الرّحلة الحجازيّة

أوليا چلبي

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

أوليا چلبي


المترجم: الدكتور الصفصافي أحمد المرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5227-55-3
الصفحات: ٣٠٢

الروضة المطهرة والقبر النبوى الشريف

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))(١)

لتبدأ أولا فى بيان سبب بناء مخزن السر الإلهى هذا ؛ فلقد نزلت الآية الكريمة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣))(٢) فى السنة الرابعة عشر للهجرة النبوية فى حق أهل بيت المصطفى ؛ أى فى حق سيدنا على ، والحسن والحسين وفاطمة الزهراء.

ولما كان هناك احتمال فى المستقبل أن تتوحد كلمة المشركين ، والمنكرين ؛ ويحاولون إصابة جسد النبى الطاهر بأذى ؛ لذلك ؛ فقد قرر أهل بيته الكرام ، وصحابته الميامين ، ضرورة المحافظة علي الجثمان الطاهر ، فبنوا قبة ، كبيرة ، تقيه شرور المنكرين الحاقدين. ثم أضاف المأمون بن هارون الرشيد (٣) العباسى إليها المبانى. وعند ما تولى نور الدين شهيد (٤) الحكم ، يقال أن الملعون عدو الدين

__________________

(١) سورة الأنبياء آية ١٠٧.

(٢) سورة الأحزاب آية ٣٣.

(٣) المأمون بن هارون الرشيد ؛ ١٧٠ ـ ٢١٨ ه‍ ـ ٧٨٦ ـ ٧٣٣ م.

هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد ، هو السابع بين الخلفاء العباسيين ، والإبن الثانى للخليفة هارون الرشيد ولد سنة ١٧٠ ه‍ ـ ٧٨٦ م. درس العلوم والأداب منذ صغر سنه على أيدى مشاهير علماء عصره. كما كان واقفا وقوفا كاملا على الأدب العربي والفلسفة وسائر العلوم الإسلامية. تولي منصب الخلافة فى بغداد سنة ١٩٨ ه‍ ـ ٨١٣ م ، عيّن وهو فى خراسان عليّ بن رضا القاظم «رضى الله عنهم» وليا للعهد وهو الذى أمر تبديل الملابس الرسمية من اللون الأسود إلى اللون الأخضر ، وكذلك العلم ، كان عادلا وحكيما طوال فترة حكمه. أمر بترجمة الكثير من الكتب عن اليونانية ، واللاتينية ، والفارسية إلى اللغة العربية وكان يمنح المترجم وزن الكتاب الذى بترجمة ذهبا. أسس المجالس العلمية ، وكان يحضر بنفسه جلساتها العلمية. مرض أثناء توجهه إلى محاربة الروم. وتوفى هنالك. ودفن بالقرب من طرسوس. يعتبر عصره عصر ازدهار للعلوم والفنون ، وتكاملت فى عصره معالم الحضارة الإسلامية. «المترجم»

(٤) نور الدين شهيد : هو نور الدين زنكى ، ونور الدين محمود زنكى ، الملك العادل أبو القاسم بن عماد الدين زنكى بن أقسنقر ؛ الإبن الثانى لعماد الدين زنكى مؤسس دولة الآتابكة فى نواحى الموصل والجزيرة. ولد سنة ٥١١ ه‍ / والده سنة ٥٤١ ه‍.

فتولى أخوه سيف الدين عرش الموصل ، وقام هو بتخليص حلب من بنى الأرقط ، وأسس بها ملكا ، وكون دولة بعد ضم حماة ، وحصب ، وبعلبك ، ودمشق. واستطاع أن يستخلص مدنا وبلادا كثيرة من الصليبيين منها مرعش ، والرقة ، ويانياس. كان نور الدين ملكا ، شجاعا ، وعادلا ، محبا للعلم ، والعلماء ، والأدب ، والأدباء ؛ صاحب خيرات كثيرة ، مما جعل ـ حتى ـ أعداءه يبهرون بعدله ، ومنجزاته. أنشأ الكثير من المدارس والجوامع والمبرات فى كل من حلب ، وحماة ، وحمص ، ودمشق ، وبعلبك. كما أمر بإنشاء مستشفى كبير فى دمشق ، أوقف عليه ، أوقافا كثيرة ، وجلب إليها أشهر أطباء عصره. سار على منواله صلاح الدين الأيوبى فى مصر. توفى نور الدين سنة ٥٦٩ ه‍

١٢١

المدعو البابا ، قال فى أسبانيا «مهما تكن التضحيات فإننا سنقدم الغالى ، والنفيس ، وندرب الفدائيين ، والمتطوعين اللازمين ، وليذهبوا إلى المدينة ليعيشون فيها فى عزلة عن الناس ، ولكن بالقرب من قبر محمد وليقوموا بحفر نفق تحت سطح الأرض. ولنسرق جسد محمد ، ولنحضره إلى روما».

كان البابا الملعون يعرف كثيرا من اللغات. وقد قام فعلا ؛ بإرسال عشرين فدائيا من رجاله ، وأتباعه ، أولاد السفاح. كانوا جميعا ، وكأنهم من الشياطين الحمر ، ذهبوا أولا إلى مصر ، ومنها ركبوا الحمير ، ووصلوا إلى المدينة مع الحجاج. قدّم عشرة منهم هداياهم إلى شيخ الحرم (١) وقد تدثروا فى زى العلماء. فقام شيخ الحرم بتخصيص مكان فى الحرم الشريف. أما العشرة الآخرون ، فقد ظلوا خارج المدينة ؛ يشتغلون بزخرفة المبانى وتكليسها وحمل القمامة. استمروا ثلاث سنوات فى حفر الأرض ، وشق نفق تحت أرض المسجد النبوى الشريف ، حاملين التراب ، والأنقاض فى أكياس يبعدونها. وبينما لم يعد بينهم وبين قبر المصطفى سوى ستة أزرع. هناك ، فى الشام ، يرى نور الدين شهيد النبى عليه الصلاة والسلام فى منامه وهو يخاطبه متفضلا :

«يا نور الدين .. إن هؤلاء الملاعين يحفرون قبرى ، ويريدون أن يسرقوا جسدى ، لكى يهربونه إلى بلاد الكفر ، إنهض ، وإلحق بهم» ويريه النبى عليه‌السلام هؤلاء الملاعين ، واحدا ، واحدا. ينهض نور الدين شهيد ، ولم يضيع الوقت سدى ، بل أعدّ ستة آلاف رجل ، وقطع المسافة التى تبلغ خمس وعشرين مرحلة ، فى ثلاثة أيام ، وثلاث ليالى ، وكأنه العاصفة. وما أن وصل إلى المدينة المنورة حتى أولم

__________________

بعد أن قضى فى الحكم ثمان وعشرين سنة اتسمت بالعدل وجلائل الأعمال. انظر : «شمس الدين سامى ، قاموس الأعلام ج ٦ ص ٤٦٠٧». وهو الذى أمر ببناء «دار العدل» ، وعيّن فيها محلا للملك ومحلات لقضاة المذاهب الأربعة ، والمفتى ، لتجرى فيها أحكام الشرع. انظر : تاريخ جودت ، ج ١ بيروت سنة ١٣٠٨ ه‍ ص ٥١.

(١) شيخ الحرم : Sayh ـ ul Harem

مصطلح إدارى كان ، وما زال يطلق على العالم الذى يتولى أمور الحرم الشريف فى مكة المكرمة ، وكان هذا التعيين يتم من قبل السلطان ويحدد له راتبه ومخصصاته المالية جنبا إلي جنب مع المهام الوظيفية. وكان يطلق على العالم الذى يتولى أمور المسجد النبوى ، شيخ الحرم النبوى. ولما كانت الشام تقع على طريق الحج ، فقد أطلق هذا اللقب فى بعض العصور على والى الشام. انظر : محمد زكى باق آلين ، عثمانلى تاريخ ديملرى وتريملرى سوزتكى. ج ٣ استانبول سنة ١٩٨٣ م) «المترجم»

١٢٢

وليمة كبيرة ، ودعى إليها كل من فى المدينة من الغرباء جنبا إلي جنب مع الآهلين. وأصر على أن يصافح الحاضرين مرحبا ، ولكنه لم ير هؤلاء الأشخاص الذين رآهم فى رؤياه ؛ فسأل من حوله :

ـ «أهناك من فقراء المدينة من لم يحضر وليمتى؟».

فأجابوه :

ـ «إن هناك عشر رجال ، مشغولون بالصوم ، والعباده ، منذ ثلاث سنوات ، يعيشون فى حجرة بمدرسة باب الشفاء ، وهم لا يأكلون ولا يشربون ، بل شغلهم الشاغل هو العبادة ..». فقال نور الدين شهيد : «أسرعوا ، وأحضروا هؤلاء الرجال إلى هنا ، لينالوا صدقاتنا ، وليأكلوا طعامنا».

وما أن مثل أمامه هؤلاء الرجال حتى تعرف عليهم ، فهاجم مقر إقامتهم ، فوجد مئات من الفئوس ، والكواريك ، والمقاطف ، والمعاول. وما أن أمر بإنزال العقاب بهم فورا حتى انتفض واحد منهم ـ وقد خيّل للبعض أنه على وشك الهلاك ـ وهجم على نور الدين ، وأطلق آخر النيران من بندقيته.

وتحت وطأة ما ذاقوا من عذاب ، وتنكيل ، اعترفوا بكل شئ ، وتم القبض على الآخرين الذين كانوا يتظاهرون بجمع القمامة على حميرهم. وتم كشف النقاب عن النفق الذى حفروه ، ودخل نور الدين شهيد بنفسه إلى هذا النفق الذى لم يكن قد بقى بين نهايته والقبر النبوى سوى خطوة واحدة. وأجبر هؤلاء الملاعين على الكلام ، فأعترفوا قائلين : «.. نحن من رهبان أسبانيا .. منذ أن ظهر دين محمد ، ونحن لا يقرلنا قرار ، ولا تطمئن لنا نفس ، ولا يهدأ لنا بال. لقد أخذ العرب ديارنا ، وفتحوا أقدس بقاعنا .. فكرنا كيف ننتقم منهم ؛ وكنا حسب خطة ، وتدبير الراهب ؛ الأب ، سنقوم بتهريب جسد نبيكم محمد إلي روما. وبهذا الشكل كنا سنسترد القدس ، والأندلس ، وأفريقيا ، وسوريا ونتوطن بها نحن ، أما العرب فليعودوا ثانية إلى صحراءهم».

تابعوا اعترافتهم قائلين :

«لقد وصلنا خطاب من الباب قبل شهر ، وأمرنا أن نستمر فى أعمالنا قائلا لنا فى خطابه لو استطعتم أن تحضروا جثمان محمد إلى روما ، أو أسبانيا ، فإننا سنجعلها

١٢٣

هى الكعبة ، وسيأتى إليها سنويا عشرات الألوف من العرب ، والترك ؛ وسنتقاضى من كل قادم مائة قطعة ذهبية. وسأوليكم على التربه».

هكذا إعترف الملاعين. ثم توجهوا بالرجاء. والتوسل إلى نور الدين شهيد معبرين عن ندمهم ، سائلين إياه .. «ـ هل إذا أسلمنا تطلق سراحنا؟» ولكن نور الدين لم يتجاوب مع توسلاتهم ، ولم يخدعه ندمهم ، كما لم يقتنع برغبتهم فى الإسلام حيث أنه يعلم أنهم جبلوا على الكفر ، ولقنوا الملعنة والخداع. فأمر بقتلهم جميعا. ومنذ ذلك التاريخ ، لم يعد يسمح لأى يهودي ، أو نصراني بأن تطأ قدماه النجسة أرض مكة ، والمدينة الطاهرة.

نور الدين شهيد يشرع فى بناء الروضة المطهرة لسيد العالم وفخر الكائنات .. الرسول الكريم :

استقدم نور الدين شهيد أساتذة العمارة ، وأمهر حرفييها ؛ من الشام إلى مكة ؛ والمدينة المنورة ، وجمع من المدينتين المباركتين ، ومن الشام ، وحلب آلاف القناطير من النحاس ، والرصاص ، والحديد ، والقصدير. فى البداية قاموا بهدم القبة التى كانت مشيدة على قبر الرسول الكريم. وتركوا حوله مسافة عشرين ذراعا. ثم أمد بحفر الخنادق التى كان عمق كل منها عشرين ذراعا أيضا ، وعرضها عشرة أذرع. ثم أقام القضبان على جهاته الأربع ، وجعلوها كالشبكة الحديدية ، وأصبح المكان المدفون فيه الجسد الطاهر ، وكأنه صندوق معلق ـ ثم جعلوا الشبكة الحديدية ، وكأنها حوض ، ثم تم صهر النحاس ، والقصدير ، والرصاص ، وصبّ فى هذا الحوض ، حتى تحول إلى كتلة واحدة ، من البرونز ، أو النحاس الأصفر. وهكذا أصبحت الجهات الست ، لمقام الرسول الأمين من البرونز. وبالإضافة إلى ذلك ، فقد أمر بحفر خندق آخر يبدأ من الجدار الذى أقامه الخليفة عثمان بن عفان ، رضى الله عنه ويصل حتى باب جبريل. ومن هناك حتى داخل الجامع ، وغطى هذا الخندق بقفص ، أو شبكة حديدية ، قضبانها فى سمك خصر الإنسان ، حتى أصبح وكأنه سد الإسكندر. كما أقام فوق القبر قبة ذات مقصورة حديدية.

هناك آراء أخرى ، تدعى أن الذين قصدوا التعدى على جثمان النبى الأمين هم الرافضة. ولكن هذا الرأى خطأ تاريخى ، وليس له ما يأكده من الأسانيد ، والبراهين ، وأن هذا التدبير من عمل الكفرة الأسبان.

١٢٤

وصف قبة حضرة سيد الكونين :

هذه القبة النورانية ، مقامة على إرتفاع خمسين ذراعا ، مشيدة فوق تسعة عشر عمودا ، داخليا ، وخارجيا. مغطاة بالرصاص المنقوش ، وبين الكمرات الموجودة على جوانبها الأربع ـ توجد مقصورة حديدية ، وقد سورت أطرافها بزخارف نباتية ، كالورد ، والسنبل والأرجوان ، والتلب ، وكلها مصنوعة من أسلاك فضية ، وحديدية رقيقة ، وتخيل للناظر ؛ أنها زهور حقيقية ، لا ينقصها إلا روائحها ، ولكن الرائحة التى تفوح ، ويعبق المكان بها ، وهى رائحة الحبيب الأزكى ، وناحية رأس النبى ، وفوق القفص الموجود لوحة فضية مكتوبة بالخط الجلى تقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وجوارها كتبت عبارة «هذا النقش قد أعد فى زمن السلطان قايتباى». ومرقد السيدة فاطمة الزهراء ، ومزارها ، رضى الله عنها هو الآخر ، داخل مقصورة ، تقع جنوب المقصورة النبوية.

آداب زيارة الروضة المطهرة :

إن الرسول الكريم ؛ مكى ، مدنى ، قرشى ، اسمه محمد وهو محمود ، ولم يكن إسم محمد معروف بين العرب حتى ذلك التاريخ. كان يلقب بالأمين ، وبعد أن اصطفاه الله بالرسالة ، أصبح المصطفى ، أبوه هو عبد الله ، وجده الثامن والعشرين ، هو اسماعيل عليه‌السلام ، وجده التاسع والعشرين ، هو سيدنا ابراهيم الخليل وفى الليلة التى شرف فيه العالم بمقدمه (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، قامت قيامة عالم الكفر ؛ تهدم إيوان كسرى ، وأطفئت نار المجوس. أمه هى السيدة أمينة بنت وهب ، أما والدته فى الرضاعة هى السيدة حليمة السعدية عرج إلي السماء فى مكة ، وهاجر إلى المدينة ، وهو فى الحادية والخمسين من عمره الميمون. بلغ فريضة الصوم فى السنة الثانية للهجرة ، وتحولت قبلته من القدس إلى الكعبة المشرفة. استمرت الرسالة النبوية ثنتا وعشرين سنة. حضر بذاته الشريفة ثمان وعشرين غزوة ، وخاض بنفسه غمار التاسعة منها. نزل جبريل الأمين بأوامر الله إلي وجه الأرض ثلاثين ألف مرة ، علي الأنبياء السابقين ، وسبع وعشرين ألف مرة على الرسول المصطفى وحده. والله أعلم. عاش عليه‌السلام ثلاث وستين سنة مباركة.

أما عن آداب الزيارة ، فعليك إذا ما أردت أن تؤديها ، أن تغتسل متطهرا ،

١٢٥

وترتدى الملابس الطاهرة النظيفة. وأن تتمسح بالطيب الزكى الرائحة. وأن تتجه بالقلب ، والروح ، والفؤاد معا فى التوسل ، والدعاء. كن متأدبا ، وأنت فى حضرة المصطفى ، فكيف تكون وأنت ماثل بين يدى السلطان ، أو ملك دنيوى ، فيجب عليك أن تكون فى وجل ، وخجل ، وتأدب ، يزيد عن ذلك ألف مرة ، لإنه عليه‌السلام ، لم يمت إنما غيّر الدنيا فقط ـ فقد سمع صوته الرخيم من قبره المبارك كثيرا.

هكذا ؛ ما أن تطأ قدماك الجامع النبوى الشريف ، من باب السلام. وما أن تتراء لك قضبان المقصورة ، عليك عندئذ أن تسير الهوينا من وراء دليلك ، وأنت تردد بسم الله الرّحمن الرّحيم (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ)(١). ولا بد أن تكون فى صحبة مطّوف يقوم لك بدور الدليل. (بيت).

من لم يترك المحبوب لا يعرف طريق الحانه* ولا يستطيع كل انسان أن يعرف طريف السلطان بلا دليل (٢) ضع يديك على صدرك ، وعند إقترابك من المقصورة ؛ إقرأ هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥٦) (٣) وانحنى قائلا : «السلام عليك يا رسول الله» ، وتقدم رويدا ، رويدا ، داعيآ متوسلا ، ولا تحبس دموعك الجائشة إن انهمرت. وعند ما تصل إلي المقصورة ؛ إقرأ السلام قائلا :

«السلام عليك يا رسول الله ... السلام عليك يا نبى الله ..» استغفر ، ادعو ، توجه بالدعوة ، والتوبة ، والتوسل وأنت تمسح على وجهك بكلتا يديك. ثم عليك أن تخطو خطوتين ، شرق المقصورة ، لكى تسلم على سيدنا الصديق.

زيارة سيدنا أبى بكر الصديق :

يرقد سيدنا أبو بكر الصديق ، أيضا ، داخل هذه المقصورة. فعلى الزائر ما أن يصل إلى جواره حتى يحى قائلا : «السلام عليك يا سيدى أبا بكر الصديق» وأن يقرأ الفاتحة ، ويرجو الشفاعة ، ويهبها إلى روحه الطاهرة.

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٨٠.

(٢) [جانينى ترك ايتمه ين حانه اولماز آشينا بى وسيله هر كيشى سلطانه اولماز آشينا].

(٣) سورة الاحزاب آية ٥٦.

١٢٦

كان إسمه الأول رضى الله عنه عبد الكعبة ، ثم سماه الرسول عبد الله ، وكانوا يطلقون عليه ابن أبى قحافة ، ويتصل نسبه بنسب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند كعب. لقّب ب «الصّديق» لأنه أول من صدّق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «بيت»

هو الصّديق الأكبر فى الصداقة

وقد جعله النبى ولىّ العهد

ولقد أصبح خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. توفى رضى الله عنه سنة ١٣ ه‍ ـ ٦٣٤ م. وفى ليلة وفاته ، صدح صوت من الروضة المطهرة ، قبيل الصباح ، وهو يناديه «تعال إلي جوارى». وقد سمع كل سكان المدينة هذا الصوت. هذا ، وفى الأثر أن عمر رضى الله عنه عنه بينما كان ينزل الصّديق ، إلى جوار المصطفى ، بدت له يد الحبيب الشفيع وهى تشير إلي جواره ، وتشد طرف ثوب الفاروق رضى الله عنه فيفهم أنه سيدفن هو الآخر فى هذا المكان الطاهر.

على بعد خطوتين نحو الشرق أيضا ، يرقد سيدنا عمر الفاروق ، تحت القبة المباركة ، مع الحبيب الشفيع «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وعلى الزائر ، أن يحى قائلا : «السلام عليك يا عمر الفاروق» ويقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة. وعند طرفى قدمى الرسول المباركتين يوجد «مقام جبريل».

وهو داخل المقصورة النبوية. ويجب عليك أيها الزائر أن تقرأ الدعاء فى خشوع وتوسل «السلام عليك يا جبريل الأمين». بعدها يتوجه الزائر ، بالدعاء الذى يتوخاه لنفسه ، ولأهله ، والأقربين فى الدنيا ، والآخرة. وبعد أن يفرغ من دعاءه ، وتوسله ، يتجه نحو الشمال ، بسبع خطوات حيث تكون فاطمة الزهراء ، كريمة ، وحبيبة ، رسول الله. وجسدها الطاهر مسجى تحت القبة النبوية أيضا ، ولكنها فى مقصورة خاصة بها. يقترب الزائر بخضوع ، وخشوع ، وأدب ، ويحى قائلا : «السلام عليك يا فاطمة الزهراء ، يا بنت رسول الله ..». ثم يقرأ الفاتحة ، واهبا ، متشفعا. ومن عادات أهل المدينة ما أن يولد لأحدهم بنتا حتى يحضرونها إلى الحرم النبوى الشريف ويقفون بها ساعة أمام مرقدها الطاهر. وإليها أي إلي السيدة فاطمة الزهراء. يصل نسب كل السادات الكرام.

مناقب سيدنا عمر الفاروق :

تولى الخلافة بعد أبى بكر الصديق سنة ١٣ ه‍ للهجرة النبوية. وكانت وفاته سنة ٢٣ ه‍ ـ ٦٤٣ م.

١٢٧

أصبح مقدما على العالم أجمع بعدله

ثم كان نائبا .. واليا علي مكة

والدته ؛ هي جسيمة بنت هاشم ، وأبو جهل هو خال سيدنا عمر ، وكان النبى المصطفى هو الذى لقبه بالفاروق ، لإنه كان يفرق بين الحق والباطل. وقد كانت من عادة النبى الكريم ، أن يلقب صحابته ، بألقاب عرفوا ، واشتهروا بها. وسمى أصحابه الذين كانوا يقرأون عليه القرآن بالحفظة. وكانت بنات سيدنا عمر ، من الحفظة ، الحافظات ، اللائى حفظن القرآن ، اشتهرن بالذكاء ، وكان سيدنا عثمان عند جمعه القرآن يسمّع لهن ، ويأخذ عنهن ، وقد استشهد سيدنا عمر ولقى شهادته على يدى أبى لؤلؤة الفارسى المجوسي سنة ٢٣ للهجرة.

وعلى مسافة ثلاث خطوات من كوشة السيدة فاطمة الزهراء يوجد مقام أهل العرفان :

مقام أهل العرفان :

عليك أيها الزائر أن تقرأ الفاتحة بجوار هذا المقام على أرواح أهل العلم والعرفان. ثم توزع الصدقات سرا ، على الفقراء ، والمحتاجين الجالسين بجواره. وحذارى أن تظهر تصدقك ، أو أن يراك أحد ، وأنت تخرج النقود ، من حافظتك ... وإلا ، فإن كل ما معك لن يكفى ، بل ولسوف يمزقون ملابسك ، وهم يتزاحمون حولك ، وربما وصل بهم الأمر إلى إيزاء المتصدق. أو يصرخون ، ويولولون ، وهم فى حضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والواجب ، والأصح ، والاسلم ؛ أن يتصدق الزائر بأي شيء ، وهو فى داخل الحرم.

هناك سبعمائة خادم من الطواشية (١) يعملون في الحرم ومعهم ثلاثمائة مفتاح من

__________________

(١) الطواشية : طواشى"Tavasi " مصطلح يستخدم فى السرايات والقصور بدلا من الخادم. وكانت هذه الطائفة تختار من الذكور الذين يتم خصيهم ؛ لكى يحال دون قدرتهم على التناسل .. فالخدمة فى القصور معروفة منذ أقدم العصور ، وقد شاعت بين المصريين ، والبابليين والآشوريين القدماء. ثم راجت عند اليونانيين ، ثم انتقلت الطواشة منهم إلى الرومان والإفرنجة ، ويقال أن أول من قام بهذا العمل هو سميراميس الملكة الآشورية فى الألف الثانى قبل الميلاد.

ويسجل التاريخ أسماء العديدين منهم الذين اشتهروا إلى الخدمة ـ بالقيام بآعمال جليلة ، وكانت لهم دراية ،

١٢٨

الذهب. وعدا هؤلاء ألف خادم آخر للجامع ، فإذا ما شاهدوا المتصدق وهو يخرج

__________________

بوخيرة كثير من الأمور ، وأن البعض منهم قام بآعمال فدائية وبطولية كبيرة. منهم «مرمس Mermes الرومانى ، وكافور الآخشيدى الذى حكم مصر ، وكان طواشيا أسودا ، وأرجوان الذى كان طواشيا أبيضا وأدار دفة الحكم لمدة طويلة فى أيام الحاكم بأمر الله. وكان منهم من تولوا المناصب العليا فى الهند وفارس والصين .. وكانوا من أصحاب النفوذ فى آواخر عهد الدولة الرومانية.

ويسجل التاريخ أيضا أن بعض الخصيان «الطواشية» قد تولوا المناصب العالية كالصدارة ، والوزارة فى العهد العثماني أمثال على باشا الخادم ، وسليمان باشا الخادم.

وقد تم الاستمرار فى هذه العادة فى العالم الإسلامى لعدة أسباب ؛ كالخوف والغيرة فى الحرم السلطانى ، وعلى الرغم من تحريم ذلك بل تجريم عملية الخصى هذه إلا أن بعض الحكام قد غضوا الطرف عن منعها .. وكان زيد بن معاوية هو أول من استخدم الطواشية فى الإسلام ، فلقد استخدم يزيد طواشيا يدعى «فتح» كياورله. ثم تبعه الخلفاء الذين جاءوا بعده فى هذه السنة وهذا مما أدى إلى كثرة استخدامهم فى العالم الإسلامى.

ولما زادت الرغبة فى استخدامهم ، زاد تجار الرقيق من اليهود فى أسعارهم ، وبالغوا فى ذلك. وكان هؤلاء النخاسون اليهود يخصون الذكور من العبيد الذين يجمعونهم من شتى الآقاليم المباح فيها تجارة الرقيق .. ويبيعونهم بهذا الشكل .. وقد لاقت رواجا كبيرا على أيدى هؤلاء التجار اليهود .. وأسسوا مجموعة كبيرة من المستشفيات للقيام بهذه المهمة. وكانت اشهرها هى تلك التى تأسست فى مدينة ويردون"Verdun ". وقد اكتسبت شهرتها خلال سنوات الحرب الفرنسية ـ الآلمانية. ولقد نشط تجار الرقيق خلال هذه الحرب ، وجمعوا أطفالا لا حصر لهم ، وقاموا بخصيهم ، وقد مات الآلاف منهم من جراء هذه العمليات الوحشية ، ومن بقى منهم على قيد الحياة ، كانوا يرسلون بهم إلى اسبانيا حيث يباعوا للعظماء ، والأثرياء بثمن باهظ. ثم رويدا ، رويدا راحت عمليات تبادلهم كهدايا مثل الخيول أو أدوات الصيد وما شابه ذلك ..

فمثلا كان حكام الفرنجه لكى يداهنوا الحكام العرب المسلمين فى الأندلس كانوا يبعثون لهم مجموعة من الطواشية ضمن الهدايا التى يبعثون بها إليهم. فعند ما أراد حاكم برشلونه ، وطارغونه تجديد الصلح مع الخليفة المستنصر فى الأندلس فقد أرسلا له عشرين طواشيا من آطفال السلاو ، وعشرين قنطارا من الفراء الثمين ، وكان الخلفاء يشكلون منهم فرقا خاصة لخدمتهم والعناية بأمور القصر والخدمة داخله. وكانت طوابير الطواشية تحتل مكانها بين الطوابير الأخرى فى الأحتفال بالجلوس على العرش ، أو تعين وليا للعهد أو سائر المناسبات الأخرى.

كان أكثر الطواشية الذين جقبوا إلي العالم الإسلامى يحضرن من الأندلس حيث تتم عملية الخصى فى الأماكن القربية منها. أو من ناحية جوراسان حيث كان بعض تجارها يشترون العبيد من بلاد السلاو ويقولان بهذه العملية لهم ، ثم يبيعونهم.

ولا بد من الاشارة أيضا. إلى أنهم كانوا يتدخلون فى شئوون الحكم والإدارة لما يملكونه من نفوذ بسبب حساسية الأماكن التى كانوا يخدمون فيها.

كما يقال أن بعض المتعصبين المسيحيين كانوا يقومون باجراء هذه العمليات لأنفسهم لقتل الرغبة الجنسية ، والشهوة فى داخلهم ولكى يوقفوا حياتهم للحياة الآخروية .. ومن أشهر هؤلاء اوريجان"Origen " الاسكندرانى وكان عالما كبيرا فى العقائد المسيحية. بل شهدت العصور الوسطى بعض من المذاهب الدينية المسيحية التى كانت تقوم بهذه العمليات لوقف حياتهم على العبادة فقط. وكان لهم صوتهم المسموع فى ايطاليا.

أما فى الدولة العثمانية ، فقد كان هناك الآغوات البيض ـ أى الظواشية الذين يجلبون من البلدان الأوروبية ، ويطلق عليهم آق آغا ـ الآغا الأبيض ، أما الطواشية السود ، فقد كان يطلق عليهم «خادم آغا» أى الأغا الخادم.

وكانوا يجلبون من الحبشة أو من أفريقيا عامة.

كان مراد الثانى هو أول من استخدم الطواشية البيض للخدمة فى السراى. قاموا بالخدمة فى أول الأمر ،

١٢٩

نقوده علنا ، فلربما أصابوه بمكروه ، وقد يصل الأمر إلى ما هو أخطر ، وأهم من النقود ، حيث أن أهل المدينة جميعا ، أغنياءهم وفقراءهم ينتظرون مقدم الحجيج سنويا ؛ ومهما بلغت الصدقات ، ومهما بذل الإنسان فى سبيلها فهى فى محلها ، ولها ثوابها ، ولكن من الأفضل ، والواجب ، أن تكون سرا.

الروضة المطهرة من الداخل :

لقد تيسر لى أنا العبد الفقير إلى ربه الدخول إلى داخل الروضة المطهرة مع ولى النعمة حسين باشا.

ولقد ارتدينا ملابس طاهرة ، نظيفة ، حلالا ، وكنا نردد فى خشوع وبهجة ، الصلوات الطيبات على فخر الكائنات. وقد أقبل شيخ الحرم ، وفى معيته ثنتا عشر طواشيا ، وهم يحملون المباخر ، ومراود الطيب ، واصطفوا أمام المقصورة النبوية.

__________________

ثم رويدا رويدا بدأوا يكلفون بآعمال ادارية داخل السراى ، وفى أجنحة الحريم .. وقد وصل البعض من هؤلاء الخدم البيض إلى الوزارة ، والصدارة العظمى ..

أما الطواشية الزنوج فقد كانوا فى أدنى المراتب فى الخدمة ، وكان يطلق عليهم (الأدنى). وكان الخادم الجديد يمثل فى بادئ الأمر بين يدى آغا در السعادة» أى بين يدى خادم العتبة السلطانية. ثم يسلم إلى «مربى الأوضة ـ اوضه لاله س» ، وبعدها بصبح من الخواص. ثم يرسل أقدمهم تباعا إلى «الأغا غلام الباب الرئيسى» لقيده فى سجلات السراى.

وكان جميع هؤلاء من الطواشية أى من الخصيان ثم يربون على الطاعة ، والخضوع وأول دروسهم تقبيل اليد ممن هم أقدم منهم من المربيين ، وهم آيضا من الطواشية. وكان يطلق على الحديث منهم الآغا الآعجمى» أى الذى لا يعرف شيئا بعد.

وكان خمسة منهم يمسكون نوبة الخدمة على باب الحريم فى السراى السلطانى ، أو على باب الحريم فى أى قصر. ويطلق علي أقدمهم «قلفة النوبة». وكان آغا عتبة السعادة هو الذى يسلمهم المفاتيح ويتسلمها منهم عند تجديد النوبة.

يتلو فى المرتبة «الأوسط» ؛ وهم بدورهم أربع درجات ، أقدمهم يتولى تنظيم النوبتجيات ، النوبات أمام الأبواب ، ويشرف عليهم ، رهم المسئولون عن فتح وغلق الأبواب .. ثم يتدرج الأقدام فيعيّن غلاما على الباب الرئيسى ، ويصل إلي أن يكون هو المسئول عن بوابة السراى الرئيسية. ثم يحظى صاحب الحظ الوفير منهم على لقب «آغا عتبة السعادة». وهذه أعلى منزلة فى السراى السلطانى.

وفى سنة ١١٢٧ ه‍ ـ ١٧١٥ م لما تولى داماد على باشا والى مصر الصدارة فى عصر السلطان أحمد الثالث ، أصدر أوامره بإلغاء نظام الطواشة لكى يتخلص من لقب الطواشى الذى كان يلازمه خاصة وأن الطواشية الزنوج أى السود كانوا يجلبون من السودان إلي مصر ، ومنها إلى بقية ولايات الإمبراطورية. بعد أن يتم خصيهم فى مصر. بالرغم من هذا المنع ، إلا أن هذا لم يمنع الدولة العثمانية ، وإن كان بشكل أقل.

وكان آغا در السعادة أى آغا عتبة السعادة عند تغيير السلطان ، أو كبر سن الأغا يبعث به للعمل والخدمة فى الحرمين الشريفين. «المترجم»

١٣٠

وقام شيخ الحرم بلف حسين باشا بفوطة بيضاء ، ثم سلّمه مكنسة ، وكنا ـ والعبد الفقير ـ سبعة أشخاص ، وكل منامعه مكنسته. وناب شيخ الحرم عن السلطان ، وأخذ هو الآخر مكنسة فى يده. وفتح باب المقصورة ، ودخل الإثنى عشر طواشيا ، ثم أغلقوا الباب ، ولم يسمع لأى إنسان آخر ، بالولوج إلى الداخل.

وكانوا يرددون عند دخولهم «دستور يا بنت رسول الله» أي الإذن يا بنت رسول الله حيث أنه لا بد من المرور من جوارها ، عند التوجه إلى مقصورة النبي الكريم.

قبّل الباشا (١) ، والعبد الحقير ، الأرض بين يدي خير الكائنات طالبين الشفاعة. ثم بدأنا فى تنظيف المكان. وكان مجموع الذين فى داخل المقصورة قد أصبح خمسة عشر فردا. ولكني أنا العبد الفقير ، فقد فقدت وعي ، وجاشت روحى من العشق والجوى ، وكنت كلما عدت إلي نفسي ، ووعيت ما حولى ، عدت إلى التوسل بشفاعة الحبيب المصطفى. ثم أشعلت ثلاثة قناديل. وفى وسط القبة الطاهرة ، تماما ، تتدلى ناموسية «كله» رقيقة ، لم تر عيناي ، لها ، مثيلا ، فى طول الأرض ، وعرضها سواء من ناحية الإبداع ، فى الصنع أو القيمة. ولا يسمح قط بدخول أي أحد تحتها ، حيث أن جسد الحبيب المصطفى مسجى فى صندوق مغطى بجزء من غطاء الكعبة الشريفة الأخضر.

فى هذا المكان الطاهر ، من المجوهرات ، والشمعدانات الذهبية والقناديل ، المرصّعة ، ما لا عين رأت ، ولا خطر على عقل بشر ، ولا يعرف حصرها أو قيمتها سوى الله سبحانه وتعالى.

ويدخل المسئولون ، والخدم ، هكذا مرة واحدة كل عام ، ليزيلوا ما قد يكون قد علق بهذه التحف النادرة من غبار.

وسيدنا أبى بكر ، وعمر ، راقدان هنا تحت القبة أيضا. أما السيدة فاطمة ، فهى

__________________

(١) الپاشا : Pacha ـ Pasa لقب كان يمنح لكبار الموظفين فى الدولة العثمانية ؛ سواء من المدنيين أو العسكريين ، ويقول هامر ؛ إنها تدل على الشخص الذى ينيبه السلطان فى إدارة أمر ما ، أو القيام بمهمة محددة. على اعتبار أن السلطان يعتبر موظف فى الدولة بمثابة قدمه الراسخ فى انحاء البلاد. وكان السلطان يحب تشبيه موظفيه ببعض أعضاء جسده ؛ فالموظفون الكبار عينيه ، ورجال الشرطة اذنيه ، ورجال الماليه يديه ، والجنود قدميه .. وكان هذا اللقب يمنح لبعض العلماء والفنيين تعظيما لهم ، وتقديرا لدورهم. وفى بعض فترات التاريخ العثمانى تم وقف هذا اللقب على الوزراء ، والصدر الأعظم فقط. «المترجم»

١٣١

خارج القبة. وبين الكلّة المسدولة ، والمقصورة الخارجية ثلاث خطوات ، وقد رصّع هذا المكان بأثمن الأحجار ، الكريمة ، كالعقيق ، والفيروز ، والزبرجد ، والكرستال ، والبلور ، والثريات ، ولذلك لم يفرش هذا المكان بالسجاد ، أو ما شابه ذلك ، أما الكرات الذهبية ، والمجوهرات ، والقناديل المعلقة ، داخل القبة ، من ذلك النوع الذى لا مثيل له ، ولم يخطر على عقل بشر ، ومن يراها يفقد وعيه ، وإدراكه. لم يكن فى القبة مكان خال ، بل لقد علقوا هذه التحف النادرة ، فى سلاسل ، متدلية ، من زوايا القبة. ويمتلئ المكان بالشمعدانات الذهبيه الخالصه التى تصل أطوالها قامة الرجل أما الغطاء المسدول أمام الرسول الكريم ، فقد ثبت فيه قطعتين من الماس ؛ إحداهما سبعون قيراطا ، ويعلم الله أننى نظرت إليها ليلا فإذا القبة قد أنيرت من أشعتها وضياءها. بل يردد البعض ، أن بعض الدارسين يقرأوون على نورها.

يصل ارتفاع القبة خمسين زراعا ، وقد نقشت على أطرافها الآية الكريمة (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ)(١).

وهكذا بعد أن تمت الزيارة ، استأذنت خارجا.

وفوق المقصورة نقشت الآية الكريمة (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ).

كما توجد لوحة معلقة مكتوب عليها وكفى بأولئك شهيدا. هذا وقد كتبت أنا ـ العبد الفقير ـ بالقدر الذى سمحت به قدراتى. ولم أنس قط ؛ أننى قد كنت ، وأنا فى سن الخمسين ، وأنا فى شبابى ـ قد قمت بالآذان فى رؤياى ، وأنا فى الحضرة النبوية ، وقبلت يديه الكريمتين «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وبشرنى عليه‌السلام قائلا متفضلا : «الشفاعة ... الزيارة ... السياحة .. الفاتحة ..» ، حمدا وشكرا لله فقد تحققت بشرة الحبيب هذه السنة.

ومنذ أن خرجنا ، من خيامنا ، فى قلعة مزيرب ، بالشام ، وحتى الآن قد انقضى سبعة عشر يوما ، أو كادت. وخلال هذه المده ختمنا القرآن سبع مرات ؛ وإن كنت قد تركت فى إحداها و «والضحى» وفى الآخرى «يسين» وفى بعض «الإخلاص» فقد يسر الله لى إتمامها جميعا هنا ، والحمد لله ، وقد أهديت ثوابها جميعا إلى روح

__________________

(١) سورة النور آية ٣٥.

١٣٢

الشفيع المشفع ، وسألته عليه‌السلام الشفاعة. هذا وقد يسر الله لى إتمام الختم الشريف ، عند صلاة الظهر ، في محفل المؤذنين. وقد شرح الله صدرى ، وفتح علي ، بدعاء من البحر الطويل ، وما أن رددته ، وردده الجمع ، الغفير ، من الحجيج ، الملتفين حولى ؛ حتى إغرورقت أعيننا جميعا بالدموع ، وبهرتهم الدهشة.

هنا تمت كل مناسك زيارة الحرم النبوي الشريف

* * *

١٣٣
١٣٤

تعريف بالمبانى الموجودة داخل قلعة المدينة

أولا المدارس :

خارج باب الرحمة ، توجد مدرسة سيف الدين سلطان ، وقد كتب على بابها الآية الكريمة (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها ...) وتحت الآية (أمر بعمارة هذه المدرسة المباركة الأمير الكبير المحتاج إلى عفو ربه الرحمن مالك الأمر سيف الدين خوبان ، والخاتون المعظمة سنة أربع وعشرين وسبعمائة ٧٢٤ ...).

وبجوار هذه المدرسة تماما مدرسة السلطان قايتباى. وخارج باب جبريل توجد مدرسة صوقوللى محمد باشا (١). وبالقرب من باب السلام يوجد مبنى الوقف الكبير للسلطان محمد الثالث (٢). وهناك بالتمام والكمال مائة وثمان عشرة مدرسة.

ويقع داخل القلعة حمامات (٣) ، وبضع خانات (٤). وشوارع المدينة داخل القلعة ذات أرصفة بيضاء ، نظيفة جدا ، ودائما ما ترش هذه الشوارع والطرق بالماء. وبها عشرون كتّابا «مدرسة للصبية» وسبع «دور للقراء» دار القراء ، وسبع دور

__________________

(١) صوقوللى محمد باشا : صقوللى محمد باشا ـ صوقللى محمد باشا ـ محمد باشا صوقللى :

تولى الصدارة لمدة ١٥ عاما فى عهود كل من السلطان سليمان القانونى وسليم خان الثانى ومراد خان الثالث ، ينسب إلى قصبة صوقل فى البوسنة ، تربى فى السراي السلطاني ، وعيّن فى الضواحي بلقب قبوجى باشا ، ثم أنعم عليه بالوزارة لما أبداه من شجاعة وحسن تدبير خلال فتح طمشوار فى بلاد الروميلى. ثم عيّن قبطانا سنة ٩٥٣ ه‍ ـ ١٥٤٦ م ثم صاهر السلطان بزواجه من «سميخان سلطان» سنة ٩٦٩ ه‍ ـ ١٥٦١ م ثم أصبح الوزير الثانى عقب ذلك. ثم رقي إلى مرتبة الصدارة سنة ٩٧٢ ه‍ ـ ١٥٦٤ م عندما توفى السلطان سليمان كتم خبر الوفاة حتى تم جلوس السلطان سليم الثانى على العرش. أدار أمور الدولة بقدرة واقتدار. شارك فى فتح العديد من مدن ودويلات البلقان. إستشهد بخنجر أحد المجازيب سنة ٩٨٧ ه‍ ـ ١٥٧٩ م. مدفون فى ضريح خاص به بجوار أبى أيوب الأنصارى. «المترجم».

(٢) السلطان محمد الثالث : (١٥٦٦ ـ ١٦٠٣ م ـ ٩٧٤ ـ ١٠١٢ ه‍) والده هو السلطان مراد الثالث وأمه هى صفية سلطان. ولد فى ١٥ ابريل سنة ١٥٦٦ م ، تولى العرش فى ٢٧ يناير سنة ١٥٩٥ م. وجه حروبه إلى شبه جزيرة البلقان. فتح ، وأعاد فتح العديد من مدنها. تم القاء حجر الأساس للجامع الجديد «بنى جامع» فى عهده. كان يوقف الكثير من غنائم فتوحاته على الحرمين الشريفين ، وعرف عنه حبه للخير ، وتوفى ٢٠ / ٢١ من شهر نوفمبر سنة ة ١٦٠٣ م.

(٣) الحمامات : أقام العثمانيون أسوة بالحكام المسلمون الآخرون حمامات كثيرة ومتطورة حول الينابيع ، وكان بعضها له قباب مزينة من الداخل بآشكال النجوم والفصوص الحلزونية الشكل. وكان يصل قطر قباب بعضها ١٦ مترا ، ومحمولة على دلايات منشورية ، وبعضها رحيبة وذات زخارف كثيرة من الداخل .. وكانت تقام بعض الحمامات بجوار عيون المياه الدافئة.

١٣٥

للحديث «دار الحديث» وسبعون نزل لعابرى السبيل والغرباء ، ولبعضها أوقاف كثيرة تمكنها من أن توزع على الحجيج عسل ، وشربات محلى بالسكر. وهناك ثلاثة أماكن ؛ بها صنابير مياه ، ينزل إليها بحوالى عشرين أو ثلاثين درجة من درجات السلالم الحجرية وتصلها المياه من ماء «عين الزرقاء» التى تصل إلى المدينة ، وهم من خيرات السلطان سليمان. وعلى بعض الأسبلة (١) كتبت الآية الكريمة (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١))(٢) وعلى البعض الآخر نقشت الآية (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))(٣).

وفى الواقع ؛ ليس هناك فى المدينة ما هو أعز ، وأندر من المياه وإذا ما قام واحد من أصحاب الخيرات بتوصيل الماء إلى مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبنى حوضا للمياه فيكون له ثواب ألف حجة ، وكم من الحكام قد وفدوا إلي هذه الديار المشرفة ، ولكن لم يتيسر لأى منهم ، القيام بهذا الخير الميسر ، ولم ينل هذا الثواب. وبعض الحجاج الغرباء ينوون الوضوء ، ويتوقون الزيارة ، فيضطرون إلي شراء إبريق من الماء من أحد الفقراء ، وقد يصل ثمنه إلي أكثر من قطعتين من النقود ، ليتوضئ به ، فهم حقا يتحملون

__________________

لقد اصبح للحمام التركى نمطه المعمارى الخاص به ؛ ويتكون فى الغالب من غرفة لتغيير الملابس ، على هيئة رواق كبير ، ويعلوها قبتان ، الواحدة من وراء الأخرى ، وتتصل الأخيرة بالغرفة الدافئة ، وبها هى الأخرى قبة ترتفع فوق أعمدة تستند على الجدران ، ثم يلى ذلك غرفة ساخنة بها حوض الماء الساخن ، وتتسع الجوانب لإضافة حنيات ركنية ، وتوجد فى قمة كل قبة كوة نافذة تسمح بدخول الضوء ، توجد فى الغرفه الدافئة ، وغرفة تغيير الملابس المجاورة ، أحواض تتوسطها النافورات فى الغالب. وكان للحمامات دور كبير فى الجوانب الاجتماعية إلى جانب دورها فى النظافة ، والطهارة ، والاغتسال.

ولسوف نرى تفصيلا عن حمامات المدينة فى كتاب مرآة المدينة الذى ستصدر ترجمته قريبا بإذن الله. «المترجم»

(٤) الخانات : كانت الخانات بمثابة النزل ، أو الفنادق المعدة لإستقبال الحجاج ، أو التجار وبضائعهم ودوابهم ، وبحيث تغطى منشآتها كل هذه الاحتياجات .. وكان بعضها على طرق القوافل وداخل المدن.

(١) الأسبلة : حرصت الحضارة الإسلامية على تعميم الأسبلة ، والششم «عيون المياه» والصنابير فى كل البلاد ، وكانت تبنى فى واجهات المساجد ، والمدارس .. وما تزال هذه المنشآت باقية إلى الأن وقد حرص السلاطين والخلفاء والحكام المسلمون على تعميمها .. وكان اسلوب البناء والنقش والزخرفة يتغير تبعا لظروف المبانى التى الحقت بها. أما الأسبلة ذات الجوانب الأربعة ، فقد ارتفعت فى مواضعها كالقيلا ، أو الأكشاك الصغيرة ، وسط الميادين العامة ، وأضفى هذا عليها فخامة وروعة ، وجهزت هذه الأسبلة بالماء الجارى وزخرفت واجهتها بالزخارف الجميلة ، وكان منها ذات الواجهتين أو ذات الشعبتين.

وسنرى تفصيلا لها فى كتاب مرآة المدينة المنورة الذى ستصدر ترجمته قريبا إن شاء الله تعالى «المترجم»

(٢) سورة الإنسان آية ٢١.

(٣) سورة الإنسان آية ١٨.

١٣٦

مشقة جامة فى سبيل الحصول على الماء. ويعرض التجار الذين يفدون من أقاليم الدنيا السبعة ، بضائعهم فى المدينة ، والآهالى يعملون بالتجارة. وأبواب المدينة ، ومحلاتها مفتوحة ليلا ونهارا طوال أشهر رجب وشعبان ، ورمضان ، ويضيئون المدينة ليلا بمئات الألوف من القناديل. ولكن العيد الحقيقى للآهالى هومجئ الحجاج المسلمين. حيث يأتى معهم المحمل (١) والصرة والهدايا ، والأعطيات. فيرتدى الآهالى أفخر ما عندهم من ثياب ، ويدعون الحجاج إلى بيوتهم ، ويعقدون معهم صداقات حميمة ، ويؤدون معهم مناسك الزيارة وهذا مما لا شك فيه يحقق لهم مكاسب عدة. والسلام

ضاحية المدينة المنورة :

وتقع هذه الضاحية قبالة القلعة ، وأطرافها الشمالية ، والغربية والجنوبية ، كلها عبارة عن قصور ، وبيوت ذات حدائق ، غناء ، وبساتين يانعة ، والمدينة عبارة عن سبعة أحياء ، بها ألفين منزلا ثنائية الطوابق تستجلب أشجارها ، وأخشابها ، من مصر عن طريق السويس ، إلى ينبع البحر ، ومن هناك بالجمال ، إلى المدينة. ويصنع أهل المدينة من هذه الأشجار ، والأخشاب منازلهم. وحول المدينة كلها ، ومن جهاتها الأربع ، وادى جاف ، وكأنه للمدينة بمثابة الخندق.

وفوق محرابه نقشت الآية (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً)(٢). وليس له فناء ، ولكن له إيوان خارجى ، أما داخله فمفروش بالأحجار الصغيرة «الحصى» والدعوات فيه مستجابة لإن المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قد دعى بذلك.

__________________

(١) المحمل : المحمل الشريف : مصطلح إدارى يستخدم للدلالة على الوسيلة التى كانت تستخدم لحمل ، ونقل الصرة الشريفة ، وستارة الكعبة ، والهدايا المقدمة من السلطان ، أو والى مصر ، أو الحاكم ، أو الخليفة ، إلى الحرمين الشريفين ، وأهل الحجاز ، والمجاورين ، والدارسين فى الحرمين ، وكانت هذه الأمتعة تحمل على الجمال ، وكان السلطان فى الآستانه ، أو والى مصر يشيع بنفسه المحمل الشريف عند سفره إلي الحجاز فى موسم الحج. وكان يرافق المحمل آلاى الصرة .. وكانت هذه المراسم تتم فى آواسط شهر شعبان من كل عام. وسط احتفالات ، ومراسم شعبية ورسمية بديعة. وكان كل والى يتولى شئوون المحمل ورعايته خلال مروره عبر حدود ولايته .. ثم يتم استقباله من قبل الوالى فى الولاية التى سيد خلها حتى يتم الاستقبال النهائى من قبل والى الحجاز وأمير مكة والشريف وآغوات الحرمين ، وقائد الحامية العسكرية فى كل من المدينة المنورة ، ومكة المكرمة ، وسط حفاوة بالغة. (المترجم)

(٢) سورة آل عمران آية ٣٧.

١٣٧

غرب هذا الجامع يقع مسجد سيدنا أبى بكر الصديق ، وعلى بعد مائة خطوة وناحية القبلة من المسجد النبوى الشريف وعلى مساحة مسطحة يقع مسجد .......... وهو مسجد أنيق وبه قبة.

وبعض من المدارس التى كانت تبلغ ست وأربعين مدرسة قد تحولت إلى منازل. وبها ست مدارس «دار للقراء» وإحدى عشر «دارا للحديث» وعشرون مدرسة للصبية والأطفال. وجميع هذه المدارس مرتبطة بالصرة السنوية ، ولكل حصة محددة. وخيرات المدينة المنورة لا تصادف فى أي مدينة أخرى.

وبهذه الضاحية حمام عام ، ولكنه لا يعمل طوال اليوم ، وبالقرب منه مدرسة «الخاصكية» (١) حيث ينام بها الحجاج. كما أن بئر سيدنا على بهذه الضاحية أيضا.

وبها أربعة مبانى كبيرة ، إحداها من أثار السلطان سليمان ، وهو بالقرب من حمام مراد الثالث. ومن الخاصة السلطانية توزع الشوربة «الحساء» ولحم الضأن ، والأرز ، والزردة ، والعاشوراء على الفقراء ، والمساكين ليلا ، ونهارا كما توزع على الذين يسكنون داخل أسوار القلعة جميعا ؛ غنى ، أو فقير خادم ، أو مخدوم.

__________________

(١) الخاصكية «خاصه كى» Haseki مصطلح يطلق على الجارية التى كان يستحسنها السلطان ، وتدخل ضمن محظياته .. كانت الفتاة التى تقدم إلى السراى كهدية أو تشترى تسمى فى البداية «أعجمية» أى ما زالت خام ، ولم تدرب بعد. ثم تصبح «قلغه» وفى النهاية تصبح «خزينة دار». وللترقى فى هذه المناصب كان الأمر يتطلب إلى جانب الجمال ؛ العلم والخبرة وحسن المعاشرة ، ومن تروق للسلطان تصبح «خصكى أو خاصكى» أى خاصة ، أو محظيته. ويمكن أن يكون للسلطان أكثر من خاصكية ؛ ربما تكون أربع وحتى ثمان محظيات. وربما يختار السلطان من بينهن من يكن زوجاته ، وتكسب لقب «سيدة» بدلا من محظية. وتعيّن لكل خاصكية أى لكل محظية حرما أو دائرة خاصة بها.

ومن كانت تنجب للسلطان وليا للعهد ؛ كانت تسمى والده سلطان أى السلطانه الوالدة ، وظلت بعضهن محظيات أى خاصكية للسلطان على الرغم من حصولها على لقب والدة سلطان ، فليس من الضرورى أن يتم الزواج. وأول من فكر فى أن تكون الزوجة بعقد النكاح هو السلطان عثمان الثانى ، وإبراهيم ، وكان يعد السلطان محمد الفاتح. وقد أراد الأول بزواجه من إبنة شيخ الإسلام أن يجعل نسله يكون من زوجات ، وليس من محظيات ـ وكان السلطان إبراهيم إذا أعجبته خاصكية ، يعقد عليها ويتم العرس ، إلا أن هذه العادة قد استمرت حتى عهد السلطان عبد الحميد الثانى ، فحتى عصر هذا السلطان كانت زوجات السلاطين من الخاصكية ، وكان يطلق على أطفالهن «خاصكى سلطان» وبعده تم اطلاق لقب «قادين أفندى» على سيدات القصر.

وكان من الأسرار المحرمه ، هو الأسر التى تدخل فتياتها إلى السراى .. ولم يكن يسمح بتداول المعلومات عن حريم السلطان على الاطلاق ، وذلك بهدف الحفاظ على نسب ، وسلالة الأسرة العثمانية الحاكمة .. «المترجم»

١٣٨

وبهذه الضاحية أربعون مضيفة ؛ يؤمها عابروا السبيل ؛ وأشهرها هى مضيفة المفتش محمد باشا التى تقع فى إيوان جامع الإميرال. وعلى بابها تاريخ منقوش ، ولكنى لم أتمكن من نقله ، وكتابته بسبب السرعه وخارج باب مصر ؛ يوجد سبيل الآغا (١) ، وقد نقش على نافذته الآية الكريمة (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(٢). وعلى ناصية كبدى «خاصكى سلطان» (٣) يوجد سبيل آغا در السعادة (٤). كما

__________________

(١) الآغا ؛ A\'ga مصطلح عسكرى وإدرارى كان يطلق فى العهد الماضى على أصحاب المواقع الرفيعة فى الدولة. وكان هذا المصطلح ، «الآغوية» يحمل أهمية كبيرة فى الدولة العثمانية قبل فترة التنظيمات (١٨٣٩ م ـ ١٢٥٥ ه‍). وكان يطلق بصفة عامة ومطلقة على ضباط الانكشارية. ثم أصبح يطلق علي الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة من أصحاب الثروة.

كما تدل الآغوية ، بين الشعب على السطوة ، والقوة والشدة ، وعلو الجانب من ناحية ، ومن ناحية أخرى على الكرم والوجاهة ، ويعتبر لقبا بين التركمان ، وعلى الخصيان ، والطواشية ، وعبيد الباب .. وحدم الحريم فى القصور السلطانية.

أما فى اللهجة الجغطائية فمعناه ؛ الأخ الأكبر وفى اللهجات التركية الغربية يفيد معنى «أفندى» أو السيد ، ويحل محل «بك» لدى التركمانيين ، فى العصر التيمورى تدل على الأصالة ، وصاحب الشرف والمقام الرفيع ، وكان لقبا للسيدة التى استرقها ثم تزوجها تيمور لنك.

وفى اللغة التركية العثمانية ، تستخدم كلمة آغا للدلالة على كبير البيت والعائلة ، وصاحب الأرض الزراعية الشاسعة. كما كانت لقبا للكثيرين الذين يقومون ببعض الوظائف الإدارية ، آغا البريد ، آغا الباب ، آغا البلوك ومنهم آغوات الحرم. ؛ آغلت الحرم ـ آغوات الحرم ؛ مصطلح يطلق على الطواشية أي الخصيان الذين يعملون كخدم فى الحرم ؛ سواء أكان الحرم النبوى ، أو الحرم المكى. كما يطلق فى العصر الحديث على الذين يتولون الخدمة ، والأمن فى الحرمين الشريفين. فى العصر العثمانى كان هؤلاء الطواشية يخدمون أولا فى القصور والسرايات وعند تغيير السلطان ، أو بلوغ الأغا نفسه سنا كبيرا كان يبعث به مع آخرين للعمل بالخدمة فى الحرمين الشريفين ، وكان لبعضهم نفوذ ، وثروة كبيرة استمدها من نفوذ وثروة السلطان الذى تربى فى كنفه.

ولما كانوا فى البداية يعملون فى خدمة سيدات السراى فقد كان يطلق عليهم إسم «خدم الحرم» أى خدم الحريم ، ففى هذه المرحلة يكون المقصود حرم السراى .. وكانوا أغلبهم من الزنوج السود ، الذين كانوا يقدمون إلى السراى من قبل والى مصر ولكن قام الصدر الأعظم ابشير مصطفى باشا بمحاولة بابعادهم عن السراى ولكنه لم يوفق ، ولكن تمكن الصدر الأعظم الشهيد على باشا بالقضاء على هذا النظام فى عهد السلطان أحمد الثالث. وأصدر فى سنة ١١٢٧ ه‍ ـ ١٧١٥ م أمرا صريحا إلى والى مصر بإبطال خصى الصبيان الحبشيين. (المترجم)

(٢) سورة الأنبياء آية ٣٠.

(٣) خاصكى سلطان : خرّم خاصكى ؛ إحدى زوجات السلطان سليمان القانوني. والدة كل من السلطان سليم خان الثانى ، وولي العهد بايزيد ، والأميره مهر ماه سلطان. من أصل روسي ، اكتسبت نفوذا كبيرا بسبب جمالها وذكائها منذ كانت محظية. ولكنها لم توظف هذا النفوذ فى الخير طول الوقت. كانت سببا فى إعدام كل من الصدر الأعظم إبراهيم باشا وأحمد باشا. وكانت هى السبب فى قتل ولي العهد مصطفى ليخلو المكان لإبنها سليم. وهى التى تسمى فى المصادر الغربية د «روكسلان» (Roxelane). وهى يهودية الأصل. (المترجم)

(٤) آغادر السعادة : مصطلح عسكرى ، وإدارى كان يطلق على كبار القادة والموظفين فى السراي العثمانى. وكانت

١٣٩

رأيت أن هناك سبيل ماء ، ملحق بكل خان ، أو مدرسة ، وتجلب مياهها من ماء «عين الزرقاء». كما يوجد بها سبعة أحواض ، كما أن الأبار تنتشر ، حيث تمر مياه عين الزرقاء. وبها حوالى مائة دكان أغلبها مقاهى ، ودكاكين قصابين ، ومطاعم وعطارين ، وصيارفة.

وتتحول المدينة إلى بحر من البشر عندما يفد الحجيج ، ويعم الرخاء. وتعداد سكان المدينة خارج أيام الحج حوالى أربعة عشر ألف نسمة. ويرد إليهم كل مآكلهم ، ومشاربهم من مصر ؛ حيث أوقف كل من سليم فاتح مصر ، وسليمان ، ومراد الثالث ، والسلطان أحمد ، عليها أوقافا ، كثيرة فى مصر. فالدشيشة والقمح يأتيان من الأوقاف «المرادية» و «المحمدية» و «الخاصكية». فمن الدشيشة أربعة عشر ألفا ، ومن القمح مائة ألف أردب تحّصل فى مصر ، وتجلب إلى المدينة ، وتوزع على الآهالى كل حسب البراءة السلطانية التى يملكها.

وما أن يصل أمين الصرة مع قافلة الحج الشامى (١) حتى يحضر المبالغ المخصصة

__________________

الآغوية مصطلحا مهما قبل تنظيمات سنة ١٨٣٩ م ـ ١٢٥٥ ه‍. كما كان يطلق بصفة عامة على ضباط الانكشارية ولكنها بعد ذلك أصبحت تطلق على آصحاب الآراضى والملاك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة.

كما كان يطلق على كبار العاملين فى السراي. وكان الباشآغا يتولى أمانه العاصمة ـ ودر السعادة يقصد بها هنا العاصمة استانبول. فهنا آغا در السعادة أي أمين باب السعادة ـ استانبول. وكان هو المسئول عن كل أمور العاصمة. (المترجم)

(١) قافلة الحج الشامى : وهو الطريق الذى كانت تقطعه قافلة الحج الشامى والتى كانت تضم حجاج الشام والأناضول والقوقاز وشبه جزيرة البلقان .. وبعد أن تصل هذه القوافل إلى الشام وخاصة مدينة دمشق ينضم إليها حجاج ايران ويتجهون سويا إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة مرورا بالمناطق التالية :

طريق قافلة الحج الشامى : كان طريق الشام هو أحدى الطرق السبعة المذكورة التى كانت تسلكها قوافل الحج فى الذهاب والإياب ، كما كان (محمل الشام الشريف) يسلك هذا الطريق.

كانت قافلة الشام تتحرك ـ فى أغلب الأحيان ـ فى الخامس عشر من شوال تحت رئاسة أمير الحج ، والتى كان يتولاها فى العادة والى سوريا. وكان يسبق التحرك احتفال مهيب ينظمه قائد الجيش الخامس ، وبعد القيام بالتشريفات المعهودة فى مثل هذه الأمور ، تخرج القافلة من الشام من (قبة الحاج) التى كانت تعد نقطة البدء للقافلة ، ومن هناك أيضا تتحرك إلى (الكسوة) وينضم إليها الحجاج الذين يجمعوا فى (مزيريب) ، وتتجه القافلة نحو المرحلة الأولى من هذا الطريق والتى تسمى (خان ذى النون).

ومنذ القدم كانت تقدم وجبة ساخنة للحجاج والحراس من وقف ابن الحصن عند استراحة خان ذى النون ، كما كانت توزع عليهم كمية من المأكولات نظير رسم معهود فى نفس المرحلة أيضا.

والقافلة المتحركة من خان ذى النون تمر من المكان المسمى (خان الزيت) حتى تصل إلي استراحة (خيمن). والمرحلة المذكورة هى بعينها قرية ابن قواص التركمانى. وهذه القرية ذات مياه وفيرة وطيورها متنوعة وكلاب الصيد

١٤٠