المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي

المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-023-4
الصفحات: ١٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

إنَّ المنكرين للامام المهدي بالتشخيص الذي حددناه ـ أي بكونه محمداً نجل الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ـ ينطلقون من دوافع ومنطلقات بعيدة عن منهج الإسلام في الدعوة الى الايمان بالعقائد ؛ فمنهج الإسلام كما يقوم على العقل والمنطق ، فإنه يعتمد على الفطرة ويستند الى الغيب.

والايمان بالغيب جزءٌ من عقيدة المسلم إذ تكررت الدعوة قرآناً وسنّةً فمن القرآن الكريم ، قوله تعالى : ( ألم ذلك الكتاب لاريب فيه هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ... ) (١).

وقوله تعالى : ( تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ... ) (٢) وفي السنّة النبوية مئات الروايات المؤكدة على الايمان بالغيب والتصديق بما يُخبر به الرُسل والأنبياء. وهذا الايمان بالغيب لا تصحُّ عقيدة المسلم بإنكاره سواء تعقَّله وأدرك أسراره وتفصيلاته أم لم يستطع الى ذلك سبيلاً ، كما هو الامر مثلاً بالنسبة الى الايمان بالملائكة وبالجنّ وبعذاب القبر ، وسؤال الملكين في القبر ، الى غير ذلك من المغيبات التي ذكرها القرآن أو أخبر بها نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقلها إلينا الثقاة العدول المؤتمنون ، ومن جملة ذلك بل من أهمها قضية الإمام المهدي الذي سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / آية ١ ـ ٣.

(٢) سورة هود ١١ / ٤٩.

١٦١

فالمهدي قد نطقت به الصحاح والمسانيد والسنن فلا يسعُ مسلماً إنكاره ، لكثرة الطرق ووثاقة الرواة ودلائل التاريخ والمشاهدة الثابتة لشخصه كما حقق في محلّه من هذا البحث.

ومن هنا وجدنا المنكرين ، سواء الذين تأثروا بمناهج الغرب ، ودراسات المستشرقين ، أم ممن نزعه عِرقُ التعصب لما توارثه عن سلفه ، حاولوا جميعهم ـ بعد أنْ أعيتهم الحيلة ، واُسقط ما في أيديهم إزاء الأدلة النقلية المتظافرة ، والبراهين الساطعة ، والاعترافات المتتالية بشخص المهدي الموعود ـ أن يثيروا بعض الشبهات الهزيلة ، والتلبيسات الباطلة لصرف الأمّة المسلمة عن القيام بدورها ، والنهوض بمسؤلياتها في مرحلة الانتظار والترقب ، متبعين في ذلك مغالطات مفضوحة ؛ إذ زعموا أن طول عمر المهدي وما يتصل به يتعارض مع العلم ومنطق العقل والواقع. وسيتضح للقارئ ـ بتسديد الله تعالى وتوفيقه ـ كيف أن منطقهم ساقط بحسب موازين العلم وأُصول المنطق الحق والمنهج السليم.

ولعل أهم الشبهات التي تثار هنا هي مسألة صغر سنّ الإمام ، وطول عمره ، والفائدة من الغيبة بالنسبة له ، ومسألة استفادة الأمّة المسلمة منه وهو مستور غائب.

وسنحاول مناقشة ذلك وفق المنطق العلمي والدليل العقلي.

السؤال الأول : كيف كان اماماً وهو في الخامسة من عمره ؟

والجواب : إنَّ الإمام المهدي عليه‌السلام خَلَفَ أباه في إمامة المسلمين ، وهذا يعني أنّه كان إماماً بكلّ ما في الإمامة من محتوىً فكري وروحي في وقتٍ مبكر جداً من حياته الشريفة.

والإمامة المبكرة ظاهرة سَبَقَهُ إليها عدد من آبائه عليهم‌السلام ، فالإمام الجواد محمد بن علي عليه‌السلام تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره ، والإمام علي

١٦٢

بن محمد الهادي عليه‌السلام تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره ، والإمام أبو محمد العسكري وهو والد الإمام المهدي المنتظر تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره ، ويلاحظ أن ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي والإمام الجواد ، ونحن نسمّيها ظاهرة لأنّها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهدي عليهم‌السلام تشكل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون ، ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر ، ولا يمكن أن يُطالب بإثبات ظاهرة من الظواهر هي أوضح وأقوى من تجربة أُمّة ، ونوضح ذلك ضمن النقاط الآتية :

١ ـ لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت عليهم‌السلام مركزاً من مراكز السّلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ، ويدعمها النظام الحاكم كما كان الحال في الامويين والفاطميين والعباسيّين ، وإنّما كانت تكتسب ولاءَ قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته على أُسس فكرية وروحية.

٢ ـ إنَّ هذه القواعد الشعبية بُنيت منذُ صدر الاسلام ، وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان ، في داخل هذه القواعد ، تشكل تياراً فكرياً واسعاً ، في العالم الاسلامي يضمُّ المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الاسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ ، حتى قال الحسن بن علي الوشاء : « فإنّي أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجدَ الكوفة ـ تسعمائة شيخٍ كلٌّ يقول حدثني جعفر بن محمد » (١).

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤٠ / ٨٠ في ترجمة الحسن بن علي بن زياد الوشاء.

١٦٣

٣ ـ إنَّ الشروط التي كانت هذه المدرسة ، وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الاسلامي ، تؤمن بها ، وتتقيد بموجبها في تعيين الإمام والتعرّف على كفاءته للإمامة شروط شديدة ، لأنها تؤمن بأن الإمام لا يكون إماماً إلاّ إذا كان معصوماً وكان أعلم علماء عصره.

٤ ـ إنَّ المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الامامة ؛ لأنّها كانت في نظر السلطة المعاصرة لها تشكل خطاً عدائياً ، ولو من الناحية الفكرية على الأقل ، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرار تقريباً بحملات من التصفية والتعذيب ، فَقُتِل من قُتِل ، وسُجنَ من سُجِنَ ، ومات المئات في ظلمات المعتقلات. وهذا يعني أن الاعتقاد بامامة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام كان يكلفهم غالياً ، ولم يكن له من الاِغراءات سوى ما يُحسُّ به المُعْتَقِد أو يفترضه من التقرّب إلى الله تعالى والزلفى عنده.

٥ ـ إنَّ الأئمة الذين دانت هذه القواعد الشعبية لهم بالإمامة ، لم يكونوا معزولين عنها ، ولا متقوقعين في بروجٍ عاجية عالية شأن السلاطين مع شعوبهم ، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجنٍ أو نفي ، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدّثين عن كل واحدٍ من الأئمة الأحدَ عشرَ من آباء المهدي عليه‌السلام ، ومن خلال ما نُقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه ، وما كان يقوم الإمام به من أسفار من ناحيةٍ ، وما كان يبثّهُ من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الاسلامي من ناحية أُخرى ، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمّون الديار المقدّسة من كلِّ مكان لأداء فريضة الحج ، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحةٍ بين الإمام وبين قواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف

١٦٤

طبقاتها من العلماء وغيرهم.

٦ ـ إنَّ السلطة المعاصرة للأئمة عليهم‌السلام كانت تنظر إليهم والى زعامتهم الروحية بوصفها مصدر خطرٍ كبير على كيانها ومقدّراتها ، وعلى هذا الاَساس بذلت كلَّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة ، وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات ، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك ، وكانت حملات المطاردة والاعتقال مستمرة للائمة أنفسهم على الرغم مما يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين ، ولاسيما الموالين على اختلاف درجاتهم.

وإذا اخذنا بنظر الاعتبار هذه النقاط الست ، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك ، أمكن أن نخرجَ بالنتيجة الآتية :

إنَّ ظاهرة الإمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وَهماً من الأوهام ؛ لأن الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين ، ويدينُ له بالولاء والإمامة كل ذلك التيار الواسع لابدَّ أن يكون في أعلى الدرجات والمراتب من العلم والمعرفة وسعة الاُفق والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد ، لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنعَ تلك القواعد الشعبية بإمامته ، مع ما تقدّم من أن الأئمة كانوا في مواقع تتيحُ لقواعدهم التفاعل معهم ، وللأضواء المختلفة أن تُسلط على حياتهم وموازين شخصيتهم ، فهل ترى أن صبيّاً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للاسلام وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية ، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله ، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبيّ الإمام ؟

١٦٥

وهَبْ أنَّ الناس لم يتحركوا لاستطلاع الموقف ، فهل يمكن أن تمرَّ المسألة أياماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشّف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبيّ الإمام وسائر الناس ؟

وهل من المعقول أن يكون صبيّاً في فكره وعلمه حقاً ثم لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل ؟

واذا افترضنا أنَّ القواعد الشعبية لامامة أهل البيت لم يُتَح لها أن تكتشف واقع الأمر ، فلماذا سكتت السلطة القائمة ولم تعمل على كشف الحقيقة إذا كانت في صالحها ؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبيّ صبيّاً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان ؟ وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدّم الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته ، وتبرهن على عدم كفاءته للاِمامة والزعامة الروحية والفكرية. فلإن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين لتسلّم الإمامة ، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإمامية وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.

إنَّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة هو أنها أدركت أنَّ الإمامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.

والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة ـ أي تعريضه للاختبار ـ فلم تستطع ، والتأريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وعن فشلها ، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزت فيه ظاهرة الإمامة المبكّرة أو واجه فيه الصبيّ الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.

١٦٦

وهذا معنى ما قلناه من أنَّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت عليهم‌السلام ، وليست مجرّد افتراض ، كما أنَّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربانية ، ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكّرة في التراث الرباني : النبي يحيى عليه‌السلام ، قال تعالى : ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيناهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً .. ) (١).

ومتى ثبت أن الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية وموجودة فعلاً في حياة أهل البيت ، لم يَعُدْ هناك اعتراض فيما يخصّ حياة المهدي عليه‌السلام ، وخلافته لأبيه وهو صغير.

السؤال الثاني : طول العمر

إن أهم ما يثيرونه في هذا المجال ، ويروّجون له باستمرار قديماً وحديثاً ، هو قولهم : إذا كان المهدي يُعبّرُ عن إنسان حيّ عاصرَ الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من أحدَ عشرَ قرناً فكيف تأتّى له هذا العمر الطويل ؟ وكيف نجا من القوانين الطبيعية التي تحتمّ مروره بمرحلة الشيخوخة (٢) !!

ومن الجائز أن نطرح الشبهة بصورة سؤالٍ كأن يقال : هل بالإمكان أن يعيش الانسانُ قروناً طويلة ؟!

وللإجابة عن هذا السؤال لابدَّ من التمهيد ببحث مسألة الإمكان هنا. فهناك ثلاثة أنواع متصورة للإمكان :

الأول : ما يصطلح عليه بالإمكان العملي ، ويُراد به ما هو ممكن

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٢. وقد مرّ في الفصل الثاني برقم ٥ و ٨ اعتراف أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي ، وأحمد بن يوسف القرماني الحنفي بان المهدي عليه‌السلام اُعطي الحكمة وهو صبيٌّ ، فراجع.

(٢) هذه الشبهة مطروحة في كتب العقائد منذ القرون البعيدة ، وقد ذكرها وتصدى للاجابة عنها كبار علماء الإمامية ، بوجوهٍ جديدة ومن أبعاد مختلفة ، ونحن نتعرّض لبعضها فقط.

١٦٧

فعلاً وواقعاً. أي له تحقق ووجود ظاهر ومتعين.

والثاني : مايصطلح عليه بالامكان العلمي ، ويُراد به ما هو غير ممتنعٍ من الناحية العلمية الصِرفة ، أي أنَّ العلم لا يمنع وقوعه وتحققه ووجوده فعلاً.

والثالث : ما يصطلح عليه بالامكان المنطقي ، ويُراد به ما ليس مستحيلاً عقلاً ، أي أنَّ العقل لا يمنع وقوعه وتحققه.

واستناداً الى هذا نعرض المسألة كالآتي مبتدئين بالإمكان المنطقي فنقول :

هل إنَّ امتداد عمر الانسان مئات السنين ممكن منطقياً ، أي ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية ؟

والجواب : نعم بكل تأكيد ، فقضية امتداد العمر فوق الحدّ الطبيعي أضعافاً مضاعفةً ليست في دائرة المستحيل ، كما هو واضح بأدنى تأمل. نعم هو ليس مألوفاً ومشاهداً ، ولكن هناك حالات ، نقلها أهل التواريخ ، وتناقلتها بعض النشرات العلمية ، تجعل الانسان لا يستغرب ولا ينكر ، على أنَّ الغرابة ترتفع تماماً عندما يقرع سمعَ المسلم صوتُ الوحي ومنطوق القرآن في النبي نوح عليه‌السلام : ( وَلَقَدْ أرْسَلْنَا نوُحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ) (١) ولتقريب مسألة الامكان بهذا المعنى نضربُ مثالاً كالآتي : لو أنَّ أحداً قال لجماعةٍ إني أستطيع أن أعبرَ النهر ماشياً ، أو أجتاز النارَ دون أن أُصابَ بسوء ، فلا بدَّ أن يستغربوا وينكروا ، لكنه لو حقّق ما قاله بالفعل فعبر النهر ماشياً أو اجتاز النار بسلام ؛ فإنَّ انكارهم واستغرابهم سيزول عند ذلك. فلو جاء آخر وقال مثلَ مقالة الأول ، فإنَّ درجة الاستغراب ستقلُّ ، وهكذا لو جاء ثالث ورابع وخامس ، فإنَّ ما وقع

__________________

(١) العنكبوت : ٢٩ / ١٤.

١٦٨

منهم من الاستغراب أوّل مرّة سوف لا يبقى على حالته وقوّته في المرة الخامسة ، بل يضعف جداً الى أنْ يزول.

وهكذا نقول في مسألتنا ، فإنَّ القرآن قد أخبر : أن نوحاً عليه‌السلام لبثَ في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً ، وهذا غير عمره قبل النبوّة ! وأن عيسى عليه‌السلام لم يمت وإنما رفعه الله إليه كما في قوله تعالى : ( وَقَوْلِهِمْ إنّا قَتَلْنَا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وما صَلَبُوه وَلَكِنْ شُبِّه لَهُمْ وإِنّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فيهِ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مَالَهُم بِهِ من عِلْمٍ إلاّ اتباع الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ، بَل رَفَعَهُ اللهُ إليهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكيماً ) (١).

وأيضاً فقد جاء في روايات الصحيحين ( البخاري ومسلم ) أنّه سينزل إلى الأرض ، وكذلك جاء فيهما أن الدجال موجود حي (٢).

وعليه فعندما تتحدث الروايات الصحيحة ويشهد الشهود ، وتتوالى الاعترافات بوجود ( المهدي ) من عترة الرسول الأكرم ، من ولد فاطمة ، نجل الحسن العسكري الذي ولد سنة ( ٢٥٥ ه‍ ) ، فسوف لا يبقى عند ذلك وجه للاستغراب والانكار إلا عناداً واستكباراً.

وقد جاء في تفسير الرازي : « قال بعض الأطباء : العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة ، والآية تدلّ على خلاف قولهم ، والعقل يوافقها ، فإنَّ البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته وإلاّ لما بقى ، ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن ؛ لأن المؤثر فيه إنْ كان واجب الوجود فظاهر الدوام ، وإن كان غيره فله مؤثر ، وينتهي الى الواجب وهو دائم ، فتأثيره

__________________

(١) النساء : ٤ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) فصلنا الحديث عن أحاديث نزول عيسى وأحاديث خروج الدجال في الصحيحين ( البخاري ومسلم ) وذكرنا من اعتبرها عقيدة ثابتة لأهل السنة مع تصريحهم ببقاء الدجال حياً إلى آخر الزمان وان عيسى عليه‌السلام سينزل في آخر الزمان ليساعد الإمام المهدي عليه‌السلام على قتله ، راجع الفصل الثالث ( التذرع بخلو الصحيحين من أحاديث المهدي ).

١٦٩

يجوز أن يكون دائماً. فإذن البقاء ممكن في ذاته ، فإن لم يكن فلعارض ، لكن العارض ممكن العدم ، وإلاّ لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع. فظهر أنَّ كلامهم على خلاف العقل والنقل » (١).

هكذا برهن الرازي على جواز طول عمر الانسان بخلاف المعتاد كما هو الثابت في طول عمر عيسى عليه‌السلام ، والبرهان نفسه يصح الاستدلال به على طول عمر المهدي عليه‌السلام ، ويقرّب هذا الاستدلال اتفاق الصحاح وغيرها على نزول عيسى في آخر الزمان لمساعدة المهدي على قتل الدجال وقد عرفت الجواب عن سؤال : من هو الإمام المهدي ؟ مفصلاً.

وننقل الكلام الى الامكان العملي :

ونتساءل :

هل إنَّ الامكان العملي بالنسبة الى نوع الانسان متاحٌ الآن ، وتساعد عليه التجربة أم لا ؟

والجواب :

إنَّ التجارب المعاصرة في ضوء الامكانات المتاحة والظروف الموجودة لم تنجح لحد الآن في تحقيق مثل هذه الحالة ، أي اطالة عمر الانسان إلى حدٍّ أكثر من ضعفٍ أو ضعفي العمر الطبيعي ، وهذا أمرٌ مشهود لا يحتاج إلى برهان.

وهذا لا يدل على عدم طول عمر الانسان ، لان الامكان العملي ينحصر بمحاولات اطالة العمر الطبيعي للانسان بيد الانسان نفسه ، إلاّ أن الاعمار بيد الله عزّ وجل ، اذن تدخل الانسان في إطالة العمر على خلاف التقدير غير ممكن.

نعم انه سبحانه يوفر الأسباب الكفيلة بادامة حياة المعمرين إلى حين

__________________

(١) التفسير الكبير / الرازي ٢٥ : ٤٢.

١٧٠

أجلهم ، ودور العلم هنا اكتشاف تلك الأسباب لا أكثر إذ ليس بمقدوره إبداع الأسباب لا نحصارها بيده عزوجل بلا خلاف ، وعلى هذا يُفسر الامكان العلمي الآتي الذي ننقل الكلام اليه ، فنتساءَل :

هل إنَّ زيادة عمر إنسان أكثر من الحدّ الطبيعي المعتاد ممكن علمياً أم لا ؟!

والجواب :

أولاً : نعم هي في دائرة الامكان العلمي ، ولدينا شواهد وأرقام كثيرة تؤكد إمكانها علمياً ، منها :

١ ـ إنَّ التجارب العلمية آخذةٌ بالازدياد لإطالة عمر الانسان أكثر من المعتاد ، وهذه التجارب حثيثة وجادة لتعطيل قانون الشيخوخة ، فقد جاء في مجلة المقتطف المصرية ، الجزء الثاني من المجلد ٥٩ ، الصادرة في آب ( اغسطس ) ١٩٢١ م ، الموافق ٢٦ ذي القعدة سنة ١٣٣٩ ه‍ ص ٢٠٦ تحت عنوان ( خلود الانسان على الارض ) ما هذا لفظه :

قال الاستاذ ( ريمند بول ) أحد أساتذة جامعة جونس هبكنس بأمريكا : « إنه يظهر من بعض التجارب العلمية أنَّ أجزاء جسم الانسان يمكن أن تحيا الى أيّ وقتٍ أُريد ، وعليه فمن المحتمل أن تطول حياة الانسان الى مائة سنة ، وقد لا يوجد مانع يمنع من إطالتها الى ألف سنة ».

وذكرت هذه المجلة في العدد الثالث من المجلد ٥٩ الصادر في أيلول من نفس العام ص ٢٣٩ ، « إنه في الإمكان أن يبقى الانسان حيّاً أُلوفاً من السنين إذا لم تعرض عليه عوارض تصرم حبلَ حياته ، وقولهم هذا ليس مجرد ظن ، بل نتيجة عملية مؤيدة بالامتحان ».

ونكتفي بهذا القدر في تأييد ما ذكرناه من الامكان العلمي ، الذي يسعى العلماء جاهدين لتحويله الى إمكان عملي واقعي فعلي.

١٧١

٢ ـ وفي كتاب صدر حديثاً بعنوان حقائق أغرب من الخيال الجزء الأول ص : ٢٤ نشر مؤسسة الايمان ـ بيروت ، ودار الرشيد / دمشق.

جاء فيه : توفي ( بيريرا ) في عام ١٩٥٥ م في وطنه الاَُم مونتريا في سن ١٦٦ عاماً ، وقد شهد على عمره أصدقاؤه ، وسجلاّت مجلس البلدية ، وبيريرا نفسه الذي استطاع أن يتذكر بوضوح كبير معركة كاراجينا ( حدثت في عام ١٨١٥ م ) ! وفي نهاية حياته أُحضر الى نيويورك حيث فحصه جمع من الأطباء المختصين ، ومع أنهم وجدوه محتفظاً بضغط دم رجل شاب ، ونبض شرياني صحيح وقلب جيد ، وعقل شاب ، فقد قرروا أنه رجل عجوز جداً أكثر من ١٥٠ عاماً.

وجاء في ص ٢٣ ، أن توماس بار عاش ١٦٢ عاماً.

على أنّ السجستاني صاحب السنن قد ألّف كتاباً باسم ( المعمّرون ) ذكر فيه الكثير من المعمرين ، وفيهم من تجاوزت أعمارهم خمسمائة سنة.

٣ ـ إنَّ مجرد إجراء التجارب من قبل الاَطباء للتعرف على مرض الشيخوخة ، وأسباب الموت ، والمحاولات الدائبة من قِبَلهم ونجاحها ولو بقدر محدود لإطالة عمر الانسان ، لهو دليل على الإمكان ، وإلاّ لكان تصرفهم عبثاً ، خلاف العقل.

« وفي ضوء ذلك كله لا يبقى مبرر منطقي للاستغراب والانكار بخصوص ( قضية المهدي ) اللهمّ إلا أن يسبق ( المهدي ) العلمَ نفسه ، فيتحول الامكان النظري ( العلمي ) الى امكان عملي في شخصه ، قبل أن يصلَ العلمُ في تطوره الى مستوى القدرة الفعلية. وهذا أيضاً لا يوجد مبررٌ عقليٌّ لاستبعاده وإنكاره ؛ إذ هو نظير من يسبق العلمَ في اكتشاف دواءٍ للسرطان مثلاً. ومثل هذا السِبق في الفكر الاسلامي قد حصل في أكثر من

١٧٢

مفردةٍ وعنوانٍ ، فقد سجّلَ القرآن الكريم نظائر ذلك حين أوردَ وأشارَ الى حقائق علمية تتعلق بالكونِ وبالطبيعةِ وبالانسانِ ، ثم جاءت التجارب العلمية الحديثة لتزيحَ عنها الستار أخيراً. ثم لماذا نذهب بعيداً وأمامنا القرآن الكريم يصرّح ( بالامكان العملي ) فيما يتعلق بعمر نوحٍ عليه‌السلام » (١) ؟

وكذلك صرّحت الآثار النبوية بوجود أشخاص أحياء منذ قرون متطاولةٍ ؛ كالخضرِ ، والنبي عيسى عليه‌السلام ، والدجّال على ما نقله مسلمٌ في صحيحه من حديث الجساسة. فلماذا نؤمن بمثل هذه الوجودات المشخصة ، مع انّهم ليس لهم من دورٍ أو أهميةٍ فيما يتعلق بمستقبل الإسلام إلاّ المسيح الذي سيكون وزيراً ومساعداً للمهدي وقائداً لجيوشه كما في الكثير من روايات الظهور.

ولماذا ينكر البعض حياة المهدي الذي سيكون له ذلك الدور الأعظم ، « يمللأ الأرض قسطاً وعدلاً .. » وينزل عيسى ليصلي خلفه (٢) ؟!!

ثانياً : لو افترضنا قانون الشيخوخة قانوناً صارماً ، وإطالة عمر الانسان أكثر من الحد الطبيعي والمعتاد هو خلاف القوانين الطبيعية التي دلّنا عليها الاستقراء ؛ فالأمرُ بالنسبةِ للمهدي عليه‌السلام يكون حينئذٍ من قبيل المعجزة ، وهي ليست حالة فريدة في التاريخ.

ثم إنَّ الأمر بالنسبة للمسلم الذي يستمد عقيدتَه من القرآن الكريم والسُّنة المشرفة ليس منكراً أو مستغرباً ، إذ هو يجدُ أن القانون الطبيعي الذي هو أكثر صرامةً قد عُطّلَ ، كالذي حَدَثَ بالنسبةِ للنبي إبراهيم عليه‌السلام عندما أُلقي في النار العظيمة فأنجاه الله تعالى بالمعجزة ، كما صرَّح القرآن

__________________

(١) راجع بحث حول المهدي / الشهيد محمد باقر الصدر.

(٢) اعترف بهذا خمسة من شارحي صحيح البخاري كما مرّ مفصلاً في أول الفصل الثالث ، فراجع.

١٧٣

قائلاً : ( قلنا يا نارُ كوني بَرْدَاً وسلاماً على إبراهيم ) (١).

وهذه المعجزة وأمثالها من معاجز الانبياء ، والكرامات التي أختصَّ الله بها أولياءه ، قد أصبحت بمفهومها الديني أقرب إلى الفهم بدرجةٍ أكبر بكثير في ضوء المعطيات العلمية الحديثة والانجازات الكبيرة التي حققها العلماء بوسائلهم المادية. فلقد بدأنا نشهدُ من الاختراعات والاكتشافات التي لو حُدّثنا عنها سابقاً لاَنكرناها غايةَ الاِنكار ثم ها هي بأيدينا الآن نستخدمها ونلهو بها أحياناً ، فمثلاً ( التلفزيون ) ، فلقد كنّا نقرأ في الروايات في أبواب الملاحم ( أنه سيكون في آخر الزمان يَرى ويسمع من في المشرق من هو في المغْرِب .. ). وربما عَدَّ بعضُهم ذلك ضرباً من اللامعقول ، ثم ها نحن نشهده ونشاهده. واستناداً إلى ذلك نقول : إنَّ استبعاد أمرٍ وإنكاره لمجرد عدم وجودِ حالةٍ مماثلة أو مقاربة نشاهدها ، ليس مقبولاً منطقياً وليس مبرِّراً علمياً ، إذا كان الأمر يقع في دائرة الامكان العلمي والمنطقي ، وقامت عليه الشواهد والأدلة.

ونظير تلك الاخبار المنبئة في تراثنا عن بعض الاكتشافات العلمية الباهرة ، الاخبار الاَُخرى المُنبئة باعجاز عن ظهور الإمام المهدي بما ينطبق تمام الانطباق مع معطيات الحضارة المعاصرة.

فقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام انه قال : « إنَّ قائمنا اذا قام مدَّ الله عزوجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد ، يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه في مكانه » (٢).

__________________

(١) سورة الانبياء : ٢١ / ٦٩.

(٢) روضة الكافي ٨ : ٢٠١ / ٣٢٩.

١٧٤

السؤال الثالث : لماذا هذه الغيبة الطويلة ؟

قالوا : لماذا كلّ هذا الحرص على إطالة عمر المهدي عليه‌السلام إلى هذا الحدّ ، فتعطّل القوانين لاَجله ، أو نضطر إلى المعجزة ؟! ولماذا لا نقبل الافتراض الآخر الذي يقول : إنَّ قيادة البشرية في اليوم الموعود يمكن أن تترك لشخصٍ آخر يُولد في ذلك الزمان ، ويعيش الظروف الموضوعية ، لينهض بمهمّته التغييرية ؟!

والجواب عنه ـ بعد الإحاطة بالمطالب المذكورة في البحث ـ واضح جداً ، فإنّ الله عزّ وجل قد أبقى أشخاصاً في هذا العالم أو غيره أحياءً أطول بكثير مما انقضى من حياة المهدي عليه‌السلام ، وذلك لحِكَمٍ وأسرار لانهتدي إليها ، أو علمنا ببعضها ، وعلى كلِّ حالٍ نؤمن بها إيماناً قطعيّاً ، فليكن الأمر كذلك بالنسبة الى المهدي ؛ لأنا ـ كما أشرنا من قبل ـ بصفتنا مسلمين نؤمن بأنّ الله تعالى لايفعل عبثاً ، وأيضاً : نؤمن بمغيّبات كثيرةٍ عنّا قامت عليها البراهين المتينة من العقل والنقل ، فلا يضرنا اذا لم نعلم بالحكمة في معتَقدٍ من معتقداتنا ، وكذلك الحال في الاحكام الشرعيّة والاعمال العباديّة ، فقد لا نهتدي إلى سرّ حكمٍ من الاحكام وفلسفة قانونٍ من القوانين الالهيّة ، لكن التعبد بالنصر أمر لابد منه خصوص بعد ثبوته بنحو اليقين.

وعليه نقول : إن كانت الأدلّة التي أقمناها في الفصول السابقة على ضرورة الايمان بالمهدي ، مع تلك المواصفات الخاصة ، وأنّه الحجة بن الحسن العسكري ، وأنّه ولد وكان إماماً بعد أبيه ـ وفي الخامسة من عمره الشريف ـ وأنّه حي موجود على طول عمره المبارك .. فإنّ النتيجة الحتميّة هي القول بهذه الغيبة الطويلة ، سواء علمنا ـ مع ذلك ـ بسرٍّ من أسرارها أو لم نعلم .. وإنْ كان بالإمكان أن نتصوّر لها بعض الاسرار بقدر

١٧٥

أفهامنا القاصرة وعقولنا المحدودة. فأمّا من لايطيق من المسلمين الالتزام بالمعجزة في طول عمر الإمام والفوائد المترتبة على وجوده ـ مع كونه غائباً ـ وجب عليه تصحيح اعتقاده من الاصل وفي ضوء الأدلة من العقل والنقل.

وعلى هذا الاساس أيضاً لا يمكننا قبول الافتراض الآخر ، لأن المفروض أن الأدلة قادتنا إلى استحالة ( خلو الأرض من حجّةٍ لله ولو آناً واحداً ) ، وبعد الايمان بذلك ـ سواء علمنا بشيء من الحكم في ذلك ، ممّا جاء في الكتب العلمية المفصّلة في الباب أو لم نعلم ـ فلا مناص من القول بوجود الإمام منذ ولادته ، وأنّه لا مجال لفرض الافتراض الآخر أبداً.

السؤال الرابع : كيف الاستفادة من الإمام الغائب ؟

وأخيراً هناك سؤال ربما يدور في الاَذهان ، وهو : إذا كان الإمام المهدي كذلك ، فما هي الفائدة بالنسبة للاُمة ، وهو غائبٌ مستور ، متوارٍ عن الأنظار ؟!

والجواب :

إنَّ الذي يحقق ويدقق في هذه المسألة ، يجب أن يضع في حسابه أولاً الروايات والأخبار الصحيحة التي تتحدث عن ظهوره الذي سيكون بصورةٍ مفاجئة وسريعة ، أو على حدِّ لسان بعض الروايات « بغتة ». أي دون تحديد زمن مخصوص أو وقتٍ معيّن ، وهذا يترتّب عليه ترقب كل جيلٍ من أجيال المسلمين لظهوره المبارك. إنَّ المتأمل لهذه المسألة سوف لا يصعب عليه أن يكتشف فوائد ومزايا جمةً تتعلق بالاُمّة المرحومة ، منها :

١ ـ إنَّ ذلك يدعو كلّ مؤمن إلى أن يكون على حالةٍ من الاستقامة على الشريعة ، والتقيّد بأوامرها ونواهيها ، والابتعاد عن ظلم الآخرين ، أو غصب حقوقهم ، وذلك لأن ظهور الإمام المهدي ـ الذي سيكون مفاجئاً ـ

١٧٦

يعني قيام دولته وهي التي يُنتصف فيها للمظلوم من الظالم ، ويُبسَط فيها العدل ويُمحى الظلم من صفحة الوجود. ولا يقولنَّ أحدٌ إنَّ الشريعة ودستورها القرآن منعت الظلم والتظالم وهذا يكفي.

فإنَّ جوابه : إنَّ الشعور والاعتقاد بوجود السلطة وبتمكنها وسلطنتها يعدُّ رادعاً قوياً ، وقد جاء في الأثر الصحيح « إنَّ اللهَ ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .. ».

٢ ـ إنَّ ذلك يدعو كلّ مؤمن إلى أن يكون في حالةِ طوارئ مستمرة من حيث التهيؤ للانضمام إلى جيش الإمام المهدي والاستعداد العالي للتضحية في سبيل فرض هيمنة الإمام الكاملة وبسط سلطته على الارض لإقامة شرع الله تعالى. وهذا الشعور يخلق عند المؤمنين حالةً من التآزر والتعاون ورصّ الصفوف والانسجام لأنهم سيكونون جُنداً للإمام عليه‌السلام.

٣ ـ إنَّ هذه الغيبة تحفّز المؤمن بها للنهوض بمسؤوليته ، وخاصة في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتكون الأمّة بذلك متحصّنة متحفّزة. إذ لا يمكن تقيّد أنصار الإمام المهدي عليه‌السلام بالانتظار فحسب ، دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استعداداً لبناء دولة الإسلام الكبرى وتهيئة قواعدها حتى ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام.

٤ ـ إنَّ الاُمّة التي تعيش الاعتقاد بالمهدي الحي الموجود تبقى تعيش حالة الشعور بالعزة والكرامة ، فلا تطأطئ رأسها لاَعداء الله تعالى ، ولا تذلُّ لجبروتهم وطغيانهم ، إذ هي تترقب وتتطلع لظهوره المظفّر في كلِّ ساعة ، ولذلك فهي تأنف من الذلِّ والهوان ، وتستصغر قوى الاستكبار ، وتستحقر كلّ مايملكون من عدةٍ وعدد.

إنَّ مثل هذا الشعور سيخلق دافعاً قويّاً للمقاومة والصمود والتضحية ، وهذا هو الذي يخوّف أعداء الله وأعداء الإسلام ، بل هذا هو سرّ خوفهم ورعبهم الدائم ، ولذلك حاولوا على مرّ التاريخ أن يُضعفوا العقيدة

١٧٧

بالمهدي ، وأن يُسخّروا الأقلام المأجورة للتشكيك بها ، كما كان الشأن دائماً في خلق وإيجاد الفرق والتيارات الضالّة والهدّامة لاحتواء المسلمين ، وصرفهم عن التمسّك بعقائدهم الصحيحة ، والترويج للاعتقادات الفاسدة مثلما حصل في نحلة البابية والبهائية والقاديانية والوهابية.

هذا ، ويمكن أن نضيف إلى هذه الثمرات والفوائد المهمة فوائد اُخرى يكتسبها المُعتقِد بظهور المهدي عليه‌السلام في آخرته ، ويأتي في مقدمتها تصحيح اعتقاده بعدل الله تعالى ورأفته بهذه الاُمّة التي لم يتركها الله سدىً ينتهبها اليأس ويفتك بها القنوط لما تشاهده من انحراف عن الدين ، دون أن يمدّ لها حبل الرجاء بظهور الدين على كلِّ الأرض بقيادة المهدي عليه‌السلام.

ومنها : تحصيل الثواب والأجر على الانتظار ، فقد ورد في الأثر الصحيح عن الصادق عليه‌السلام : « المنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله ».

ومنها : الالتزام بقوله تعالى حكايةً عن وصية إبراهيم عليه‌السلام لبنيه : ( يا بَنِيَّ إنَّ الله اصْطَفى لَكُم الدّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاّ وأنتُم مُسْلِمُون ) (١) ، وقد مرّ بأن من مات ولم يعرف إمام زمانه ـ وفي عصرنا هو المهدي عليه‌السلام ـ مات ميتةً جاهلية. واستناداً إلى كلِّ ما ذكرناه يظهر معنى : إنَّ الأرض لا تخلو من حجةٍ لله تعالى.

* * *

واخيراً ، فإنّ مما تسعى إليه بُؤَر النفاق وبشكل دؤوب هو بحثها الحثيث بين صفوف المسلمين ، لعلها تجد فيهم من تتلقفه وتحوطه برعايتها ، وتمنحه الالقاب العلمية الكاذبة التي يَشْرَه إليها ؛ لكي تتخذه مطيّة لاغراضها وبوقاً لدعاياتها عبر المجلات والمؤتمرات التي تندد

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١٣٢.

١٧٨

بالإسلام وأُصوله الشامخة ، ولن تجد بغيتها إلاّ فيمن انحرف عن المحجة البيضاء ، ورمى بنفسه كالطفل في احضان مربية حمقاء تسخّره لكل لعبة قذرة ، كما نلحظه اليوم في تقريب سلمان رشدي ومن على شاكلته ، على أمل أن تجد سمومهم طريقها إلى كل جسد مسلم ضعيف.

ولهذا كان من الواجب الإسلامي التنبيه على هذه الوسيلة الدنيئة ، وتوعية المسلمين بأهدافها وغاياتها واخطارها ، وتحصينهم بالاِيمان الصحيح الذي أمر به هرم الإسلام المقدس : ( القرآن الكريم ، والسنّة المطهرة ، ومدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ).

وتلبية لنداء الواجب الإسلامي ، كان الحديث ـ في هذا الكتاب ـ عن الإمام المهدي الذي هو حديث الإسلام بنقائه وصفائه ، وقد تبين بالتفصيل أنّ الاعتقاد بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان إنّما هو من مستلزمات الوثوق بصدق رسالة الإسلام الخالدة ، وأنّ التكذيب به هو تكذيب برسالة الإسلام التي أخبرت عن ظهوره !

ونحسب ان في فصول هذا الكتاب ـ الذي اعتنى بسلاسة الاسلوب وقوة الدليل ـ ما يميزه عن غيره لما فيه من تلبية وافية لحاجة المثقف الإسلامي بأي درجة كان لمعرفة حقيقة المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي.

والحمد لله على هدايته ، والصلاة والسلام على أفضل

أنبيائه ورسله محمد ، وعلى آله الطاهرين ،

وصحبه المخلصين ومن سار على

نهجهم إلى يوم الدين

المحرم الحرام

١٤١٧ ه‍

١٧٩
١٨٠