رسالة في حديث خطبة علي بنت ابي جهل

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨

تصريحهما بأن سويدا لم يلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! (١).

وكذا من العيني! (٢).

* عامر الشعبي :

أخرجه عنه عبد الرزاق بن همام ـ كما في كنز العمال ـ وابن أبي شيبة في المصنف كما تقدّم ، إذ هو المراد من قوله : « ... عن عامر » وأحمد في الفضائل.

ومن المعلوم أن الشعبي مات بعد المائة ، والمشهور أن مولده كان لست سنين خلت من خلافة عمر (٣).

فالحديث بهذا السند مرسل.

ولعله يرويه عن سويد بن غفلة ، وهكذا أخرجه الحاكم وأحمد كما تقدّم عن الذهبي ، وقد عرفت أنه مرسل كذلك.

هذا بغض النظر عن قوادح الشعبي ، والتي أهمها كونه من الوضاعين على أهل البيت ، فقد رووا عنه أنه قال : « صلى أبو بكر الصديق على فاطمة بنت رسول لله صلى الله عليه [وآله] وسلّم فكبّر عليها أربعاً » (٤) وأنه قال : « إن فاطمة لمّا ماتت دفنها علي ليلاً وأخذ بضبعي أبي بكر فقدمه في الصلاة عليها (٥) فإن هذا كذب بلا ريب ، حتى اضطر ابن حجر إلى أن يقول : « فيه ضعف وانقطاع » (٦).

وكونه من حكام وقضاة سلاطين الجور كعبد الملك بن مروان وغيره المعادين لأهل البيت الطاهرين.

وأنه روى عن جماعة كبيرة من الصحابة ، وفيهم من نصّوا على أنه لم يلقهم

__________________

(١) إرشاد الساري ٨ / ١١٤. فتح الباري ٩ / ٢٦٨.

(٢) عمدة القاري ٢٠ / ٢١١.

(٣) تهذيب التهذيب ٥ / ٥٩.

(٤) طبقات ابن سعد ٨٢٩.

(٥) كنز العمال ١٣ / ٦٨٧.

(٦) الإصابة ٤ / ٣٧٩.

٢١

ولم يسمع منهم ، كعلي عليه‌السلام وأبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت وعبدالله بن عمر واٌمّ سلمة وعائشة!

ثم إنّ الراوي عنه « زكريّا بن أبي زائدة » قال ابن أبي ليلى : ضعيف.

وقال أبو زرعة : صويلح يدلّس كثيراً عن الشعبي.

وقال أبو حاتم : ليّن الحديث كان يدلّس ، ويقال : إنّ المسائل التي كان يرويها عن الشعبي لم يسمعها منه.

وقال أبو داود : يدلّس.

وقال انه يحيى بن زكريّا : لو شئت سميت لك من بين أبي وبين الشعبي! » (١).

والراوي عنه ولده يحيى : مات بالمدائن قاضياً لهارون. وقال أبو زرعة : فلمّا يخطئ فإذا أخطأ أتى بالعظائم. وعن أبي نعيم : ما هو باهلٍ أن يحدّث عنه (٢).

* ابن أبي مليكة :

رواه عنه عبد الرزاق بن همام كما في كنز العمّال.

لكنّه مرسل.

وهو يرويه إمّا عن المسور ، وإمّا عن عبدالله بن الزبير ، وإمّا عن كليهما جميعاً كما احتمل بعضهم ...

أمّا حديث ابن الزبير فساقط بسقوطه نفسه ، وأمّا حديث المسور فسنتكلّم عليه.

* رجل من أهل مكّة :

الذي عند أحمد : « عن أبي حنظلة أنّه أخبره رجل من أهل مكة ».

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٣ / ٢٨٥.

(٢) تهذبب التهذيب ١١ / ١٨٤.

٢٢

فمن « أبو حنظلة »؟ ومن « الرجل من أهل مكّة »؟

أمّا الحاكم فقد رواه ساكتاً عنه!

لكن الذهبي تعقّبه بقوله : « قلت : مرسل »!

ثم إن الراوي عنه بواسطة إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي هو : « يزيد بن هارون » .... قال يحيى بن معين : « يدلس من أصحاب الحديث ، لأنه لا يميّز ولا يبالي عمن روى » (١).

* الكلام على حديث مسور :

لكن الطريق الذي أتفق عليه أصحاب الصحاح كلّهم هو الأول ، وهو وحده الذي أخرجه البخاري ومسلم والنسائي (٢) وابن ماجة. وانفرد الترمذي بروايته عن ابن الزبير ، وقد عرفت تنبيهه على ذلك ، وانفرد أبو داود بروايته عن عروة ، وقد عرفت ما فيه.

فالمعتمد والأصح عندهم جميعاً هو حديث المسور بن مخرمة ...!

ثم إن روايات القوم عن مسور تنتهي إلى :

١ ـ عليّ بن الحسين. وهو الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

٢ ـ عبد الله بن عبيد الله بن أبي ، مليكة.

والراوي عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام ليس إلآ :

محمد بن شهاب الزهري.

والراوي عن ابن أبي مليكة :

١ ـ الليث بن سعد.

٢ ـ أيّوب بن أبي تميمة السختياتي.

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١١ / ٣٢٢.

(٢) خصائص أمير المؤمنين عليّ : ٢٤٥.

٢٣

ثم إن الدارمي (١) والبخاري ومسلماً وأحمد وابن ماجة .. يروونه عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري.

ويرويه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد .. عن الوليد بن كثير عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن الزهري.

ويرويه مسلم عن النعمان عن الزهري.

ونحن لا يهمّنا البحث عن أبي اليمان ـ وهو الحكم بن نافع ـ وروايته عن شعيب ـ وهو ابن حمزة كاتب الزهري وروايته (٢) ـ مع أن العلماء تكتموا في ذلك ، حتى قال بعضهم : لم يسمع أبو اليمان من شعيب ولا كلمة (٣) وإنّ الرجلين كانا من أهل حمص ، وهم من أشدّ الناس على أمير المؤمنين عليه‌السلام في تلك العصور ويضرب بحماقتهم المثل (٤).

ولا يهمّنا البحث عن الوليد بن كثير وكان إباضياً (٥).

ولا عن أيّوب ، ولا عن الليث الذي كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم فحدّثهم بفضائل عثمان فكفّوا! (٦).

ولا عن النعمان ـ وهو ابن راشد الجزري ـ الذي ضعّفه القطان جدّاً. وقال أحمد : مضطرب الحديث. وقال ابن معين : ضعيف. وقال البخاري وأبو حاتم : في حديثه وهم كثير. وقال ابن أبي حاتم : أدخله البخاري في الضعفاء. وقال أبو داود : ضعيف؛ وكذا قال النسائي والعقيلي (٧).

إنمّا نتكلم في ابن أبي مليكة والزهري.

__________________

(١) مرّ وقوعه في سند الرواية الثالثة ممّا رواه مسلم ، فراجع.

(٢) تهذيب التهذيب ٤ / ٣٠٧.

(٣) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٨٠.

(٤) معجم البلدان ٢ / ٣٠٤

(٥) تهذيب التهذيب ١١ / ١٣١.

(٦) تهذيب التهذيب ٨ / ٤١٥.

(٧) تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٠٤.

٢٤

أمّا الأول فيكفينا أن نعلم انه كان قاضي عبد الله بن الزبير ومؤذنه (١).

وأما الثاني فهو العمدة في عمدة أخبار المسألة ، وهو الذي يروي الخبر عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام!! فلنفضل فيه الكلام :

إن الزهري كان من أشهر المنحرفين عن أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي : « وكان الزهري من المنحرفين عنه. وروى جرير ابن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال : شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة ابن الزبير جالسان يذكران علياً فنالا منه. فبلغ ذلك عليّ بن الحسين فجاء حتى وقف عليهما فقال : اما أنت يا عروة ، فإن أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك؟ واما أنت يا زهري ، فلو كنت بمكّة لأريتك كير أبيك ».

قال : « وروى عاصم بن أبي عامر البجلي ، عن يحيى بن عروة ، قال : كان أبي إذا ذكر علياً نال منه » (٢).

ويؤكد هذا سعيه ، وراء إنكار مناقب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، كمنقبة سبقه إلى الإسلام؟ قال ابن عبد البرّ « وذكر معمر في جامعه عن الزهري قال : ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة. قال عبد الرزاق : وما أعلم أحداً ذكره غير الزهري » (٣).

وروايته عن عمر بن سعد اللعين قاتل الحسين ابن أمير المؤمنين عليهما‌السلام ، قال الذهبي : « عمر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه. وعنه : إبراهيم وأبو إسحاق. وأرسل عنه الزهري وقتادة. قال ابن معين : كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟! » (٤).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٦٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٢.

(٣) الاستيعاب ـ ترجمة زيد بن حارثة.

(٤) الكاشف ٢ / ٣١١.

٢٥

وكونه من عمال بني أمية ومشيدي سلطانهم ، حتى أنكر عليه ذلك العلماء والزهاد ، فقد ذكر العلامة عبد الحق الدهلوي بترجمته من « رجال المشكاة » : « إنّه قد ابتلي بصحبة الأمراء بقلة الديانة ، وكان أقرانه من العلماء والزهاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه ، وكان يقول : أنا شريك في خيرهم دون شرهم! فيقولون : ألا ترى ما هم فيه وتسكت؟! ».

ومن هنا قدح فيه ابن معين فقد « حكى الحاكم عن ابن معين أنه قال : أجود الأسانيد : الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ؛ فقال له إنسان : الأعمش مثل الزهري!! فقال : تريد من الأعمش أن يكون مثل الزهري؟! الزهري يرى العرض والإجازة ، ويعمل لبني أمية ؛ والأعمش فقير صبور ، مجانب للسلطان ، ورع عالم بالقرآن » (١).

وبهذه المناسبة كتب له الإمام زين العابدين عليه‌السلام كتاباً يعظه فيه ويذكّره الله والدار الآخرة وينبّهه على الآثار السيّئة المترتّبة على كونه في قصور السلاطين ، من ذلك قوله : « إن أدنى ما كتمت وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم ، وسهلت له طريق الغيّ .. جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسُلّماً إلى ضلالتهم ، داعياً إلى غيّهم ، سالكاً سبيلهم .. احذر فقد نبئت ، وبادر فقد أجّلْت .. ولا تحسب أني أردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك ، لكني أردت أن ينعش الله ما فات من رأيك ، ويردّ إليك ما عزب من دينك .. أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة ، وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟!. فأعرض ـ عن كل ما أنت فيه حتى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم ، لاصقة بطونهم بظهورهم .. ما لك لا تنتبه من نعستك وتستقيل من عثرتك فتقول : والله ما قمت لله مقاماً واحداً ما أحييت به له دينا ، أو أمت له فيه باطلاً؟! » (٢).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ـ ترجمة الأعمش ـ ٤ / ١٩٥.

(٢) تحف العقول عن آل الرسول : ١٩٨ ، لابن شعبة الحراني ، من أعلام الإمامية في القرن الرابع الهجري.

٢٦

هذا ، ولقد ورث الزهري العداء للإسلام والنبي وأهل بيته من آبائه ، فقد ذكر ابن خلّكان بترجمته : « وكان أبو جدّه عبد الله بن شهاب شهد مع المشركين بدراً ، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحد لئن رأوا رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ليقتلنه أو ليقتلن دونه ، وروي أنه قيل للزهري : هل شهد جدّك بدرا؟ فقال : نعم ، ولكن من ذلك الجانب. يعني أنه كان في صفّ المشركين. وكان أبوه مسلم مع مصعب بن الزبير. ولم يزل الزهري مع عبد الملك ثم مع هشام بن عبد الملك. وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه » (١).

وإذ عرفت حال الزهري وموقف الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام منه .. فهل تصدق أن يكون الإمام عليه‌السلام قد حدثه بهكذا حديث فيه تنقيص على جده الرسول الأمين وأمه الزهراء وأبيه أمير المؤمنين عليهم‌السلام؟!

لكنه الزهري! عندما يضع الحديث على النبي والعترة ومذهبهم يضعه على لسان واحد منهم كي يسهل على الناس قبوله!!

خذ لذلك مثالاً .. ما وضعه على لسان ابني محمد بن عليّ عنه عن أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال لابن عبّاس ـ وقد بلغه أنه يقول بالمتعة ـ : « إنك رجل تائه ، إنّ رسول الله نهى عنها يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية » هذا الحديث الذي حكم ببطلانه كبار أئمتهم كالبيهقي وابن عبد البّر والسهيلي وابن القيم والقسطلاني وابن حجر العسقلاني وغيرهم من شراح الحديث (٢).

__________________

وقد رواه الغزالي في إحياء علوم الدين ٢ / ١٤٣ لكنه قال : « ولمّا خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه »!! وكم له من نظير!

وبشر الحافي تاب على يد الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام في قضية معروفة ، رواها المناوي في الكواكب الدرية : ٢٠٨ ، إلأ أنّه لم يصرح بأسم الإمام!! هكذا يريدون إخفاء فضائل آل الله وإطفاء نور الله ، هكذا يأبى الله

(١) وفيات الأعيان ـ ترجمة الزهري.

(٢) انظر : الرسالة الخامسة من هذه الرسائل.

٢٧

لكنه وضعه على لسان أفراد من أهل البيت عن سيّدهم أمير المؤمنين عليه‌السلام في الردّ على ابن عبّاس وكذا التعبير!!

ولا تحسبن أن الوضع على لسان رجال أهل البيت يختص بالزهري ـ وإن كان من أشهرهم بهذا الصنيع الشنيع!! ـ فهذا أحد محدثي القوم : عبد الله بن محمد بن ربيعة بن قدامة القدامي ، يقول الذهبي وابن حجر بترجمته : « أحد الضعفاء ، أتى عن مالك بمصائب ، منها : عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، قال : توفيت فاطمة رضي الله عنها ليلاً ، فجاء أبو بكر وعمر وجماعة كثيرة ، فقال أبو بكر لعلي : تقدّم فصل ، قال : لا والله لا تقدّمت وأنت خليفة رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم. فتقدّم أبو بكر وكبر أربعاً » (١).

وقال ابن حجر : « رواه بعض المتروكين عن مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه. ووهّاه الدارقطني وابن عديّ » (٢).

إنهم يريدون بتلك المساعي التغطية على ما جنوا ، وإصلاح ما أفسدوا ، ولكن « لايصلح العطارما أفسده الدهر »!!.

وبقي الكلام في (مسور) نفسه ، ويكفينا أن نعلم :

أولاً : إنه ولد بعد الهجرة بسنتين ، فكم كانت سني عمره في وقت خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وهكذا ما سنتكلم عليه بعد أيضاً.

وثانياً : إنه كان مع ابن الزبير ، وكان ابن الزبير لا يقطع أمراً دونه ، وقد قتل في قضية رمي الكعبة بالمنجنيق ، بعد أن قاتل الشاميّين ، وولي ابن الزبيرغسله.

وثالثاً : إنه كان مّمن يلزم عمر بن الخطّاب.

ورابعاً : إنه كان إذا ذكر معاوية صلّى عليه.

وخامساً : إنه كانت الخوارج تخشاه وينتحلونه (٣).

__________________

(١) لسان الميزان ٣ / ٣٣٤.

(٢) الإصابة ٤ / ٣٧٩.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٩١ ـ ٣٩٤. تهذيب التهذيب ١٠ / ١٣٧.

٢٨

(٣)

تأمّلات في متن الحديث ومدلوله

وبعد ، فإنه لا بُدّ من التأمل في متن الحديث ومدلوله ... فلا بدّ من النظر إلى المتن .. لأنه في كل مورد يختلف فيه متن الحديث والأسانيد معتبرة ، يلجأ العلماء إلى القول بتعدّد الواقعة .. واما حيث لا يمكن الالتزام بتعدّدها وتعذّر الجمع بين ألفاظ الحديث .. فذلك عندهم قرينة قويّة على أن لا واقعيّة للقضيّة ...

هذا ما قرره العلماء .. وبنوا عليه في كثير من الأحاديث الفقهية وأخبار القضايا التاريخية .. ونحو ذلك ...

ولا بدّ من النظر في الدلالة ... فقد يكون الحديث صحيحاً سنداً ولكنه يخالف ـ من حيث الدلالة ـ الضرورة العقلية أو محكم الكتاب أو قطعيّ السنة أو واقع الحال ...

ونحن ننظر في متن هذا الحديث ومدلوله ، بعد فرض صحّة سنده وقبوله .. في فصول :

تأمّلات في خصوص حديث المسور :

١ ـ لقد جاء عن مسور : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وأنا محتلم » قال ابن حجر بشرح البخاري : « في رواية الزهري عن علي بن حسين عن المسور ـالماضية في فرض الخمس ـ : (يخطب الناس على منبره هذا وأنا يومئذٍ محتلم). قال ابن سيّد الناس : هذا غلط. والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفط (كالمحتلم). أخرجه من طريق يحيى بن معين عن يعقوب بن إبراهيم بسنده المذكور إلى علي بن الحسين. قال : والمسور لم يحتلم في حياة النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ، لأنه ولد بعد ابن الزبير ، فيكون عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه [واله] وسلّم ثمان سنين » (١).

____________

(١) فتح الباري ٩ / ٢٦٨ ـ ٢٧٠.

٢٩

وقال بترجمة المسور : ووقع في صحيح مسلم (١) من حديثه في خطبة علي لابنة أبي جهل ، قال المسور : سمعت النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم وأنا محتلم يخطب النّاس ، فذكر الحديث. وهو مشكل المأخذ ، لأن المؤرخين لم يختلفوا أن مولده كان بعد الهجرة ، وقصّة خطبة علي كانت بعد مولد المسور بنحو ست سنين أو سبع سنين. فكيف يسمى محتلماً؟! » (٢).

أقول : فهذا إشكال في المتن! ولربما أمكن الإشكال من هذه الناحية في السند! والعجب من الذهبي كيف توهّم من هذا الحديث كونه محتلماً يومذاك (٣).

٢ ـ ذكر المسور قصة خطبة بنت أبي جهل عند طلبه للسيف من علي بن الحسين عليه‌السلام ... وقد وقع الإشكال عندهم في مناسبة ذلك ، وذكروا وجوهاً اعترفوا بكون بعضها تكلّفاً وتعسفاً ، لكن الحق أن جميعها كذلك كما سترى :

قال الكرماني : « فإن قلت : ما وجه مناسبة هذه الحكاية لطلب السيف؟ قلت : لعل غرضه منه أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم كان يحترز مّما يوجب الكدورة بين الأقرباء ، وكذلك أنت أيضاً ينبغي أن تحترز منه ، وتعطيني هذا السيف حتى لا يتجدد بسببه كدورة أخرى.

أو : كما أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم يراعي جانب بني أعمامه العبشمية ، أنت راع جانب بني أعمامك النوفلية ؛ لأن المسور نوفلي.

أو : كما أنه صلى الله عليه [وآله] وسلّم يحبّ رفاهيّة خاطر فاطمة ، أنا أيضاً أحبّ رفاهيّة خاطرك ، فأعطنيه حتى أحفظه لك » (٤).

هذه هي الوجوه التي ذكرها الكرماني لدفع الإشكال ، وقد ذكرها ابن حجر وقال ـ بعد أن أشكل على الثاني بأن المسور زهري لا نوفلي ـ : « والأخير هو المعتمد.

__________________

(١) قد عرفت انّه وقع في صحيح البخاري أيضاً ، فلماذا خصّه بمسلم؟!

(٢) تهذيب التهذيب ١٠ / ١٣٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٩١.

(٤) الكواكب الدراري ١٣ / ٨٨.

٣٠

وما قبله ظاهر التكلّف » قال : « وسأذكر إشكالاً يتعلّق بذلك في كتاب المناقب » (١).

وكأن العيني لم يرتض هذا الوجه المعتمد! فقال : « وانما ذكر المسورقصّة خطبة عليّ بنت أبي جهل ليعلم علي بن الحسين زين العابدين بمحبته في فاطمة وفي نسلها لما سمع من رسول الله » (٢).

قلت : إذا كان ذكر القصة ليعلم أنه يحبّ. رفاهيّة خاطره ، أو ليعلم بمحبّته في فاطمة ونسلها ... فأيّ خصوصيّة للسيف؟! وهل كانت الرفاهية لخاطره حاصلة من جميع الجهات ، وهو قادم من العراق مع تلك النسوة والأطفال بتلك الحال ، وبقي خاطره مشوشاً من طرف السيف ، فأراد رفاهية خاطره ، أو إعلامه بمحبته له ، كي يعطيه السيف؟!.

٣ ـ وهل من المعقول أن يذكر الإنسان لمن يريد أن يعلم بمحبته له ورفاهية خاطره ما يكدر خاطره ويجرح عواطفه؟!

وهذا هو الإشكال الذي أشار إليه ابن حجر في عبارته الآنفة. ثم قال في كتاب المناقب : « ولا أزال أتعجب من المسور كيف بالغ في تعصبه لعلي بن الحسين ، حتى قال : إنه لو أودع عنده السيف لا يمكن أحداً منه حتى تزهق روحه ، رعاية لكونه ابن ابن فاطمة ، ولم يراع خاطره في أن في ظاهر سياق الحديث غضاضة على علي بن الحسين ، لما فيه من إيهام غضٍ من جدّه علي بن أبي طالب ، حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة ، حتى اقتضى أن يقع من النبي صلى الله عليه [وآله] وسلّم في ذلك من الإنكار ما وقع؟!

بل أتعجّب من المسور تعجباً اخر أبلغ من ذلك ، وهو ان يبذل نفسه دون السيف رعاية لخاطر ولد ابن فاطمة ، وما بذل نفسه دون ابن فاطمة نفسه ـ أعني الحسين والد علي الذي وقعت معه القصّة ـ حتى قتل بأيدي ظلمة الولاة؟!! » (٣).

__________________

(١) فتح الباري ٦ / ٦١.

(٢) عمدة القاري ١٥ / ٣٤.

(٣) فتح الباري ٩ / ٢٦٨.

٣١

ثم إن ثمة شيئاً آخر ... وهو أن المسور بن مخرمة لمّا خطب الحسن بن الحسن ابنته : « حمد الله عز وجل وأثنى عليه وقال : أمّا بعد ، فما من نسب ولا سبب ولا صهر أحبّ إلي من نسبكم وصهركم ، ولكن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال : فاطمة بضعة مني ، يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها ، وإن الأنساب يوم القيامة تنقطع إلآ نسبي وسببي وصهري ، وعندك ابنته ولو زوجتك لقبضها ذلك » فانطلق الحسن عاذراً إليه (١).

ولو كان مسور يروي قصة خطبة أبي جهل لاستشهد بها وحكى الحديث كاملاً ، لشدّة المناسبة بين خطبة عليّ ابنة أبي جهل وعنده فاطمة وخطبة الحسن بن الحسن ابنة المسور وعنده بنت عمه!

فهذه إشكالات حار القوم في حلها الحل المعقول ...

تأملات في ألفاظ الحديث :

وهنا أسئلة :

الأول : هل خطب عليّ ابنة أبي جهل حقاً؟

الملاحظ أن في حديث الليث ، عن ابن أبي مليكة ، عن المسور « سمعت النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم يقول : إن بني المغيرة استأذنوني في أن ينكح عليّ ابنتهم ... ».

وفي أغلب طرق حديث الزهري ـ وبعض الأحاديث الأخرى ـ عن علي بن الحسين ، عن المسورّ « أن علي بن أبي طالب خطب ... ».

وفي حديث عبد الله بن الزبير : « أن عليّاً ذكر بنت أبي جهل ... ».

وهذا ليس اختلافاً في التعبير فحسب ...

الثاني : هل وعد عليّ النكاح؟

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٣٢٣ ، المستدرك ٣ / ١٥٨ ، سنن البيهقي ٧ / ٦٤.

٣٢

صريح بعض الأحاديث عن الزهري : « وعد النكاح » وهو ظاهر الأحاديث الأخرى ـ عن الزهري أيضاً ـ التي فيها قول فاطمة للنبي : « هذا عليّ ناكحاً » أو « نكح » فإنه بعد رفع اليد عن ظهوره في تحقق النكاح فلابدّ من وقوع الخطبة والوعد بالنكاح.

لكن في حديث.أبي حنظلة : « فقال له أهلها : لا نزوّجك على ابنة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ».

الثالث : هل وقع الاستئذان من النبي؟

صريح الحديث عن الليث عن المسورأنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلن أنه قد استؤذن في ذلك وأنه لا يأذن. لكن صريح الحديث عن الزهري عن المسور أنه سمعه يتشهد ثم قال : « أمّا بعد ، أنكحت أبا العاص بن الربيع ، فحدّثني وصدقني ... » أو نحو ذلك ممّا فيه التعريض بعلي وليس فيه تعرّض للمشورة والاستئذان منه! وكذا الحديث عن إيوب عن ابن الزبير ، لا تعرض فيه للاستئذان ، لكن بلا تعريض ، فجاء فيه : « فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فقال : إنّما فاطمة بضعة مني ... ».

الرابع : من الذي استأذن؟

قد عرفت خلو حديث الزهري عن الاستئذان مطلقاً.

ثم إن كثيراً من الأحاديث تنص على استئذان أهل المرأة. وفي بعضها : أنه استأذن بنفسه وقال له : « أتأمرني بها؟ » فقال : « لا ، فاطمة مضغة مني ... فقال : لا آتي شيئاً تكرهه ».

الخامس : من الذي أبلغ النبي؟

في حديث أيوب عن ابن الزبير : « فبلغ ذلك ... ».

وفي حديث الليث عن ابن أبي مليكة عن المسور : أنهم أهل المرأة حيث جاءوا إليه ليستأذنوه ...

وفي حديث سويد بن غفلة : أنه عليّ نفسه. حيث جاء ليستأذنه ...

٣٣

لكن في حديث الزهري : إنها فاطمة! .. إنها لمّا سمعت بذلك خرجت من بيتها وأتت النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم وجعلت تخاطبه بها لا يليق! يقول الزهري : « إن علياً خطب بنت أبي جهل ، فسمعت بذلك فاطمة ، فأتت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم فقالت : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا عليّ ناكح بنت أبي جهل ، فقام رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ... ».

بل في حديثٍ يرويه مفاده شيوع الخبر بين الناس!! يقول : « فقال الناس : أترون أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم يجد من ذلك؟! فقال ناس ... وقال ناس ... ».

وهناك أسئلة أخرى ...

فألفاظ الحديث متناقضة جدّاً ، والقضية واحدة ، وقد تحير الشرّاح هنا أيضاً واضطربت كلماتهم ولم يوفقوا للجمع بينها وإن حاولوا وتمحلوا!!

تامّلات في مدلوله :

ثم إنه يجب النظر في هذه الأحاديث من الناحية الفقهية والناحية الأخلاقية والعاطفية ... بعد فرض ثبوت القضيّة ...

فماذا صنع عليّ؟ وما فعلت فاطمة؟ وأيّ شيء صدرمن النبي؟

لقد خطب عليّ ابنة أبي جهل ، فتأذت الزهراء ، فصعد النبي المنبر وقال ...

هل كان يحرم على علي التزوج على فاطمة أو لا؟

وعلى الأول : فهل كان على علم بذلك أو لا؟

لا ريب في أن علياً لا يقدم على هذا الأمر المحرم عليه مع علمه بالحرمة ، فإمّا أن لا تكون حرمة ، وإمّا أن لايكون له علم بها.

لكن الثاني لا يجوز نسبته إلى سائر الناس فكيف بباب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

فهو إذن حين فعل ذلك لم يكن فاعلاً لمحرم في الشريعة ، لأن حاله حال سائر

٣٤

المسلمين الجائز عليهم نكاح الأربع ، ولو كان ـ بالنسبة إليه خاصّة ـ حكم دون رجال المسلمين لعلمه!

وحينئذٍ فهل من الجائز خروج الصدّيقة الطاهرة ـ بمجرد سماعها الخبرـ إلى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم لتشكو بعلها وتخاطب أباها بتلك الكلمات القارصة؟!

إنه لم يفعل محرماً حتى تكون قد أرادت النهي عن المنكر ، فهل أن شأنها شأن غيرها من النساء ويكون لها من الغيرة ما يكون لسواها؟! وهل كانت غيرتها لإقدام عليّ على النكاح أو لكون المخطوبة بنت أبي جهل؟!

والنبي ... يصعد المنبر ... بعد أن يرى فاطمة منزعجة ... أو بعد أن يستأذنه القوم في أن ينكحوا ابنتهم ... فيخاطب الناس؟!

وماذا قال؟!

قد اشتملت خطبته على ما يلي :

١ ـ الثناء على صهرله من بني عبد شمس!

٢ ـ الخوف من أن تفتن فاطمة في دينها!

٣ ـ إنه ليس يحرم حلالاً ولا يحلّ حراماً ... ولكن لا يأذن!

٤ ـ إنه لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدوّ الله! وفي لفظ : إنه ليس لأحد أن يتزوج ابنة عدو الله على ابنة رسول الله! وفي ثالث : لم يكن ذلك له أن يجمع ...!

٥ ـ إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينكح ابنتهم! وفي لفظ : إن كنت تزوجتها فردّ علينا ابنتنا ..!

أترى من الجائزكل هذا؟!

لقد حار الشرّاح ـ وهم يقولون بأن علياً خطب ولم يكن بمحرم عليه ، وبأن فاطمة تعتريها الغيرة كسائر النساء! ـ في توجيه ما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الواقعة ...

إن علياً كان قد أخذ بعموم الجواز!

٣٥

وفاطمة الزهراء ليست بالتي تفتن عن دينها أو يعتريها ما يعتري النسوة وقد نزلت فيها اية التطهير من السماء ، وكانت لعصمتها وكمالاتها سيدة النساء ، وعلى فرض ذلك ـ كما تقول هذه الأحاديث ـ فلا خصوصية لابنة أبي جهل.

والنبي يعترف في خطبته بأن علياً ما فعل حراماً ، ولكن لا يأذن. فهل إذنه شرط؟! وحل يجوز حمل الصهر على طلاق زوجته إن تزوج بأخرى عليها؟!

كل هذا غير جائز ولا كائن ...

سلّمنا أن فاطمة أخذتها الغيرة (١) ، والنبي أخذته الغيرة لابنته ، (٢). فلماذا صعد المنبر وأعلن القصة وشهر؟!

يقول ابن حجر : « وإنما خطب النبي ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به ، إمّا على سبيل الإيجاب ، وإمّا على سبيل الأولوية » (٣).

وتبعه العيني (٤).

والمراد بالحكم : حكم « الجمع بين بنت رسول الله وبنت عدو الله » لكن ألفاظ الحديث مختلفة ، ففي لفظ : « لا تجتمع ... » وفي آخر : « ليس لأحد ... » وفي ثالث : « لم يكن ذلك له ». ولذا اختلفت كلمات العلماء في الحكم!

قال النووي : « قال العلماء : في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه [وآله] وسلّم بكل حال وعلى كل وجه ، وإن تولد ذلك الإيذاء ممّا كان أصله مباحاً وهو حي. وهذا بخلاف غيره. قالوا : وقد أعلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله : لست احرم حلالاً ، ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين ، إحداهما : أن ذلك يؤدّي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذٍ النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فيهلك من آذاه.

__________________

(١) ومن هنا ذكر ابن ماجة الحديث في باب الغيرة.

(٢) ومن هنا عنون البخاري : « باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف » ولم يذكر فيه إلآ هذا الحديث!!

(٣) فتح الباري ٧ / ٦٨.

(٤) عمدة القاري ١٦ / ٢٣٠.

٣٦

فنهى عن ذلك لكمال شفقته على عليّ وعلى فاطمة. والثانية : خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة.

وقيل : ليس المراد به النهي عن جمعهما ، بل معناه : أعلم من فضل الله أنهما لا تجتمعان ، كما قال أنس بن النضر : والله لا تكسر ثنية الربيع.

ويحتمل أن المراد : تحريم جمعهما ، ويكون معنى لا احرم حلالاً ، أي : لا أقول شيئاً يخالف حكم الله ، فإذا أحلّ شيئاً لم أحرمه ، وإذا حرمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه ، لأن سكوتي تحليل له ، ويكون من جملة محرمات النكاح الجمع بين بنتي عدوّ الله وبنت نبي الله » (١).

وقال العيني : « نهى عن الجمع بينها وبين فاطمة ابنته لعلتين منصوصتين ... » (٢).

أقول : أمّا « الا تجتمع ... » فليس صريحاً في التحريم ، ولذا قيل : (ليس المراد به النهي عن جمعهما ، بل معناه : اعلم من فضل الله أنهما لا تجتمعان ».

وأمّا « ليس لأحد ... » فظاهر في الحرمة لعموم المسلمين ، فيكون حكماً مخصّصاً لعموم أدلّة الجواز لكن لا يفتني به أحد ... بل يكذبه عمل عمر بن الخطاب ، حيث خطب ـ فيما يروون ـ ابنة أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام وعنده غير واحدة من بنات أعداء الله كما لا يخفى على من راجع تراجمه.

وأما « لم يكن ذلك له » فصريح في اختصاص الحكم بعين ، فهل هو نهي تنزيهي أو تحريمي؟ إن كان الثاني فلا بدّ أن يفرض مع جهل علي به ، لكن المستفاد من النووي وغيره هو الاوّل ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الجمع للعلتين المذكورتين.

أما الثانية فلا تتصوّرفي حق كثير من النساء المؤمنات فكيف بالزهراء الطاهرة المعصومة!!

وأما الأولى فيردها : أن صعود المنبر ، والثناء على صهر آخر ، ثم القول بأنه

__________________

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ـ هامش إرشاد الساري ـ ٩ / ٣٣٣.

(٢) عمدة القاري ١٥ / ٣٤.

٣٧

« إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ... » ... ينافي كمال شفقته على علي وفاطمة ...

ولعل ما ذكرناه هو وجه الأقوال الأخرى في المقام.

وقال ابن حجر بشرح : « إلا أن يريد ابن أبي طالب ... » : « هذا محمول على أن بعض من يبغض علياً وشى به أنه مصمم على ذلك ، وإلا فلا يظنّ به أنه يستمر على الخطبة بعد أن استشار النبي صلى الله عليه [آله] وسلم فمنعه. وسياق سويد بن غفلة يدل على أن ذلك وقع قبل أن تعلم به فاطمة ، فكأنه لما قيل لها ذلك وشكت إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم بعد أن أعلمه علي أنه ترك ، أنه انكر عليه ذلك.

وزاد في رواية الزهري وإني لست أحرم حلالاً ولا أحلل حراماً ، ولكن ـ والله ـ لا تجمع بنت رسول الله وبنت عدوّ الله عند رجل أبداً. وفي رواية مسلم : مكاناً واحداً أبداً. وفي رواية شعيب : عند رجل واحد أبداً.

قال ابن التين : أصح ما تحمل عليه هذه القصة : أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم حرم على عليّ أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل ، لأنه علل بأن ذلك يؤذيه ، وأذيته حرام بالاتفاق. ومعنى قوله : لا أحرم حلالاً ، أي : هي له حلال لو لم تكن عنده فاطمة. وآما الجمع بينهما الذي لا يستلزم تأذي النبي صلّى الله عليه الله [وآله] وسلّم لتأذي فاطمة به فلا.

وزعم غيره : أن السياق يشعر بأن ذلك مباح لعلي ، لكنه منعه النبي صلى الله عليه [وآله] وسلّم رعاية لخاطر فاطمة ، وقبل هو ذلك امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم.

والذي يظهر لي : أنه لا يبعد أن يعد في خصائص النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم أن لا يتزوج على بناته.

ويحتمل أن يكون ذلك خاصاً بفاطمة عليها‌السلام » (١).

أقول : لايخفى الأضطراب في كلماتهم ... ولا يخفى ما في كل وجهٍ من هذه

__________________

(١) فتح الباري ٩ / ٢٦٨.

٣٨

الوجوه ...

ولو ذكرنا التناقضات الأخرى الموجودة بينهم لطال بنا المقام ...

ومن طرائف الأمور جعل البخاري كلام النبي خلعاً ، ولذا ذكر الحديث في باب الشقاق من كتاب الطلاق ...!! لكن القوم لم يرتضوا ذلك فحاروا فيه :

قال العيني : « قال ابن التين : ليس في الحديث دلالة على ما ترجم ..

أراد : أنه لا مطابقة بين الحديث والترجمة.

وعن المهلّب : حاول البخاري بإيراده أن يجعل قول النبي صلى الله عليه [وآله] وسلّم : (فلا آذن) خلعاً.

ولا يقوى ذلك. لأنه قال في الخبر : (إلآ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي) فدلّ على الطلاق. فإن أراد أن يستدلّ بالطلاق على الخلع فهو ضعيف ...

وقيل : في بيان المطابقة بين الحديث والترجمة بقوله : يمكن أن تؤخذ من كونه صلى الله عليه [وآله] وسلّم أشار بقوله : (فلا آذن) إلى أن علياً رضي الله تعالى عنه يترك الخطبة. فإذا ساغ جواز الإشارة بعدم النكاح التحق به جواز الإشارة بقطع النكاح.

وأحسن من هذا وأوجه ما قاله الكرماني بقوله : أورد هذا الحديث هنا لأن فاطمة رضي الله تعالى عنها ما كانت ترضى بذلك ، وكان الشقاق بينها وبين علي رضي الله تعالى عنه متوقعاً ، فأراد صلى الله عليه [وآله] وسلّم دفع وقوعه.

وقيل : يحتمل أن يكون وجه المطابقة من باقي الحديث ، وهو : (إلا أن يريد علي أن يطلّق ابنتي) فيكون من باب الإشارة بالخلع.

وفيه تأمل » (١).

وقال القسطلاني : « استشكل وجه المطابقة بين الحديث والترجمة وأجاب في الكواكب فأجاد : بأنّ كون فاطمة ما كانت ترضى بذلك فكان الشقاق بينها وبين علي

__________________

(١) عمدة القاري ٢٠ / ٢٦٥.

٣٩

متوقعاً ، فأراد النبي صلى الله عليه [وآله] وسلّم دفع وقوعه بمنع علي من ذلك بطريق إلإيماء والإشارة.

وقيل غير ذلك مما فيه تكلّف وتعسّف » (١).

أقول : وهل ما ذكره الكرماني في الكواكب واستحسنه العيني والقسطلاني خال من التكلف والتعسف؟!

إنه يبتني على احتمالين ، أحدهما : أن لا ترضى فاطمة بذلك. والثاني : أن ينجر ذلك إلى الشقاق بينهما ...!!

وهل كان منعه صلىالله عليه وآله وسلّم علياً من ذلك ـ دفعاً لوقوع الشقاق ـ بطريق الإيماء والإشارة؟! أو كان بالخطبة والتنقيص والغضّ والتهديد؟!

نتيجة التأملات :

ونتيجة التأملات في ألفاظ هذا الحديث :

١ ـ إن قول المسور « وأنا محتلم » يورث الشك في سماعه الحديث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا عدم المناسبة المعقولة بين طلبه للسيف من الإمام زين العابدين عليه‌السلام وإخباره بالقصّة ، ثم إلحاحه في طلب السيف ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فاطمة بضعة مني ..!

٢ ـ إن ألفاظ الحديث مختلفة ومعانيها متفاوتة جداً ، بحيث لم يتمكن شرّاحه من بيان وجه معقول للجمع بين تلك الألفاظ. ولما كانت الحال هذه والقصّة واحدة فلا محالة يقع الشك في أصل الحديث ...

٣ ـ إن مدلول الحديث لا يتناسب وشأن أميرالمؤمنين والزهراء ، وفوق ذلك لا يتناسب وشأن النبي صاحب الشريعة الغراء. وحتى لو فعل عليّ ما لايجوز .. لما ثبت من أنه :

__________________

(١) إرشاد : الساري ٨ / ١٥٢.

٤٠