تأريخ بيهق

فريد خراسان علي بن زيد البيهقي

تأريخ بيهق

المؤلف:

فريد خراسان علي بن زيد البيهقي


المحقق: يوسف الهادي
المترجم: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار إقرأ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢

أيام الفترة هذه» ، و «ظهرت الفترة واستولى العيارون على القصبة» (ص ٥٩ ، ٢٣٠ ، ٢٧٤). وقد استخدم هذه الكلمة في «لباب الأنساب» عندما قال : «في فترة الغز سنة ٥٤٩ ه‍» (٢ / ٦٠٥) ، واستخدم لنفس هذه الواقعة مرة كلمة الفتنة عندما قال : «توفي بنيسابور قبل الفتنة الأولى في شهور سنة ٥٤٩ ه‍» («تاريخ بيهق» ، ٢٣٠) ، لكن الغالب عليه استخدامه «الفترة». وهي شائعة لدى المؤرخين الناطقين بالفارسيّة ، فهذا الخليفة النّيسابوريّ يدعو لمدينته فيقول : «نيسابور ، صينت من الفتور» («ترجمة تاريخ نيسابور» ، ٦٢) ، بل إن الآقسرائي يجمع بينها وبين الفتنة في جملة واحدة فيقول :

«لجأ عامة الخلق إلى المغارات والحصون ، خوفا من الفتور والفتون» («مسامرة الأخبار» ، ١٨٥). أما في العربيّة ، ففي «تتمة يتيمة الدهر» : «نظر فيها (في الوزارة) أيام الفترة بمؤخر عينه» (ص ٢٤٩).

وفي «التحبير» (٢ / ٤٢٢) و «منتخب معجم شيوخ السمعاني» (٢٩٤ ب) في ترجمة عائشة بنت أحمد الصّفّار : «فقدت أيام الفترة وإغارة الغزّ منتصف شوال سنة ٥٤٩ ه‍».

المثال

المنشور أو كتاب التوصية من الخليفة أو السلطان إلى جهة رسمية (وزير أو موظف حكومي) للتعريف بشخص ما وتوفير ما يحتاجه وتيسير أمره أو لتعيينه في منصب. قال في «تاريخ بيهق» (ص ٥٩) : «كتب له مثال من ديوان السلطان سنجر فوجّه إلى وزير دار الخلافة» (انظر أيضا : ص ١٢٣ ، ١٤٠). وقال في «لباب الأنساب» متحدثا عن نقيب أستراباد : «والتمست له من الحضرة مثالا لنقابة سادات أستراباد ، فورد عليّ المثال في أواخر جمادى الآخرة سنة ٥٤٦ ه‍ ، وبعثت المثال

٨١

إليه» (٢ / ٥٨٤) ، ونقرأ في «اليمني» (٨٠ أ ـ ٨٠ ب) : «كان للسلطان سنجر رحمه‌الله شريك في التجارة معروف يقال له موفق الدين ، وكان معه أمثلة السلطان لئلا يتعرض له في طرف من الأطراف عشّار ولا بيّاع». وفي «تاريخ دولة آل سلجوق» للعماد الأصفهانيّ : «مضمون المثال السّلطانيّ» و «كان يوقّع الأمثلة السّلطانيّة» (ص ١٢٩ ، ١٤٨). وفي «أخبار الدولة السّلجوقيّة» (ص ٢٠) : «يقول : مولانا! وقّع هذا المثال».

المصافّ

المعركة. قال في «تاريخ بيهق» مثلا : «قتل الاثنان في مصاف الخان الصيني مع السلطان سنجر» و «عندما ذهب السلطان سنجر لمصاف قراجه» (ص ٢٢٦ ، ٢٧٠). والكلمة عربية وهي من صفّ القوم إذا رتّبهم صفوفا استعدادا للحرب وغيرها ، وصافّ القوم مصافّة في الحرب : وقفوا مصطفّين. واستخدمها بكثرة في «لباب الأنساب» : «رماه بسهم في المصافّ» و «قتل في المصافّ بكربلاء» و «قتله أصحاب القلاع في المصافّ» (١ / ٣٢٧ ، ٣٩٧ ، ٤٢٤) ، وفي «معارج نهج البلاغة» : «مصافّ بين التّرك والعرب» (ص ٢٢٠ ، ط دانش بزوه).

وشاع استخدامها في كتابات مؤرخي تلك الحقبة وما قبلها وما تلاها من عرب وفرس (انظر مثلا : «زين الأخبار» ، ٤٣٧ ؛ «طبقات ناصري» ، ١ / ٩٦ ، ٢٤١ ... ؛ «تاريخ غزنويان ...» ، ٤٣٧ ؛ «تاريخ دولة آل سلجوق» للعماد ، ٨٣ ، ٨٤ ، ١٢٥ ؛ «أخبار الدولة السّلجوقيّة» ، ٨٢ ، ١٤٨ ، واستخدم هنا فعل الكلمة : «ثمّ صافّ أخاه الملك» ؛ «سير أعلام النبلاء» ، ٢١ / ٣٢٢ ؛ «الكامل في التاريخ» ، ٣٦٧ ؛ «كنز الدرر» ، ٩ / ٧٢ ، ٨١ ؛ «عجائب الآثار» ، ١ / ١٩٦ ، ٥٧٧).

٨٢

() ما وضع بينهما مأخوذ من المخطوطات الأخرى ل «تاريخ بيهق» غير مخطوطة المتحفة البريطانية التي اتخذها أصلا أحمد بهمنيار محقق الطبعة الفارسيّة واعتمدناها بدورنا ، مثلا : وجيه (وحيد) الفضلاء ، أو : النبي عليه‌السلام (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، أو : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، أو : بلاد سقسن (سقسين).

[] ما وضع بينهما أضيف لإكمال معنى أو سياق.

* ما وضعت أمامه هذه النجمة فهو الشعر الفارسيّ المترجم.

الأصول

مخطوطات الكتاب المعتمدة في التحقيق.

الأرقام الإنجليزية المطبوعة ما بين عضادتين هكذا [] في متن الكتاب هي أرقام صفحات الطبعة التي حققها الدكتور أحمد بهمنيار. وقد تمت الإحالة إلى أرقام صفحاتها عند الاقتباس من «تاريخ بيهق» في المقدمة وهوامش الكتاب.

٨٣
٨٤

٨٥
٨٦

القسم الأول

تأريخ بيهق

مقدمة المؤلف

٨٧
٨٨

بسم الله الرحمن الرحيم

[١] الحمد لله الذي دلّت الدلائل الواضحة ، والبراهين الراجحة ، حقا وصدقا على عزته ووحدانيته ، وفتح عارفوه بمفاتيح العرفان أبواب الألباب ، ولم يحرم الشائم لبوارق لطائفه من ظلال نيل الآمال ، والتحليق بجناح هزّة الإيمان وعزته في آفاق حسن الاتفاق ، وسلك العارفون به طرائق الجد والاجتهاد طلبا لغايات رضوانه.

ومن تعرّض لنفحات كرمه ، يسمعه هاتف ألطافه في كل ساعة ، بل في كل لحظة ، نداء البشارات ، ويقر عين سره المكنون وأبصار بصيرته ببرود (١) الهداية وكحل التوفيق. الذي لا تبلغ مقاود اللسان ومقالد البيان غاية بريق درر الشكر من أصداف ألطافه ، وتعجز الأذواق عن اجتناء بواكير تفاصيل حكمته (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)(٢).

والصلوات والتحيات الوافرة لحضرة سيد الأولين والآخرين محمد المصطفى ، الذي زيّن ساعد السعادة الكبرى بأساور مفاخر متابعة شريعته ، وعجزت الأقلام عن التقرير ، والأوهام عن التوهم والتصوير ، لغايات فضائله ، وهي لن تبلغ غايتها [٢] :

وما حملت من ناقة فوق ظهرها

أبرّ وأوفى ذمة من محمد (٣)

تبسّم به وجه الزمان ، وقرّت عين الشريعة بحلل رسالته ، وفتحت أبواب أرباب

__________________

(١) البرود : كحل فيه أشياء باردة (النهاية في غريب الأثر ، ١ / ١٥).

(٢) سورة إبراهيم ، الآية ٣٤.

(٣) من قصيدة لأنس بن زنيم الديلي كما في السيرة النبوية لابن هشام (٤ / ٨٧٩). ونسبت في نفس المصدر (١ / ١٠١٨) إلى مالك بن نمط ، وفي أسد الغابة (١ / ٨٩) أنها لسارية بن زنيم وفي المصدر نفسه (٤ / ٢٩٤) نسبت لمالك بن نمط ، وفي السيرة النبوية لابن كثير (٣ / ٨٤٩) لمالك بن نمط ، وفي بعضها : (فوق كورها) و (فوق رحلها) ، وكذلك في منح المدح (ص ٢٩٦) إلا أن عجزه : أشد على أعدائه من محمد.

٨٩

الألباب بمفاتيح الأمن والأمان ، فالحق زاه والباطل حيران. والتحيات التي آياتها في سور العقائد الطاهرة مذكورة ، ورقومها في جرائد البقاء مسطورة :

من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري (١)

وعلى آله وأولاده الطاهرين المنتجبين الذين قدروا مواهب الخالق جلّت عظمته ، وسعدت قلوبهم بمتابعة سيّد ولد آدم :

تحيات كأنفاس الغوالي

تمازج عرفها ريح الشمال

وبعد ، فيقول أبو الحسن علي بن الإمام شمس الإسلام أبي القاسم زيد بن شيخ الإسلام جمال القضاة والخطباء أبي سليمان الأمير محمد بن الإمام المفتي فخر القضاة أبي علي الحسين بن القاضي الإمام إمام الآفاق أبي سليمان فندق ، بن الإمام أيوب بن الإمام الحسن بن عبد الرحمن بن القاضي أحمد بن عبيد الله بن عمر بن الحسن بن عثمان بن أيوب بن خزيمة بن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين صاحب رسول الله صلى الله عليه ، بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن عثمان ابن عامر بن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وهو آدم الثاني عليهما‌السلام :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع (٢)

[٣] كان أهل العلم قبل هذا مستظهرين بوسائل العلم وذرائعه ، وكانوا يؤدون

__________________

(١) الشعر للعرندس الكلابيّ ويقال هو عبيد بن العرندس (شرح حماسة أبي تمام ، ٢ / ٩٠٣).

(٢) من قصيدة شهيرة للفرزدق في هجاء جرير.

٩٠

شكر لذة طلب العلم على قدر الاستطاعة والإمكان ، وينشدون بإخلاص وابتهال في الأوقات المباركة ثبات أقدامهم على جادة السنة والشريعة وبعون عناية سلاطين ذلك الزمان بلغوا أصول السعادة ، محترزين من المطامع الدنية ، والمطاعم الوبية :

وكان الصديق يزور الصديق

لكسب المعالي ونشر العلوم

فصار الصديق يزور الصديق

لشكوى الزمان وبثّ الهموم (١)

أما في هذه الأزمان غير المؤاتية والعصر الغدار ، والزمن الملآن بالمحن والفتن ، حيث الآمال والأماني على شفا الاضمحلال ، وجدة العلم لدى الناس منسوخة ، وعارفها كالعنقاء والكبريت الأحمر (٢) ، والكل يشكو جور الزمان :

زماننا ذا زمان سوء

لا خير فيه ولا صلاحا

فكلّنا منه في عناء

طوبى لمن مات فاستراحا (٣)

__________________

(١) في يتيمة الدهر (٤ / ٣٩٧) ورد لأبي سعد محمد بن أحمد الهرويّ :

وكان الصديق يزور الصديق

لشرب المدام وعزف القيان

فصار الصديق يزور الصديق

لبث الهموم وشكوى الزمان

(٢) العنقاء والكبريت الأحمر ، يضربان مثلا لكل شيء نادر الوجود أو معدومه ، أما العنقاء فهي طائر أسطوري وهو الطائر المسمى لدى الإيرانيين : سيمرغ ، ويقال في التراث العربيّ ، عنقاء مغرب ، قال المروزيّ في طبائع الحيوان (الورقة ٩ ب): «فأما الجود فهو في زماننا كالعنقاء المغرب أو كآوى أو كحباحب أوقيان أو وردان ، فإنها تسمع أخبارها ولا ترى آثارها». وأما الكبريت الأحمر ، فقد نقل البيروني عن محمد بن زكريا الرازي قوله : «الكبريت الأحمر متداول على الألسنة إلا أنه لا حقيقة له وهو غير موجود في عالم الوجود» ، لكنه نقل رأيا آخر يقول : «إن ما يقال له الكبريت الأحمر هو معدن كالذهب والفضة والنحاس وهو مادة غير سائلة ، ويوجد في ما وراء بلاد التبت في واد يسمونه وادي النمل» (الصيدنة ، ٥١٩). وقال في الجماهر (ص ١٨٥) «الذي يعتقده الخاصّة في الكبريت الأحمر أنه الياقوت الأحمر ... فأما عند العامة فإن الكبريت الأحمر هو الإكسير الذي يؤمل منه حصول شيء طبيعي حتى تستحيل الفضة به ذهبا إبريزا أحمر».

(٣) البيتان كما في معجم الأدباء (٤ / ١٦٦٥) لعلي بن أحمد الفنجكردي ومعهما بيت ثالث.

٩١

عندها دعاني داع على حين غرة لإحياء العلوم على قدر المستطاع ، والتجديد في كل فن منوط بمقدار السعي «وجهد المقلّ غير قليل» (١).

وقد عزّت علوم في بلاد خراسان هذه الأيام ، واندرست آثارها ، منها : علم الحديث النبوي ، حتى إنه لو كتب أحدهم عشرة أسانيد : خمسة منها صحاح ، وخمسة خطأ ، فقلّما يوجد الشيخ الذي يعرف الصحيح والسقيم من تلك الأسانيد ، أو المحدث العارف لأستاذه الذي يروي عنه ، وما هي مفرداته ، وكم هو عدد الطلاب والمستفيدين الذين نقلوا عنه ، ومن كان منهم العدل أو المجروح. وإنها لمصيبة عظمى وبلاء كبير أن لا يكون في أمة محمد رسول الله فيما يزيد على مئة فرسخ عالمان اثنان ناقدان لأسانيد وأحاديث المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم [٤] :

مضى العلماء وانقرضوا

وها أنا للردى غرض (٢)

وأما العلم الآخر ، فهو علم الأنساب ، وهو علم شريف ، إذ لكل أمة علم خاص بها : فللروم علم الطب ، ولليونانيين علوم الحكمة وأصول الطب وميزان المنطق التي ارتوت مراعي المساعي ومسارح مناجح العالمين بقطرها ، وانجلت بمجاهدات ومعالجات الأطباء ، غمرات الأسقام ، وعبرات الآلام ، ووصلت القلوب بعلم ميزان المنطق من الحيرة والأقاويل إلى مرتبة الاطمئنان ، وللهند الحساب والتنجيم ، وللفرس علوم آداب النفس والمعرفة ، وهو علم الأخلاق ، وللترك علم الفروسية ، وآداب السلاح ، ولأهل الصين الصنائع والحرف العجيبة. قال تعالى (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٣) ، وكل ذات ذيل تختال.

__________________

(١) في المستدرك على الصحيحين (١ / ٥٧٤) والسنن الكبرى للبيهقي (٤ / ١٨٠): «سئل رسول الله (ص) : أيّ الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقلّ ، وابدأ بمن تعول».

(٢) نسبه الثّعالبيّ في يتيمة الدهر (٤ / ١٥٦) لأبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الدينوري.

(٣) سورة الروم ، الآية ٣٢.

٩٢

وللعرب الذين شرفوا على أصناف الخلائق بسبب صاحب شريعتنا محمد المصطفى صلوات الله عليه ، علوم النسب وعلوم الأمثال ، ومعلوم أن العلم بهذين العلمين عزيز الوجود في يومنا هذا.

وباستثناء العرب ، لا توجد أمة من الروم والتّرك والهند تعرف أسماء أجدادها ، ولهذا السبب ظلت أنساب العرب وأولادهم مصونة محروسة من الشوائب ، وجمعوا بين شرف الآداب وكرم الأنساب.

وما تستوي أحساب قوم توورثت

قديما وأحساب نبتن مع البقل (١)

والعلم الآخر هو علم التاريخ ، حيث انقرض عهد المؤرخين ، واستقرت همم بقايا الأمم ، في مهاوي القصور والنقصان ، والكل يعرف لذة الجمع والمنع ، وهي لذة ضئيلة إذا ما قيست إلى اللذة الكبرى ، وهي كنسبة حليب الأم إلى الأطعمة اللذيذة لدى الطفل الذي ما إن يمر عليه حولان كاملان ، ويدرك لذات الأطعمة والأشربة حتى لا يعير انتباها لحليب المرضع :

ومن قصد البحر استقلّ السواقيا (٢)

* * *

وما متعة الأعمى من شعاع شمس الصيف؟

* * *

[٥]إذا عدم المرء الكمال فما له

حياة بها يحيا ومال به يبقى

بل إن نسيم الشمال ، ودبيب شمول الأوزان والألحان ، في النفوس والأبدان ، ليس له ذلك التأثير العجيب الذي لسوانح الفكر في مسارح العلوم والحكم ، كما

__________________

(١) في الإصابة (٥ / ١٢١) الشعر لعمرو بن الهذيل العبدي الربعي.

(٢) من بيت سائر للمتنبي في كافور ، صدره : قواصد كافور توارك غيره.

٩٣

قيل : لذة العرفان تنسي لذة الأبدان ، وقيل : أين أبناء الملوك عن لذة العلم؟

تعلم فإن المرء يولد جاهلا

وليس أخو علم كمن هو جاهل (١)

لأن العلم أنس النواظر والأسماع ، وصيقل الخواطر والطباع ، وغصون شجرة الإنسانية تعطي بتحصيل العلم ثمرات السعادة ، والعلم في الدارين هو المرعى المونق والغدير المغدق. ومن كمال العلم ، أن العلماء في المرتبة الثانية بعد الملائكة ، قال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ)(٢) ، وكانت شهادتهم بعد شهادة الحق تعالى ، قال تعالى (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٣).

العلم هو مفتاح كنز الوجود

وهو عصارة المقصود

ولإن العلم نافع في الدارين

ترى من سيستغني عنه؟

حين يسهر العالم بالبحث

يغط الجهلة في نوم عميق

من الجهل تأتي المحن والمظالم

وليس أحد سعيدا بالجهل

إن سير العلم في الآفاق

أظهر كنز الفضل ومكارم الأخلاق

والمصنّف ، بحكم صنوف صروف الدهر ، والضعف والشيخوخة ، والزمان غير المؤاتي ـ وهو ما لا علاج له ـ وقلة المال وكثرة العيال ، واستغناء الخلق عن الإفادة والاستفادة :

بغير بضاعة نالوا مناهم

فلم يسعون في طلب البضاعة؟

الذي وقفت موانع وحواجز في طريقه :

__________________

(١) البيت في البيان والتبيين بلا عزو (١ / ٢١٦) وكذلك في المستطرف (١ / ١٠٧) وروضة العقلاء (ص ٣٤) وفي المصادر الثلاثة «تعلم فليس المرء يولد عالما».

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٨.

(٣) سورة الرعد ، الآية ٤٣.

٩٤

[٦] تدافعني الأيام عمّا أرومه

كما دفع الدّين الغريم المماطل (١)

* * *

وأخو الدراية والنباهة متعب

والعيش عيش الجاهل المجهول (٢)

يرى بأن شكره للمواهب الإلهية منوط بما يستحصل من العلوم بنشرها وتدوينها وتصنيفها ، وأن لا يدع للعتاب والملامة إليه سبيلا :

كل امرئ أسدى إليك صنيعة

من علمه فكأنّها من ماله (٣)

ومن اللائق بعد كل تلك الأيام والأعوام المتتالية ، مفرقة الأحباب ، ما حقة صفات المعروف والكرم والعلوم والآداب ، أن تبسّم فم المرام ، وراجت بضاعة العلم بعد كسادها ، وظهر الطمع في فتح باب العلوم بمفاتيح الهمّة القعساء :

كل نهر فيه ماء قد جرى

فإليه الماء يوما سيعود

وهذا المصنّف هو دال على الخير والعلم ، لأنه بتحمل السابقين للصعاب ، بلغ اللاحقون المرتبة العليا :

فلولا الشمس ما لمع الثّريّا

ولو لا الأصل ما زكت الفروع

ولهذا السبب ثبتت أفضال المتقدم على المتأخر :

فلو قبل مبكاها بكيت صبابة

إذا لشفيت النفس قبل التندّم

ولكن بكت قبلي فهيّج لي البكا

بكاها ، فقلت : الفضل للمتقدم (٤)

__________________

(١) لأبي فراس الحمداني كا في يتيمة الدهر (١ / ٦٥).

(٢) لم نجد قائله.

(٣) في الأصول : فكأنه. والبيت لأبي تمام وهو في ديوانه (٢ / ٢٩) :

وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة

من جاهه .............

(٥) في المزهر (١ /. ٦٥) أنهما لتميم بن مقبل.

٩٥

وعلم بلا إفادة كشجرة بلا ثمرة :

إذا الغصن لم يثمر ولو كان شعبة

من المثمرات ، اعتدّه الناس في الحطب

* * *

ما ذا تصنع بسفينة بلا نوح

وما ذا يجديك جسد بلا روح

إنّ نفع العلم كضوء المصباح

وثمرة العلم كثمرة البستان

والعطاء بلا ذلّة هو من العلماء

والعدل الخالص من الحكماء

[٧] ولو كان الجهلة يملكون مال قارون

فهم بلا شك كاللفيف المقرون

لا جعل الله تعالى ـ بمنّه ولطفه ـ القول والكتابة من أسباب الندامة في يوم القيامة :

وفي التاريخ إن أبصرت رشدا

فوائد من علوم مستعارة

* * *

علم التاريخ هو كنز الأخبار

وهو كنسيم الشمال طيّار

كل من يركب في مركبه

يصبح كل علم من علومه ألفا

فلو كان في هذا الزمان شكلا

فهو في السماء معنى

رأى الدنيا والعصور

فغدا حمالا ولم يحمل حملا

* * *

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

وسيأتي تفصيل ذلك مرتّبا إن شاء الله تعالى.

التواريخ خزائن أسرار الأمور ، وفيها العبر والمواعظ والنصائح ؛ ونقدها منقوش بسكة التقدير الإلهي. تصون الناس من حدة مضارب النوائب ؛ شهودها عدول ، مصونون من الجروح ، ودلائلها وأماراتها أحلى من الشهد ، وأشد ضياء من الشهاب ؛ مدار أفلاكها على قطب الرواية ، قال رسول الله صلى الله عليه : العلم علمان : «علم الأديان ، وعلم الأبدان» ، وقال قوم إن هذا أثر ، ورووه عن المصطفى

٩٦

عليه‌السلام ، ونقلوه عن الإمام المطّلبيّ الشافعي (١).

وعلم التواريخ مركب من علم الأديان وعلم الأبدان ؛ أما المتعلق بالدين ، فهو معرفة بدء خلق آدم عليه‌السلام ، وأخبار الماضين من الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، والخلفاء والملوك ، وما في كتب الأنبياء عليهم‌السلام ، وأحوال الأئمة والمقدمين في الأديان ومقام كل واحد منهم ، وتفاصيل الملل والنحل والمذاهب وواضعيها ، وما وقع من الأخبار في عهد الرسول عليه‌السلام ، من المخالفين والموافقين ؛ [٨] ومعجزات الأنبياء عليهم‌السلام ، وأمثال ذلك.

وأما المتعلق بالأبدان ، فلأنه لم تسنح سانحة من خير أو شر إلا كان قد وقع مثلها أو قريب منها في العهد الماضي ، وكما أن الأطباء ينتفعون من الأمراض التي كانت قد وقعت للماضين ، ووضع لها كبار الأطباء الدواء ، فيقتدون بهم ويتخذونهم أئمة :

يشقى أناس ويشقى آخرون بهم

ويسعد الله أقواما بأقوام (٢)

فكذا حال الوقائع الحادثة ، حيث تعلم أسباب التوفيق فيما مضى ، ويحترز مما احترز منه ، وتتوقّى النازلة بنفس الطريقة التي جرى التوقي منها في الماضي ، وتدفع بما دفعت به ، فمن النادر أن تقع واقعة ولم يكن قد وقع مثلها أو قريب منها :

وأعلم أني لم تصبني مصيبة

من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي (٣)

__________________

(١) في حلية الأولياء (٩ / ١٤٢) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٤١) نسب للإمام الشافعي ، وكذلك في أبجد العلوم (٢ / ٣٥٣) وأما نسبته إلى النبي (ص) فقد ورد في تذكرة الموضوعات (ص ١٨) أنه موضوع وأشير إلى كونه موضوعا في كشف الخفاء (٢ / ٦٨).

(٢) في تاريخ دمشق (٤٠ / ١٩٨) أنه لعروة بن أذينة. وفي روضة العقلاء (ص ٢٢٧) : وأنشدني الأبرش.

(٣) من أبيات لمعن بن أوس كما في تاريخ مدينة دمشق (٥٩ / ٤٢٩) ، وكذلك في البداية والنهاية (٩ / ١٢١).

٩٧

كفى زاجرا للمرء أيّام دهره

تروح له بالواعظات وتغتدي (١)

فائدة أخرى : إن وسائل المعرفة لدى الإنسان هي : العقل والحس والمشاهدة ، والمسموعات هي من أبواب المحسوسات ، ولا يمكن معرفة أحوال العالم عن طريق العقل ؛ كما لا يمكن لإنسان ما أن يبقى حيا مدى الدهر ليطلع على أحوال وأخبار العالمين.

إذن فالطريق لمعرفة أحوال وأخبار البشر ، والطريق لمعرفة الأقوال والأخبار والآثار هو طريق التأمل في التواريخ ، وفوائده مستنبطة بالاستماع.

فائدة أخرى : علم التواريخ علم لذيذ ومستساغ تغلب فيه الهشاشة والبشاشة على الملل والسأم ؛ ولا تعجز خطوات خطراته عن نيل المقصود [٩] ، ولا يقصر البنان واللسان عن تحصيله وتفصيله ، ولا ينقص من قدره الانقطاع عن مشاهدة المحسوسات من وقائعه ، ويعبق نسيم عرفه من بساتين أنس الصدور وحظائر قدس القلوب ، والإنسان مجبول على حب الإحاطة بالعلم وأحوال العالم الكائنة والموجودات ، وحال حاسة السمع عند استماعها الأخبار والحكايات ، كحال العين في نظرها للوجوه الجميلة ؛ فكما أن كمال العين هو بالنظر إلى الوجوه الجميلة ، فإن كمال السمع بالاستماع إلى التواريخ والأخبار ، وليس في حواس الإنسان أشرف من حاستي السمع والبصر ، وقيل في الأمثال : «لا تشبع عين من نظر ، ومسمع من خبر ، وأرض من مطر» (٢).

__________________

(١) المستطرف (١ / ٧٧) بلا عزو لأحد.

(٢) في مجمع الزوائد (١ / ١٣٦) نسب إلى النبي (ص) قوله ((أربع لا يشبعن من أربع : عين من نظر وأرض من مطر وأنثى من ذكر وعالم من علم)) وعقب مؤلفه :((رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد السلام بن عبد القدوس ، وهو ضعيف لا يحتج به)) (انظر أيضا كتاب المجروحين لابن حبان ، ٢ / ١٥١ ، الذي ترجم لعبد السلام هذا وقال إنه يروى الأشياء الموضوعة ولا يحل الاحتجاج به بحال) ورواه النسفي بنفس سنده هذا في القند (ص ٣٣٠).

٩٨

والإخبار والاستخبار من غرائز بني الإنسان ، ألا ترون الناس لا يقرّ لهم قرار عند وقوع حادث ما ، حتى يسمعوا ويسمعوا أخباره ـ حتى لو لم يكن يعنيهم ـ ويشغلوا به أنفاسهم المعدودة ، وحواسهم المحدودة ، ويستبينوا مختلفات أنواع الأخبار ، ومؤتلفات أجناس الآثار ؛ فإذا بلغ خبر إلى مسامع أحد من الناس ، كان كتمانه عسيرا عليه ، ومن هنا كان الكتمان عادة وخلقا محمودا ، ونادرا ما يقوى عليه أحد ، لأن ذلك خلاف الغريزة الإنسانية ، ولأن الحق تعالى خلق الإنسان محبا للإخبار والاستخبار ، اللذين لا يصونان خزانة حفظ الأسرار عن الظهور ، وشمس ودائع أسرار الأصدقاء عن كسوف الصروف ، وتحصيصها بالانجلاء.

وعلى ذلك ، فإن معرفة تواريخ وأخبار العالم تستلزم هذا الحب ـ حب الاستخبار والإخبار ـ الذي لو لم يكن مركبا في غرائز الآدميين ، لما وصل للمتأخرين شيء من سنن وفضائل وأخبار وحكايات المتقدمين ، ولبلغ خلل أحوال العالمين حدا لا يمكن تداركه ، وسد طريق الراحة والدعة بالاقتداء بالماضين ، وتلاشى بالفكر والحيرة قوام الأشباح ونظام الأرواح ، ولما ظهرت آثار ثناء الأسلاف ، على شعار ودثار الأرواح ؛ ولانطمست أسرار البدائع والصنائع ، باستار الفجائع والفظائع.

[١٠]وأقسم المجد حقا لا يحالفهم

حتى يحالف بطن الراحة الشّعر (١)

وعلى ما في معرفة التاريخ من فائدة عظيمة فإنه سهل التناول ، ليس في الاستفادة منه كلفة أو مشقة لأن المعول في سائر العلوم إنما يقع على الحفظ والفهم ، وهو في هذا العلم ـ التاريخ ـ يقع على الحفظ مطلقا ؛ لأن ذلك الذي تعلمه يجعله قريبا من الوقائع والحوادث الواقعة ، فيحصل له التذكر والاستعادة ، ولميل النفس لذلك ، فإن حفظ هذا العلم أسهل ، والتجربة تشهد على ذلك ، حيث يحفظ الناس من التواريخ

__________________

(١) من قصيدة للأخطل في هجاء قبائل قيس عيلان (شرح شافية ابن الحاجب ، ٤ / ٤٩٣).

٩٩

والحكايات في مدة لا يحفظون بها عشر ذلك من النحو واللغة والفقه والحساب وغير ذلك.

فائدة أخرى : إن الإنسان يستفيد في مدة قصيرة من أخبار وحكايات الماضين ، وأحوال وعمران العالم والملوك والممالك ، استفادة لا تتيسر له عن طريق المشاهدة إلا بالأعمار الطويلة ، حتى ليكاد ـ وهو يتأمل التواريخ والقصص ـ أن يرى عيانا تلك الوقائع والحوادث ، وتستنشق روحه عبير رياحين تلك القصص والأخبار ، فيفرق بين التزوير والبهتان ، والغش والأسطورة ، فتدفع عنه كدورة الوحشة من منابع الوحدة ، وتزيل ظلمة انقسام الخاطر عن ساحات الراحات :

يزيل الاكتئاب وقد يؤدّي

إلى كل امرئ ما غاب عنه

وقد رووا أنّ عامر الشّعبيّ ـ وهو من علماء التابعين رحمة الله [١١] عليهم أجمعين ـ كان جالسا في مسجد مكة يحدث بأخبار مغازي المصطفى عليه‌السلام ، وقد ازدحم الخلق على الحلقة التي يحدث فيها ، ممتعين الأسماع بحسن الاستماع ، تجللهم آثار الخضوع والخشوع ، وكان من بينهم جماعة من بقايا صحابة رسول الله صلوات الله عليه ورضي عنهم ، من الذين قسموا أوقاتهم بين العبادات الجسدية والروحية ، وشرفوا ب (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(١) ، والذين كانوا أنامل ساعد صاحب الشريعة ، ووابل سحائب صدر النبوة ، وأنجم أفلاك الديانة ، وسهام كنانة الفتوة والمروءة ، قالوا : لقد شاهدنا القوم ، والشّعبيّ أعلم بتلك المغازي منا (٢) ، أي : إننا قد نلنا سعادة حضور ومشاهدة تلك الغزوات ، ورأيناها رأي العين ، لكن أفكارنا لم تصل إلى وصف هذه الأحوال ، وعيوننا لم تدرك دقائق نور سهيل هذا الفلك ،

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١١٩.

(٢) في تاريخ مدينة السلام (١٤ / ١٤٦) «مر ابن عمر بالشّعبيّ وهو يقرأ بالمغازي ، فقال ابن عمر كأنه كان شاهدا معنا».

١٠٠