رسالة في حديث خطبة علي بنت ابي جهل

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨

« كان إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل : ما بال فلان يقول. ولكن يقول : ما بال أقوام يقولون : كذا وكذا ». و : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قل ما يواجه رجلا في وجهه شيء يكرهه ».

وقال : « من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤدة » (١).

وقد التفت ابن حجر إلى هذه الناحية حيث قال : « وكان النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قل أن يواجه أحدا بما يعاب به » ثم اعتذر قائلا : « ولعلّه إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة عليها‌السلام ... » (٢).

لكنه كما ترى ، أمّا أولا : فلم يرتكب عليّ عيبا. وأمّا ثانيا : فإن الذي صدر من النبي ما كان معاتبة. وأما ثالثا : فإن المبالغة في رضا فاطمة عليها‌السلام إنما تحسن ما لم تستلزم هتكا لمؤمن فكيف بعليّ ، وليس دونها عنده إن لم يكن أعزوأحب.

٤ ـ وكما أن هذا الحديث تكذبه أحكام الشريعة الإسلامية والسنن النبويّة والآداب المحمدية ... كذلك تكذبه الأخبار الصحيحة في أن الله هو الذي اختار علياً لنكاح فاطمة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ كبار الصحابة وقد خطبوها (٣) ومن المعلوم أن الله لا يختار لها من يؤذيها بشيء مطلقا.

٥ ـ وتكذبه أيضا سيرة الإمام عليّ عليه‌السلام وأحواله مع أخيه المصطفى منذ نعومة أظفاره حتى آخر لحظة من حياة النبي الكريمة ، فلم ير منه شيء يخالف الرسول أو يكرهه.

__________________

(١) هذه الأحاديث متفق عليها ، رقد أخرجها أصحاب الصحاح كلّهم في باب الأدب وغيره. أنظر منها : سنن أبي داود ٢ / ٢٨٨.

(٢) فتح الباري ٧ / ٦٧.

(٣) أنظر : مجمع الزوائد ٩ / ٢٠٤، كنز العمال ٦ / ١٥٢ ، ذخائر العقبى : ٣١ ـ ٣٢ ، الرياض النضرة ٢ / ١٨٣ ، الصواعق : ٨٤.

٤١

تنبيهان :

١ ـ لقد كانت فاطمة الزهراء سلام الله عليها بضعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقاً ، ولقد كرر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « فاطمة بضعة مني ... » غير مرة ، تأكيداً على تحريم أذاها ، وأن سخطها وغضبها سخطه وغضبه ، وسخطه سخط الله وغضبه ... وبألفاظ مختلفة متقاربة في المعنى.

وقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحديث غير واحد من الصحابة ، منهم أميرالمؤمنين عليه‌السلام نفسه ... قال ابن حجر : « وعن عليّ بن الحسين ، عن أبيه ، عن عليّ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة : إن الله تعالى يرضى لرضاك ويغضب لغضبك » (١).

قال : « وأخرج ابن أبي عاصم ، عن عبدالله بن عمرو بن سالم المفلوج ، بسند من أهل البيت عن عليّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمة : إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك » (٢).

ولسنا ـ الآن ـ بصدد ذكر رواة هذا الحديث وأسانيده عن الصحابة ... وبيان قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك في مناسبات متعدّدة ... فذاك أمر معلوم ..

كما أن ترتيب المسلمين الأثر الفقهي عليه منذ عهد الصحابة وإعطائهم فاطمة ما كان للنبي من حكم ، معلوم.

فالسهيلي الحافظ حكم بكفر من سبّها وإن من صلى عليها فقد صلّى على أبيها ، وكذا الحافظ البيهقي ، وقال شراح الصحيحين بدلالته على حرمة أذاها (٣) وقال الزرقاني المالكي : « إنها تغضب من سبها ، وقد سوى بين غضبها وغضبه ، ومن أغضبه

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١٢ / ٤٦٩ ، الإصابة ٤ / ٣٧٨.

(٢) الإصابة ٤ / ٣٧٨.

(٣) فتح الباري ، إرشاد الساري ، عمدة القاري ، المنهاج ... وغيرها.

٤٢

كفر » (١) وقال المناوي : « استدلّ به السهيلي على أن من سبّها كفر ، لأنه يغضبه ، وأنها أفضل من الشيخين ... قال الشريف السمهودي : ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه ... » (٢).

ومن قبلهم أبو لبابة الأنصاري نزّلها منزلة النبي بأمر من النبي ... قال الحافظ السهيلي : « إن أبا لبابة رفاعة بن المنذر ربط نفسه في توبة ، وإن فاطمة أرادت حله حين نزلت توبته ، فقال : قد أقسمت الآ يحلّني إلاّ رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم. فقال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم : إن فاطمة بضعة مني. فصلى الله عليه وعلى فاطمة. فهذا حديث يدلّ على أن من سبها فقد كفر ، ومن صلى عليها فقد صلى على أبيها ».

ليس المقصود ذلك.

بل المقصود هو أن هذا الحديث جاء في الصحيحين وغيرهما عن « المسور بن مخرمة » ـ في باب فضائل فاطمة ـ مجرداً عن قصّة خطبة عليّ ابنة أبي جهل ، قال ابن حجر : « وفي الصحيحين عن المسوربن مخرمة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر يقول : فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما آذاها ، ويريبني ما رابها » (٣) روياه عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة.

بل لم نجده عند البيهقي والخطيب التبريزي إلا مجرداً كذلك (٤) ، وكذا في الجامع الصغير ، حيث لا تعرض للقصّة لا في المتن ولا في الشرح (٥).

والملاحظ أنه لا يوجد في هذا السند المجرد واحد من ابني الزبير والزهري والشعبي والليث ... وأمثالهم ...

__________________

(١) شرح المواهب المدنية ٣ / ٢٠٥.

(٢) فيض القدير ٤ / ٢٤١.

(٣) الإصابة ٤ / ٣٧٨.

(٤) سنن البيهقي ٧ / ٦٤ و١٠ / ٢٠١. مشكاة المصابيح ٣ / ١٧٣٢ وقال : متّفق عليه.

(٥) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ـ ٤ / ٢٤١.

٤٣

ونحن نحتجّ بهذا الحديث ... كسائر الأحاديث ... وإن جرحنا « المسور » و « ابن أبي مليكة » لأن « الفضل ما شهدت به الأعداء ».

لكن أغلب الظن أن القوم وضعوا قصة الخطبة ، وألصقوها بالمسور وروايته ... لغرض في نفوسهم ، ومرض في قلوبهم ... حتى جاء ابن تيمية المجدّد لآثار الخوارج ، والمشيّد للأباطيل على موضوعاتهم ليقول :

« إن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ بل روي بغيره ، كما ذكر في حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل لمّا قام النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم خطيباً ، فقال : إنّ بني هشام بن المغيرة ... رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من رواية علي بن الحسين والمسور! مخرمة ، فسبب الحديث خطبة علي لابنة أبي جهل ... » (١).

لكن الحقيقة لا تنطلي على أهلها ، والله الموفق.

٢ ـ قد أشرنا في مقدّمة البحث أن وجود الحديث ـ أي حديث كان ـ في كتابي البخاري ومسلم وغيرهما من الكتب المعروفة بالصحاح لا يلزمنا القول بصحته ، ولا يغنينا عن النظر في سنده ، فلا يغرنك إخراجهم الحديث في تلك الكتب ، ولا يهولنّك الحكم ببطلان حديث مخرج فيها ... وهذا مما تنبه إليه المحققون من أهل السنة وبحث عنه غير واحد من علماء الحديث والكتاب المعاصرين ... ولنا في هذا الموضوع بحث مشبع نشرناه في العدد (١٤) من هذه النشرة ، وصدر من بعد ضمن كتابنا « التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف » أيضاً.

تتمّة :

وكأن القوم لم يكفهم وضع حديث خطبة ابنة أبي جهل ، فوضعوا حديثاً آخر ، فيه أن أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب أسماء بنت عميس! .. لكنه واضح العوار جدّاً ، فلذا لم يخرجه أصحاب صحاحهم ، بل نصّ المحققون منهم على سقوطه :

__________________

(١) منهاج السنة ٢ / ١٧٠.

٤٤

قال ابن حجر : « أسماء بنت عميس قالت : خطبني عليّ بن أبي طالب » فبلغ ذلك فاطمة ، فأتت النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فقالت : إن أسماء متزوّجة علياً! فقال لها : ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله (١).

وقال الهيثمي : « رواه الطبراني في الكبير والأوسط.

وفيهما من لم أعرفه » (٢).

ونحن لا نتكلّم على هذا الموضوع الآخر سوى أن نشير إلى أن واضعه قال : « فأتت النبي فقالت : إن أسماء متزوّجة علياً » وليس : « هذا عليّ ناكح ابنة أبي جهل ». وقال عن النبي أنه قال لفاطمة : « ما كان لما أن تؤذي الله ورسوله »ولم يقل عنه أنه صعد المنبر وخطب وقال : « ما كان له ... »!

كلمة الختام :

قد استعرضنا ـ بعون الله تعالى ـ جميع طرق هذا الحديث ، ودققنا النظر في رجاله وأسانيده ، وفي ألفاظه ومداليله ... فوجدناه حديثاً مختلقاً من قبل آل الزبير ، فإن رواته :

« عبدالله بن الزبير ».

و« عروة بن الزبير ».

و « المسور بن مخرمة » وكان من أعوان « عبدالله » وأنصاره والمقتولين معه في الكعبة ، وكان من الخوارج ، وكان ...

و « عبدالله بن أبي مليكة » وهو قاضي الزبير ومؤذنه.

و « الزهري » وهو الذي كان يجلس مع « عروة بن الزبير » وينالان من أمير المؤمنين عليه‌السلام .. وكان ...

و « شعيب بن راشد » وهو رواية « الزهري ».

__________________

(١) المطالب العالية ٤ / ٦٧.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ٢٠٣.

٤٥

و « ابو اليمان » وهو راويه شعيب ...

هؤلاء رؤس الواضعين لهذه الاكذوبة البينة ... وقد عرفتهم واحداً واحداً

وكل هؤلاء على مذهب أمامهم « عبدالله بن الزبير » الذي اشتهر بعدائه لأهل البيت عليهم‌السلام ، وتلك أخباره في واقعة الجمل وغيرها ، ثم حصره بني هاشم في الشعب بمكة فإما البيعة له وإما القتل ، ثم إخراجه محمد بن الحنفية من مكة والمدينة وابن عباس إلى الطائف ... وعدائه للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ... حتى قطع ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمعا كثيرة ، فاستطعم الناس ذلك ، فقال : إني لا أرغب عن ذكره ، ولكن له أهيل سوء ، إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم ، فأنا أحب أن أكبتهم!! مذكورة في التاريخ.

وقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام كلمته القصيرة المعروفة : « ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد الله » (١).

فليهذب السنة الشريفة حماتها الغيارى من هذه الافتراءات القبيحة ، والله أسأل أن يوثق المخلصين للعلم والعمل ، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، إنه هو البر الرحيم.

* * *

____________

(١) نهج البلاغة ـ فهرسة صبحي الصالح ـ : ٥٥٥ / ٤٥٣ ، الاستيعاب : ٩٠٤ إلأ أنّه لم يذكر لفظة « المشؤوم ».

٤٦

الفهرس

(١) مخرّجوا الحديث وأسانيده

رواية البخاري :.............................................................. ٧

رواية مسلم :................................................................. ٩

رواية ابن ماجة :............................................................ ١٠

رواية أبي داود :............................................................. ١٠

رواية الحاكم :.............................................................. ١١

رواية ابن أبي شيبة :......................................................... ١٢

رواية احمد.................................................................. ١٢

رواية في المسانيد والمعاجم :................................................... ١٥

(٢) نظرات في أسانيد الحديث

رواية ابن عباس :............................................................ ١٧

رواية عليّ بن الحسين عليهما‌السلام................................................. ١٨

رواية عبدالله بن الزبير :...................................................... ١٨

رواية عروة بن الزبير :....................................................... ١٩

٤٧

رواية محمد بن الحنفية........................................................ ١٩

رواية سويد بن غفلة :....................................................... ٢٠

رواية الشعبي :.............................................................. ٢١

رواية ابن أبي مليكة :........................................................ ٢٢

رواية رجل من أهل مكّة :................................................... ٢٢

الكلام على حديث مسور ، وهو أصحّها عندهم................................ ٢٣

(٣) تأمّلات في متن الحديث ومدلوله

تأمّلات في خصوص حديث مسور :.......................................... ٢٩

تأملات في ألفاظ الحديث :.................................................. ٣٢

تامّلات في معناه ومدلوله :................................................... ٣٤

نتيجة التأملات :............................................................ ٤٠

تنبيهان :................................................................... ٤٢

تتمّة :...................................................................... ٤٤

كلمة الختام :............................................................... ٤٥

الفهرس.................................................................... ٤٧

٤٨