الرّحلة الحجازيّة

أوليا چلبي

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

أوليا چلبي


المترجم: الدكتور الصفصافي أحمد المرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5227-55-3
الصفحات: ٣٠٢

كانوا كامنين فى مخابئهم ، استطاعوا القبض عليهم ، واقتادوهم إلى الباشا فورا ، فأمر بجز نواصيهم ، دون رحمة ، وهوادة. مكثت القافلة يوما آخر للراحة ، ثم تحركت فى الصباح الباكر. وعندما وصلنا إلي المضيق ، انهالت علينا رصاصات آعراب «علا» "Ula " ، ولكنا حمدا لله لم يصب أحد بسوء ، ورد الجند بالهجوم فأصابتهم الدهشة ، ولم يدروا كيف يتصرفون حيال هذا الهجوم المضاد ، المفاجئ. وكانت النتيجة أن قتل حوالى أربعين بدويا فى هذه المحاولة.

دقت طبول الموسيقات العسكرية ، وصدحت معها الجبال ، وتردد الصدا فى جميع الأنحاء .. أكلنا اللوز النبوى الذى تشتهر به هذه المنطقة. ثم قطعنا ست عشرة ساعة أخرى ...

منزل بئر زمرد :

مرحلة وسط الصحراء ، ليس بها ماء وفير. نشب عراك حول الماء ، مما أدى إلي مقتل أحد الأبطال. وما أن عبرنا هذا المكان حتى نادى المنادون «... يا أمة محمد ... إننا سنمر الليلة من بين يهود خيبر ، إنهم يشربون دماء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه لو كان حيّا ، فمن كانت حياته ، وماله غاليا عليه ، فليكن حذرا ..».

وما أن خيّم ظلام الليل حتى أشعلت مئات الألوف من المشاعل والفوانيس والمصابيح. وتم القبض على ثلاثة يهود ، وقطعت رقابهم كانت الطرق فى هذه المنطقة مليئة بالأشواك ، محاطة بأشجار السنط ، المليئة بالشوك ، ومن الطريف أن عمائم وقلانس الكثيرين قد بقيت معلقة بهذا الشوك. كما جرح الآلاف منه. وأدميت أطراف البعض. تعلق قلباق (١) أو أحد من البوشناق (٢) فى هذا الشوك قد

__________________

العثمانى. وكانت اورطتهم موزعة على ٣٥ بلوكا .. وعلى رأس كل بلوك ضابط ، ويطلق على رئيسهم فى التاريخ العثمانى. «سكبان باشى» أي رئيس السبان. «المترجم»

(٢) الصاريجية ـ صاريجه Sarica مصطلح عسكرى يطلق على عصاة الجند فى منطقة الأناضول خلال فترة حكم الدولة العثمانية. وقد نسبوا إلى صاريجه پاشا الذى تعرض لغضب السلطان محمد الفاتح لما ارتكبه من عصيان وثورة. وقد مرت هذه الحادثة فى التاريخ العثمانى تحت مسمى «عصيان صاريجه پاشا» وأصبح هذا المصطلح يطلق على الجنود الذين يظهرون العصيان .. فيتم ابعادهم عن العاصمة. «المترجم»

(١) قلپاق : غطاء رأس يصنع من الجلد ، أو الوبر ، أو الجوخ ، ويرتديه التتار ، والبلغار ، والچركس ، ومنه أنواع عديدة. يرتديه الخيّالة .. ومنه أنواع تصنع من السمور ، والفراء وقد ارتدت طائفة من التركمان نوعا منه لونه أسود ، فأطلق عليهم هذا الإسم. «المترجم»

١٠١

اخذته سنة من النوم فظن أن اليهود هم الذين اخذوه فإستل سيفه ، وهاج ، ولم يهدأ إلا بعد أن جرح ثلاثة من رفاقه. سارت القافلة فى هذه المرحلة سبع عشرة ساعة.

منزل البئر الجديد :

والدة السلطان محمد الرابع (١) هى التى أمرت بإنشاءه سنة ١٠٨١ ه‍ ـ ١٦٧٠ م عمقه حوالى أربعون زراعا ، واتساعه حوالى مائة خطوة. ما أن وصلناه حتى وجدنا البدو قد ملئوه بشوك الجمل ، ولكن القائد حسين باشا ، وتحت إمرته آلاف الجند ، استطاعوا أن ينظفوه فى غضون ساعة وبدت للعيان مياهه الرائقة كالبلور.

انتشرت حوله نباتات السيناميك ، وهى من النباتات المسهله. ويطلقون على هذا الوادى «شعيب النعام» وهو مكان كثير الكلأ ، وحسب الكتب الدينية كان موسى عليه‌السلام يرعى أغنام سيدنا شعيب فى هذا الوادى.

زيارة سيدنا هود :

لقد أرسل الله سبحانه وتعالى هودا على قوم عاد ، ولكنهم لم يؤمنوا به ، فأرسل الله عليهم ريحا صرصرا عاتية ، ظلت ترطم بعضهم بالبعض حتى أهلكوا عن آخرهم. ونزلت فى حقهم الآية الكريمة : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً)(٢).

بيت :

لقد هبت تلك الرياح ، العاتية ، مرة واحدة على الدنيا ، فاقتلعت قوم عاد ، وقطّعت أوصالهم ، ثم هدأت. (٣)

__________________

(٢) البوشناق : Bosnak هم من آهالى البوسنة ، أو من ينحدرون من نسبهم ، يتسمون بالجمال ، وهم من المسلمين .. ومنهم من هم مسجيون يعيشون فى بلاد الصرب والكروات. «المترجم»

(١) والدة السلطان محمد الرابع : هى والدة السلطان محمد الرابع ، وكانت تسمى طورخان خديجة سلطان .. أصبح لها نفوذ كبير عند ما تولى ابنها السلطنة وهو فى سن صغير. وكانت من المحبات للخير .. وانشاء الكثير من العمارة الإسلامية فى شتى بقاع الإمبراطورية. «المترجم»

(٢) سورة الحاقة الآيتان ٦ ـ ٧.

(٣) دنياه اول بل بركز اسوب دورور ... عاد قومينك كوكسدة كسوب دورور

١٠٢

قدم هود عليه‌السلام إلى هذه الديار ، وتوطنها ، ثم توفى بها عن عمر جاوز المائة وخمسين سنة. وقد أمضى حياته بالتجارة.

وقبيل تحرك القافلة ، من هذا الموقع ، وصل رهط من الفرسان العرب ، يتراوح عددهم ما بين أربعين ، أو خمسين فارسا ، وطلبوا حصتهم من الصرة ؛ وقالوا أنها ستة آلاف وستمائة قرش ، فأخبرهم الباشا «إن القانون لا يسمح لي بدفع أكثر من ثلاثمائة قرش فقط» فقال قائد الفرسان .. «إن تدفعوا. فهذا حسن .. وإن لم تدفعوا فسترون ماذا تشربون من هنا حتى المدينة .. علاوة على ما بالطرق من عوائق» وما أن سمع الباشا هذا الكلام ، حتى أصدر أوامره ، بالقبض عليهم ، بعد أن واجههم بالعبارات التالية. «أيها الكفرة الجاحدين ... لقد اغلقتم الآبار ، وهل تظنون أن ما فعلتموه يخفى علينا ..» وتم القبض عليهم ، وإقتيدوا وسط لعنات الحجاج ، ولطمات الجند ، وربطوا بالجمال وهم حفاة الأقدام ، فوق الرمال المحرقة ، وتحت أشعة الشمس القائظة واستمروا على تلك الحالة عدة أيام ، كان من نتيجتها ؛ وفاة إثنين منهم. تابعت القافلة مسيرتها سبعون ساعة حتى وصلت إلى :

مرحلة نبع الهديه :

هذه المنطقة عبارة عن وادى أخضر ، تتراكم فيه مياه الأمطار ، فيستفيد بها الآهالى ، فى القضاء على الجفاف. مياهه تميل إلى الملوحة بعض الشئ ، لدرجة أن من يكثر من شربها يصاب بالإسهال. وقد اتضح أن أعشاب هذا الوادى كلها من السيناميك المسهل.

وكانت دهشتنا كبيرة حينما أحضر باشجاويش الشام (١) أحمد آغا ، وكتخدا قاپى قولى (٢) أحمد آغا سمكا ، إلى الباشا ، فسألهما فى حيرة ، «ليس هنا نهير ، أو بحيرة فمن أين أحضرتم هذا السمك؟ فقالا : «.. يقال أن الله سبحانه وتعالى جلت

__________________

(١) باشجاويش الشام أحمد آغا : من أشهر جاوشية قوات الإنكشارية فى الشام ، وكلّف بالعمل مع قائد قافلة الحج سنة ١٠٨١ ه‍ «المترجم».

(٢) كتخدا قاپى ، أحمد آغا : من قوات الحرس فى السراي السلطانى ، ومن المكلفين بإحضار قافلة الحج إلى الديار الحجازية. وكان مع قافلة سنة ١٠٨١ ه‍.

١٠٣

قدرته كان قد أنزله من السماء ، وكلما أكل وألقى بعظامه فى الرمال ، فإنه يعود إلى الحياة من جديد ..». وقد أكلت أنا ـ العبد الحقير ـ من هذا السمك ، وكان لذيذا ، ومقويا ، بدرجة ملحوظة. وكانت الاسماك ، تسبح فى الرمال ، كما لو كانت تسبح فى البحر. ويطلق الآهالى عليها «هدية المائدة». (١)

لم تتوقف القافلة هنا ، بل استمرت فى سيرها ثلاث عشرة ساعة حتى وصلنا إلى قلعة الفحلتين :

مرحلة قلعة الفحلتين :

يسميها الآهالى وسكان المنطقة أيضا «صخرة السلام» ويقولون أن الرسول الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» عندما كان يمر من هذا المكان ألقى السلام قائلا «السلام عليكم يا جبل منوّر» فجاءه صوت من الجبل مجيبا «وعليكم السلام يا رسول الله».

وتسمى هذه المنطقة أيضا ، ولاية بلاد خيبر ، والقلعة مقامة فوق صخرة مدببة ، ويقال أن أول من أقامها عنترة. ولم يكن بها أحد ، ولم نشأ أن نصعدها ، أو نتفحصها. فى شرق هذه المنطقة ؛ توجد جبال بها عيون مائية عذبة من القاع. وقد قام الجميع بملئ قربهم منها.

فى هذه الليلة شن اليهود هجوما على القافلة كان من نتيجته استشهاد أحد الأكراد ، وقطع ثلاثة رؤوس منهم.

ديار خيبر هذه منطقة ذات رياض ، ورودها فوّاحة ، تعبق الجو بأريجها من مسافة بعيدة. أهلها شجعان ، لم يخمد حقدهم ضد العرب ، والمسلمين ، فما أن يروا عربيا مسلما ، فى أي مكان حتى يودون قتله ، ولكن الغريب أنهم كانوا يفتحون حدائقهم لحجاج بلاد الأناضول ..!!

وكما تسطر كتب التاريخ ؛ فإن الغزوة الخامسة للنبى الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كانت على قلعة «فديك» فى ديار خيبر. وتنسب هذه القلعة إلى «فديك» أم عنترة ابن شداد الزنجية. كما كانت الغزوة السادسة أيضا فى هذه الديار ، ألا وهى غزوة أحد. وقد

__________________

(١) ربما يقصد الكاتب ، الضب الذى يظهر عقب موسم الأمطار. «المترجم».

١٠٤

قطعت القافلة هذه المسافة فى تسع عشرة ساعة. حتى وصلت إلى ؛ وادى القرى القديم.

وادى القرى القديم :

ويسمونه أيضا المدينة القديمة ، مياهه وفيرة ، عذبة ، يفد إليه البدو من المناطق المحيطة ، ليبيعوا منتجاتهم إلى الحجيج. بعده دخلت القافلة ممرا ضيقا ، وما أن غربت الشمس حتى أشعلنا آلاف المشاعل والفوانيس تجنبا لمخاطر قطاع الطرق ، وعبرنا هذا الممر الضيق بسلام ، ونحن تحت حراسة الجند المدجج بالسلاح. وفى صبيحة اليوم التالى وصلنا إلى دار الوداع :

دار الوداع أو وادى الإستقبال :

وتسمى هذه المنطقة «دارخازن» أيضا. وجميع الجبال الممتدة من الشام حتى هذه المنطقة ؛ جبال ملساء ، جرداء ، عارية ، من الغابات ، أو الأشجار ، ولما كان أهلها جميعا يستقبلون أهل المدينة هنا فلذلك سميت «وادى الاستقبال».

وقد قدم كل أعيان المدينة ، ووجهائها ، ومطوفوها ومرشدوها ـ مع آهالى المنطقة ـ لإستقبال الموكب ، وكانوا جميعا يرتدون ملابس بيضاء ، وجوههم نورانية ، تعلو البسمة شفاههم ، عيونهم حورية كحيلة ، فى صوتهم رقة ، وعذوبة ، تبدوا عليهم علامات الصحة ، أشداء قدموا مهللين ، فرحين ، وقد حملوا هداياهم. مكثنا ساعتين فى هذه البقاع ، قضيناها وسط ترحاب المستقبلين. ولم يكن قد بقى سوى يوما واحدا عن حلول شهر ذى الحجة. ولو توقعنا ؛ توقف الحجاج ، يوما ، آخرا فى مكة المكرمة ، ولما كانت وقفة عرفات فى العاشر من ذى الحجة ؛ لإتضح من ذلك ؛ أن اللحاق ببداية مراسم موسم الحج غير ممكن ، لذلك تابعت القافلة سيرها ، وواصلت ليلها بنهارها. ولم تحط رحالها منذ الخروج من «مزيربّ».

وهذه المسافة عبارة عن أربع وعشرين مرحلة ، تستغرق ثلاثمائة وخمسين ساعة ، سيرا بالجمال أما إذا كانت الطرق معبدة ، مستوية ، وفيرة المياه ، والطعام ؛ فإن

١٠٥

المسافة تستغرق مائة ساعة فقط ؛ بالخيول ، والبغال. ولكن لما كانت الطرق غير ذلك ؛ تحتم على القوافل استخدام الإبل. وكما هو معلوم ؛ فليس هناك فرق كبير ، بين ما تقطعه الإبل ، وبين ما يقطعه المترجل فى سيره ، أو من يسير على قدميه ، لذلك ، لو إهتم السلاطين بإنشاء الطرق الرئيسية ، أو السلطانية (١) من الشام إلى

__________________

(١) الطرق السلطانية : مصطلح إدارى يطلق على الطرق الرئيسية الواقعة بين الحرمين الشريفين ، ولما كان السلاطين هم الذين يهتمون وكان حجاج بيت الله الحرام يتوجهون بعد الإنتهاء من مناسك الحج إلي المدينة المنورة للتشرف بزيارة المسجد النبوى الشريف ، والسلام على النبى المصطفى ، وزيارة الروضة المطهرة ، والحجرة المعطرة ، وكانت القوافل تسلك طرقا عديدة ، رأينا أنه من المناسب الإشارة إليها : وخاصة الطرق الرئيسية أى السلطانية ؛

الطريق السلطانى : إن أول منزل للخارجين من مكة المكرمة هو القرية المشهورة المعروفة ب (وادى فاطمة). إن هذه القرية تبعد عن مكة مسافة ست ساعات سيرا بالجمال. وتشتهر بعيونها الجارية ، وحدائقها وبساتينها اليانعة التي تشتمل على النخيل وسائر الأشجار الأخرى.

إن الليمون والنارنج وأكثر الخضروات التي تباع فى مكة المكرمة تزرع فى هذه القرية.

والمرحلة الثانية للخارجين من مكة المكرمة تكون عند البشر المسمى (بئر عسفان). كما تسمى هذه المرحلة أيضا (بئر التفل).

وتبعد مرحلة بئر عسفان اثنتى عشرة ساعة عن قرية (وادى فاطمة) ، ومياه تلك الآبار رقراقه وعذبة حلوة المذاق.

ولما كانت مياه تلك الآبار مخلوطة بمياه وجه الأنبياء وبريق سيدنا ونبينيها (عليه وعليهم التحية) فإن مياه النيل والفرات وربما ماء الكوثر تغبطها على طلاوتها. وهنا فى هذا الموضع يوجد البئر المشهور بين العرب ب (بئر التفلة).

والمسافرون من بئر التفلة يصلون إلى قرية (خليص) بعد ثمان ساعات من تحركهم. وقرية خليص تبعد عن مكة المكرمة بثلاث مراحل ، وتشتمل على العديد من الآبار والعيون الجارية ، كما أن بها الكثير من البساتين ، وحدائق النخيل المثمر.

والقوافل المترددة بين مكة والمدينة تواصل سيرها إلي (قضمية) بعد استراحة قصيرة تمكنها من الاستسقاء فى مرحلة خليص.

وقضيمة هى المرحلة الرابعة وبينها وبين خليص إثنتا عشرة ساعة سيرا بالجمال.

ومرحلة قضيمة بها ثلاثة آبار ، إلا أن مياهها مالحة بعض الشئ ، وذلك لقربها من البحر. ولما كانت هذه القرية المذكورة وفيرة الأسماك فقد لقيت استراحتها رواجا بين المسافرين المحليين المترددين عليها.

والقوافل المتحركة من هذا الموضع تصل إلي (رابغ) التى تبعد مسيرة ست عشرة ساعة عن قضيمة من ناحية المدينة المنوره.

ومع أن هناك بعض التباب الصغيرة الممتدة على طول الطريق بين مكة المكرمة ورابغ ، إلا أنها غير مرتفعة بالقدر الذى يحجب الرؤية. ولذلك كانت معظم المواقع فى هذا الطريق ترى البحر بسبب قرب منطقة رابغ من البحر كذلك.

ولما كانت الطرق الموصلة بين قضيمة ورابغ معبدة ورملية فى معظمها ، فلذلك كان السير فيها مريحا.

وكانت الطرق الموصلة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة تتعدد عن رابغ ، وكان أكثرها استعمالا يسمى (الطريق السلطانى).

والمرحله الأولى للطريق السلطانى (الرئيسى) أى الاستراحة الأولى للقوافل المتحركة فى رابغ ، كانت فى موقع (مستورة) الذى يبعد ست ساعات عن رابغ.

وبهذه المرحلة التى تقع فى الميدان الصحراوى المسمى (منخفض ميمون) بئران : أحدهما عذب المياه ، والآخر مالح.

١٠٦

المدينة ؛ لما أصاب البعير ، والدواب ما يصيبها الآن ، من التعب والإنهاك ، ولكانت الرحلة بالخيول ، والبغال أسرع ، وأقل فى الوقت ، والإرهاق. ولقد منح الله سبحانه وتعالى الجمال من القوة ، والصبر ، والتحمل ، ما يجعلها تواصل السير حتى وهى نائمة.

تحركت القافلة على الفور ، وبعد ساعة ، تراءت لنا من قمة عالية ، حدائق المدينة

__________________

وبعد مرحلة مستورة تصل القوافل إلي استراحة (بئر الشيخ) ومن ذات نبع عذب المياه ، وتبعد اثنتى عشرة ساعة عن مستورة.

والمسافرون من بئر الشيخ يصلون إلى قرية (سفرا) التى تبعد عن بئر الشيخ اثنتتى عشرة ساعة. وبين هاتين المرحلتين بئر مشهور يسمى (ابن حصانى).

وإذا كانت قرية صفرا كبيرة حد ما ويقطنها حوالى خمسمائة نفس ، إلا أنهم جميعا ما زالوا يعيشون حياة البداوة.

ومع أن هذه القرية المذكورة تمتلك المياه الجارية والأشجار المتعددة إلا أن معظم مغروساتها محصورة فى أشجار النخيل والليمون والحناء.

وبعد صفرا بثلاث ساعات تقع قرية (حمراء) ، وهى أيضا ذات مياه جارية وأشجار يانعة متعددة. وتنتج هذه القرية أجود أنواع الحناء وزيت البلسان الذى يتكالب عليه الحجاج والمسافرون عند المرور بها.

وأكثر القوافل المسافرة من صفر لا تتوقف فى الحمراء ، بل تواصل سيرها إلى الموقع الموجودة فى مدخل (جديدة) الضيق والمسمى (الحوبه جية). والمسافة بين هذين المنزلين ست ساعات. وتوجد المياه الجارية فى موقع الاستراحة.

وتصل الرحلة بعد (الحوبة جية) إلى (بئر عباس). ويقع بئر عباس على بعد خمس ساعات من المدينة المنورة من جهة (الحوبة جية) ، وعند التوجه إلى هذه المرحلة تمر القوافل من ممر (جديدة). وتوجد قريتان صغيرتان بين هذين المنزلين.

والقوافل المسافرة من بئر عباس تصل إلي (بئر الشربوفى) بعد اثتنى عشرة ساعة ، وهنا لك أيضا بئر مياهه عذبة حلوة.

وبعد التحرك من (بئر الشربوفى) بأربع ساعات ، تصل القوافل إلي موقع (شهدا) ، وهناك أيضا بئر مياهه عذبة مستساغة.

وبين هذا الموقع والمدينة المنورة أربع عشرة ساعة ، وأهالى المدينة المنورة الكرام يستقبلون.

زوار مكة المكرمة وحجاجيها القادمين لزيارة المدينة المنورة فى البستان المسمى (بيار على) الواقع على بعد ساعتين من جهة مكة المكرمة.

وليس من المعتاد توقف المارة من هذه الطرق فى هذه المنازل والبقاء بها ، إنما الأمر حسب رغبة الجمالين الذين بودون التوقف فى كل مرحلة بها آبار للتزود بالمياه. ولا يتوقفون فى الاستراحات التى ليست بها مياه. وعلى أى حال فإن دخول المدينة المنورة فى اليوم السادس من القيام من رابغ يعتبر من العادات القديمة التى تعودت عليها القوافل.

والطريق المذكور قديم بالنسبة للمحامل الشريفة وقوافل الحجاج ، وبالرغم من قلة مياهه ، إلا أن منازله ومطالعه شبه معدومة ، أما الطريق المذكور آنفا فتوجد عليه سلاسل الجبال التي تحيط بجانبيه حتى مرحلة (بئر عباس). ولما كان الطريق يمر ببعض الممرات الضيقة فى أكثر مراحله ، فإن هذا يشجع البعض من عربان قبائل (بنى حرب) على السيطرة عليه من حين لآخر والسطو على أموال القوافل المترددة. وربما وصل الأمر فى بعض الأحيان إلى القتل والسلب معا مما يدفع قوافل الحجاج المسلمين ومواكب الزوار وسائر المسافرين إلى أن يسلكوا الطرق المسماة ب (الفرع وغابر) والتى كان قد افتتحها حضرة السلطان منذ بضع سنين خلت بسبب عمرانها وعدم خطورتها. (المترجم»

١٠٧

المنوره ، وقبة المسجد النبوى ، الشريف. وكانت صحراء المدينة المنورة تضاء من حين لآخر بومضات نورانية مباركة. وما أن رأى الجمع ذلك ، حتى ولّوا وجوههم شطر المدينة ، سواء أكانوا راجلين ، أو ممتطين صهوة دوابهم ، وأخذوا يرددون «الصلاة والسلام عليك يا رسول الله». والطريف أنه ما أن رأى الحجيج قبة المسجد النبوى ـ على ساكنه أفضل الصلاة والسلام ـ من أعلى ، وما أن بدأوا جميعا فى التهليل ، والتكبير ، والدعاء حتى بدأت البعير فى البعبعة ، والهدير ، والخيول فى الصهيل ، والبغال ، والحمير فى النهيق ، حتى أنه لم يعد بالإمكان السيطرة عليها بسهولة ، بعد ما كانت فيه من الإنهاك ، والتعب ، فأخذت تسرع الخطى ، بل وتهرول نحو المدينة. وقد بدأ بعض الحجاج يحرمون من هذا الموقع.

أطوار أهل المدينة :

ما أن تراءت المدينة المنورة ، حتى تحولت الصحراء إلى خضم بشرى ، ومحيط آدمى ، وهب جميع سكان المدينة المنورة ، الطاهرة ؛ من رجال ، ونساء ، وذكور ، وإناث ، كبير ، وصغير ، إلى إستقبال الموكب والترحيب به ، وكان الأطفال يقدمون أكياس التمور ، إلى الحجاج ، وهم يرحبون قائلين «حمدا لله على السلامة يا حاج .. زيارة مقبولة .. وحج مبرور» وكان الحجاج يردون عليهم شاكرين لهم قائلين «شكرا لله .. لقد قدمنا إلى آعتاب سيدنا ، ونبينا ، الذى هو رحمة للعالمين».

أما الفتيات ؛ فقد كن ينشدن الآغانى ، والقصائد ، والأناشيد الدينية ، وهن فى صحبة الحجاج ، حتى الدخول إلى أبواب المدينة نفسها ، وقد استغرقت هذه الرحلة خمس ساعات.

إطراء جند صارى حسين باشا :

لقد دخلت كتيبة حسين باشا ، إلى المدينة ، تحف بها أطياف الجلال ، والفخار ، مرفوعة الهامة ، ناصعة الجبين ، وأضحت ملحمة على كل لسان ، حيث لم يسبق لمن سبقوه مثل ؛ سنان باشا (١) ورضوان باشا (٢) ، وطاوشان سليمان باشا (٣) ، أن

__________________

(١) سنان باشا ؛ ورضوان باشا ، وطاوشان سليمان باشا : من قواد قافلة الحج السابقين على هذه السنة التى حج فيها آوليا ، ولم يتمكنوا من اخماد عصيان البدو ، والأعراب ، (المترجم)

١٠٨

كان فى معيتهم جند مختارون أمثال هؤلاء عند دخولهم المدينة. لقد خرج كل الآهلين ، مصطفين على جنبات الطرق ، والشوارع لإستقبالهم ، والحفاوة بهم ؛ فنحرت الآضاحى ، أما سيدات المدينة ، اللائى قد إصطففن فى النوافذ ، وقد إرتدين الفساتين الحريرية ، ما أن رأين موكب الباشا ، حتى أطلقن زغاريدهن ، التى صدح بها المكان ، واهتزت الأرض تحت أقدام الموكب.

وكان الباشا هو الآخر ، قد بدا فى أبهى صورة ؛ حيث تدثر بفراء السمور ، الثمين ، ووضع على رأسه ؛ العمامة السليمية (١) ، ومن حوله شطاره (٢) ؛ وقد إرتدوا ملابسهم العسكرية ، وخوذاتهم المذهبة ، ومن وراءهم محفل مهيب ؛ من الفرسان ، وموسيقات الجيش الهمايونى ، المكون من ثمان أطقم ، يدقون طبولهم ، ويعزفون موسيقاهم ، التى تعبق المكان بالحماس الدينى ، والروحانى الجميل. وسار الموكب حتى استقر الباشا فى أوطاقه (٣).

__________________

ولم يتمكن سنان باشا من التصدى لهجمات البدو والآعراب فى بوادى أرض الحجاز ، وطرق القوافل مما أدى إلى عزلة فى السنوات التالية.

(٢) رضوان باشا : واحد من القادة العسكريين ، والولاة الذين قادوا قافلة الحج قبل سنة ١٠٨١ ه‍ ، ولكن لم يحالفهم التوفيق مما أدى إلى عزله.

(٣) طاوشان سليمان باشا : كان واحد من الولاة ، والقادة ، تم تكليفه بقيادة القافلة التى تصاحب موكب الحج ، لم ينجح من صد هجمات البدو ، فتم عزله.

(١) العمامة السليمية : غطاء رأس ينسب إلي السلطان سليم الأول العثمانى ، وتسمى «سيليمى» وتصنع من أجود أنواع الأقمشة ، ويصل طولها إلى ٦٥ سم ، وآعلاها أكثر اتساعا ومستويا ، ويعلق عليها شريط من التل. وكان يرتديها السلاطين ، وقوات الانكشارية) «المترجم»

(٢) الشطار : جمع «شاطر» Satir مصطلح يطلق على بعض من القوات التى تكون فى معية السلطان ، ويكلفون ببعض المهام المهمة ، ويسيرون حول السلطان فى كوكبة ظريفة لإضفاء البهجة ، والمهابة على موكب السلطان. وكان منهم من يكون فى خدمة الصدر الأعظم ، أو الوزراء. ويعتبرون من تشكيلات السراى. ويدخلون ضمن قوات البيادة أى المشاة. وكانت لهم معسكراتهم الخاصة بهم ، وكانت قد ألغيت ولكن فى محرم ١٠٧٧ ه‍ ـ يوليو سنة ١٦٦٦ م أعيد تكوينها. وكان رئيسهم يسمى «شاطر باشى». ولهم كتخدا أى معتمد ، ملابسهم مزركشة ، وأحزمتهم مرصعة.

وكان السلطان محمد الرابع يتوجه إلى صلاة الجمعة وسط كوكبة منهم فى كل أسبوع. وكانوا يضعون على رؤوسهم تيجان تشبه الكوكب المرصع بالذهب. وفى آياديهم اسلحتهم التي تشبه البلط.

كان الصدر الأعظم ، والوزراء يستخدمونهم لفرض الهدوء والسكينة بين الآهالى ، وكانوا يقومون بما يشبه أعمال قوات الضبطية.

كما كان يستخدمهم بعض رجالات الدولة ، والوجهاء كنوع من المظهرية .. بحيث يسيرون عن يمينه وعن يساره وهم فى كامل أبهتهم. «المترجم»

(٣) الأوطاق : اوطاغ مصطلح فنى يطلق على نوع من الخيام المخصصة للسلطان والصدر الأعظم ، والوزراء ، وكبار

١٠٩

وحينئذ أطلقت مدفعية قلعة المدينة ما بين سبعين ، أو ثمانين طلقة ، وكان هذا إيذان بدخول المدينه.

وما أن استقرت القافلة ، فى مكانها ، حتى هيئت نفسى ، أنا العبد الحقير. للقيام بالزيارات اللازمة ؛ فأخذت لنفسى مرشدا ، وأحد العبيد ، وتوجهت إلى مقامات الزيارة.

مقامات الزيارة خارج المدينة :

على طريق الشام ؛ وعند مدخل المدينة المنورة ، تقع حديقة وبستان سيدنا عثمان رضى الله عنه ، وكان موقعها على يمين الشارع ، وهى عبارة عن بستان فسيح ، مزدان بشتى أنواع الأشجار المثمرة ، رياضه مزهرة وآباره عذبة المياه ، وبالقرب من الحديقة يقع جامع «ذى القبلتين» إحداهما ناحية الكعبة ، والثانية متجة نحو القدس حيث المسجد الأقصى ، وحيث نزلت آية (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))(١) فى حقها.

ففى السنة الرابعة عشر للهجرة النبوية ، وبينما كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى فى أحد المساجد ، نزل عليه جبريل الأمين «عليه‌السلام» وأوحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآية الكريمة (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ..*)(٢) ، فاتجه المسلمون جميعا منذ ذلك الحين فى صلاتهم نحو الكعبة المشرفة ومما لا شك فيه ؛ أن كل من يصلى هنا لك ،

__________________

القادة. وكانت خيمة السلطان تسمى «اوطاغى همايون» ، أما خيمة الصدر الأعظم فكانوا يطلقون عليها «اوطاغى آصفى». ويختلف الأوطاق عن الخيمة العادية بزخارفه ، وكبره ، واتساعه ، والكرانيش التى تطوقه. وقد نصب السلطان سليم الأول عند دخوله مصر اوطاغه فى منيل الروضة ١٥١٧ م ـ ٩٢٣ ه‍.

كما كان يقام اوطاغ ـ اوطاق قائد أو أمير الحج كلما دعت الحاجه والاستراحة ، أو استقبال رجالات القافلة ، وأهل الحرمين

وكان الأوطاغ الهمايونى غاية فى الزينة ، والزخرفة ولونه أحمرا فى العادة. ولا يسمح للوزراء ، والأمراء ، واولياء العهد باستخدام اوطاقات بنفس هذا اللون.

كان الاوطاق السلطان ينصب فى العادة وسط المروج والرياض .. وفى وقت الحرب ؛ فيقام وسط معسكرات الانكشارية وخيامهم تحيط بخيمة السلطان من كل جانب ، وكانت هى بمثابة خيمة القيادة المركزية. وفى الغالب كانت تصنع من خيوط القطن. وخاصة القسم الداخلى .. أما القسم الخارجى فكان معالجا ضد الأمطار ، والحرارة الشديدة. «المترجم»

(١) آية تغيير القبلة ... سورة الحج آية ٢٩.

(٢) سورة البقرة آية ١٤٤.

١١٠

ركعتين ، خاشعا لله ؛ فإنه يدخل الجنة ، بدون عذاب ، أو حساب. ولقد كانت إحدى الغزوات الثمانى والعشرين التى غزاها الرسول الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١) ضد المشركين قد دارت رحاها فى هذا الموقع ، وبالقرب من القبلتين ؛ ألا وهى غزوة الخندق ،. وبنفس هذا الموقع أربعة مساجد ؛ أحدهم هو مسجد «سلمان الفارسى» ومسجد «سيدنا عثمان» ومسجد «سيدنا على» ...

أما الجماعات التى بقيت فى حدائق المدينة فهى قليلة ، وفى جنوب هذه المساجد السابقة يوجد جبل صغير ؛ كان الرسول الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يتعبد فيه ، ويوجد حيث يوجد مقام الرسول الكريم. ويقع جبل عسير ، أى «جبل جهنم» بالقرب من هذا الجبل ، وفى ضواحيه الأربع توجد الحدائق والرياض ، ولكن هذا الجبل أملس ،

__________________

(١) عزوات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثمانى والعشرين :

إن معركة بدر (١) كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين بقيادة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) والمشركين ، وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نصرا حاسما شهد له العرب قاطبة. وكانت هى بداية النشاط العسكرى الإسلامى ، (٢) ثم كانت غزوة بنى سليم بالكدر ، (٣) ثم غزوة بنى قينقاع بعد أن نقض اليهود العهد فى اتفاقهم مع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، (٤) غزوة السويق التى طارد فيها النبى أبا سفيان وآصحابه ، (٥) وغزوة ذى أمر ، وهى أكبر حملة ، عسكرية قادها الرسول قبل أحد وكانت فى المحرم سنة ٣ ه‍. (٦) غزوة بحران ، قادها الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فى شهر ربيع من نفس السنة ، ثم كانت.

(٧) غزوة أحد بالقرب من المدينة المنورة ، وقد شاركت فيها نسوة قريش فى تحميس المقاتلين ، وفيها استشهد أسد الله حمزة بن عبد المطلب ، ونزلت الهزيمة بالمشركين ، ولو لا غلطة الرماة لما تبدد المسلمون فى الموقف ، وعند ما احتدم القتال حول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) والتفاف الصحابة وتجمعهم حوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). واشتد الوطيس فيها ، كما استشهد فيها سبعون من المسلمين. (٨) غزوة حمراء الأسد. (٩) ثم غزوة بنى النضير ، (١٠) وغزوة نجد (١١) وغزوة دومة الجندل ، (١٢) ثم غزوة الأحزاب ؛ التى كانت معركة آعصاب ، لم يجر فيها قتال مرير ، إلا أنها من أحسم المعارك فى تاريخ الإسلام ١٣٠ ـ ثم كانت غزوة بنى قريظة. ثم أعقبها بعض البعوث والثرايا ، ثم غزوة بنى لحيان ، ثم غزوة بنى المصطلق أو غزوة المريع فى شهر شعبان سنة ٦ ه‍ ، وفى ذى القعدة سنة ٦ وقعت وقعة الحديبية ، وأعقبها هدنة الحديبية التى تعتبر بداية طور جديد في المعارك العسكرية الإسلامية ، فقد بدأت المكاتبات إلى الملوك والأمراء.

وبعد صلح الحديبية كانت غزوة الغابة أو غزوة ذى قرد ، وغزوة خيبر ووادى القرى فى المحرم سنة ٧ ه‍. ثم غزوة ذات الرقاع والتى أعقبها بعض السرايا ، وتم عقبها عمرة القضاء. ثم معركة مؤته ، وهى أكبر معركة دامية خاضها المسلمون فى حياة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فى جمادى الأولى سنة ٨ ه‍ اغسطس / سبتمبر سنة ٦٢٩ م. وكانت بين المسلمين والرومان. واعقبها السرايا كسرية ذات السلاسل ، وسرية أبي قتادة إلى خضرة.

ثم كانت غزوة مكة التى أعز الله بها دينه ، ورسوله ، وجنده وحزبه الأمين. ثم جاءت غزوة حنين واستخدم فيها سلاح الاستكشاف على أحسن وجه.

عاد الرسول إلى المدينة بعد الفتح المبين. وما أن استهل هلال المحرم سنة ٩ ه‍ حتى بعث عليه‌السلام بالرسل إلى المصدقية به ، ثم تتابعت السرايا ، وكانت غزوة تبوك فى رجب سنة ٩ ه‍ وقد نزل فى حقها الكثير من الآيات المباركات. انظر : (الرحيق المختوم ، صفر الدين المباركفورى ، دار ابن خلدون ٠١٧٦) المترجم.

١١١

أجدب لا ثمر فيه ، وقد دعى عليه الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك ؛ هو جبل أسود ، مظلم ، لا نور فيه ، ولا زرع. أما حدائق تلك الديار فغزيرة المياه ، وفيرة الثمار ، متعددة الأنواع ؛ فمن الليمون ، واللارنج ، إلى الفواكه الأخرى الفّواحة.

هناك بستان آخر ؛ يقع على طريق الحجاج ، كثيرا ما ترتدنه سيدات المدينة الطاهرات ، العفيفات ، لمشاهدة مواكب الحجاج. وقد طفت ، وتجولت فيه أنا العبد الفقير ، للوقوف على كل ما به من بساتين ورياض.

وبعدها اغتسلت فى حمام عام ، حتى اتخلص من عناء الطريق ، ومشقته ، وعدت إلى خيمتى ، وغيرت ملابس الطريق ، وأحرمت ، ثم خرجت من الخيمة ، متجها نحو قلعة المدينة ، من باب مصر ، وأنا أردد الدعاء العظيم «ربى أدخلنى مدخل صدق .. وأخرجنى مخرج صدق ..» ثم دلفت إلى المسجد النبوى من باب السلام ، ثم بدأت أزحف ، وسط الحشد الغفير ، حتى وصلت إلى المقصورة النبوية فلثمتها ، ثم ركعت على ركبتى محييا ، «السلام عليك يا رسول الله» ، وقد استغرقت فى إبتهالاتى ، وما أن عدت إلى نفسى ، أو عادت إلىّ نفسى ، حتى حاولت أن أشق طريقى ، وسط هذا الزحام المحبب إلى النفس. وعدت إلى خيمتى. وقد أعلن جاويشية الكتيبة عن البقاء يومين فى المدينة.

* * *

١١٢

أوصاف يثرب أى أوصاف

قلعة المدينة المنورة

كانت يثرب مدينة صغيرة فى بداية عهدها ، وبعد أن هاجر إليها الرسول الكريم من مكة ، ، عمرّت عمرانا عظيما. ومن أهم ما يسجله تاريخها ، أنه عند ما حاول الكفار الإستيلاء على قبر الرسول لهدمه ، هب نور الدين شهيد من الشام ، ووصلها فى تسعة أيام ، وخلص المدينة من أيدى الأعداء ، وبنى حولها قلعة. ولكنها خربت خلال تعاقب الأزمان ، حتى رأى السلطان سليمان (١) الرسول الكريم فى منامه ، فخاطبه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : «.. يا سليمان إفتح بلجراد وبودين ورودس وشيد قلعة حول القدس الشريف التى بها مقام الإمام الأعظم ، وأخرى حول مدينتى يثرب». فقام السلطان سليمان القانونى بفتح هذه المدن ، وشيد القلاع.

__________________

(١) السلطان سليمان القانونى : ١٤٩٥ ـ ١٥٦٦ م ـ ٩٠٠ ـ ٩٧٤ ه‍. عند وفاة والده السلطان سليم الأول ، كان الأمير سليمان واليا على مغنيسيا ـ ما ينصه. تولى السلطنة ولم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره بعد. وكان عليه أن يتابع انتصارات والده ، ففتح بلجراد ، ورودس والمجر ، وحاصر فينا ، ولو لا خيانة زوجته اليهودية روكسلانه ـ خرم سلطان ، وصدره الأعظم إبراهيم پاشا لتحولت النمسا إلى ولاية عثمانية. لقب بالقانونى لكثرة القوانين التى أصدرها لتنظيم حياة الإمبراطورية العثمانية.

حوّل البحر الأبيض المتوسط ، والبحر الأحمر ، والبحر الأسود وبحر مرمرة إلى بحيرات إسلامية لم تكن الاساطيل الأجنبية تستطيع دخولها بدون اذن سابق ، وقد اعتمد فى ذلك على الأمير الجزائرى خير الدين بارباروس الذى عينه قائدا للاسطول العثمانى.

لم يغفل السلطان سليمان القانونى عن إنشاء الصروح المعمارية ؛ من جوامع ، وكليات الصحن ثمان ، ودور الحديث ، والخور ، والخانات ، والحمامات ، والاستراحات فى شتى ربوع الإمبراطورية.

كان للمدن الإسلامية المقدسة الثلاث ؛ مكة ، والمدينة والقدس مكانة خاصة فى نفس القانونى ، فأوقف عليها الكثير من الأوقاف الخيرية ، وولى عليها خيرة قواده ، ما كفل لها تطورا معماريا وحضاريا ، ما زالت ماثلة للعيان حتى اليوم ؛ فجدد الحرمين الشريفين ، والمسجد الأقصى ، وأمن قوافل الحج المؤدية إليها ، وأقام المخافر والحصون والقلاع ، والأبار ، والمطاعم على طرق القوافل لخدمة الحجيج. سليمان القانونى [٩٠٠ ـ ـ ٩٧٤ ه‍ ـ ١٤٩٥ ـ ١٥٦٦ م] أعظم سلاطين بنى عثمان. ابن سليم الأول. اعتلى العرش سنة ٩٢٦ ه‍ لقب بالقانونى لعدله وكثرة القوانين التى سنها ، وصلت الدولة العثمانية فى عهده أقصى اتساعها. لقبه الأوروبيون بالعظيم"MagniFique " وصلت فتوحاته إلى المجر ، سنة ٩٣٦ ه‍ ، وحاصر فينا غربا. وسّع فتوحاته فى آسيا فضم إيران وبغداد وآذربيجان ووصل البصرة سنة ٩٤١ ه‍ ـ ١٥٣٤ م. حول البحر الأبيض والأحمر إلي بحيرات عثمانية تحت قيادة خير الدين بارباروس. له عمارات فى كل العالم الإسلامى. مدة سلطنة ٤٨ سنة. «المترجم»

١١٣

أشكال قلعة المدينة :

كانت مولوية (١) المدينة حسب القانون القديم مولوية «قضاء» مخصصاتها خمسمائة آقچه ، ولكن لبعدها ، وعدم خصوبة أرضها ، فقد أصابها الإهمال ، حتى كان عهد السلطان محمد الرابع ، فأصدر قانونا نص فيه على ما يلى :

«إنه بدون قضاء مكة والمدينة فلن يكون هناك قاض لإستانبول» وبذلك إرتبطت مكة والمدينة فى بادئ الأمر بقاضى ، أو ، مولوية إستانبول :

آهالى المدينة يتصفون بالحلم ، ولين الجانب ، والمسالمة. ولقد تم تخصيص ألف قطعة ذهبية لكل من ، شيخ الإسلام ، ومشايخ الحرم ، والمعلمين ، من الصرة. كما خصص لكل طائفة ، مائتين أروب قمح ، من الظهيرة ، التى كانت تأتى من مصر.

يسيطر شيخ الحرم على الأمن فى المنطقة بالجند الذين تحت إمرته ، والذين يبلغ

__________________

(١) مولوية المدينة : قضاء المدينة ـ «مولويت» مصطلح علمى يطلق على الطرق العلمية المتعلقة بالقضاء. وكانت المولوية هى طريق كبار المدرسين .. وتم الأخذ بهذا النظام بعد عهد السلطان سليمان القانونى ، فقد كانت المراتب ، والدرجات العلمية مختلفة قبل عهده .. وقد وجد أنه من الضرورى إحداث تغييرات فى الدرجات العلمية وخاصة لسد احتياجات الكليات التى أنشأها. وإن كانت الأوقاف ، «وقانون نامه» ، السلطان محمد الفاتح تبين أن المولوية كانت موجودة كدرجة علمية ، يرقى صاحبها لشغل القضاء.

كانت رتبة أو درجة المولوية تمنح لكبار المدرسين وظل هذا الأمر معمول به بعد عهد سليمان القانونى ، وكان من ينال هذه الدرجة العلمية يتوجه إلي حيث المكان المحدد له ، ويتولى القضاء فيه.

ولكن هذه الرتبة العلمية أصابها الفساد بسبب النظام الذى وضعه شيخ الإسلام [فيض الله أفندى] فى عهد السلطان مصطفى الثانى ، والذى كان يجيز توجيه هذه الدرجة العلمية إلى الأصلاء ـ «زاده. كانه».

كانت المولوية فى حينها خدمة تنفيذية ، بمعنى على من يتولدها التوجه إلي حيث مكانها ، ويبدأ فى ممارسة مهامها على الفور ، ورويدا .. رويدا بدأ فى الاستغناء عن هذا النظام ، وأن يتولى النواب القيام بهذه المهام.

كانت المولوية ثلاث درجات ؛ أ ـ مولويات المخرج. ب ـ مولويات البلاد الخمس. ج ـ مولوية الحرمين الشريفين ؛ وكان يطلق على مولوية المخرج ، مولوية البلاد العشرة أيضا ؛ وكانت هذه البلاد هى ؛ ازمير ، سلانيك بنى شهير ، فنر ، خانيا ، القدس الشريف ، حلب ، طرابزون ، صوفيا ، غلطه ، أبوب وملحقاتها.

أما مولوية البلاد الخمسة ؛ مصر ، الشام ، بورصة أدرنه ، فليبه ، أما مولوية الحرمين ، فكانت عبارة عن قضاء مكة والمدينة.

وكانت مولويات المخرج يعين فيها كبار المدرسين ، وهناك صلاحية ترقية عشرة أفراد سنويا لهذه الدرجة .. وبعد أن ينال مرتباتها ومخصصاتها ، ويظل بها المدةالمعتادة. يبدأ فى ممارسة مهام مولوية البلاد الخمس لمدة بدون مقابل ، ويكون ملازما للقاضى بها قاضيا وبعد اتمام المدة المقررة يصبح مولويا فى إحدى المولويات الخمس. وبعد قضاء مدته بها ، يعمل ملازما بدون مقابل لفترة ما لقاضى مولوية الحرمين ، وبعدها يصبح قاضيا فى مولوية الحرمين ، وأحيانا ؛ كان يتم الفصل بين مولوية المدينة ، ومولوية مكة.

كانت المدة المعتادة فى كل مولوية هى مدة سنة واحدة. «المترجم»

١١٤

عددهم خمسمائة جندى ، والأقضية التابعة للمدينة ومرتبطة بها إداريا هى :

ينبع البحر ، ينبع البر ، الحديدة ، وصفرا ، ودار القرا ، وفدك ، وديار خيبر.

يقدمون للقضاة فى هذه الأقضية فاتحة وثلاثة مكاييل من التمر ، بدلا من البدل النقدى للحجة.

وبالقلعة ثمانين مدفعا ، وسجنا ، ومهترا (١) ، وجنود محاصرة ، ومحافظا. وأبعاد القلعة كالتالى :

الجنوب به باب مصر ، وعلى جانبيه برجين عظيمين ؛ وفوق العتبة العليا للباب كتبت العبارة التالية : «إنه من سليمان وأنه بإسم الله الرحمن الرحيم». وعلى بعد ثلاثمائة خطوة ناحية الشمال ، يوجد باب الحاج ، أى باب القبلة. وعلى مسافة مائتين خطوة من هذا الموقع ، ونحو الشمال يتجه «المطلع» ، المرتفع ، إلى أعلا نحو الشمال. والمسافة من هذا الموقع ، حتى البرج الداخلى ، للقلعة ، مسافة أربعمائة خطوة. وجدار القلعة فى هذا الموقع عريض ، وقوى جدا وناحية الشرق من هذا الموضع ، وعلى بعد مائتين خطوة ، من هذا المرتفع ، يقع «باب الشام». ومنه ، وحتى برج الشريف ، ألف خطوة ، ومنه حتى «باب البقيع» ثلاثمائة خطوة. وبعد مائة خطوة من باب البقيع ينتهى الجانب الجنوبى للقلعة.

والإتجاه الغربى يبلغ ألف ومائتين خطوه ، من الموضع السابق ، وحتى «باب مصر» ، وعلى هذا الأساس ؛ فإن محيط القلعة ؛ ٣٣٥٠ خطوة وسمك الجدران ستة أذرع ، وإرتفاعها عشرون ذراعا ، وداخل القلعة ألفين منزلا عامرا. أما المبانى

__________________

(١) مهتر : إصطلاح موسيقى يعنى الموسيقار الذى يقوم بعزف النوبة أمام باب أحد رجالات الدولة العظام أو القواد الكبار. وتجمع على مهتران أى مجموعة الموسيقيين الذين يعزفون السلام الوطنى أو السلطانى أو النوبات المختلفة فى الجيش. وكانوا يقومون بالعزف على الطبل ، والزمر ، ويطوفون الأحياء تبشيرا بسير المحمل إلى الحجاز. ويجمعون الهبات والتبرعات لهذا الغرض.

ومنهم «مهتران علم» أى الفرقة الموسيقية المنوط بها عزف سلام العلم ، أو السلام الوطنى فى وقت الحرب. و «مهتران طبل وعلم» وهى الفرقة الموسيقية المكلفة بعزف الموسيقى فى القصر السلطانى ، وفى حضرة السلطان وقائدها يسمى «مهتر باشى». أما الفرقة الخاصة بالسلطان فكانت تسمى «مهتر خانة خاقانى» أو «مهتر خانة همايون» ويقول هامر ج ١ ص ٣١٣ إنها فرقة الشرف التى تعزف أمام الوزراء ، والقواد وقت الحرب ، وتذكرهم بطبولها بأوقات الصلاة أيضا عند الجهاد. ويبين أدوات المهتر خانة كالتالى : ١٦ زورنا ، ١٦ طبل ، ١١ مزمار ، ٨ نقارة ٧ أجراس ـ «صاجات» و ٤ أوستان. وكان عددهم ٧٢ فردا أما إذا إشترك السلطان بنفسه فى الحرب فيتضاعف هذا العدد. وقد ألغى نظام المهتر خانه مع الغاء معسكرات الإنكشارية سنة ١٨٢٦ م ـ ١٢٤١ ه‍ واستبدل به نظام موسيقات الباندو. «المترجم»

١١٥

الأخرى ، فأكثرها خانات ، ومدارس. وجوامع ، وأسبلة ، وتكايا ، وكتاتيب ، ودارا للحديث ، ودارا للقراء. ولا يوجد داخل القلعة مساجد ، أو جوامع ، ولكن بالقرب منها. وهناك خارج الأسوار ؛ توجد هذه المنشآت الدينية السالفة الذكر. وتوجد حدائق فى سبعة منازل فقط. والمدينة المنورة عبارة عن خمسة أحياء فقط.

ويوجد بالقلعة الداخلية محراب واحد ، وعدة عنابر «مخازن» وبها مخزن للذخيرة «جنجانه» ، وما بين سبعين ، أو ثمانين منزلا صغيرا ، ومسجدها بديع الصنع ، وهو من مآثر السلطان سليمان ، وتشييده. وتقام الجماعة وتقرأ الخطبة ، فى الجامع الكبير فقط.

جامع الروضة المطهرة :

إن القبر الشريف ، للرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقع فى داخل هذا الجامع ، ولما كانت صلاة الجمعة ، لا تقام فى أى مسجد آخر بالمدينة ؛ فلذلك يحضر الصلاة فى هذا الجامع حشد كبير من المصليين. ولقد إهتم الحكام على مدى التاريخ بهذا الجامع ، اهتماما بالغا ، من الناحية المعمارية ، والفنية ، وزينوه بالنقوش ، والفنون ، والمجوهرات حتى غدى كالجنة.

ولما هاجر النبى الأبى من مكة إلى المدينة ، وعند ما تساءل فيما بينه وبين نفسه الأبية «ياترى أين سنضاف؟». فأمسك جبريل الأمين بوهاق ناقته (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وبينما كانت وجهتهما نحو بيت أبى أيوب الأنصارى ألهم الله سبحانه وتعالى أبا أيوب ، فخرج من المدينة لإستقبال النبى المصطفى والترحيب بمقدمه السعيد ، وكان ذلك عند جامع قباء ، فأمسك بوهاق الناقة وتوجه بها نحو بيته. وكان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد هاجر وفى صحبته عدد كبير من الصحابة المهاجرين الذين لم تحضر معهم زوجاتهم ، بل طلقوا معظمهن. وكان الأنصار الذين يقطنون المدينة قد قاموا هم أيضا بتطليق زوجاتهم اللائى يزدن عن واحدة ليزوجوهن للمهاجرين.

هكذا حوّل أبو أيوب الأنصارى المهاجرين ، إلى أصحاب منازل ، وعقار ، وعيال ، ثم تناول أبو أيوب نفسه عن منزله للرسول عليه الصلاة والسلام. ثم أمر المصطفى ببناء مسجد لطيف ، بجوار هذا البيت المشرّف. وهذا المسجد ما هو

١١٦

إلا جامع الروضة المطهرة الحالى. وعند ما صعدت روحه (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) الطاهرة ، إلى الرفيق الأعلى ، دفن جسده الطاهر فى هذا البيت الشريف.

وفى تلك الليلة المشهورة رأى الصحابة الميامين جميعا الرسول الأكرم فى منامهم ، وقد خاطبهم جميعا متفضلا :

[يا أمتى ... إن كنتم تريدون شفاعتى .. فإنى لست فى حاجة إلى الذهب ، والفضة ، أو القباب المجوهرة .. وإن كنتم تريدون رضائى فوسعوا ، وسوّروا ـ (أقيموا الأسوار) حولى لتحافظوا علىّ ، من المشركين والمنكرين] ولذلك ، فقد صرف الصحابة الميامين النظر عن تزيين مقام الرسول بالذهب واللؤلؤ ، والجواهر ، وصرفوا هممهم فى توسيع المقام الطاهر ؛ حيث حوّل سيدنا عثمان رضى الله عنه هذا المسجد الشريف إلى جامع فسيح ، وأقام جدارا للقبلة ، ثم أعقبه سيدنا على كرم الله وجهه فزاد فى اتساعه (١) ثم الوليد الأموى (٢) ؛ ومن سلاطين مصر : قايتباى (٣) والغورى (٤) ، ومن آل عثمان : سليمان القانونى ، ومراد

__________________

(١) توسيعات الحرم النبوى : سوف نتناول هذا الموضوع بالتفصيل فى كتاب حرآة المدينة المنورة.

(٢) الوليد الأموى : هو الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، وهو سادس الخلفاء الأمويين ، وثالث آل مروان ، ولد سنة ٤٨ ه‍ ـ ٦٦٨ م ، وخلف والده فى الحكم سنة ٨٦ ه‍ ـ ٧٠٥ م ، واتخذ من الشام مركزا للخلافة ، فتحت فى عهده الكثير من البلدان من الاندلس والبرتغال حتى التركستان. جدد المسجد النبوى ، والمسجد الأقصى وقام بتوسيعهما ، ثم أقام المسجد الأموي فى دمشق. استمر فى الحكم ٩ سنوات وثمانية أشهر. ثم توفى سنة ٩٦ ه‍ ـ ٧١٤ م وخلفه أخوه سليمان. (المترجم)

(٣) قايتباى : Kayit Bay الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين المحمودى الظاهرى سلطان مصر وسوريا (٨٧٣ ـ ٩٠٢ ه‍ ـ ١٤٦٨ ـ ١٤٩٥ م) اشترى كمملوك من قبل بارسباى ، وأطلق سراحه من طرف السلطان چقمق ، ثم أصبح «دوادار» ثم فى سنة ١٤٦٨ عرض عليه العرش فى مصر ، قبله بعد تردد. بعد أن استقر به الحال فى الحكم ، اشتدت المنافسه بينه وبين العثمانين من جهة أو بين آلاق قيونليلر ـ الشاه البيضاء ، من جهة اخرى استقبل فى القاهرة الأمير جم منافس السلطان بايزيد على العرش وساعده على ذلك عقد مع العثمانين صلحا سنة ٨٩٦ ه‍ ـ ١٤٩١ م. عاش بقية حياته فى السلطة فى سلام مع جيرانه ، ويعتبر من أهم سلاطين المماليك البورجيه. وإن لم ينجح فى اقرار نظام ضريبى مستقر فى البلاد. وهذا مما جر الإمبراطوريه المصريه المملوكيه إلى الدمار والخراب. أعاد اعمار الكثير من المنشآت ، وإنشأ الجديد منها فى شتى بقاع البلاد. أقام القلاع والحصون ، وجدد المسجد النبوى فى المدينة المنورة ، بالرغم من تولية السلطان وعمره يناهز الستين ، إلا أنه قضى السنوات الأولى من السلطنه فى نشاط ودأب مستمر ، حج البيت الحرام ، وكان يقوم بالتفتيش بنفسه على مناطق دجله والفرات ، ونجح فى اخضاع القبائل العربيه فى الدلتا ، وحماه وحمص. كان حاكما مثاليا بالنسبة لكتاب الوقائع ، وإن كان يتسم بالشده والغلظة. «المترجم»

(٤) الغورى : Konsu ,Kansuk Al ـ Gauri هو الملك الأشرف سيف الدين بن بايبارى الغورى (١٤٤٠ ـ ١٥١٦ م) جاء الى مصر ضمن المماليك الذين جاءوا من منطقة عور فى افغانستان. ظل الى سن الأربعين واليا على ولاية

١١٧

الثالث (١) وأحمد الثالث (٢) حيث قام كل منهم بتشيد أثرا جديدا ، أو إضافة فريدة حتى تحول الحرم الشريف إلى روضة من رياض الجنة.

وأطراف الجامع النبوى الشريف ألف خطوة. وداخل الحرم ، ومن عند قدمى الرسول المباركتين ، ومن باب جبريل الأمين ، وصفّة شيخ الحرم ، حتى تعبر باب الشفاء ، من الناحية الداخلية للحرم مخازن الزيت ، تبلغ المسافة سبعون خطوة. ومن هذا الموقع ، حتى أزيار المياه ؛ مائة وخمسون خطوة. ومن نفس الموقع ، وحتى باب الرحمة ، وباب السلام ؛ مائة وسبعون خطوة. وهكذا فإن المسطح الداخلى للجامع ستمائة وتسعون خطوة. وقد فرشت أرضيه الحرم الشريف كلها بالأحجار الكريمة الصغيرة. ومحيط الحرم ستمائة خطوة. وفى وسط الحرم تماما ؛ توجد قبة ،

__________________

البحيره. وتولى منصب حاجب الحجاب فى حلب سنة ٨٩٣ ه‍ ـ ١٤٨٨ م وفى عصر السلطان جانبولاط تولى نيابة النواب سنة ٩٠٣ ه‍ ـ ١٤٩٧ م عينه طومانباى الأول سنة ٩٠٦ ه‍ ـ ١٥٠٠ م دوادارا كبيرا. اختاره المماليك سلطانا ، وقد تجاوز الستين من عمره. لم تكن الأوضاع الاقتصادية فى بدايه حكمه مستقره ، اشتط فى جمع الضرائب للصرف منها على القلاع التى أنشأها فى حلب والحجاز ، وشق القنوات ، وحفر الآبار. (المترجم)

(١) مراد الثالث : [٩٥٣ ه‍ ـ ١٠٠٣ م ـ ١٥٤٦ ـ ١٥٩٤ م]

السلطان مراد الثالث هو من السلاطين العثمانيين العظام ، هو ابن سليم الثانى ، جده سليمان بن سليم الأول.

ولد سنة ٩٥٣ ه‍. عند وفاة والده ٩٨٢ ه‍ ـ ١٥٧٤ م وصل إلى العاصمة ، وجلس على عرش السلطنة وهو فى التاسعة والعشرين من عمره ، أبقى على صقوللى محمد باشا فى منصب الصدارة ، فتح فى عصره العديد من المدن فى البلقان ، كما ضم العديد من المدن فى آسيا إلى حوزة الدولة العثمانية ـ استمر فى الحكم ٢١ سنة ، وتوفى وهو فى الخمسين من عمره.

كان محبا للعلماء ، والشعراء ، كما كان يقرض الشعر ، وتخلص فى اشعاره د «مرادي» ، تعهد العديد من الشعراء ، وكان حليما ، مسالما ، محبا للذوق وصفاء الحياة. خيراته ، وعطاياه كانت كثيره. خصص الكثير من الأموال لتوسعة ، وترميم ، وتجديد الحرمين الشريفين فى مكة والمدينة ، كما أجرى إليهما المياه الوفيرة .. أنظر :

قاموس الاعلام ج ٦. «المترجم»

(٢) أحمد الثالث : [١٠٨٣ ـ ١١٤٩ ه‍ ـ ١٦٧٢ ـ ١٧٢٦ م]

إبن السلطان محمد الرابع العثمانى ، هو السلطان الثالث والعشرين بين السلاطين العثمانيين. ولد سنة ١٠٨٣ ه‍ جلس على العرش بعد أخيه مصطفى الثانى ، وظل فى الحكم ٢٨ سنة ، ثم تركه سنة ١١٤٣ ه‍ وتوفى سنة ١١٤٩ ه‍ ، وتوفى عن ست وستين سنة. قضى على حركات العصيان التى تفشت فى البلاد قبيل توليه السلطة. وقد نفى ، وقتل الوزراء ، والصدور العظام الذين كانوا يساندون العصيان. فى عهده لجأشارل الثانى عشر ملك السويد إلى بلاده بسبب الحروب مع الروس مما أدى إلى دخول الحرب ضد الروس ، وقد وقع بطرس الأكبر فى الأسر ، ولم تنقذه زوجته كاترينا إلا ببعض التنازلات ، والدسائس مع القائد بلطجى محمد باشا. استردت فى عهده العديد من المدن التى سبق وأن فقدتها الدولة العثمانية. تنازل عن العرش بضغط من الإنكشارية لإبن عمه محمود سنة ١١٤٣ ه‍ ـ ١٧٢٠ م. جامعة فى إستانبول من المعالم المهمة. [المترجم]

١١٨

وتحفظ فيها زيوت المصابيح. وأمام قبة الزيت هذه توجد نخلة محاط حولها بسور من القضبان ، وقد قام النبى الأمين ، بغرس هذه النخلة خصيصا ، بيديه الكريمتين. وتصطف الإيوانات على جوانب الحرم ، ويزدان بثلاث مآذن ، وداخل الحرم والجامع عامة ثلاثمائة عمود من الأعمدة المختلفة الأحجام ، والأشكال ، وفوقها ثلاثمائة كمر ، وقد زينت هذه الكمرات «الأحزمة». بالنقوش ، والزخارف المختلفة الألوان ، والتذهيبات ، وغطت القباب من نواحيها الأربع بالزجاج الملون ، الذى يملئ المكان ضياءا ، وبهاءا عند ما تشرق الشمس ، وتسطع أشعتها. وقد فرش الحرم بالأحجار الكريمة القيمّة والتى يصعب على أي أنسان تحديد قيمتها ، أو نوعها ؛ فبعضها عقيق أخضر ، أرجوانى ، وبعضها أصفر يرقانى ، ـ «فى لون اليرقات» والبعض أصفر ، «بالجامى» ـ عسلى أو صوماكى ـ فى لون السمسم. وغطت هذه الأرضيات المزدانة ، بأفخر أنواع السجاد الذى قدمه الملوك ، والسلاطين ، والوزراء ، والأغنياء إلى الحرم النبوى الشريف مما أضفى عليه نوعا من الروحانية العلوية ، التى تشد المرء إلى طول الإقامة به ، والتشرف بالمثول فى حضرة ساكنيه فى كل وقت وحين. ولو لا أننى مولع بالسفر والطواف بالعالم لما برحت هذا الجامع النبوى الشريف طوال حياتى.

محفل المؤذن مقام على ثمان أعمدة ، صغيرة ، بالقرب من الروضة المطهرة ، ومحراب الإمام الأعظم ؛ صغير ، ولكنه بديع الصنع ، وعلى جانبيه شمعدانات ذهبية ، بقدر طول الرجل ، وبداخل كل منها شمعات ، طول كل منها ثمانية أشبار. وعلى الجانب الأيمن للمحراب ؛ يوجد المنبر الذى أمر السلطان مراد الثالث بصنعه ، من الفضة الخالصة ، والذى لم أر مثله فى العالم الإسلامي أجمع. وعلى الجانب الأيمن من المحراب ، أيضا ، يوجد محراب لكل من الإمام الشافعي ، والإمام المالكي ، والإمام الحنبلي ، وفى الناحية الداخلية لباب السلام ، وتحت الكمر ، توجد هذه الكتابة [هذا البناء المبارك لمولانا السلطان قايتباى عز نصره فى سنه؟] وهو باب روعة فى الفن ، صنع من النحاس الأصفر المصقول. وما أن يلج الزائر من باب السلام ، إلى الداخل حتى يرى هذه الأشطر التالية ؛ والتى كتبت بخط التعليق الجلي على لوحة من الورق الأزرق فى قامة الرجل ، وقد علّقت علي زاوية الجانب الأيسر :

١١٩

«إذا كان لقوم العرب آيين ؛ هو هذا يا سيدى وقلة هم الذين يتحررون من الإرتباط بضره ، فأنت فخر المؤمنين ، وسيد الكونين أنت فليحشرنى الله .. لأمسح الجبين بقبرك .. وألا أبرحه ..» (١).

وعلى الزاوية اليمنى من نفس الباب نقشت الآية الكريمة : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١))(٢) وقد كتبت الآية بالخط الجلى ، وامتدت حتى محراب سيدنا عثمان رضى الله عنه. ومن باب السلام حتى باب جبريل سطرت سورة الفتح الشريف وعلى زاوية الشافعية من ناحية جدار سيدنا عثمان يوجد هذا التأريخ :

«فيض حقدن دوشدى تاريخ دعاء خير ايله دين ودعاسن معمى ايده رب العالمين [١٠٣٢]» (٣)

ولا توجد أى نوافذ فى الجدار الذى أمر ببناءه سيدنا عثمان ، ولكن هناك نافذة ، ذات إطار نحاسى ، تجاه المرقد النبوى الشريف. كما أن هناك نافذة ، أخرى ، أمام المقصورة ، المقامة عند قدمى النبى المباركتين (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

وتقام بهذا الجامع النبوى الشريف حلقات لأرباب العلم والعرفان ، ولقد كتبت أنا العبد الحقير على لوحة بالخط الجلى :

«سيّاح عالم آوليا روحيچون فاتحه» (٤) وكتبت كذلك بالخط الجلي أمام المقصورة :

«شفاعت يا رسول الله آوليايه ١٠٨٢» (٥). وبالجامع النبوى الشريف سبعة آلاف قنديل بالكمال والتمام.

* * *

__________________

(١) بودر آبين عرب برقومك اوله سيدى آز اولور كيم قبرى اوزره نبده آزار او لمايه سن كه فخر المؤمنينك سيد الكونينك حشر الله قبرينه يوز سوره م آزاد اولمايه.

(٢) سورة التوبة آية ٢١.

(٣) تاريخ الدعاء بالخير منّزل من فيض الحق فليجعله رب العالمين معمورا بالدين ودعائك «١٠٣٢».

(٤) الفاتحة على روح آوليا ، رحالة العالم.

(٥) الشفاعة لآوليا يا رسول الله ١٠٨٢.

١٢٠