الرّحلة الحجازيّة

أوليا چلبي

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

أوليا چلبي


المترجم: الدكتور الصفصافي أحمد المرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5227-55-3
الصفحات: ٣٠٢

وبعد كل هؤلاء ، سار الباشا فى هيبة الغضنفر ، وقد تدثر بفراءه السمّورى الغامض اللون ، وفى خصره كنانته ، وعلى رأسه العمامة السليمية ومن خلفه آغواته تهتز الأرض والسماء من وطأة أقدام خيولهم الكحيلة. وفى الصفوف الخلفية سار وراء الباشا السلحدارية (١) ، والچوخدارية (٢) ؛ بملابسهم ، ومعداتهم ، التى تبعث فى

__________________

باب السلطان. وكان عدد المكلفين بالخدمة عليهما حوالى خمسمائة حارس فى آواخر القرن السادس عشر الميلادى. ولكن من كانوا على آعتاب الدركاه العالى وحدة سنة ١٠٧٧ ه‍ قد بلغوا أربعين بلوكا.

لا يعرف بالضبط فى التاريخ العثمانى متى تم استحداث هذه القوات ، ولكن بما أن ذكرهم قد مر فى قوانين محمد الفاتح فمعنى ذلك أنهم منذ اوائل الدولة العثمانية.

وكان أحدهم هو الذى يحمل الرسائل السرية أو المهمة من العاصمة إلى والى أية ولاية. وهم الذين يستقبلون سفراء الدول الاجنبية الذين يقدون فى مهمات إلى الدولة العثمانية.

كانوا ينتقلون بين اربع درجات اعلاها هى القابوچى باشى «أى رئيس حرس البوابة» ولكنهم وصلوا إلى ست رتب فى عصر محمد الثالث. وكان من مهام رئيس الحرس هو إحضار الإبريق والطشت أمام الصدر الأعظم لغسل يديه بعد تناول الطعام فى ديوان الهمايون.

بلغ بعضهم رتبة الوزارة ، ثم أصبحوا قوة من قوات النظام الجديد بعد إلغاء الانكشارية ، ثم اصبحوا هم الذين يناط بهم عمل الركاب السلطانى ..

فى عهد السلطان محمود الثانى أى فى سنة ١٢٤٤ ه‍ ـ ١٨٢٨ م حددت لهم مهامهم ، وملابسهم وساعات الخروج مع السلطان.

فى سنة ١٢٤٧ ـ ١٨٣١ م تقرر رفع راتب من يخرج منهم على المعاش إلي ثلاثمائة قرش شهريا.

كانوا يكلفون بالخدمة فى الضواحى وكثير من الولايات الأخرى وخاصة الحرمين الشريفين.

تكونت منهم بلوكات ، وكان لهم كتخداهم أى معتمدهم. ووكيلهم ، وكانت لهم عنابرهم الخاصة بهم. «المترجم»

(١) السلحدارية ؛ سلاحدار"Silahdar " : لقب يطلق على واحد من كبار رجال السراى. وكان يوازى له من كبار رجال السراى. وكان يوازى له لقب «سلحدارى شهربارى». ويوازى أيضاا «سلحدار آغا» أى آغا السلحدار أى الآغا حامل السلاح. وفى بداية الأمر كان من الأركان الخواص ، وثانيهما ، أما الأول فهو «رئيس القاعة الخاصة». وكان السلحدار من المقربين للسلطان ولهذا السبب كانت من الوظائف المهمة.

وخلال المواكب الإحتفالية والمراسم كان يسير خلف السلطان مباشرة على الجانب الأيمن وقد امتطى صهوة جواده المطهم ، وهو فى كامل ملابسه المرصعة.

قد استحدث هذا اللقب فى عصر يلدبرم بايزيد ـ بايزيد الصاعقة ، ويبين قانون محمد الفاتح أن هذا المنصب كان مهما منذ ذلك التاريخ .. وكان صاحب هذا المنصب يتلقى تعليما ، وتنشئة جيدة مسبقة فى السراى الهمايونى.

كان صاحبه يتدرج فى مناصب سابقة حتى يصل إلى هذا المنصب. وكان منذ عهد السلطان مصطفى الثانى أى ١١١٠ ه‍ ـ ٩٩ / ١٦٩٨ م يصدر بشأنه فرمان خاص بمن يتولى هذا المنصب مما زاد من قيمته.

وكان من حقه أن يشرف ، ويفتش على كل الوظائف والمهام داخل السراى.

وكانت تمنح لهم رتبة الوالى على بعض الولايات المهمة مثل مصر وغيرها كنوع من الإحسان السلطانى ؛ كترضية أو كمكافئة ، أو أن يعيّن أحدهما قبطانا بحريا أو قائدا للإسطول ، بل وصل بعضهم إلى الصدارة ، ومن لم ينل رتبة الوزارة فقد كان ينال الاقطاعات ، والزعامات والتيمارات الشاسعة. ومن كان منهم ينال هذه العطايا فقد كان يعيش طوال حياته مرفها.

١٨١

النفوس الحشمة والهيبة ، فى نفس الوقت ، ومن بعدهم رئيس السقائين وقد حمل فى يده مطرة «قربة» من الجوهر الخالص ، ثم ثمانية من الشطار (١) وقد علقوا فى خصورهم أحزمة من الفضة الخالصة ، والبلط الفولاذية ، وعلى رؤوسهم طاسات ذهبية ، وفى أعقابهم ، أمير الاسطبل (٢) وقائد بلوك الحرس ، والإمام والمؤذن كل على صهوة جواده.

كما كان الباشا قد إرتدى درعه كذلك ، وكان يمضى فى تئودة ، وهو يلقى بالسلام ، والتحية على من إصطفوا على الجانبين ، ويرد عليهم تحياتهم. وكانت الصفوف الخلفية تشمل بقية السلحدارية ، والچوخه دارية ، وحوالى مائتين من الآغوات ؛ وقد ارتدوا ملابسهم المزدانة بالقصب والقشيب ، ثم

__________________

ومن كان يعين سلحدارا ، كان يمنح مبلغا نقديا تحت مسمى «عجميلك» قد وصل فى القرن الثانى عشر الهجرى ، الثامن عشر الميلادى ١١٦٠٠ آقچة.

وكان السلحدار يختار من بين الشخصيات العلمية وقد وصل منهم ما لا يقل عن عشرين شخصية بمنصب الصدارة العظمى.

كان يطلق على رئيسهم «سلحدار آغا» أى آغا السلحدار. كما كان من بين تشكيلات الانكشارية بلوكا يطلق عليه «بلوك السلحدار» وكانت قواته من الخيّالة والفرسان. كما كانت هناك خزينة خاصة تحت حراستهم ملاصقة لدائرة السلطان ، ولدائرة الأمانات المقدسة فى سراى السلطان ، وكانت تحفظ فيها الأشياء القيمة إلى جانب أسلحة السلطان.

وهم الذين كانوا يؤمنون طريق الجيش عند التوجه إلى الحرب. ومن القوات المهمة المرافقة لموكب الحج والمحمل المتجه إلى الحرمين الشريفين ، وتكون هذه القوات تحت إمرة أمير قافلة الحج الشامى. «المترجم»

(٢) چوخه دار ـ Cuhadar : مصطلح يطلق على الشخص الذى كان يقوم على خدمة السلطان فى إعداد ، وتنظيف وتلبيس الأحذية.

ثم توسع حتى شمل من يقومون باسدال الستائر وفتحها فى السراى ، وقصور الوزراء وكبار رجال الدولة. ولما كانوا يلبسون الجوخ فقد أطلق عليهم الإسم مشتقا مما يلبسون «أى آصحاب الجوخ».

ومن يقوم بهذه المهمة فى المقاسات العسكرية يطلق عليهم «پارده چاويشى» أى جاويش الستارة. وكانوا يتولون أعمالا أخرى إلى جانب أعمالهم هذه. وكانوا يمرون ضمن المواكب والإحتفالات كنوع من الزينة ، والبهرجة وإظهار للثناء. ثم انتقلت هذه الوظيفة إلى سائر الولايات. كما كانوا يتواجدون فى رفقة قادة الجيوش فى وقت الحرب ، وفى معية أمير قافلة الحج. «المترجم»

(١) الشطار : جمع شاطر

مصطلح يطلق على قسم من الذين يكونون فى معية السلطان العثمانى وكانوا يسيرون فى كوبة مطنطنة حول السلطان بملابسهم المزركشة زيادة فى الأبهة. وكان هناك مثيل لهم يسيرون حول الصدر الأعظم ، أو الوزراء. وكانوا مرتبطون بالتشكيلات الملحقة بالسراي. ويمكن اعتبارهم الحرس الخاص للصدر الأعظم ، والوزراء فى بعض العصور. ويطلق على رئيسهم «شاطر ياشى» الباششاطر. (المترجم)

(٢) أمير الأسطبل : آميرى آخور : لقب يطلق على المسئول عن الإسطبل السلطانى ، وكان هو المنوط به إعداد الجنول للسراى ، وللسلطان. ويعتبر من كبار القواد ورجالات الدولة. والمقربين إلى السلطان. (المترجم)

١٨٢

الكتخدا ، والخزنه دار (١) وفرقة الموسيقى المكونة من ثمانية أطقم ، وهى تصدح بموسيقاتها العسكرية. وكانت مكة ذاتها ، البطحاء تصدح هى الآخرى بتلك الموسيقى. ومن خلف الفرقة الموسيقية رئيس الطباخين ، والذوّاقة (٢) بآعلامهم ، وكتخدا الاسطبل ، والسرّاجين ثم السقّائين ، والجمّالة ، وحملة المشاعل. ومن بينهم جاوشية إثنى عشر آلايا (٣) من المشاة ، وقد امتطوا صهوة جياد ، مزدانة ، آعرافها بزينة براقة ، وقد ارتدوا هم أنفسهم الملابس الحريرية ،

__________________

(١) خدينة دار ـ الخازن ؛ Hazinedar : مصطلح مالى ، وإدارى يطلق على القيّم على الخزينة التى تحفظ فيها الأشياء القيمة والمجوهرات الخاصة بالسراى ويرأسهم من يطلق عليه خزينه دار باشى أى الباشخزينه دار أو الباشخزنه دار. وهو اللقب الذى كان يطلق على رئيس خزنة السلطان فى السراى. وهو من أهم الشخصيات فى السراى ، أو فى قصر الحكم فى الولايات. وكان من الضباط الكبار فى السراى. وهو المسئول عن الموظفين الذين يعملون تحت إمرته. ومن ضمن وظائفه إلى جانب الحفاظ على الخزينه ، فهو يباشر فرد سجادة الصلاة للسلطان أو الصدر الأعظم الخ كما يهتم بقفازات السلطان ، وحمايته من أى ضرر قد يكون كامن فى هذه الأشياء. وفى الأيام الأخيرة من حياة الدولة العثمانية انحصرت هذه الوظيفة فى سراى طوپ قپو فقط.

كانوا يذهبون فى رفقة أمير الحج وهم المناط بهم حفظ الهدايا التى تقدم إلى الحرمين الشريفين ، والأشراف ، والسادات والمجاورين والعلماء فى مدن الحجاز فى موسم الحج «المترجم»

(٢) الذواقة ـ چشنه كبر ؛ ـ چشنى يار : Cesniyar : هو المكلف بتذوق سائر الأطعمة قبل تقديمها داخل السرايى .. وهم مخصصون للعمل داخل قسم الحريم فى السراى. وكانوا يقسمون إلى مجموعتين ، إحداهما يتولون الخدمة العامة والأخرى للخدمة الخاصة داخل قسم الحريم. وكان كل قسم مكون من سبع وظائف يعملون داخل السرايا. وكان وهم ؛ الخزينة دار صاحب الخزينة ، الأبريقدار ـ صاحب الإبريق وحامله. اوسطى الكيلار ، اوسطى الغسيل ، الأوسطى القهوجى ، اوسطى الصناديق ـ صناديق الحلي والملابس» وكان الذواقة على رأسهم جميعا. ومنوط به سلامة السلطان أو الصدر الأعظم ، أو الوزير ، أو الوالى أو من يقوم بخدمتهم. وكان الذواقة مع اوسطى الكيلارهما. المسئولون عن الطعام والشراب فى السراى أو الوالى ، أو أمير الجند ، أو قافلة الحج ، وكانوا جميعا يمرون فى المواكب بملابسهم المميزة لهم.

وكان كلاهما يظلان بالقرب من المائدة حتى رفعها. ومناط بهما اعدادها ، وتذوق الطعام والفاكهة ، والشراب قبل تقديمها. «المترجم»

(٣) الآلاى : Alay : مصطلح عسكرى يطلق على جماعة أو مجموعة متجانسة تمر فى موكب ما ، وأصبحت تطلق على العرض العسكرى. أو الموكب الذى يمر أمام السلطان ، أو الملك ، أو الرئيس فى أيام معينه. ومن أهم الشخصيات فى المواكب أمير الآلاى ، وقائد الآلاى ، وأمين الآلاى. وكاتب الآلاى.

وكذلك أخذ يطلق علي مجموعة فى التشكيلات والتنظيم العسكرى ؛ فالآلاى ؛ يضم المشاه ، والخيالة والمدفعية ، ومن نظم الجيش العثمانى أن الآلاى يتكون من أربعة طوابير مشاه ، وخمس بلوكات فرسان ، وست بطاريات مدفعية فى كل بطارية أربعة مدافع بأطقمها.

وإن كان هذا التشكيل قد طرأت عليه الكثير من التغييرات على مر العصور. وأضيف اليها فى العصر الحديث ؛ إمام الآلاى ، ومفتى الآلاى ، وجاويش الآلاى. وكان لكل آلاى علمه الخاص به يرفعه عند المرور فى الموكب أو العرض العسكرى. «المترجم»

١٨٣

والمخملية ، والمكونة من شلوار أطلسى ، وعمامات خرطاوية ، وقد أمسكوا فى أيديهم صولجانات فضية ، وكانوا يمرون من بين الصفوف من حين لآخر للإشراف على حسن اصطفاف الجنود.

لقد مر موكب الباشا ، وآغواته ، وبعد ذلك اختلط الجنود المصرية والشامية ببعضهم ، وأطلقت الفشنكات فرحا ، وإبتهاجا ، وضجت كل النواحى بأصوات البنادق ، التى انطلقت فى كل مكان.

وبعد أن عبر الموكب مطلعا ، ترائى للجميع آعيان مكة ، وأشرافها ، ومواكب الشريف سعد شخصيا برجاله الحفاة ، العراة ، الرؤوس ، وقد وقفوا على يمين الطريق للتحية بملابسهم البيضاء ، ولم يضعوا على رؤوسهم عماماتهم الخضراء.

فيحكى أنه عندما كان قايتباى سلطانا على مصر حضرت شقيقته إلى مكة ، ولكن شريفها لم يسمح لها بالزيارة ، والطواف ما لم يأخذ ثلاثة آلاف دينار ذهبى ، كما تقاضى من كل حاج عند الطواف مائة دينار. وعند عودة شقيقة قايتباى ، أراد مقابلتها ، ولكنها رفضت اللقاء معه ، ولما سألوا عن السبب قالوا :

(آلا تخاف من السلطان قايتباى .. حتى تطلب من شقيقته ثلاثة آلاف دينار؟ فقال هو بدوره ـ إن كان قايتباى قادرا ، فليحضر بعشرة آلاف فارس ، وليسترد هذه النقود إن استطاع. وما كان من شقيقة قايتباى إلا أن قطعت على نفسها عهدا آلا تكلم آخاها ما لم ينتقم لها منه).

وعلى الفور أعد قايتباى إثنى عشر ألف فارس ، وسار بهم نحو مكة. وقبض على كل الآشراف ، واسترد أموال الحجاج ، وبعث بسبعمائة شريف إلى مصر ، ومنعهم من «لبس العمامة الخضراء ، أو ركوب خيول لها ذيول ، أو إرتداء أى نوع من الآخذية. بل عليهم أن يمتطوها ، وهم حفاة الأقدام ، وألجمتها من الحبال العادية». واستبقى ثلاثة أشراف فقط فى مكة ؛ أحدهما الشريف الكبير ، والثانى شريف الميمنه ، والثالث شريف الميسرة. وهكذا ، وفى مكان العرض المتواضع رأيت بنفسى الأشراف ، والمكيين على هذا المنوال السابق شرحه. وفى هذا العرض كان يوجد الدراويش الزيديين. وحوالى مائتين من جنود الشريف العراة.

١٨٤

وصل موكب حسين باشا إلي وادى «أبطح» ومر بالمكان المسمى «المعلا» ، وعلى جانبى الطريق إصطف مئات الآلاف من الحجاج الذين وفدوا من شتى بقاع العالم الإسلامى ، وكانوا يرددون «حفظك الله يا وزير السلطان» أما النساء فقد كن يطلقن زغاريدهن المدوية من مقام الحجاز. وما أن مر الموكب من منطقة المعلا هذه حتى بدت للجميع مدينة مكة المكرمة. وعلى كل حاج ، أو عابر لمنطقة المعلا هذه أن يقرأ سورة (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) ....)(١) لإن آلاف من الصحابة الكرام مدفونين بها. ولما بدت مآذن ، ومنارات مكة المكرمة ، للعيان ، علت أصوات جند الإسلام جميعا بالتلبية مرددين «لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك ...» فالإكثار من التلبية مستحب.

وفى اليوم التاسع من ذى الحجة لسنة ١٠٨٢ ه‍ ـ ١٦٧١ م ، هذه أقام معالى الوزير حسين باشا معسكره فى منطقة المعلّا هذه.

وادى المعلا :

هنا أخذ الجند يطلقون البنادق ، والمدافع ثلاث نوبات متتالية ، حتى دوت الوديان ، والسماء مرددة أصوات تلك الطلقات. ثم إنعقد الديوان (٢) بعد ذلك. ثم أصدر الباشا أوامره وتنبيهاته التى بلغت إلى الجنود الشاميين ، وإلى جنده عن طريق الجاوشية ، بأن يكون الجميع فى وضع الإستعداد وأفتى أرباب المذاهب الأربعة ؛

__________________

(١) سورة التكاثر الآيتان ١ ، ٢.

(٢) الديوان ـ Divan : أصلا فارسيه ، أنتقلت إلي اللغة العربية مع بدايات الفتح الإسلامى ، ويستخدم فى معانى مختلفة ؛ فيجتمع فيه أهل الحل والعقد لتسيير أمور الأمة سواء من النواحى السياسية ، أو العسكرية ، أو المالية ، أو الإدارية ، أو العدلية ، أو المالية.

فى النواحى المالية ؛ يعنى دفتر قيد الدخل والمنصرف فى كل المصالح الإدارية ، أما اداريا فيطلق على الهيئة أو الجماعة التى تدير الأمور بالدولة ؛ فهناك ديوان الرئاسة ، وديوان الوزارة ، وديوان الولاية ، وديوان الإمارة ، وديوان الحرب ... وقد عرفته كل الدول الإسلامية.

أما الديوان فى الأدب فله مجال آخر.

وكان لكل ولاية ديوان خاص بها ، يرأسه الوالى ، ويتكون من أركان الولاية للبت والنظر فى شتى أمورها. وحتى كان للديوان ترجمانه للقيام بمهام الترجمة فى الولايات التى يتطلب فيها الأمر ذلك. وكان ديوان الحرب ينعقد تحت رئاسة السلطان ، كما أن ديوان قافلة الحج كان يضم كل الشخصيات المعنية ، ويرأسه أمير قافلة الحج. «المترجم»

١٨٥

«ألا يحرم الجند ، ويكفى أن يلبسوا ملابسهم مقلوبة وأن تجولهم ، وهم يحملون سلاحهم سنة». وهكذا ، بهذه الكيفية أدى الجنود طواف القدوم ، وسعوا بين الصفا ، والمروة مؤدين العمرة.

وفى اجتماع الديوان قال المجتمعون «ان الشريف ينوى العصيان ، ومن المناسب عزله ، وتعيين الشريف أحمد مكانه». ولكن الباشا اعترض على هذا الرأى قائلا :

ـ أيها الآغوات .. أيها البكوات .. أرجو الإنتباه ، إلى أنه لو حدث ذلك الآن .. فإن جميع خلق الله هنا سيداسون تحت سنابك خيول البدو .. فلا تقولوا مثل هذا الكلام». وما أن قال ذلك حتى تعجب المصريون والشوام.

وقام الباشا بالتوجه إلى مقام الشريف سعد ، وسلّمه رسالة السلطان ، وأنعم عليه بفراء من السمّور. فما كان من الشريف ؛ ردا على هذا الإنعام ، وبناءا على طلب الباشا منه إلا أن يكون فى خدمة حجاج بيت الله الحرام ، وأن يتوجه إلى منى وأن قدم إلى الباشا القهوة العربية ، والشربات ، وماء الورد ، وأهداه مجوهرات ثمينة ، وفرسين كحيلين ، وقطارا من الجمال الهجين ، وعلى صهوة كل منهم غلاما حبشيا عاد الباشا إلى خيمته ، وعلى الفور توجه إلى منى ، وعرفات. وصعد إلى عرفات فى موكب عظيم ،

وإلى عرفات ، ومنى وحيث يقيم الباشا معسكره ، يفد البدو والإعراب من كل صوب بآغنامهم ، ويتسابقون فى تقديم الهدايا إلي الباشا. وكل الآشراف يعيشون فى بزخ ، وترف ، وذوق ، وصفاء على عرفات ، فهم جميعا من أهل الذوق ، وحب الحياة. فمرتباتهم تأتيهم بلا تعب ، أو كد ، ويعيشون على ما يأتيهم من هدايا ، من كافة أنحاء العالم الإسلامى ، والأشراف أناس مسرفون جدا ، فكل شريف منهم ينفق مالا يقل عن أربعة ، أو خمسة آلاف دينار ، ذهبى ، منذ خروجه من مكة إلى وصوله إلى عرفات فقط ؛ ففى مكة يتم التعامل بالعملات الذهبية ، والفضية فقط.

وفى يوم التلبية ؛ يتوجه أولا جند مصر إلى عرفات ملبين ، ثم يمر الجنود الشاميين بالمحمل الشريف (١). وهما تمام وصول مواكب كل من مصر ، والشام ، ومكة إلى عرفات.

__________________

(١) المحمل الشريف : مصطلح إدارى يستخدم للدلالة على الوسيلة التى كانت تستعمل لحمل ، ونقل الصرة

١٨٦

وقد نزلت آية كريمة ، من قبل رب العزة ، والجلال ، بواسطة جبريل الأمين ، على الرسول الأكرم ؛ عن مناسك الحج ؛ التى علّمها صلى‌الله‌عليه‌وسلم للخلفاء الراشدين ، والصحابة الأخيار ، واخلافهم المحترمين (١).

وطبقا لما يذكره المفسرون ، فى كتب التفسير ؛ فإن هناك سبع وسبعون آية كريمة (٢) ، نزلت عن مكة المكرمة. وفيما يلى كيفية آداء فريضة الحج :

يصل الحاج إلى مكان الميقات حيث يغتسل ، ويحرم ، ويجب أن يتخذ لنفسه مطوفا أى مرشدا ، ثم يمر بمكانى المعلا ، والأبطح ملبيا.

والأبطح مكان به بساتين ، وقبور ، ومنه يدخل الحجيج إلى مكة. وهنا لك ، داخل السوق توجد تبتين ، حادتين. ومن هنا لك تبدو مآذن مكة. ويعبر الحاج من ذلك الموقع ، وكذلك سوق الصفا والمروة ، وهو يدعو متجها ، نحو الحرم الخارجى ، لباب السلام. وعليه أن يدخل من باب السلام مبسملا. وباب السلام هذا يفتح صوب المشرق ، وعلى عتبته يوجد حجر نفطي أى يميل لونه بين الأسود ، والأخضر ، وعند الدخول من هذا الباب ، فعلى الداخل أن يطء هذه العتبة بقدمه اليسرى ،

__________________

وستارة الكعبة الشريفة والهدايا المقدمة من الخليفة ، أو السلطان ، أو الوالى ، أو الحاكم إلي الحرمين الشريفين ، وأهل الحجاز عامة ، خلال العصور الإسلامية السابقة. وغالبا ما كانت هذه الأشياء تحمل على الجمال ؛ ولو كان السلطان أو والى مصر يشيّع بنفسه المحمل عند سفره من استانبول ، أو القاهرة ، أو الشام ، وكانت تتم مراسم تسيير المحمل مع آلاى الصرة فى اواسط شهر شعبان من كل عام ، وسط احتفالات شعبية ورسمية بديعة.

وكان كل والى يتولي شئوون المحمل ورعايته خلال مروره عبر ولايته ، ثم يتم استقباله من قبل أمير مكة وواليها وقوادها ، وآغوات الحرمين فى كل من المدينة المنورة ، ومكة المكرمة وسط حفاوة بالغة. وقد أفرد الحديث عنه فى المقدمة. «المترجم»

(١) آيات مناسك الحج :

١ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) سورة البقرة آية ١٨٩ مدنية.

٢ ـ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) سورة البقرة آية ١٩٦ مدنية.

٣ ـ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) سورة البقرة آية ١٩٦ مدنية.

٤ ـ (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ) سورة البقرة آية ١٩٧ مدنية.

٥ ـ (وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) سورة البقرة آية ١٩٧ مدنية.

٦ ـ (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) سورة التوبة ، آية ٣ مدنية.

٧ ـ (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) سورة الحج ، آية ٢٧ مدنية.

٨ ـ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) سورة آل عمران ، آية ٩٧.

١٨٧

ويسير مسافة ثنتا عشرة خطوة ، فتبدو له كعبة الله ، وقد توسطت البيت الحرام ، وهى مزدانة فى كسوتها السوداء. وباب السلام مكون من ثلاث ضلف متجاورة ، وما أن يدخل الفرد من هذا الباب حتى يسمى باسم الله ، ثم يلبى سائرا ، داخل الحرم حوالى مائتى خطوة.

ومعنى التلبية : «عند ما بنى سيدنا ابراهيم الكعبة أمره الله تعالى قائلا : يا إبراهيم قل لعبادى ليأتوا إلى بيتى ، من يؤمن بى إلى يوم القيامة. فبلغ سيدنا إبراهيم أمر الحج ، هذا ، إلى أبناء آدم ، فقالوا لبيك .. يا من دعاك الله ، وجعل الحج من نصيبك ، فيجب ألا تكف عن التلبية ، وألا تسقطها من لسانك .. فأنت ضيف الله مدعو من قبل الرحمن :

(من كان له نصيب فى الكعبة فرحمة الله له فالحق يدعو من أحبّه إلى بيته).

* * *

١٨٨

فصل في أوصاف طواف الوداع

إن طواف الوداع ، يسمى ايضا طواف طواف" صادر" ومناسكه كمناسك طواف القدوم ، أو طواف الزيارة .. وكما سبقت الاشارة يتم الطواف سبعة أشو اط ، ثم الصفا والمروة ، ثم الدعاء المعهود ، وتمني العودة والدعاء لذوى القربي .. ومن سألنا الدعاء بأن ينالوا ما نلّنا .. وبعد الحلق أو التقصير ، يتم خلع الاحرام .. ولا تجوز العمرة بعد أداء طواف الزيارة .. ولكن خلال طواف الزيارة لك أن تجلس في الكعبة المشرفة ما طابت نفسك بالجلوس. وبطواف الوداع هذا المشار اليه تكون مناسك الحج قد اكتملت .. وخلال هذه المدة يمكن أن تهب الدعاء. والحج إذا كنت نويت الحج عن أحد ـ لمن أردت من الاهل ، أو الاستاذة أو أولياء النعم .. ولا بد أن تكون علي ثقة من تمام اركان الحج حتي تنال القبول .. ويكون الحج مبرورا .. ومن المعروف أنه بعد النزول من مني وأداء طواف الوداع هذا فيحق لك بعدها التوجه إلي المدينة ، أو جده ، أو ينبع .. والذين ينوون التوجه إلي مصر يكونون قد أدوا طواف الوداع .. ولكن يجب في هذا الطواف السكينة ، والهدوء ، وعدم السرعة مثلما يحدث في الطواف السابق .. بل يكون علي تؤوده .. وحتي السعي بين الصفا ، والمروة يجب أن يكون علي مهل هذا الطواف ، واجب علي كل صادر أي مغادر ، ولكنه غير واجب علي المكيين والمقيمين .. ولكن لو أدّوه فهو ثواب ، ومهما كانت قدرتك علي شرب ماء زمزم .. فاشرب .. وأشرب علي نّية ما تشرب من أجله واصبب من ماء زمزم ـ قبل المغادرة ـ علي شعرك ولحيتك ، واغسل وجهك ، ولو أمكنك الغسل بنية الاستشفاء ، فهذا أيضا جائز .. ولكن لا يجوز الاغتسال ، والتطهر به في غير مكانه ، أو موضعه .. وبعد ذلك قبل أعتاب واستار الكعبة .. وإذا كان متاح لك دخول بيت الله الحرام ، فادخله ولكن بعض الفقهاء ؛ يرون أنه من الافضل عدم الدخول .. ولكن من يكتب له الله أن تلمس قدماه أرض داخل الكعبة ، فكأنما قد لمست أو لامست قدماه كل بقاع الدنيا .. وقد منح الله هذا الفضل للخادم الحقير إلي ربه .. وسجدت تحت المزراب الذهبي.

يحرص الزوّار ، والمودعون أن يلمسوا ، أو يمسحوا وجوههم ، وصدورهم فى جدران الكعبة ، وتزداد هذه الرغبة فيما بين باب الكعبة ، والحجر الأسود ويحاولون

١٨٩

جهد طاقتهم تقبيل الحجر الأسود ، ويتعلقوا بأستار الكعبة .. ومعلق بالأستار ثنتا وأربعين حلقة .. وقد ربطت أطرافها أي أطراف الكعبة بهذه الحلقان .. بينما التعلق بهذه الحلقان ، وحتى تقبيل أطراف ستائر الكعبة .. والتمسح بكسوة الكعبة الشريفة ، وتقبيل الجدران .. ليست سنة مفروضة .. أو واجبة ، أو حتى مستحبة .. ولكن محبة الخدمة فى بيت الله ، والعمل تطوعا ، ومحبة ؛ لا يخلو هذا من ثواب .. ولكن تقبيل الحجر الأسود سنة محببة عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حتى أنه ؛ يروى عن حضرة عمر ، رضى الله عنه أنه قال .. «يا حجر لو لا أننى رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك ..». وبهذا يكون طواف الوداع قد تم .. وبعد ذلك مهما تطوّفت بالبيت العتيق تطوّف .. ويستحب مثل هذا الدعاء فى ختام طواف الوداع اللهم لا تجعله آخر العهد من بيتك الحرام .. وإن جعلته فعوضنى عنه بالجنة يا أرحم الراحمين.

«وعلى هذا المنوال أتممت أنا العبد الحقير طواف الوداع ، والحج .. فليتقبله جناب المولي العزيز .. والسلام ..»

* * *

١٩٠

الأوصاف البهيجة لمدينة مكة المكرمة

عند ما أصبح الشريف بركات شريفا ، دخل إلى المدينة المكرمة وسط إحتفال عظيم. وجاء إلى الحرم الشريف ، وجلس عند الدرجة الثالثة ، أسفل منبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وجاء جميع الأشراف ، والشرفاء ، والمشايخ ، وأهل الوفاء من الأئمة ، والخطباء ، والعلماء ، وجميع الآعيان الكبار ، وعلى العموم ؛ حضر الجميع ، الكبير والصغير ، إلى الحرم الشريف ، وبايعوا الشريف بركات. ونادى المنادون فى كل مدينة مكة باعطاء الأمان لخلق الله ، ومنح آمان آل عثمان لجميع خلق الله ؛ وبشروا الناس بأنهم سيكونون فى أسعد حال. واستمر الإحتفال ، والإبتهاج ثلاثة أيام ، وثلاث ليالي ، وزيّن كل الناس مساكنهم ، ومتاجرهم ، ومحلاتهم ، وطالب المنادون الآهالي بأن يزينوا دكاكينهم .. وما أن سمع الآهالي ذلك ، حتى ردّدوا العظمة لله وما هي إلا ساعات حتى تحولت المدينة ، بداية من الجامع الشريف والطرقات العامة إلى محفل يمج بالنشاط ، وتم تنظيف وتطهير الشوارع والطرقات ، وكل شخص من الاهالى حسب مقدرته ، قام بتزيين منزله.

وفتحوا أبوابهم ، وشرعوا فى زيارة بعضهم البعض ، وزيارة حجاج المسلمين وزيّن كل واحد من الآهالى باب بيته أو دكانه بآحلى أنواع الزينة ، وعلقوا القناديل والثريات حتى تشعشعت المدينة بالأضواء المتلئلئة. وأشعلت آلاف القناديل والشموع ، والمصابيح ، والفوانيس فى جميع الأسواق السلطانية ـ الرئيسية. وعلقت آلاف ، بل مئات الآلاف من المشاعل ، والشمع الكافوري حتى تبددت ظلمة الليال ؛ وأصبح الليل مضيئا كالنهار تماما ... واستمرت الصحبة. كما يكون الحال فى ليلة القدر ـ حتى الصباح .. ولما كانت مدينة مكة مدينة منورة ، فأضحى نور على نور .. وقام كل آصحاب الحرف بتنظيف دكاكينهم .. وجمّلوها بالمفارش والطنامس ، وأخذوا فى السمر والتسامر مع بعضهم البعض ، ومع أحباءهم .. وتبادلوا شتى أنواع المشروبات كالشربات ، والشاي ، والقشير ، والسحلب ، وقدموا المهلبية ، والقهوة. واللبن الخالص والعيران. (١) .. وكانت هناك أمام بعض الدكاكين ، أو أمام بعض الخانات مطربون ، ومقرؤون ومضحكون .. وغوازى ،

__________________

(١) العيران : لبن خض يضرب بالملح ، ويشرب ، ويقدم مع الطعام ويستحب فى فصل الصيف واشتداد الحرارة. لبن منزوع الدسم يضاف إليه الملح ويشرب بادرا. «المترجم»

١٩١

وفتيات عفيفات ، بأصواتهن الملائكية يتغنون بالموال الحزين .. أو بالقصائد الغزلية .. وترقص الراقصات والراقصون .. والكل يطلق «الحي .. هو» (١). وتشمل المكان نغمة روحانية بحيث لا يتمالك الحضور نفسه عن التكبير وآرباب التجارة .. كان كل منهم يعرض ما لديه من بضائع رائجة .. وفى سوق لحسا ـ الاحساء ، سوق اللولي ـ «اللؤلؤ ..» كما يسمونه .. ويؤدى إليه طريق عام .. أو هو نفسه طريق عام .. سوق طويل المتاجر على الجانبين ، جميع دكاكينه كشباك السمك ، قد نسجت من شبك رقيق .. وتمتد على الطريق بمصلوبات جميلة .. والسوق كله مزين .. ومعروض فيه وعلى الطريق الرئيسى شتى أنواع الحرير الأخضر .. والقمحى ـ البني الفاتح واللون البحري أى الأزرق فى زرقة البحر .. كما تعرض القطيفة.

كما توجد فى دكاكين بائعى الجواهر الألماس ، والياقوت اللعل ـ الأحمر والزمرد ، والفيروز ـ الپيروز ، والعقيق ، واليمنى (٢) والصمغ الجبلى وزبرجد عين الحور ، وعين السمك. وكل أنواع المجوهرات الغالية الثمن قد عرضها آصحاب المحلات فى عروض مبهجة ... حتى حوّلت شمس مكة المشرقة إلى شموس مشعشعة. ولما كانت أشعة شمس الدنيا تسقط عليها لم يكن يستطيع المرء أن ينظر إلى الأشعة المنبعثة عنها .. ولم يكن ليجرأ أن يفتح عينيه تجاهها .. وكانت العيون النرجسية تقف أمامها مبهورة ..

أما فى سوق العطارين ؛ حتى فى حالة عدم العبور ، فإن موارد العود ، والعنبر الخام ، والعود الملبّس ، والمسك ، والكافور المسكي ، والسنبل الهندي ، والسنبل الخيطاى تفوح روائحها .. وتعبق المكان ويصبح رأس ، ودماغ كل انسان معطر .. أما فى سوق السلقرى ؛ فإنك ترى الورد ، والفل والسنبل ، والصندل ، وماء الورد والعطر السلطانى ، والياسمين ، والبنفسج ، والحناء .. كلها تفوح منها الروائح التى تعيد روح الشباب إلى الإنسان.

__________________

(١) أكبر الظن أن الرحالة يقصد حلقات الذكر ؛ بما كان يجرى فيها من انشاد دينى ، وذكر وتراتيل ، ويجتمع فيها أرباب الطرق الصوفية ، وفى حلقات الذكر كانوا يطلقون بشكل جماعى ، ومتكرر «الله .. هو .. الحي هو ...» المترجم

(٢) اليمنى : غطاء رأس. أو تاج يوضع على الرأس ، أو تلبسه العروسة فى ليلة الزفاف ، ويكون من القماش المطرز ، أو الذهب أو الفضة المشغولة ، والمنقوشة بالموثيقات اليمنية. وهو مشهور فى بلدان الجزيرة العربية. ويطلق أيضا على حذاء الجلد حفيف ، مدبب الطرف الأمامي ، ورقيق الحواف. «المترجم»

١٩٢

وما أن يفرغ جميع الحجاج من الطواف والسعي بين الصفا والمروة حتى يمكثوا بعض الوقت فى واحد من هذه الدكاكين التى يرحب أصحابها بهم قائلين «أهلا .. وسهلا ..» ويعظمونهم .. ولا بد أن ينثروا عليهم من ماء الورد ، والعطر ، والبخور المائي .. ولا بد أن يشعلوا الكثير والعديد من البخور ، والعنبر .. كما أنه من المعتاد أن ينثروا ماء الورد على الغادين والرائحين فى الطريق العام أمام دكاكينهم .. وذلك لأن أمر معاش أهل مكة منوط بالحجاج .. كما أن حضرة جناب الشريف قد أصدر تعليماته ، وتنبيهاته بحسن رعاية الحجاج .. لكل هذا يحرص أهل مكة على إرضاء الحجاج ، وجلب خاطرهم. خاصة وأن عددا كبيرا من الحجاج كان قد قتل داخل الحرم الشريف .. كما حدث نهب وإغارة على متاجر بعض التجار .. أما هذه السنة .. وفى داخل المدينة كان كل الناس يخرجون المشروبات ، والمأكولات تعبيرا عن المحبة ، وعرضا للبيع ؛ وكان البيع والشراء ميسرا. كما أن كل يوم ؛ كانت تطبخ فى المطبخ الخليلى أنواع متعددة من الحلويات ؛ كالمهلبيات ، والزولابيات ، وسكر النبات والحلويات الحموية ، وألوان متعددة من الأطعمة النفيسة وكانت تقدم للغريب ، وكل الغرباء لدفع الجوع عنهم .. كما كانت تقدم أنواع معقولة من الأشربة المعروفة كشربات الورد والليمون ، والبنفسج ، والفراولة ، والتوت ، والحمص ، والصندل ، وكان الشربات يقدم من كل المنازل ، وكل الدكاكين لكل من يريد أن يشرب دون أن يسأل عن درهم أو دينار. وهكذا .. فإن آلاف آلاف المسلمين الذين جاءوا ليؤدوا هذه الفريضة تحت هذه القبة الزرقاء طاعة ، وطواعية منذ آمد بعيد ، وهم يسعدون بهذه التلبية .. وتطيب نفوسهم ويشعرون وكأنهم فى الفردوس الموعود.

وإذا كان الحبيب النبى قد كرّمه الله بالرسالة ، وهو فى الأربعين من عمره ، فإن من بواعث المحبة لحضرته ، أن الله سبحانه لم يجعل الحج مطلقا ، بل ربطه بالقدرة ، والإستطاعة (.. مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١)

وبالسلام أتممنا نسك الطواف والزيارة ..

* * *

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٩٧.

١٩٣
١٩٤

كيف أصبح حضرة الشريف وكيلا لآل عثمان

منذ الخلفاء الراشدين ، والعباسيين ، والأمويين وكل الخلفاء الذين تعاقبوا ؛ وهم حريصون على أن يمنحوا خطا شريفا لكل من هو مشرف بالإنتساب إلى نسل النبي ، وإذا ما أصبح هذا الشريف مسنا .. فهو يكون حكيما ذلك الوقت أى قاضيا .. وكان إذا ما أبرز هذا الخط الشريف ؛ كانت تفتح أمامه كل الحدود ..

ولما تم الفتح المبين لمصر لصالح الشاه سليم سنة ٩٢٣ ه‍ أعطى عهدا .. وكانت طوال آيام سليم شاه ، وفى كل آيالة مصر يقرأ هذا العهد .. وظل هذا القانون متبعا حتى بعد سليم ، وأقره سليمان فى قانونه .. مفاد ذلك .. أن كل شخص ؛ يحسّب ، وينسّب الحسن والحسين .. أو يكون منتسبا إلى السادات الكرام ، ويكون مسنا فيكون حكما أي قاضيا .. ولكن من ينطبق عليه هذا الشرط ، ويكون حكما لا بد له أن يكون مأذونا ، أي مسموحا له من قبل آل عثمان. فعندما فتح الشاه سليم مصر سنة ٩٢٣ كان شريف ذلك الزمان هو حاكم مكة وقاضيها .. حتى أن إبن شريف مكة قد جاء إلى مصر بمفاتيح الكعبة المشرفة وسلم المفاتيح إلى السلطان سليم وآنذاك كان كل من أبو السعود الجارحي ، وحضرة الكفافي ، على قيد الحياة ـ فسألا سليما قائلين (يا سليم هل أنت خادم الحرمين الشريفين). وكان ذلك يوم جمعة. وقام ابن كمال باشا بالخطبة فى ذلك اليوم فى مصر.

خلاصة الكلام قد أحسن السلطان عليهم بالحكومة .. ولكن كان شرطه الأول ؛ إذا ما توفى فينتقل الحكم إلي الكبير .. وهكذا .. ولكن إذا ما ظهر عصيان مفاجئ .. فإن العزل والنصب يكون فى آيدي آل عثمان .. وتنتقل إلي آصحاب الاستقامة ولدا عن والد. وصاحب الاستقامة يكون هو الشريف ، وتجدد له البراءة كل سنة .. ولا بد أن يكون على وفاق وحسن مودة مع وزراء مصر .. وأن يعملوا على خدمة الحجاج المسلمين .. ومن يحوز هذه الشروط الأربعين يكون شريفا .. ويتوجه إلى مكة .. وعلى هذا المنوال .. وطوال التاريخ .. وهم فى رعاية السلاطين المسلمين. والشريف الذى يصبح حاكما يمنح ألف دينار ذهبي من السلطان كخاصة همايونية. ويحضر هذا المبلغ إليه أمير الحج المصرى. ويخصص نصف جمرك بندر جده ، وينبع البحر ، وينبع البر للأشراف .. ويتولى ضبط وإدارة ذلك نفر من قبلهم فى كل مكان من هذه

١٩٥

الإدارات. وبعرض خاص من سنان باشا (١) فاتح اليمن ، يأتى الخط الشريف (٢) وما زال ساريا حتى الآن (٣) ويخصص لهم سنويا مائتي كيسه. ويأتيهم من الهند ، واليمن والعجم ، والمغرب والحاصل من كل بلاد المسلمين ما يماثل خزينة مصر خمس مرات ذهبا ، ويقدم إليهم ما يقرب من ثلاثة آلاف جندي من العرب والأروام ـ «الترك» وسيطروا على مقاليد الحكم. وفى مرات عديدة يكون لهم الآلاف من العبيد البدو العرايا .. ولكن ليست لهم علوفه (٤). وكان يدين لهم بالطاعة جملة الآعراب البدو ، ويقسموا لهم على «نصرة السلطان الشريف الهاشمى». وإذا لزم الأمر يحضرون إلى المحكمة ويقسمون على ذلك برأس الشريف قائلين «... بحق رأس الشريف». كما كان للشريف عبيد يطلقون البنادق العثمانية ذات البيارق الإثنى عشر. يحبون طائفة الأروام ، لأنهم قوم شجعان. ووجهاء .. ليس للأشراف أطواغ (٥) أو أعلام ، ولكن لهم رايات تشبه علم رسول الله. وكذلك لهم فرقة طبل ، ودار ضيافة ـ مكرمه .. وقاضى بمخصصات شيخ الحرم. ولكن لم تمنح لهم الإجازة بذلك ، وذلك لكثرة العصيان فى الماضى .. ومنذ أن شاروا ضد حاكم مصر قايتباى ، وهم يركبون خيولا بدون ذنب كتأديب لهم. وإلى الآن ، وصرة كل الأشراف ثنتا وستون ألف دينار ذهبي. وأن أمير الحج المصرى ، وأمين الصرة يحضران كل سنة هذا المقدار من الذهب ، ويوزع على الجميع. كما أن لهم جرايات من الغلال تأتي من مصر .. هذه الجراية توزع سنويا على عشرة آلاف وستين من الرجال والنساء .. هذا إلى جانب الصرة ، والعطايا والخلع الفاخرة التى تأتى من طرف السلطان ويحسن بها عليهم .. إن مثل هذا الإحسان لم يكن له مثيل لآهالى مكة فى زمن

__________________

(١) سنان باشا : تولى الصدارة العظمى خمس مرات فى زمن كل من مراد الثالث ، ومحمد الثالث وينسب إلي الجنس الآلبانى. قام بضم العديد من البلدان إلى أملاك الدولة العثمانية ، تولى ولاية مصر سنة ٩٧٧ ه‍ ثم قاد الحملات العثمانية على اليمن ، والهند ، وعاد منها بغنائم كثيرة ومنح لقب «غازى» لهذا السبب. توفى سنة ١٠٠٤ ه‍ عن عمر جاوز التسعين. «المترجم»

(٢) الخط الشريف : هو المرسوم الذى يصدره السلطان بصدد أمر معيّن ، أو بتكليف أحد موظفى الدولة بمهمة معينة ، ومحددة. «المترجم»

(٣) المقصود هو السنة التى حج فيها آوليا چلبى وهى سنة ١٠٨٢ ه‍.

(٤) علوفه : مبالغ مالية ، وكمية معينة من القمح والدشيشة ، والبتن كانت تخصص لبعض الفئات من العسكريين ، والمدنيين والمشايخ فى الدولة العثمانية «المترجم»

(٥) الطوغ : طرة من شعر الخيل ، كانت تعطى فى العصور التركية المختلفة للأمراء والقادة كل حسب رتبته. «المترجم»

١٩٦

الأمويين ، والعباسيين ، والفاطميين ، والأكراد ـ الأيوبيين ، والتركمان ـ المماليك ، والچراكسة .. ولكن منذ سليم الأول والسلطان سليمان وقد شملت الصرة ، والصدقات ، والإنعامات سيدات الأشراف وجواريهم .. إن صرة آهل مكة ، وأهل المدينة تأتى من مصر ، وحتى الذين يقيمون فى مصر من أهل هاتين المدينتين المقدستين فإنهم تابعون لهذه الصرة ؛ لأن هذه الولاية صحراء بيداء ، والغلال التى تأتيها من الطائف ، والحجاز ، وعباس لا تكفى سكانها على الرغم من أن آراضيها شاسعة.

* * *

١٩٧
١٩٨

بيان حدود مكة المكرمة

يقع على الجانب الشمالي لمدينة مكة «جبل ناقيه» على مسافة ستة عشر منزلا. وعلى البعد منه شمالا تقع آراضى الشام. وفى الجانب الغربي وعلى مسافة ثمانية عشر منزلا «مرحلة» يتم الوصول إلى المويلح. وما بعدها مشاع لآراضى مصر. وعلى الجانب الجنوبي ، وعلى بعد مسيرة إثنتى عشرة ساعة تقع جدة على شاطئ البحر ، وما بين الجنوب والشرق ؛ طريق مسيرته أربعة أيام ، وهو مشاع لليمن. وفى الموقع الذى يقع عليه ، والمسمى يلملم يحرم حجاج بلاد اليمن ، وفى الجانب الشرقي ، وعلى بعد عشرة مراحل ، وعند الوصول إلى «نهر القاع» أي عند الوصول إلى نهر دجله تكون حدود كل من لحسا ، والبصره ، وفي الإتجاه نحو الشمال الشرقى تقع بلاد آهل السيدة زبيده زوجة الخليفة هارون الرشيد .. وهى على بعد مسافة ست أو سبع مراحل. وهى مناطق بساتين بغداد. وعلى الطرف الشمالى لمدينة عباس تمتد أرض الله الواسعة ، صحراء ، بيداء ممتدة .. وحتى نهر الفرات ، وعند الوصول إلى قلعة آناخ"Aneh " وقلعة سلمى"Selma " وقلعة الحلة"Hille " ، والكوفه تقع صحراء التيه .. وهى تيه بلا حدود .. وسبب ذكر وبيان هذه الحدود أن القرى ، والقلاع ، والقصبات الواقعة فيما بين هذه الحدود هى تحت تصرف حضرة الشريف ، وخاضعة له. وينصّب عليها حاكما ـ قاضيا من طرفه .. ولا يجرؤ أى فرد آخر على التدخل فى شئوون هذه المناطق. وفى كل سنة يخرج الشريف مع جملة عساكره للدوران ، والتفتيش على الحجاز ، والطائف ، ووادى قدى عباس. وليس على الآراضى التى تحت سيطرته أي تيمار (١) أو زعامة (٢) أو أمانة (٣). أو مقاطعات (٤) إلا جده ، وينبع البحر فعليهما .. فمنهما ؛ للشريف ولخادم جده عائلات منهما. وليس لهم أي للآشراف علاقة بحكومة ـ إدارة جده ؛ فيسيطر عليها لواءا مصريا من طرف والي

__________________

(١) تيمار ، اقطاعية كانت تعطى للعسكر.

(٢) زعامة ـ زعامت ، مساحة أكبر من الأراضى كانت تمنح لكبار العسكر.

(٣) آمانة ـ آمنت : مساحة من الأرض ، أو إدارة رسمية تمنح لشخص ما على سبيل الأمانة فى مقابل مبلغ معين ولفترة زمنية محددة.

(٤) مقاطعة ـ مقاطعه : مساحة من الارض كانت تمنح فى مقابل مبلغ معين نظير خدمات محددة ويشترط زراعتها.

١٩٩

مصر أو وزيرها. وهو يسيطر على جده بمن معه من القوة التى يبلغ قوامها خمسمائة فردا. والسلام.

أوصاف مولوية مكة المكرمة :

وفقا لقانون فتح مصر منذ الخان سليم الأول ، ومكة مولوية ـ مشيخة ، بمخصصات قدرها خمسمائة آقچة ـ «بيضا» يوميا. ومهما كان حكم الشريف مطاعا ، ونافذا على القرى والقصبات المشار إليها فإن حكم الموللا ـ الشيخ ، نافذ عليها أيضا .. وكان للمدينة المنورة مولوية ـ مشيخة آخرى. وله مخصصاته ، ومراسلاته الخاصة به. وكانت تخصص له دنانير من صرة مصر. ولتغطية تكاليف المعيشة كان يخصص له مائتي أردب من الغلال كصدقة. وكانت تسير فيها الأمور حسب الشرع النبوي الشريف ، ولكن لبعد المسافة .. ومرور الزمن ، تعرضت المشيخة منذ زمن السلطان محمد الرابع إلى تغيير يقضى بأن من يتصدى للخطبة فى عرفات ، ومن يعزل من المشايخ ويأتى إلى الآستانة دار السعادة ، يكون فى استقباله موللا اسلامبول ، وإلى أن صدر القانون الحالى ، كان هناك اعتبار واحترام لمولوية المكرمة ... ولكن فى السوق السلطاني ـ العام فتدخل آهل الخرافة غنيمة. وتتحول الأمور التى لا قيمة لها لدى معدومي القيمة ذات قيمة ؛ كذا .. تفقد الآشياء القيمة قيمتها فى أيدي الذين لا يعرفون قيمة الآشياء .. وبناء عليه بالرغم من كل القيم الموجودة بها أي بمكة المكرمة .. فقد تحولت إلى قضاء .. وآضحت هى وقضاء ينبع ، وقضاء بدر حنين ، وقضاء عباس تدار عرفيا من طرف حاكم جده وآغواتها .. وكان الآغوات الجداويون من عبيدى مصر .. وحدثت حروب بين حسن باشا ، قائد جده ، داخل مكه ، حتى أنه هو نفسه قد استشهد. وقام الشريف المسمى حمود بإعمال الرماح ، والسنان فى عساكر مصر ، ومئات الحجاج بالقرب من ينبع. ولقد ارتكب من الفظائع ، والمساوئ مما انعكس على وزير مصر الكتخدا ابراهيم باشا (١) ، فقام هو بدوره بإعلام الدولة بما حدث ، فأصدر السلطان خطا شريفا بمقتضاه توجه «قاپجى باش» إلى مصر ، وجمع ثلاثة آلاف جندى من مصر ، وثلاث آلاف من

__________________

(١) كتخدا ابراهيم باشا : كان واليا على مصر خلال رحلة آوليا چلبى الى الحجاز ومصر ، وقد شمل آوليا چلبى برعايته بعد وصوله إلى مصر. «المترجم»

٢٠٠