخط المذهب. والتأريخ هكذا :

(أمر بتعميره مولانا السلطان ابن السلطان سليمان خان ابن سلطان سليم خان أيد ظله سنة ٩٥٩) كما يوجد فوق البناية العليا ، هذا التاريخ (عمّر الله قبلتنا سنة ٩٥٩).

أوصاف أبواب الحرم الشريف :

لقد أطلق الناس إسما على كل باب من أبواب الحرم ، وحول الحرم الشريف الذى هو كالقلعة الضخمة تسع وثلاثون بابا فى جهاته الأربع. ولكن فى بعض الأماكن يوجد ثلاثة أبواب فى نفس المكان وسنبّين كل الأبواب الموجودة كل باسمه ، ورسمه .. أولا الحرم الشريف يقع على زوايا أربع ؛ على الجانب الشرقي أربعة أبواب ؛ أولهم «باب السلام». وهو عبارة عن ثلاثة أبواب متجاورة ، وصاف الأبواب متقنة الصنع ، مغطاة بالنحاس الأصفر الباب الثاني ؛ هو باب «بنى شيبه». وهم النسب الطاهر الذى ما زال مفتاح البيت الشريف عندهم. وهو أيضا عبارة عن ثلاثة أبواب متجاورة. كما يوجد بابان آخران على الجهة الشرقية. آحدهما هو «باب النبى». ومكانه كان بيت الرسول المصطفى ، وعند ما تم توسيع الحرم الشريف ، أصبح بيت المصطفى داخل الحرم ، وقد بنوا مكانه هذا الباب ، ولهذا يسميه الناس «باب النبي». وبالقرب منه يقع «باب الجنائز». وهو عبارة عن بابين متجاورين. وله أحزمة غاية فى الصنعة والإتقان. أما الباب الثالث فهو «باب العبّاس». وكان مكانه هو بيت العبّاس «رضى الله عنه» ، وقد ضمّه سليمان حيند"Suleyman Hanid " إلى الحرم ، وأقام مكانه بابا. وهو باب مضيئ ، ولطيف ، والأبواب الثلاثة مشرقة.

٢٠٣

أما الباب الرابع فهو ؛ «باب على» كما يسميه الآهالى أيضا «باب بنى هاشم». وبه تتم أبواب الجهة الشرقية. وفى الجهة الجنوبية تقع سبعة أبواب. أولهم يسمونه «باب الأسواق». الباب الثاني هو «باب الصفا». ويسمى أيضا «باب بنى مخزوم». ولما كان الصفا يبدأ من عنده لهذا سموه «باب الصفا». الباب الرابع هو «باب جناد». وهو عبارة عن بابين متجاورين. و «باب المجاهدية» هو الباب الخامس فى الجهة الجنوبية. أما الباب السادس فهو ، «باب العجلان». وهو عبارة عن بابين متجاورين ؛ أولهما هو «باب أم هانئ». هو غاية الغاية فى الدقة ، والصنعة. وكلا البابين متجاورين.

وعلى الجهة الغربية ؛ ثلاثة أبواب. أولهما «باب ابراهيم» أما الثالث فيسمونه «باب العمرة». وهو باب صغير ، وغير مرتفع. أما الثانى فهو «الباب العتيق». وهو باب غير مرتفع ، يميل إلى الغرب. والباب الرابع ، والكبير هو «باب زياد» .. وهو عبارة عن ثلاثة أبواب متجاورة. أما الباب الخامس فهو «باب الدرية» وهو بالقرب من منارة باب السلام. وهكذا ، هذه هى أبواب الحرم الشريف على جوانبه الأربعة. وبالحساب جملتها تسع وثلاثون بابا. ومهما كانت المسافة التى بين كل باب وآخر .. فإن التهوية والضياء ساطعة. وعلى كل باب من الأبواب ؛ وفوق عتبته العليا نقشت بعض الآيات الكريمة ، وتواريخ ، وأسماء أصحاب الخيرات الذين أقاموها ، أو رمموها ...

* * *

أوصاف أبواب الحرم الشريف وما بينها من الخطوات :

أولا باب السلام عبارة عن ثلاثة أبواب متراصة .. يدخل منه إلي الحرم. ويتم التوجه ناحية الجانب الغربى من تحت القباب والدواوين ومن بين الأعمدة اللامتناهية. وبعد العبور ، وعلى بعد خمسين خطوة يطل «باب زياد» على الشمال ، وينزل إلى الحرم من فوق سلالم حجرية مكونة من ثلاث عشرة درجة. ومن ناحية السوق ، يصعد إليه هكذا بثلاث عشرة درجة حجرية. وهو باب عال غاية فى الإرتفاع. لإن ماء أمطار الرحمة كثيرا ما كانت تحدث سيولا فى هذا الجانب. وفوق كمر الباب

٢٠٤

الأوسط من هذه الأبواب الثلاثة ، وبخط القره حصارى وعلى المرمر نقشت هذه الآية : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦))(١).

وعند الدخول من هذا الباب إلى الداخل ، يوجد حرم صغير مزين بالآعمدة المتراصة ، والمتوازية فى الجوانب الأربعة. وهو أيضا متصل بالحرم الكبير. ويتم العبور آيضا ، من باب زياد هذا ، إلى الجهة الغربية من تحت القباب. وعلى مسافة عشرين خطوة من باب زياد تكون «دار الندوة». ويسميها البعض «باب اليهود» حيث كان فى زمن الجاهلية ، فى هذا الحي دير ـ «معبد» لليهود. ولقد تهدم بعد الرسالة المهدية المحمديّة. وفى ناحية معتمة يوجد باب صغير. وينزل إلى الحرم الشريف بثنتا عشرة درجة .. ويصعد إليه بمثلها من الضاحية. ويمكن التجول من هنا ناحية الغرب من تحت القباب أيضا .. وبعد مسيرة مائة خطوة ، يوجد «باب الباسطية». يفتح أن ينظر إلى ناحية الشمال. ويمكن الدخول منه إلى الحرم الشريف بسلّم حجري مكوّن من اثنى عشرة. درجة ، وطرفه البعيد مطعّم .. ليس له سلالم. وعلى العتبة العليا لهذا الباب ، نرى على لوحة من الرخام الخام ، وبالخط الجلي المذهب الجميل هذه الآية : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠))(٢).

ومنه آيضا يتم العبور من تحت القباب إلى الناحية الغربية. وعلى مسيرة خمسين خطوة ، نجد الباب العتيق المطل على الجانب الشمالي ، وينزل من الحرم باثنتي عشرة درجة ، أرضه مسطحة ، ليس بها سلالم. وفوق كمر هذا الباب ، نرى لوحة ذهبية مثبتة ، ومكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وعند الخطوة العشرين من ناحية الجنوب بعد العبور من تحت القباب ، يكون باب العمرة ، وهو باب مكشوف.

وينزل إلى الحرم بسلالم حجرية من عشر درجات. خلفه محشو .. وعلى كمر هذا الباب بالخط الجلي كتب القره حصاري بالمذهب نص الآية التالية من سورة البقرة :

بسم الله الرحمن الرحيم ، (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)(٣).

__________________

(١) سورة الحجر آية : ٤٦.

(٢) سورة الإسراء آية : ٨٠.

(٣) سورة البقرة آية : ١٩٦.

٢٠٥

للملك قايتباى. ولكن لما كانت أرقامه مخلوطة ، فلم أتمكن من تسجيلها. وأيضا يتم التوجه ناحية الشرق ، من هذا الباب وتحت القباب ، وعلى بعد عشرين خطوة يكون «باب حزور». وهو عبارة عن بابين متجاورين .. وهو من النحاس الأصفر المصري البديع. منقوش نقشا بديعا .. بحيث أن عمالقة آسطوات وآساتذة زماننا يقفون آمامه حيارى .. وعلى جانبه الجنوبى باب مكشوف منقوش. وينزل إلى الحرم بسبع درجات تكوّن سلما .. لأنه اعتبارا من باب ابراهيم ، وآحجار الحرم طريق عام ، محال أن تعرض للسيول. ولهذا فيتم النزول والصعود من هذه الأبواب بالسلالم. وفوق هذا الباب ، وبالخط الكوفي نقرأ مايلى :

[بسم الله الرحمن الرحيم .. يا سيدى يا مبدئ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ)](١) كما نجد بالخط الجلي الآية الكريمة :

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٢). وبعد الآية نجد هذا التاريخ : (أمر بعمارت هذا الباب الشريف فى أيام مولانا السلطان الملك الناصر الدنيا والدين والسلطان ابن أبو (٣) سعيد سنة أربع وثمانة مائه).

ومن تحت القباب أيضا ، وناحية الشرق وما بين الشرق والجنوب. وعلى بعد خمسين خطوة يقع باب أم هانى. ويطل ناحية الشرق. وهو عبارة عن بابين متجاورين .. ويقع هذا الباب في أحد أركان الحرم وزواياه .. وينزل إلى الحرم بسبع درجات حجرية هو باب لطيف الصنعة. كما أنه مستراح الحجاج ذوى الحاجات ، وتهب عليه رياح الصبا ، ونسيم الصباح .. ويجد فيه الإنسان روحه من طلاوة النسيم .. وفى هذا المكان .. كان بيت السيدة أم المسلمين الست أم هانى زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. وكان الأمين جبريل ينزل بالرسالة فى سنوات النزول على الحبيب المصطفى فى هذا المكان .. كما أن الأمين جبريل قد دعى الرسول الكريم إلى المعراج من هذا المكان الطاهر .. وقد وصل الحبيب المصطفى من هذا المكان إلى القدس الشريف بالبراق حيث عرج به إلى السموات العلا .. وكان قاب قوسين أو أدنى ، حيث كلّم البارئ الخالق .. ثم عاد مرة آخرى إلى هذا المنزل الطاهر ، منزل أم هانى.

__________________

(١) سورة القصص آية : ٨٥.

(٢) سورة التوبة آية : ١٨.

(٣) فى نسخة قصر بغداد «أبو» غير موجودة.

٢٠٦

وهذا مسطور فى كل كتب السير .. والذى قام بضم هذا البيت الطاهر إلى الحرم الشريف هو سيدنا الزبير «رضى الله عنه». ولهذا فإن النسيم الجميل ورياح الصبا لا تنقطع عن باب أم هانى. وعلى العتبة العليا لباب أم هانى ، مكتوب بالخط الجلي المذهب على الرخام الأبيض الخام هذه الآية الكريمة :

بسم الله الرحمن الرحيم (.. إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)(١).

ومن تحت القباب آيضا ، وناحية الشمال ، وبعد مسيرة ثلاثين خطوة نجد باب مدرسة العجلان. وهو باب يطل ناحية الشرق. وينزل إلى الحرم بإثنتى عشرة درجة. وعلى العتبة العليا وبالخط الجلي ، وباللون الأبيض ، نرى الآية التالية مسطرة : بسم الله الرحمن الرحيم (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ..)(٢).

ثم نجد بعده «باب جياد» وباب الجهادية والذى يطلقون عليه كذلك باب الرحمة. وهو يطل على الناحية الشرقية وفوق عتبته العليا بالخط المذهب الجلي كتب القره حصارى : بسم الله الرحمن الرحيم (.. فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ ..)(٣). ثم نجد هذا التاريخ [٩٨٣٠٠٠].

ومن هنا ، وبالاتجاه ناحية الشمال ، وبمسيرة ثلاثين خطوة يكون الباب السادس ، وينزل إلى الحرم بسلالم حجرية مكوّنة من عشرة درجات. وفوق كمر هذا الباب نرى هذا الآية محفورة :

(..... وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠))(٤) وبعده ، وناحية الشرق أيضا ، ويوجد خمسة أبواب متجاورة ، ومكشوفة ، أوسطها هو أتقنها ، وأبدعها صنعا ، وآعلاها. ويقال أنه كان باب جامع السلطان حسن (٥) فى مصر. وعلى جانبى هذا الباب ، يوجد على كل جانب بابان مختلفان .. وينزل من هذه الأبواب

__________________

(١) سورة الفتح الآيتان : ١ ، ٢.

(٢) سورة الروم آية : ٥٠.

(٣) سورة النساء آية : ٩٥.

(٤) سورة ص آية : ٣٠.

(٥) السلطان حسن : من المماليك الأتراك الذين حكموا مصر ، ومن سلالة قلاوون فهو ناصر الدين محمد بن قلاوون ، ترتيبه التاسع عشر بين مماليك مصر ، تربع على عرش مصر سنة ٧٤٨ ه‍. استمر فى الحكم ثلاث سنوات ثم اعتكف للعبادة. هو صاحب الجامع الشهير القاهرة. توفى سنة ٧٦٢ ه‍. «المترجم»

٢٠٧

الخمسة إلى الحرم بسلالم حجرية عريضة ، وطويلة. وله عشر قوائم متناثرة .. وفوق كمر الباب الأوسط الكبير ، مكتوب بخط القره حصارى بشكل ساحر ، ومعجز ، هذه الآية الكريمة من سورة البقرة :

بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ..) وعلى الباب الثانى : «فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما» (١).

وعلى باب آخر ، أيضا : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣))(٢).

وعلى البابين الرابع ، والخامس مكتوب تكملة الآيات الكريمة ، ومن أبواب الصفا هذه حتى الوصول إلى الطريق حوالى خمسين خطوة داخل المحلات. ومن باب الصفا إلى الداخل ، ومن تحت القباب وبالاتجاه ناحية الشمال ، وبعد مسيرة عشرين خطوة نجد «باب البغلة». وهو عبارة عن بابين متجاورين ومكشوفين ناحية الشرق. وينزلا إلى الحرم بعشر درجات لكل منهما. ولا ترى العين فوقهما أي خطوط .. وبالسير تحت القباب لمسافة عشرين خطوة فى اتجاه الشمال يكون باب «بنى شيبه». وهو مكشوف ويميل ناحية الشمال فى الجانب الشرقي. وفوق كمراته ، نقرأ بالخط الجلي ، المذهب وفوق رخام أبيض هذه الآية الكريمة.

بسم الله الرحمن الرحيم (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))(٣).

أما باب حضرة على «رضى الله عنه» فيقع بعد مسيرة ثلاثين خطوة ناحية الشمال ، ومن تحت القباب .. هو عبارة عن ثلاثة أبواب بجوار بعضها البعض .. وينزل إلى الحرم منه بسلالم مكوّنه من عشر درجات. ولا توجد أى كتابات على عتبته العليا .. وبالسير تحت القباب أيضا يتم الوصول إلى باب حضرة عبّاس «رضى الله عنه». وهو باب مرصع دقيق الصنع ، ومكوّن من ثلاث أبواب متجاورة .. وهو يطل ناحية الشرق .. وينزل منه إلى الحرم بثمانى درجات. وبرواق ضيق يصل

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٥٨.

(٢) سورة آل عمران : آية ١٣٣.

(٣) سورة الإنسان : آية ٦.

٢٠٨

إلي باب «بنى شيبه» .. وحتى الوصول إلى «باب بغلة». نرى بطول ثمانين خطوة ، وفوق هذه الأبواب الثلاثة قصيدة عربية ، مكتوبة بالاسلوب القره حصارى ، وهى بالخط الجلي المذّهب .. وفيما بين هذه الكتابة المنمقة ، يسجل سوّاح العالم هذا التاريخ :

أمر بتعمير سلطان مراد خان عز نصره.

وعلى الرغم من آثار تعدّيات القيزيلباش (١) المنحوسين على هذا الجدار إلا أننا نستطيع أن نقرأ اسم ذى الجلال ، واسم الرسول واسم الخلفاء الأربعة. وهذه الكتابات بالذهب الخالص المصفى. وبمرور الآيام ، تهدم هذا الجانب ، فأمر السلطان مراد خان الثالث بترميمه وتجديده. وهو الذى أمر بكتابة هذا الخط الطويل ، وله تأريخ.

خير مساجد الله. البعض يقول قد سقط التاريخ ، والبعض يقول إنه تاريخ هذا اليوم .. وهناك تاريخ آخر :

(جدد المسجد الحرام مراد دام سلطانه وطال آوانه سنه) وما أن تسير عشرين خطوة آخرى تحت قباب الحرم ، حتى تصل إلى «باب النبي» صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو يطل على الشرق عبارة عن بابين متجاورين ينزل إلى الحرم بست درجات. وفيما بين هذين البابين ، نرى هذه الآية الكريمة :

بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٢). وبعد نهاية الآية نرى هذا التأريخ (أمر بتجديد باب النبى أيّام مولانا السلطان ملك الأشرف (٣) سنة ٩٣٥).

وبالسير أيضا تحت القباب ، ولمسافة ثلاثين خطوة ناحية الشمال نصل إلى «باب

__________________

(١) القيزيلباش : رافضي ، بلادين. وهم طائفة من غلاة الشيعة. وقد توغلوا بين المسلمين الأتراك ، والأكراد ، ويتصفون بالعناد ، والتزمت. تداخلت معتقداتهم ببعض الطرق الصوفية المشبوهه. يكثر تواجدهم حوالي نهر قزوين وبحيرة وان فى تركيا. «المترجم».

(٢) سورة التوبة : آية ١٨.

(٣) الملك الأشرف : من أشهر سلاطين المماليك الذين حكموا مصر ، وامتدت آياديه الخيرة إلى الكثير من بلدان العالم الإسلامي ، وخاصة مكة المكرمة ، والمدينة المنورة. «المترجم»

٢٠٩

المدرسة». ويسكن فيها أمير الحاج المصرى (١). وهى مدرسة عظيمة ، وعالية. ولكن بابها صغير جدا ، لا يعرفه كل انسان ، ولكنه يؤدى إلى شارع الصفا ، والمروة. يصعد إليه بسلالم مكوّنة من خمس وعشرين درجة. ومنه بمسافة عشرين خطوة شمالا يتم الوصول إلى باب السلام ، وحول كل هذه الأبواب من الخارج وفى محيطها كمرات أخرسة مقامة على أعمدة. وأمام كل باب صفّات مختلفة. وتحيط هذه الصفّات حول الحرم. وبعض الغرباء والمسافرين يسكنون فى هذه الصوفات ـ الأروقة. ويقع باب السلام على إحدى زوايا الحرم الشريف والواقعة فى الجهة الشرقية. وعلى الزاوية ـ «الركن» الآخرى باب عمر ، وهى تلك الزاوية الغربية. أما باب أم هانى فيقع على الزاوية الثالثة ، وعلى الزاوية الرابعة يقع باب البغلة. والسلام.

ولكن إذا ما أضفنا إلى هذه الأبواب السابق بيانها ، بابين للمدارس يصبح جملة الأبواب الكبيرة والصغيرة واحد وأربعين بابا. أما داخل الحرم ، وحول الكعبة فتبلغ المسافة ثمانمائة خطوة. وداخل الحرم ، وخارجه سلالم حجرية بلغت درجاتها مائتين واثنين وخمسين درجة. والمسافة من الداخل أي من زوايا الحرم الشريف من الداخل من باب السلام حتى باب العمرة ثلاثمائة وخمسين خطوة.

* * *

__________________

(١) أمير الحاج المصرى : منصب كان يتولاه واحد من العسكريين أو القضاة أو المشايخ ، ويكلف بمهام احضار قافلة الحج المصرى إلى البلاد الحجازية والعودة بهم فى أمن وسلام. وكانت له مخصصاته بعد أن كان منصبا شرفيا دينيا. يمثل الدولة أثناء موسم الحج. «المترجم».

٢١٠

بيان بأعداد أعمدة حرم الكعبة الشريفه وآماكن وجودها :

يوجد ثمانين عمودا مربعا عاديا ، مائة وخمسة وثمانين عمودا من الرخام الأبيض. ومن باب العمرة إلى باب أم هانى مباشرة مائتين وخمسين خطوة ، وبها خمسة وعشرين عمودا سداسيا عاديا ـ عمليا ، ومائة وخمسة وثمانين عمودا أبيضا من الرخام والآحجار ذات القيمة ومن باب أم هانى حتى باب البغلة ، حيث كتبت أسماء ألخلفاء الأربعة الراشدين بماء الذهب الخالص مسافة ثلاثمائة وعشرين خطوة ، فى هذه المسافة مائة وثمانية وخمسين عمودا من الرخام الأبيض ، ومن باب البغلة حتى باب السلام مائتين خطوة ، فى هذه المسافة ستة أعمدة سداسية الزوايا ، مختلفة الأطوال والإنحناءات. وعدا ذلك مائة وخمسين عمودا من الرخام الأبيض الخام .. وغيرها من نوعيات آخرى بحيث وصل مجموعها مائة وخمسة وثلاثين عمودا. وباختصار جملة الآعمدة الصغيرة ، والكبيرة ٦٧٨ عمودا موذونا. ولكن الحرم الشريف الذى أمر ببنائه السلطان سليمان خان ، داخل أركانه الداخلية دون أي انحراف ، بحيث تكون هذه المسافة هى أطراف حرمي الكعبة قد بلغت ألف ومائة وعشرين خطوة واسعة.

ومن الأعمدة المذكورة ٢١١ عمودا ؛ منها ٦٢ عمودا فى الجانب الشرقى ، وتأتى فى مواجهة بيت الله الحرام. و٨١ عمودا فى الجهة الشامية ويسميها البعض الجهة الشمالية و٦٤ عمودا فى مواجهة باب العمرة ، وستة من هذه الآعمدة من حجر الصوان. والباقى من الرخام الخام.

أما الجانب المواجه للركن اليمانى ؛ ففيه ٣٣ عمودا اسطواني الشكل ، واحد منها عمليا أي عاديا من حجر الصوان. والباقي من الرخام الأبيض. وعند باب إبراهيم ١٥ عمودا اسطوانيا ، أحدهم من حجر الصوّان. وأيضا أمام باب إبراهيم يوجد عمود واحد شمسى من الحجر الأصفر. ومجموعها ٢٤٠ عمودا. بعضها اسطواني ، وبعضها مسدس ، وبعضها مثمن الشكل. وثلاثة أعمدة طول كل منها ثلاثة أذرع من الصخر الأصفر المصقول ، ويسمونه لذلك الحجر الشمسي. وما عدا هذه الأعمدة التى ذكرناها ، فيوجد فى الجانب الشرقى من الحرم ٣٠ عمودا اسطوانيا ،

٢١١

وعلى الجانب ٧٦ عمودا اسطوانيا. وفى أركان المسجد الشريف أربعة اسطوانات وبداخل الحرم أمام باب الندوة ٣٦ عمودا إسطوانيا. ومن عند باب ابراهيم إلى باب زياد ١٨ عمودا اسطوانيا.

وفوق كل هذه الآعمدة التى ذكرناها فى الحرم الشريف عليها نقوش وزخارف شطرنجية الشكل ، وعليها من علامات الرونق ، والبهاء ما يجعلها ، كل واحد منها وكأنه قوس قذح أو قوس من أقواس النصر. وكلها من إبداعات المهندس المعماري العظيم سنان رحمة الله عليه. وكان يجلب لأقواس النصر هذه الآحجار ذات القيمة العالية من شتى البقاع البعيدة لعلمه ، ومعرفته بها .. وكلما أمعن الناظر النظر فيها اكتشف بها ، وفيها علما ، ورونقا ، وأبهة يبعث الدهشة والإنبهار. «مصراع» : مقام عجيب لطيف ذى بنيان متين .. سنة ٩٧٥.

وما أن ترى ذلك حتى تدعو كل الشفاه مرددة «عمّرك الله» وجعل شوكة عزك مرفوعة.

* * *

٢١٢

أوصاف القباب الكبيرة ، وبيانها :

أولا ؛ على الجانب الشرقى من الحرم الشريف أربع وعشرين قبّة عظيمة. وعلى الجانب الشامى ست وثلاثين قبة ، وعلى الجانب الغربي أربع وعشرين قبة ، أما الجانب الجنوبى فتعلوه ست وثلاثون قبة. وهناك قبة أيضا عند المنارة الموجودة فى الركن اليماني ، وست عشرة قبة فوق منطقة دار الندوة ، وخمس عشرة قبة عند حرم باب ابراهيم ، وهذه القباب العظيمة تذكرك بقبة السماء العظيمة ، ومجموعها مائة وخمسين قبة بديعة الصنع. وعدا هذه القباب فسائر الآعمدة لها قباب صغيرة. وبيانها هى الآخري كما يلى :

على الجانب الشرقى ٣٨ قبة ، وعلى الجانب الشامي ٥٩ قبة ، وعلى الجانب الغربي ٤٣ قبة ، وأما الجانب الجنوبي فتعلوه ٦٤ قبة وعلى باب السلام قبتين. وعلى ركن المسجد الشريف هناك قبة ، وعلى باب الزيارة لدار الندوة ٢٤ قبة تاجية وعلى باب العمرة قبة تاجية. وبحساب هذه القباب التاجية المنحنية ٢٣٢ قبة تاجية. وعدد المصلوبات ٥٦ مصلوبة. وحول الحرم الشريف دائرا مادار جدران تجعله وكأنه قلعة شامخة.

* * *

٢١٣

أوصاف أبدان الحرم الشريف :

أولا يقع على الجانب الشرقى للحرم الشريف ١٦٢ شرفه ، ٢٧ منها مبنية من الرخام الأبيض. ووسطهم واحدة هى أعلى الجميع ، مائة وخمس وثلاثين منها من الحجر الشمسى. وعلى الجانب الشمالى ثلاثمائة وأربعين شرفه ، ثمان وسبعين مبنية من الرخام الأبيض .. ثلاثة من جملتهم عالية ، والبقية من الحجر الشمسى. وعلى الجانب الغربي مائة وأربع اثنان وعشرين منها من الرخام ، والباقى من الحجر الشمسى. ومن ناحية باب زيارة دار الندوة مائة وإحدى وتسعين شرفه. وعند باب ابراهيم مائة وست وأربعين جدارا ، وكلها مزينة. وكلها من الحجر الشمسى ، وبحساب كل هذا يتضح أن هناك ثلاثمائة جدار وشرفه ، اللهم احفظنا .. ساعة الحصاد يمكن أن يصعد فوق سطح خمسة أو ستة آلاف مسلح بالبنادق ويكون السطح بمساعدة هذه الشرفات مساعد ، ومناسب لمثل هذه الحرب. فهذه الجدران ، وهذه الشرفات تجعله كالقلعة .. ولكن جبل أبى قبيس محيط به ، وقريب جدا ، بحيث يستطيع من يلقى بالحصى بيده لا يسمح لأى شخصى أن يسير فى الحرم. وقد حدث خلال الحرب التى درات مع حسن باشا المشار إليه ، فإن أعدادا غفيرة من الناس قد قتلوا بالرصاص المطلق من جبل أبى قبيس هذا .. ولهذا السبب فإن السلاطين السابقين قد حصّنوا الحرم الشريف من جوانبه الأربعة. وبنوا حوله المدارس دورا فوق دور ـ وسوف نتحدث عن هذه المدارس فى حينه ـ وكل نوافذها تطل على الحرم الشريف ... وخلاصة الكلام فإن تعفير الوجه على هذه الآعتاب الشريفة سعادة ما بعدها سعادة.

* * *

٢١٤

أوصاف منارات بيت الله الحرام :

ليكن معلوما لآصحاب القلوب المحبة ، والمشتاقة لرؤية الحرم الشريف الذى تحدثنا عن بعض أوصافه السابقة ، بأن هناك سبع منارات خالدة حول الحرم الشريف فى جهاته الأربع. ويتلى ، ويؤدى منها الآذان المحمدي للصلوات الخمس صبحا ومساءا وأقدم هذه المآذن هى تلك التى تجاور باب العمرة ، والتى يسميها الناس «منارة باب العمرة». وقد شرع الآذان منها فى بادى العصر. ولكن يؤدى الآذان حاليا من المقصورة التى تعلو بئر زمزم ، وكمن أول من ابتدأ ذلك شيخ من آحفاد بلال الحبشي. وكان محط أنظار ، وبؤبؤ عين المؤذنين. وعلى كل منارة من منارات الحرم الشريف السبع ، هناك سبعة رؤساء مؤذنين يستطيع كل منهم أن يؤدى الآذان على المقام الحجازى (١). وفى وقت الصلاة تجدهم جميعا يؤدون الآذان بصوت رخيم .. فتصبح به وكأنك تسمع لترانيم داود (٢) الحزينة. وهم بهذا الصوت يعلنون عن أوقات الصلوات الخمس .. والله عالم .. وعليم بأن المؤذنين جميعا حينما يرددون «الله أكبر .. الله أكبر» أن السكينة والراحة تنزل على قلوب جميع الحجاج الذين جاءوا ملبين .. ومكبرين .. ويهب الجميع لأداء الصلاة فى جميع الزوايا ، والأركان .. ولكن التمجيد الأول يتلى أولا من منارة باب السلام ، والتمجيد الثانى يقرأ من منارة باب؟ وما آحلى أن يتنافس المؤذنون فى ساعات الليل ، ووقت السحر وهم يرددون بصوت ملائكى عال (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) أو عندما يترنمون ب «الصلاة والسلام عليك يا رحمة للعالمين ويا شفيع المذنبين ..) .. فكل من يسمع هذه الدعوات النورانيه يزداد حبا ، وشوقا للصادق الأمين.

ويعتقد أن منارة باب العمرة هى أقدم منارات الحرم الشريف ، وأول من أقام هذه المنارة هو الخليفة العباسى الثاني أبو منصور الدوانقى! ويقول البعض أنه هو الذى أضاف طبقتها الثانية. ومنارة باب السلام هى المنارة الثانية ، وجددها مثل سابقتها هو سليمان خان. والمنارة الثالثة هى منارة باب علي وبانيها الآوائل هم آل العباس أي

__________________

(١) مقام الحجاز : مقام فى الموسيقى الشرقية.

(٢) ترانيم داوود : وهى الترانيم التى كان يعزفها سيدنا داوود على المزامير. وتسمى اختصارا مزامير داوود. ولها موقع دينى مميز ،.

٢١٥

العباسيين ، وبالتحديد المهدى العباسى ، وبعده ، وبمرور الأيام تهدمت ، فأمر سليمان خان ببناءها من جديد على طابقين من الحجر الأصفر .. وكان أمره أن تكون منارة رائعة. ومن يتفحصها فكأنها شجرة السرو السامقة. والمنارة الرابعة .. وهى أيضا من بناء المهدي ، وهى كذلك بمرور الآيام تهدمت ، فبناها بعده حاكم الموصل وهى ذات شرفتين .. وعند باب زياد أقام الملك أشرف برسباى (١) أحد سلاطين مصر منارة. وهى طبقتان. غاية فى الإبداع ، والصنعة .. وهى منارة سرمدية. والمنارة السابعة ، هى اعلى المنارات جميعا ، وأكثرها ارتفاعا .. ولا مثيل لها .. وقد صرف المهندس المعمارى الذى أبدعها فيها جهدا ، بحيث جعلها شيئا مختلفا ؛ فى الفن ، والابداع عن كل الّاخريات .. وصدق من قال (من لم يره لم يعرف). وعلى هذه المنارات السبع ، لا يصعد الأربعة عشر مؤذنا .. بل الآخرون يوقدون عليها القناديل فى الليالى المباركة .. وكل هذه المنارات ، ما عدا الإحدى والعشرين طبقة ، مطلية بالذهب حتى قمتها. ويوقد حول كل منهم القناديل ، بحيث يصير حول كل واحدة خمسة أو ستة طوابق من القناديل المشعشعة بالضياء. وتصبح المنارة وسطها وكأنها شجرة السرو السامقة الإرتفاع. وتظل على هذا المنوال إلى أن يغادر مكة المكرمة حجاج بيت الله الحرام. ويبلغ عدد القناديل المضاءة خلال موسم الحج الشريف حوالى ثمانية آلاف قنديل فتحول المكان ليلا وكأنه نهار مشرقة شمسه ، ساطعة سماءه ..

وإذا كنا فى هذه المقتطفات السابقة قد أحطنا علما بأبواب الحرم ، وأعمدته ، وإيواناته .. ومناراته .. فمن الجدير أن نلقى بعض الإجتهادات حول بيت الله ، الكعبة المشرفة التى هى مهجة الفؤاد ، وكما تتوسط الحرم الشريف ، فإنها تسكن ، وتتربع فى سويداء القلب لدى كل المسلمين الذين يقصدونها ملبين ومكبرين.

* * *

__________________

(١) الملك أشرف برسباى : من ملوك وسلاطين المماليك فى مصر. وله باع طويل فى عمل الخيرات ، وما زالت مآثره المعمارية تشهد على عظمة عصره.

٢١٦

فصل فى إجلال وإكرام

بيت الله الحرام .. وبيان جميع آحواله

أولا ؛ إن الحقير إلى ربه آوليا منذ أن وعي الدنيا ، وشب عن الطوق وأصبح فى عمر الشباب ، وهو يتمنى من كل قلبه ، وروحه أن يكون مولعا بالسياحة ، وطالبا للرحلة ؛ وأنه كلما أمعنت النظر فيما ترى عيناى ازدادت رغبتى فى ذلك ، وأكون طوعا للمكان .. وأظل محبوس الفؤاد بالبلاد التى نزلت قدماي بها. وأمعن النظر فى سمائها ، لأرى نجومها السّيارة ، وأشاهد بروجها برجا ، برجا .. وأقطع لذلك المنازل وأطوى المراحل. وأسابق رياح الصبا فى قطع الديار حتى أصل إلى موطن الحبيب المصطفى .. وقد قضيت وقتا طويلا آحيانا فى الذكر ، وأحيانا فى قراءة المدائح النبوية ، وأحيانا فى تلاوة القرآن الكريم .. وأحيانا فى السير والمشاهدة ، والتطلع إلى كل ما يقابلنى فى المدن العظيمة ، والقلاع القديمة .. وأعبر الأنهار ، واتخطى الجبال والوديان وكنت كلما تواتينى الفرصة أرجع إلى علم الهيئة ـ «الفلك» وكتب الآطالس الجغرافية .. وأبذل الهمة فى تدوين ما رأيت ، وتوثيق ما كتبت ؛ واتخذ من همة الأوائل نبراسا أهتدى به ... وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى أتممت الحج فى سنة ١٠٨٢ ه‍ وطفت ببيت الله العتيق .. وإلتزمت ـ بعد الإطلاع على بعض الكتب المعتبرة ، وأوصاف مكة المكرمة ، ـ أن أدون بعض من أحوال مكة ، وتجرأت على ذلك بعون الله .. وبالله التوفيق.

أولا ؛ خلق الله السموات والأرض من العدم يلفظ «كن» فيكون ، ثم استوى على العرش ، وفقا للآية الكريمة .. (... فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ..) ويسترسل المؤلف فى الحديث عن خلق السموات والأرض وما فيها من جبال ، ومياه .. ويفصل القول فى الجبال ويبين أن أعلاها على سطح الأرض مائة وثمان وأربعون جبلا .. وهم منبع المياه .. وأن جبريل الأمين بأمر من الله سبحانه وتعالى حوّل سبعة من هذه الجبال إلى رماد فى قبضته .. ومن تراب هذه الجبال السبعة أقام سيدنا ابراهيم عليه‌السلام الكعبة ، وبناها .. وفى مكانها ذكر لهذه الجبال السبعة. ويقول أن سبب تسميتها بالكعبة لأنها مربعة الشكل. ويقول وأن سبب وصفها بالحرم ، هو تعظيم من الخالق لها .. وأورد المؤلف الآحاديث الواردة فى حق الكعبة المشرفة ... ثم يستعرض ما

٢١٧

تعرضت له الكعبة المشرفة أثناء طوفان نوح عليه‌السلام .. والأسباب التى من أجلها فرض الله سبحانه وتعالى زيارة مكة والطواف بالبيت الحرام تعظيما وإكراما لأنه سبحانه وتعالى قد أنزله من الجنة ليكون مقام عبادة لسيدنا آدم بعد نزوله الى الأرض .. وكلّف الله سبحانه وتعالى آدم بأن يجعله بيتا معمورا وأمره هو وحواء بالطواف حوله .. وقد طاف آدم ومعه الملائكة حول البيت الحرام .. ولكن بعد الطوفان أصبح مزارا لبني آدم ، وفرض الله عليهم الطواف حوله .. ويقول المؤلف .. أن بيت الله الحرام الذى أنزله الله من الجنة ، وأثناء الطوفان عرج إلى السماء ـ بأمر الله ـ وخلال العروج انفصل عنه جزء يسير فى حمرة الياقوت .. وحسب رواية آخرى أنه أى الجزء الذى انفصل عن البيت الحرام أثناء العروج كان كلؤلؤة بيضاء وأن سيدنا جبريل الأمين هو الذى قام بدفن هذه اللؤلؤ فى جبل أبى قبيس وأن الله سبحانه وتعالى قد أمر سيدنا ابراهيم بإعادة تعمير وإعمار بيته الحرام بعد الطوفان ، وقد تم ذلك بتعاليم من جبريل الأمين الذى أمره أن يبنى الكعبة من حجارة الجبال السبعة المحيطة .. وكان سيدنا إسماعيل آنذاك فى الثالثة من عمره المبارك .. ولكنه كان يساعد والده الحنون ، فكان يحمل الحجارة الصغيرة الخفيفة. أما سيدنا اسحاق فكان فى الثانية من عمره ، بينما كان سيدنا ابراهيم قد بلغ المائة من عمره أثناء بناء الكعبة ، وخلال هذا البناء ؛ آخرج جبريل الأمين الحجر الذى كان قد دفنه فى جبل أبى قبيس ، ووضعه فى موضعه الحالي حيث زاوية الركن اليماني. ومما رواه الشيخ الترمذي ؛ عن ابن عباس رضى الله عنه :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ الحجر الأسود من الجنة ، وهو أشد بياضا من اللبن ، فسودته خطايا بنى آدم ..) ... وبعد أن أتم سيدنا ابراهيم بناء الكعبة تلى الآية الكريمة ..

(ان أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومن دخله كان آمنا) كما نزلت مئات الآيات الكريمة فى شأن البيت الشريف. وسوف تحرر فى حينها .. (١).

__________________

(١) لم أحاول مناقشة ما أوردة المؤلف من آراء .. حفاظا على الجو العام الذى حاول أن يحيط به ما كتبه بهذا الصدد.

٢١٨

أوصاف وضع انصاب الحرم الشريف

مضى الزمان وقام جد الرسول الكريم قصى بن كلاب بتجديد البيت الحرام ، بعد سيدنا ابراهيم عليه‌السلام .. وظل على هذا الحال حتى بعثة النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وخلال عصيان قوم قريش تهدمت بعض آجزاء مكة ، ومنها بعض آجزاء الكعبة ولكنهم خوفا من الله تجمعوا جميعا ، ورمموا الكعبة ، وعمّروها. لأنهم قد أصابهم القحط لما خرّبوها ... بحيث وصلت بهم الأمور أن أكلوا لحم الميتة ، وجفت مياه زمزم .. فأدرك قوم قريش أن الله قد أنزل بهم العذاب .. فذهبوا فى الحال إلي عبد المطلب .. وطلبوا منه أن يصطحبوا معهم محمدا ، وتوجهوا إلى جبل أبى قبيس للإستسقاء وطلبوا من محمد أيضا أن يدعو معهم .. فتفضل بالقول لهم. ما لم تعمروا البيت الحرام فلن يرضى الله عنكم. فأقسموا جميعا قائلين يا محمد .. لو أنزل علينا المطر ، وأغثنا فنعاهدك .. ونعاهد الله أن نعمر الحرم .. وتعهدوا بذلك .. فرفع المصطفى فى حضور عبد المطلب يديه الكريمتين .. وقال انظروا يا آل قريش إن الغيث سينزل بعظمة الله ، وبقدرة الخالق وعظمته أمطرت السماء ، بحيث ارتوت الجبال والوديان بماء الحياة .. مما جعل سائر قبائل آل قريش يحبون محمدا وبذلوا الهمم فى تجديد الكعبة المشرفة. وكان عبد المطلب آنذاك فى العشرين بعد المائة من عمره .. وهو جد الحبيب المصطفى .. وكان حضرة المصطفى قد بلغ الأربعين .. ولما بلغته رسالة النبوة ، كان يباشر عملية بناء مكة ، وأصبح البناء عظيما ، وأفخم مما قام به الجد قصي.

وحين ذاك توفي عبد المطلب ، ودفن بالقرب من المعلا. وكان سلطان قريش ، وكبيرهم. وبعد النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قام أمير المؤمنين أبو بكر الصديق ، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وحضرة عثمان ، وحضرة عليّ ، وحضرة معاوية ، وحضرة الزبير بن العوام والحجاج يوسف الظالم ، ومن آل العباس أبو جعفر المنصور ، والمهدى العباسى والأشرف شعبان خليفة الموصل ، والملك أشرف بارسباى ، ونور الدين شهيد ، ويوسف صلاح الدين ، والسلطان برقوق ، والسلطان فرج ، والسلطان قايتباى .. لقد قاموا جميعا بتجديد وتعمير بيت الله الحرام ، وترميم الكعبة المشرفة. ومن آل عثمان قام كل من ؛ السلطان سليم ، وسليمان خان ، والسلطان

٢١٩

مراد الثالث والسلطان أحمد ، والسلطان مراد الرابع فاتح بغداد ، وكذا السلطان ابراهيم .. ولقد قام كل هؤلاء الخلفاء ، وظل الله فى الأرض من الملوك ، والسلاطين ، والأمراء بتوسيع مكة المكرمة ، وترميم الحرم المكي ، والكعبة المشرفة ؛ بحيث فى كل مرة ، خليقا بأن يكون بيت الفردوس .. وما زال يرمم ، ويتم تعميره .. ومن يوم إلى يوم وسيظل إلى يوم الدين بيتا معمورا .. «عمّره الله إلى انقراض الدوران». وما زال إلى اليوم الصيد ، والقنص حرام داخل حدود مكة ، وما زال الحشيش والنباتات المخدرة لا تنمو بها .. وآحجارها لا تخرق ولا تصير جيرا .. ولا تقطّع أشجارها ، وطيورها .. وحمامها ، ويمامها وقف رسول الله .. لا تروّع .. ولا تخوّف .. بل تحط أسرابا .. أسرابا بين الحجاج ، ولا تخاف هى من أحد ، وأحيانا تحط على رأس حاج ، وآحيانا على ظهر ، أو أكتاف آخر .. ولكن لحكمة غريبة .. فهناك الآلاف ومئات الآلاف من الحمائم واليمائم ، ولكن لم يثبت أن واحدة منها قد حطت على سطح الحرم ، أو طلعت فوقه .. ولكن النسر الأبيض والذى يسمونه Cayluk فيأتى إلى سطوح مكة ، ويمكث بها .. ولكن غيره من الطيور ، وكل ذوى الجناح فلا تحلق حتى فى أجواء مكة ، بل إذا ما اقتربت تعود أدراجها .. وهذا سر من أسرار الله العجيبة ، فكأن الطيور هى الآخرى تعرف شرافة مكة ، وتشرفها .. وتعرف معنى الخشوع .. ولا يجوز بأي حال من الآحوال الفسوق ، والجدال فى الحرم بل هذا حرام ، ومحرّم .. ومن يجادل فيه لا يعمّر .. وللحرم الشريف مجموعة من المميزات ، والخواص ؛ أولا ؛ لو دخله كافر يسلم ، ولو جاهر بالكفر يقتل .. وكذا اليهودى .. وإذا ما دخل الظبي ، أو الغزال الحرم فلا يذبح .. ولا يتعرض له آحد ...

* * *

٢٢٠